1-
١٩٥٧/٦/٢٤
لمعتي الحبيبة
(..) كُنت كتبت إليكِ طالبًا عدم إرسال كتب جديدة. وكان السبب أنني لا أتوقع البقاء هنا مدة طويلة فكثير من الزملاء قد خرج إما للإفراج أو للمحاكمة. وأتوقع أن يأتينا الدور عمّا قريب. وإنكم في عمان أقدر منا نحن على الحكم على هذه الإمكانية فإن كنتم ترون أن المزار بعيد فأرسلوا الكتب نتسلى بها. وإلا فلننتظر قليلًا. (..)
كيف حال مؤنس؟ هل أنهى امتحاناته؟ وهل نجح؟ الأفضل في رأيي أن يذهب إلى مدرسة صيفية للالتحاق بالصف الأول في العام القادم إذا أمكن. (..)
ختامًا لك ولمؤنس قبلاتي وأشواقي. وللجميع سلامي واحترامي وقبلاتي.
منيف
*****
2-
حبيبي مؤنس،
أنا مبسوط من مكتوبك كثير. اكتب لي دائما. خليك شاطر. كيف امتحاناتك ؟ نجحت؟ بدي إياك تنجح أوام مشان تصير كبير أوام.
منيف
_______________
3-
١٩٥٧/٧/١٩
(من الجفر إلى سجن العبدلي إلى الجفر)
لمعة الحبيبة،
إذن لقد كانت واحة في صحراء، أو كانت سرابًا، أو حُلمًا. لست أدري. لم تحصل قبل اليوم أبدًا. لم يحصل أن خرج معتقل للتحقيق ورجع إلا إذا حكم عليه. أما بهذا الشكل فلم تحصل أبدًا. لم أكن أقدّر أننا سنسافر وبهذه السرعة. كنت أظن أن رؤيتي لكم ستطول بعض الشيء، على الأقل إلى أن تنتهي المحاكمة إن كان هناك محاكمة. ولو كنت أعلم، لما اقتصرنا على اجتماع نصف ساعة، بل لمددنا الاجتماع ساعة أو اثنتين أو أكثر حتى نشبع من بعضنا. وهل نشبع؟ شيء واحد فرحت له، هو أنني رأيت مؤنس للمرة الثانية وكان ضاحكًا مستبشرًا أنيسًا مؤنسًا، لا كما رأيتُه للمرة الأولى. ماذا في نفس هذا الطفل؟ ماذا في نفسه حتى ينقلب باكيًا حين يراني؟ كم في نفسه من أسى؟ كم في نفسه من حقد يتجلى حين تتاح له الفرصة أن يتجلى؟
حين أبلغونا بالسفر في السابعة من مساء الخميس، لم يخطر في بالي أنني سأرجع إلى الجفر، فالجفر ليس مشكلة بالنسبة لي. ولكن الذي خطر في بالي أول ما خطر أنتم. أنتم الذين بنيتم أملًا، وعشتم على أمل. مؤنس الذي رأى أباه، وقدر أن موعد رجوع أبيه إلى البيت أصبح قريبًا. مؤنس الذي يحاول أن يقنعني بسرعة العودة فيقول أنكم بعتم الراديو القديم واشتريتم راديو جديدًا ووضعتموه في غرفتي، ألا أريد أن أراه؟ خاب أمله. كم خاب أمله. هذا الطفل الذي يحتمل فوق ما يحتمل الأطفال، وأكثر مما يجب أن يحتمل الأطفال. ومع ذلك فلا بأس. وصلت اليوم بعد رؤيتكم. فتجددت قواي. أنا الآن مستعد لمسح ما مضى والبدء من جديد. مشكلتي أنا لا تهمني. الجفر أكثر حرية وأقل ضجراً من العبدلي. ولكن في العبدلي أراكم. وهذا يجعلني أقوى احتمالًا من أي مكان أخر. ولكن هل هذه حقيقة؟ لو أطلت المقام في العبدلي ورأيتكم باستمرار، دون أن أتمكن من الذهاب للدار لضعفت أعصابي. هنا أفضل. هنا أو البيت. إذن أنا غير مرشح للإفراج الآن. لا بأس. إن احتمالي قوي. فطمئنيني بأن احتمالكم قوي.(..)
لمعتي،
كانت نصف ساعة قصيرة جدًا. ولكنها أعطتني قوة في الاحتمال عظيمة. سنعبر. ويومًا ما ستنجلي الأحوال وستعود المياه إلى مجاريها. قبلاتي لك ولمؤنس، سلامي واحترامي للجميع.
منيف
*************
4-
حبيبي مؤنس،
أنا كنت مبسوط كثير لأني شفتك. شفتك صرت كبير وشاطر وبتفهم. أنا رجعت مطرح ما كنت. ما بطول كثير. بجي بعدين مشان تفرجيني على الراديو. خليك شاطر مشان أحبك دائمًا. أيها البطل الصغير.
بابا
ملاحظة: هل وصلتكم الأغراض التي أرسلتها مع أسامة ؟
____________________
5-
١٩٥٨/١٠/١٧
منيفي الحبيب
صحوت ليلة البارحة على صوت. كان صوت نزول الأمطار وبشكل غزير ولأول مره طبعًا. وبين النوم والصحو شعرت بقبضه قاسية تعتصر قلبي وبألم غريب ووحشة. ها هي الأمطار تعود وأنت لم تعد. ها هي الفصول تتعاقب وأنت لا تعود! لم ولأي جريمة ارتكبتموها؟ جريمة حق الإنسان بأن يفكر! ومهما يكن الأمر فقد كانت فترة مظلمة قاسية ولكن هل ستنقشع قريبًا هذه الغمة؟ نسمع بأنها ستزول قريبًا وستعود الأمور إلى مجراها الطبيعي ويحدد لذلك وقت قريب وقريب جدًا! بل حدد يوم عشرين الشهر الجاري وعلى ذلك فليس لي أن أكتب هذه الرسالة ولكننا تعودنا أن ننظر لبعيد وأن نتوقع أسوأ الأمور وأهون جداً وأسهل أن تعود إلي رسالتي لنقرأها معاً من أن يمضي اسبوع دون أن اكتب اليك وتنتظر أنت ورود الرسالة دون جدوى! (..)
لك أشواقي وحبي.
لمعة
_______________________
6-
١٩٥٨/١٠/٢٥
لمعتي الحبيبة
هذا هو اليوم الأول من الشهر التاسع عشر، صباح اليوم أكملت عامًا ونصف، وبدأنا نصف عام جديد، نعلم متى يبدأ ولا نعلم متى ينتهي. ولكن سينتهي حتمًا بشكل ما، وسنلتقي ونبدأ حياتنا من جديد، كيف؟ ومتى؟ لست أدري. ولكنني أعلم أن هذا اليوم اّتٍ لا ريب فيه. ولو قيل لي قبل عام ونصف أنني سأسجن هذه المدة لصعقت. من يصبر على سجن يطول هذا الطول دونما سبب يبرر له هذا السجن إلى نفسه؟ ولكننا تأقلمنا وتعودنا، ويكاد الإنسان يشعر أنه ابن سجون منذ زمن طويل. غريبة هذه القدرة في الإنسان على تكييف نفسه حسب أحواله وبيئته مهما قست.
يوم الخميس، قبل يومين، وُزّعت الرسائل، وكنت أتوقع أن أجد منك رسالة، وإذا بي أستلم المجلات ولا رسالة.
وأنا أعلم أن البريد فوضى أحيانًا ولكنني أظن أنك تكاسلت قليلًا في الأسبوع الماضي، أليس كذلك؟ (..)
الإشاعات ما تزال هنا تروى عن قرب الإفراج عن عدد منا، ولكننا كما أخبرتك سابقًا لا نلدغ من جحر عشرين مرة. ونلقي بهذه الإشاعات غير آبهين لها ولا مصدقين. فلقد طالما سمعنا وطالما أملنا حتى تمسح جلدنا.
كيف حال مؤنس؟ لقد مر زمن طويل دون أن يكتب لي رسالة، حتى زملائي المعتقلون اشتاقوا لرسالته. فهل يمكن أن تضبطيه مرة ليكتب؟
لك لمعتي حبي وقبلاتي وأشواقي، وللجميع سلامي واحترامي.
منيف
_______________________
١٩٦٣/٧/٣١
عمان
منيفي الحبيب،
لست ادري متى ستصل إليك رسالتي هذه آمل أن تصلك في اقرب وقت. البيت خال بدونك وحتى رنين ضحكات عمر لا تخفف كثيراً من شعور مؤنس وشعوري بالوحشة و بالوحدة .. وهو يحس بان شيئا غير عادي قد حدث فينقطع لعبه ليركض إلي ويقول ” انت دح انت حبيبتي لأ إزعلي “. وهو يسأل عنك باستمرار. واليوم صباحاً عندما صحا من نومه سألني ” مين هادا بيشخر. بابا؟ فقلت لا مؤنس فعاد ليسال وين بابا؟ أما مؤنس فأعصابه من حديد وهو رجل البيت بكل معنى الكلمة لقد نضج نضوجاً كبيراً وقد أتت حادثة الأمس لتنقله تماماً من عالم الطفولة اللاهي إلى عالمنا هذا.
كيف كانت رحلتك؟ وكيف كانت الطريق؟ وكم ساعة استمرت ؟ يقولون أن هناك طريق معبدة مريحة ! فهل سلكتموها أرجو أن لا تكون هذه الرحلة قد ذهبت بفائدة الراحة الطويلة التي قضيتها في الفراش وأرجو أن اسمع فعلاً أن شمس الجفر قد اعاضتك عن علاج الكهرباء في البيت.. لعل وعسى هذا ما نملك الآن وأما إن أحسست بأقل بادرة من رجوع الألم واشتداده فلي رجاء أن تخبرني حالاً وألا تنسى مواعيد المقوى والعلاج.. هل أبدو كمعلم المدرسة؟ كيف تبدو رسالتي لست ادري! كل ما أدريه أنني اشعر بدوامة كبيرة تلفني فقد كانت الصدمة مفاجئة وكان ذهابك غير متوقع ولكنه تأثير لن يستمر وستعود للنفس قوتها وللأعصاب احتمالها فلا يكن لك أي ريب في هذا وستكون رسائلنا القادمة أكثر حيوية . مرسلة إليك الجرائد والمجلات ، ولك حبي وقبلاتي وأرجو أن تكتب كثيراً . تحياتي لجميع الرفاق.
ذهبت لعند بهية(1) وشدينا أعصابها فطمئن حمدي وشد أعصابه في تجربته الأولى!
لمعه
*************************
7-
١٩٦٣/٧/٣١
إلى أبي العزيز
لقد مر يومان وكأنهم سنتان. كل دقيقة تمر ازداد شوقاً لرؤيتك. لقد كانت مكاتيبي عندما سجنت أول مرة تلقني اياها أمي كانت تقول لي ماذا اكتب. ولكن الآن أصبحت اكتب لك بنفسي من كلماتي، كلمات من قلبي. وربما يوجد في هذه الرسالة أخطاء ولكن ستتحسن كتابتي انشالله .
لقد اشتقت إليك كثراً حتى عمر الذي ظننته لا يفهم شيئاً كان يرى أمي حزينة فيركض إليها قائلاً ماما لا تزعلي. وإنه يسأل عنك دائماً.
أما من ناحيتنا فاطمئن لأن ” إمي وجدو ” (1) عندنا وحتى إن لم يكونوا عندنا فأنا استطيع القيام بالواجب. وأريد أن اطمئن على سلامتك وكيف أصبح مرضك الآن أرسل سلامي من إمي وجدو وعمر إليك وأرسل قبلاتي وسلامي العظيم إليك ولأصدقائك في الجفر. وأرجو أن تكتب لنا. وإذا كنت تريد شيء إكتب لي.
*********************
١٩٦٣/٨/٢
أقبلك قبلات حارة وأرجو أن تكون أنت وعمر والماما بخير. كما أرجو أن لا يكون وجودي هنا قد غير من حياتكم كثيراً. أحب منك دائماً أن تبتسم وأن تلعب وتذهب للسباحة وللنادي وأن تتعلم السباحة وكرة السلة كما كنت تنوي أن تفعل. وأن تعتني بأخوك عمر وأن تلعبه بإستمرار ليضحك بإستمرار.
إن حياتنا هنا غير مزعجة. فالقسم الذي ننام فيه مقسم الى غرف ونحن ننام كل إثنين في غرفة. وأنا وعمو جمال(1) ننام في غرفة واحدة. ومع أن الجو في النهار حار إلا اننا عملنا أمام القسم تعريشه من البطانيات نتظلل بظلها حتى الظهر ونقرأ ونلعب الشدة. أما بعد الظهر فنذهب إلى غرفنا لننام ثم نخرج إلى التعريشه مرة أخرى. ولا نحس بالحر إلا إذا مشينا بالشمس. ومن الصباح حتى المغرب نبقى بلا لباس على صدرنا وظهرنا ونعمل حمام شمس وقد بدأت صدورنا بالإسمرار. وأمام القسم بجانب التعريشة هناك جنينه صغيرة عملها المسجنون قبلنا وكذلك هناك بركة ماء نملأها يومياً بماء نظيفه وينزل فيها عمو حمدي ليسبح رجليه. أما عمو أمين فهو طباخنا الممتاز. وأكثرنا ينام في الليل في هذه الجنينه. أما أنا فأنام في الداخل خشية أن يحرك البرد الذي يأتي في أخر الليل وجع رقبتي وكتفي. وعلى العموم فإن هذا الوجع أحسن الآن.
قل لماما أن تبتسم بإستمرار. ويجب أن تدفعها أنت إلى الابتسام. سلامي إلى جدو وإمي وخالتو وعمر وأخوالك وليد وخالد ومها ومنور وإلى هيثم وهشام وهمام وسعد وسلوم وكذلك سلم على فاطمة وعديلة(2) وقبل عني عمر والماما كثيراً. وإليك قبلاتي .
*********************
١٩٦٣/٩/٩
حبيبي مؤنس
إياك أن تظن أني لا أكتب إليك. فعلى العكس من ذلك كنت سابقًا أكتب إليك مرة كل بريدين. ولكن منذ حوالي أسبوعين وأنا أكتب لك في كل بريد رسالة. وحتى هذه المرة لست أدري إذا كانت ستصلك هذه الرسالة. ولكنني مع ذلك أكتب لك وسأكتب ثلاث مرات كل أسبوع لك وللماما.
حبيبي مؤنس
ولا تظن أنني أكتب لك فقط لأنك تطلب ذلك مني. فالحق أني اكتب لك لأني أحبك. ولأني أحس حين أكتب لك كأني أحدثك وكأنك معي، وكأني لست بعيدًا عنك. وحين تصلني رسالتك أحس كأني اجتمعت بك، ولكن يظهر أن ليس كل رسائلي تصل إليك. فماذا أعمل؟ (..)
إني لا أريدك أن تحس بالحزن والضيق أبدًا. ونحن الآن نتحمل عنكم. وكل ما نرجوه أن لا يتعرض أولادنا لما نتعرض له نحن. ولذلك أنا سعيد جدًا حين أحس أنك أصبحت رجلًا ومدركًا للمسؤولية وقوي الأعصاب. إني أحب أن يدفعك هذا كله لأن تزيد من مجهودك في الدراسة وفي هوايتك من جهة ولأن تخفف من حزن الذين من حواليك من جهة أخرى.
يومًا ما سوف نلتقي. وسوف تقبلني وأقبلك. وسوف ننسى ما مضى. إني لست أباك فحسب ولكني صديقك كذلك.
سلّم على جدو وعلى إمي وخالتو والجميع. وقبّل الماما وعمر عني. وإليك أشواقي وحبي وقبلاتي.
منيف
*****************
8-
حبيبي مؤنس
في الرسائل التي كتبتها لك ولم تصلك كنتُ قد ألححت عليك بأن تأخذ الماما لحضور حفلات فيروز. إياك أن تسمح لها بأن لا تذهب.
منيف
___________________________
9-
١٩٦٣/١٠/٩
منيف الحبيب، (..)
رسائلك هذه رائعة نقرأها أنا ومؤنس عدة مرات ونعيد فقرات محببة منها ونعلق عليها بغبطة إذ نشعر بأن نفسيتك كما نحب وصحتك كما نتمنى. وأما عندما أقول لمؤنس أترى كم يحبك أبوك؟ هل يحب أب ابنه كما يحبك أبوك؟ يسرح بنظره ثم يجيب بضيق ولكني أريده هنا عندي، أريد أن أشعر بوجوده ولا أفهم لماذا يجب أن يكون بعيداً! إنه يحتاج إليك.. يحتاج إليك كما لم يشعر بذلك من قبل أبدًا فهو قد بدأ تلك المرحلة التي ينفصل فيها الطفل عن أمه ويتجه بعقله وقلبه لوالده يتخذ منه مثلًا أعلى وركيزة وصديق. وأنا قد عملت دائمًا ليأتي اليوم الذي يتجه فيه إليك بدون حواجز وبكل انفتاح قلبي ونفسي. فأنا أستطيع أن أكون صديقته ومحل حبه كله ولكني لا أستطيع أن أكون له ما يمكن أن تكونه بكل ما يعني ذلك. وأنا أحاول جهدي أن أملأ الفراغ الذي يتركه غيابك ولا أتركه أبدًا لوحده بعد عودته من المدرسة. وهكذا أصبح معتادًا على بقائي في البيت إلى جانبه إلى درجة أنه احتج احتجاجاً شديداً قبل يومين فقد حدث أن كنا عند طبيب الأسنان مها وأنا وعمر يتمشى معي أينما ذهبت وطلبت مني أن أتغدى عندهم فذهبت معها وتركت له خبراً بأن يلحق بي فلم يفعل لأن كان لديه دروس وعندما عدت للبيت حوالي الخامسة والنصف لم يكن يبدو عليه الراحة، وعندما ذكرته بأن هذه هي المرة الأولى التي يحدث أن يعود فيها ولا يجدني منذ أن ذهبت أنت من البيت أجاب “لو! فإذا حدث ذلك ثانية فأرجو أن تعودي إلى البيت قبل رجوعي أي حوالي الساعة الثالثة والنصف!” طلب معقول! وأنا اشعر معه فيكفيه أنه يتحمل غيابك المستمر! وهذا بالنسبة له لا يمر كما يمر بباقي الأطفال. لا أظن بأن طفلًا آخر يشعر ويحس بغياب والده بهذه القسوة وبتلك الشدة والعمق. (..)
قبلاتنا لك مع حبي وأشواقي.
لمعة
__________________________
10-
١٩٦٣/١٠/٩
لمعتي
(..) كيف يمكن أن تصبري على مرضك أسبوعين كاملين دون أن تستدعي الدكتور زهير أو دون أن تفحصي الدم؟ ومع أنني أستبعد أن يكون عندك تيفوئيد، إلا أنني لا أجزم بذلك. (..) أرجو أن تكوني قد شفيت تمامًا حين تصل رسالتي هذه إليك. أما إذا لم تكوني قد شفيت بعد فلا بد من استدعاء الدكتور زهير ليرى رأيه في الموضوع. وإياكِ أن تهملي في ذلك. لا تُضيفي إلى متاعبك متاعب جديدة. ولا إلى همومك همًا جديدًا. وعليك أن تقدّري مبلغ ما أحمل من هَم حين أعلم أنني لست بجانبك لأخفف عنك على الأقل إن لم أتمكن من شفائك.
غريب أن تحلمي وأن احلم – كما ذكرت لك في الرسالة السابقة – نفس الحلم تقريباً وفي نفس الوقت. على أنني لا أحلم كثيرًا. وبكل أسف. وأنا اسمع الراديو يومياً بل والتعليق و يمكنني أن اقدر أن هذه الأحلام هي ما يسمى أضغاث أحلام. ونحن نقضي أيامنا كمثل النبات. نأكل ونشرب وننام ونصحو. لا أكثر ولا أقل. دون أن تتاح لنا حياة المسؤولية، حياة الإنسان. وهذا هو المطلوب. فلماذا نخرج؟ (..)
عمر، كما يظهر من رسائلك، يكبر بسرعة. ولقد طربت كثيرا للذي وصفت من علائم نحوه وشعرت باعتزاز وفخر. للجميع قبلاتي وسلامي. ولك حبي وأشواقي.
منيف
_______________________
11-
١٩٦٣/١١/٢٩
أبي العزيز
تحيه وأشواق وبعد (..)
أرجو أن ترسل لي بعد الآن رسائلك إلى بيت خالتو لأن بعد بضعه أيام (أربعه أو خمسه) سأكون عندهم والأرجح [أن] ترسل إلى المدرسة لأنه إذا جائتني منك رسائل في أيام الفرص فلن أستلمها إلا بعد افتتاح المدرسة أما ماما فهي لا تزال في البيت وستذهب إلى أريحا بعد أن يتم ترتيب البيت في أريحا (بعد أربعة أيام أو خمسة).
لقد أصبح عمر رجلاً الآن وهو دائماً يتذكر أنت وهديتك التي يظن أنك في الشام لترسل له (باص، ترين، سياره) فأقول له أطلب واحده فقط فيقول: أنا بدي ترين (قطار).
عندما ذهبنا عندكم للمره الثانيه ازدت في شوقي إليكم وأصبحت أحلم في الليل أنكم هنا وأنني أتكلم معك وأقبلك. في السنين الماضيه حرمتني الأقدار أبي سنتين والآن ترى كم ستحرمني الأقدار منه. هل ستحرمني أقبله وأتحدث معه أنت أبي ألا يجوز أن أشبع منك طوال حياتي؟
إن حياتنا مليئه بالمشاكل والمتاعب.
إن الشهر القادم هو إمتحان نصف السنة.
أبي العزيز : كم أنا مشتاق لكم ولكن عمر برقصه وغناءه يروح عني وهو يغني ويرقص أمام جميع الناس وهو لا يستحي. سلامي إلى عمو جمال وعمو أمين وعمو حمدي وعمو أنيس.
مؤنس رزاز
________________________
12-
١٩٦٣/١٢/٦” إجازة قصيرة في أريحا وقراءة مشتركة لمقدمة ابن خلدون! “
منيف الحبيب.
كان الطقس البارحة رديئاً للغايه ومع هذا فقد رافقنا أبو سليمان في النزول إلى أريحا وكان الضباب منتشراً بشكل يجعل الرؤية متعذرة على بعد أمتار ومع أننا تركنا عمان في الرابعة فقد خيل إلينا أن الطريق لن تنته ولن نصل بسلام. وذكرني كل ذلك بتلك الليله التي عدنا فيها من بيروت إلى الشام في ضباب شديد وبعد التاسعة ليلاً ولم يقطع على أفكاري وذكرياتي إلا ضحكات مؤنس وهو يسمع أمي تدعي وتتوسل إلى الأنبياء والصالحين والأولياء ليسيروا معنا في رحلتنا لنصل بسلام. وأما أريحا فهي جنة في هذا الوقت وصلناها فإذا بها ترقد بسلام تتمتع بالدفئ بعيداًعن العواصف والضباب والأمطار. ومع كل هذا فما كادت السيارة تقف وشعرت بقدمي تطأن الأرض حتى شعرت بغصة في حلقي وتزاحمت في خاطري الذكريات. وأما الأولاد فقد سارعوا بالنزول وتسابقوا للدخول من البوابة الصغيرة وأما عمر فقد بدا عليه أنه يتذكر وبدأ يشير ناحية البيت القديم ثم سأل هون بابا- ثم صمت وبعد قليل عاد ليسأل هون خالو فاروق ويوسف.. وقسمت؟ لقد عدنا اليوم بعد الظهر بعد أن أمضى الأولاد يوماً رائعاً فقد أخذهم أبو سليمان إلى الحديقة الغير مطروقة في طرف البلاد وهناك تفرج عمرعلى السعادين وبقية الحيوانات. وكنت مرتاحة إلى الرجوع وكأني أحس أن هنا أقرب إليك. في بيتنا. هنا حيث أمل أن تأتيني رسالة بدون تأخير أو خبر أو أي همسة قد تحمل الأمل. وبعد أن تحمم الأولاد ونام عمر تحدثت مع مؤنس حديثاً طويلاً وتركت له المجال ليفتح نفسه ويزيل عنه أثقالها فإذا به أهدأ نفساً مما عهدت، واذا به قد عاد لثقته بنفسه بالرغم من شعوره بأن مُثله قد تحطمت وتناثرت وتلاشت وترك ذلك كله أثراً من مرارة وخيبة نزيل اثرها ونتعزى بقراءة مقدمة إبن خلدون والتي قرأناها معاً قبل سنوات وسنوات في بيتنا الصغير بعد نكبة فلسطين، فاذا بنا اليوم نقرأها لأولادنا لنزيل من أنفسهم أثر الصدمة، وليعلم أن هكذا خلقنا، وأننا لا نشذ عن أسلافنا العتيدين أبداً.
لقد وجدت دفاية قوتها 220 فولت فهل تصلح أرجو أن تسأل وتخبرني لإرسالها حالاً.
هل أخبرتك أن في يوم عيد مؤنس كنت أنظر نحو الباب وأشعر بأنك ستدخل وأقطع الكعك وأشعر بأنك ستأتي بعد قليل وأصب لك الشاي وستعلق على الكعك الذيذ. خاصة عندما قاربة الساعة السابعة كان من غير المعقول أبداً أن لا تعود وتفتح الباب وتشترك معنا ويرقد الأولاد ويتجمعون حولك ويستأثر مؤنس دون عمر بحصة الأسد من اهتمامك في يوم عيده.
ولليوم كلما طلبنا منه أن يكتب إليك غامت عيناه وشردت نظراته، ولكنه اليوم تناول القلم وبدأ بالكتابة ولست أدري ماذا سيكتب بعد صمت هذه الأيام.
سأخذه في الغد لتمضية النهارعند نعمت التي حضرت له سريراً خاصاً في غرفة هشام (1) وينتظر الأولاد ذهابه لعندهم بفروغ صبر. وأظن أن وجوده مع هشام بعد أن أصبح ناضجاً سيفيده نوعاً ما. ولكنه لن يذهب قبل إتمام امتحاناتة.
تحياتي للرفاق جميعاً ولك كل حبي وشوقي.
لمعه
*********************
13-
١٩٦٣/١٢/٢٥
حبيبي مؤنس
اليوم اكفهرت عندنا الدنيا وانتشر الغيم. وبدأت موجة برد شديدة نوعًا ما. فكيف الجو عندكم؟ أرجو أن يكون حسنًا. وأن تتمتعوا به. بشمسه وهوائه. وأن لا تحرموا في هذه الأيام الجميلة، أيام العطلة، من هذه المتعة الرائعة. فإذا اطمأننت أنا هنا إلى أنكم منشرحون ومبسوطون اطمأنت نفسي وانشرحت وانبسطت.
اليوم عيد الميلاد. وقد مررنا على رفاقنا المعيدين اليوم وعيدنا عليهم وحاولنا أن ننشر روح البهجة والسرور في المعتقل. طبعًا لا يمكن أن يشعروا بالسرور تمامًا. فمنهم آباء كانوا يتمنون أن يقضوا العيد مع أبنائهم. ومنهم أزواج كانوا يتمنون أن يقضوا العيد مع زوجاتهم. ومنهم الشباب الذين كانوا يتمنون أن يقضوه بين أهلهم وأصدقائهم. ولكنهم حرموا من هذا كله، دون أي سبب. ودون أن يقترفوا أي جريمة. وإنما يقضون عيدهم هنا دون أن يعرفوا لماذا. ودون أن يعرفوا لمتى.
البارحة لم أستلم رسالة لا منك ولا من الماما. ولكن أعتقد أني سأستلم رسالتين منكما غدًا. فلأصبر حتى الغد.(..)
سلامي إلى الجميع وخاصة جدو وإمي. وللماما ولعمر ولك قبلاتي واشواقي.
منيف
١٩٥٧/٦/٢٤
لمعتي الحبيبة
(..) كُنت كتبت إليكِ طالبًا عدم إرسال كتب جديدة. وكان السبب أنني لا أتوقع البقاء هنا مدة طويلة فكثير من الزملاء قد خرج إما للإفراج أو للمحاكمة. وأتوقع أن يأتينا الدور عمّا قريب. وإنكم في عمان أقدر منا نحن على الحكم على هذه الإمكانية فإن كنتم ترون أن المزار بعيد فأرسلوا الكتب نتسلى بها. وإلا فلننتظر قليلًا. (..)
كيف حال مؤنس؟ هل أنهى امتحاناته؟ وهل نجح؟ الأفضل في رأيي أن يذهب إلى مدرسة صيفية للالتحاق بالصف الأول في العام القادم إذا أمكن. (..)
ختامًا لك ولمؤنس قبلاتي وأشواقي. وللجميع سلامي واحترامي وقبلاتي.
منيف
*****
2-
حبيبي مؤنس،
أنا مبسوط من مكتوبك كثير. اكتب لي دائما. خليك شاطر. كيف امتحاناتك ؟ نجحت؟ بدي إياك تنجح أوام مشان تصير كبير أوام.
منيف
_______________
3-
١٩٥٧/٧/١٩
(من الجفر إلى سجن العبدلي إلى الجفر)
لمعة الحبيبة،
إذن لقد كانت واحة في صحراء، أو كانت سرابًا، أو حُلمًا. لست أدري. لم تحصل قبل اليوم أبدًا. لم يحصل أن خرج معتقل للتحقيق ورجع إلا إذا حكم عليه. أما بهذا الشكل فلم تحصل أبدًا. لم أكن أقدّر أننا سنسافر وبهذه السرعة. كنت أظن أن رؤيتي لكم ستطول بعض الشيء، على الأقل إلى أن تنتهي المحاكمة إن كان هناك محاكمة. ولو كنت أعلم، لما اقتصرنا على اجتماع نصف ساعة، بل لمددنا الاجتماع ساعة أو اثنتين أو أكثر حتى نشبع من بعضنا. وهل نشبع؟ شيء واحد فرحت له، هو أنني رأيت مؤنس للمرة الثانية وكان ضاحكًا مستبشرًا أنيسًا مؤنسًا، لا كما رأيتُه للمرة الأولى. ماذا في نفس هذا الطفل؟ ماذا في نفسه حتى ينقلب باكيًا حين يراني؟ كم في نفسه من أسى؟ كم في نفسه من حقد يتجلى حين تتاح له الفرصة أن يتجلى؟
حين أبلغونا بالسفر في السابعة من مساء الخميس، لم يخطر في بالي أنني سأرجع إلى الجفر، فالجفر ليس مشكلة بالنسبة لي. ولكن الذي خطر في بالي أول ما خطر أنتم. أنتم الذين بنيتم أملًا، وعشتم على أمل. مؤنس الذي رأى أباه، وقدر أن موعد رجوع أبيه إلى البيت أصبح قريبًا. مؤنس الذي يحاول أن يقنعني بسرعة العودة فيقول أنكم بعتم الراديو القديم واشتريتم راديو جديدًا ووضعتموه في غرفتي، ألا أريد أن أراه؟ خاب أمله. كم خاب أمله. هذا الطفل الذي يحتمل فوق ما يحتمل الأطفال، وأكثر مما يجب أن يحتمل الأطفال. ومع ذلك فلا بأس. وصلت اليوم بعد رؤيتكم. فتجددت قواي. أنا الآن مستعد لمسح ما مضى والبدء من جديد. مشكلتي أنا لا تهمني. الجفر أكثر حرية وأقل ضجراً من العبدلي. ولكن في العبدلي أراكم. وهذا يجعلني أقوى احتمالًا من أي مكان أخر. ولكن هل هذه حقيقة؟ لو أطلت المقام في العبدلي ورأيتكم باستمرار، دون أن أتمكن من الذهاب للدار لضعفت أعصابي. هنا أفضل. هنا أو البيت. إذن أنا غير مرشح للإفراج الآن. لا بأس. إن احتمالي قوي. فطمئنيني بأن احتمالكم قوي.(..)
لمعتي،
كانت نصف ساعة قصيرة جدًا. ولكنها أعطتني قوة في الاحتمال عظيمة. سنعبر. ويومًا ما ستنجلي الأحوال وستعود المياه إلى مجاريها. قبلاتي لك ولمؤنس، سلامي واحترامي للجميع.
منيف
*************
4-
حبيبي مؤنس،
أنا كنت مبسوط كثير لأني شفتك. شفتك صرت كبير وشاطر وبتفهم. أنا رجعت مطرح ما كنت. ما بطول كثير. بجي بعدين مشان تفرجيني على الراديو. خليك شاطر مشان أحبك دائمًا. أيها البطل الصغير.
بابا
ملاحظة: هل وصلتكم الأغراض التي أرسلتها مع أسامة ؟
____________________
5-
١٩٥٨/١٠/١٧
منيفي الحبيب
صحوت ليلة البارحة على صوت. كان صوت نزول الأمطار وبشكل غزير ولأول مره طبعًا. وبين النوم والصحو شعرت بقبضه قاسية تعتصر قلبي وبألم غريب ووحشة. ها هي الأمطار تعود وأنت لم تعد. ها هي الفصول تتعاقب وأنت لا تعود! لم ولأي جريمة ارتكبتموها؟ جريمة حق الإنسان بأن يفكر! ومهما يكن الأمر فقد كانت فترة مظلمة قاسية ولكن هل ستنقشع قريبًا هذه الغمة؟ نسمع بأنها ستزول قريبًا وستعود الأمور إلى مجراها الطبيعي ويحدد لذلك وقت قريب وقريب جدًا! بل حدد يوم عشرين الشهر الجاري وعلى ذلك فليس لي أن أكتب هذه الرسالة ولكننا تعودنا أن ننظر لبعيد وأن نتوقع أسوأ الأمور وأهون جداً وأسهل أن تعود إلي رسالتي لنقرأها معاً من أن يمضي اسبوع دون أن اكتب اليك وتنتظر أنت ورود الرسالة دون جدوى! (..)
لك أشواقي وحبي.
لمعة
_______________________
6-
١٩٥٨/١٠/٢٥
لمعتي الحبيبة
هذا هو اليوم الأول من الشهر التاسع عشر، صباح اليوم أكملت عامًا ونصف، وبدأنا نصف عام جديد، نعلم متى يبدأ ولا نعلم متى ينتهي. ولكن سينتهي حتمًا بشكل ما، وسنلتقي ونبدأ حياتنا من جديد، كيف؟ ومتى؟ لست أدري. ولكنني أعلم أن هذا اليوم اّتٍ لا ريب فيه. ولو قيل لي قبل عام ونصف أنني سأسجن هذه المدة لصعقت. من يصبر على سجن يطول هذا الطول دونما سبب يبرر له هذا السجن إلى نفسه؟ ولكننا تأقلمنا وتعودنا، ويكاد الإنسان يشعر أنه ابن سجون منذ زمن طويل. غريبة هذه القدرة في الإنسان على تكييف نفسه حسب أحواله وبيئته مهما قست.
يوم الخميس، قبل يومين، وُزّعت الرسائل، وكنت أتوقع أن أجد منك رسالة، وإذا بي أستلم المجلات ولا رسالة.
وأنا أعلم أن البريد فوضى أحيانًا ولكنني أظن أنك تكاسلت قليلًا في الأسبوع الماضي، أليس كذلك؟ (..)
الإشاعات ما تزال هنا تروى عن قرب الإفراج عن عدد منا، ولكننا كما أخبرتك سابقًا لا نلدغ من جحر عشرين مرة. ونلقي بهذه الإشاعات غير آبهين لها ولا مصدقين. فلقد طالما سمعنا وطالما أملنا حتى تمسح جلدنا.
كيف حال مؤنس؟ لقد مر زمن طويل دون أن يكتب لي رسالة، حتى زملائي المعتقلون اشتاقوا لرسالته. فهل يمكن أن تضبطيه مرة ليكتب؟
لك لمعتي حبي وقبلاتي وأشواقي، وللجميع سلامي واحترامي.
منيف
_______________________
١٩٦٣/٧/٣١
عمان
منيفي الحبيب،
لست ادري متى ستصل إليك رسالتي هذه آمل أن تصلك في اقرب وقت. البيت خال بدونك وحتى رنين ضحكات عمر لا تخفف كثيراً من شعور مؤنس وشعوري بالوحشة و بالوحدة .. وهو يحس بان شيئا غير عادي قد حدث فينقطع لعبه ليركض إلي ويقول ” انت دح انت حبيبتي لأ إزعلي “. وهو يسأل عنك باستمرار. واليوم صباحاً عندما صحا من نومه سألني ” مين هادا بيشخر. بابا؟ فقلت لا مؤنس فعاد ليسال وين بابا؟ أما مؤنس فأعصابه من حديد وهو رجل البيت بكل معنى الكلمة لقد نضج نضوجاً كبيراً وقد أتت حادثة الأمس لتنقله تماماً من عالم الطفولة اللاهي إلى عالمنا هذا.
كيف كانت رحلتك؟ وكيف كانت الطريق؟ وكم ساعة استمرت ؟ يقولون أن هناك طريق معبدة مريحة ! فهل سلكتموها أرجو أن لا تكون هذه الرحلة قد ذهبت بفائدة الراحة الطويلة التي قضيتها في الفراش وأرجو أن اسمع فعلاً أن شمس الجفر قد اعاضتك عن علاج الكهرباء في البيت.. لعل وعسى هذا ما نملك الآن وأما إن أحسست بأقل بادرة من رجوع الألم واشتداده فلي رجاء أن تخبرني حالاً وألا تنسى مواعيد المقوى والعلاج.. هل أبدو كمعلم المدرسة؟ كيف تبدو رسالتي لست ادري! كل ما أدريه أنني اشعر بدوامة كبيرة تلفني فقد كانت الصدمة مفاجئة وكان ذهابك غير متوقع ولكنه تأثير لن يستمر وستعود للنفس قوتها وللأعصاب احتمالها فلا يكن لك أي ريب في هذا وستكون رسائلنا القادمة أكثر حيوية . مرسلة إليك الجرائد والمجلات ، ولك حبي وقبلاتي وأرجو أن تكتب كثيراً . تحياتي لجميع الرفاق.
ذهبت لعند بهية(1) وشدينا أعصابها فطمئن حمدي وشد أعصابه في تجربته الأولى!
لمعه
*************************
7-
١٩٦٣/٧/٣١
إلى أبي العزيز
لقد مر يومان وكأنهم سنتان. كل دقيقة تمر ازداد شوقاً لرؤيتك. لقد كانت مكاتيبي عندما سجنت أول مرة تلقني اياها أمي كانت تقول لي ماذا اكتب. ولكن الآن أصبحت اكتب لك بنفسي من كلماتي، كلمات من قلبي. وربما يوجد في هذه الرسالة أخطاء ولكن ستتحسن كتابتي انشالله .
لقد اشتقت إليك كثراً حتى عمر الذي ظننته لا يفهم شيئاً كان يرى أمي حزينة فيركض إليها قائلاً ماما لا تزعلي. وإنه يسأل عنك دائماً.
أما من ناحيتنا فاطمئن لأن ” إمي وجدو ” (1) عندنا وحتى إن لم يكونوا عندنا فأنا استطيع القيام بالواجب. وأريد أن اطمئن على سلامتك وكيف أصبح مرضك الآن أرسل سلامي من إمي وجدو وعمر إليك وأرسل قبلاتي وسلامي العظيم إليك ولأصدقائك في الجفر. وأرجو أن تكتب لنا. وإذا كنت تريد شيء إكتب لي.
مؤنس
*********************
١٩٦٣/٨/٢
معتقل الجفر – معان
حبيبي مؤنس
حبيبي مؤنس
أقبلك قبلات حارة وأرجو أن تكون أنت وعمر والماما بخير. كما أرجو أن لا يكون وجودي هنا قد غير من حياتكم كثيراً. أحب منك دائماً أن تبتسم وأن تلعب وتذهب للسباحة وللنادي وأن تتعلم السباحة وكرة السلة كما كنت تنوي أن تفعل. وأن تعتني بأخوك عمر وأن تلعبه بإستمرار ليضحك بإستمرار.
حياتنا غير مزعجة..
إن حياتنا هنا غير مزعجة. فالقسم الذي ننام فيه مقسم الى غرف ونحن ننام كل إثنين في غرفة. وأنا وعمو جمال(1) ننام في غرفة واحدة. ومع أن الجو في النهار حار إلا اننا عملنا أمام القسم تعريشه من البطانيات نتظلل بظلها حتى الظهر ونقرأ ونلعب الشدة. أما بعد الظهر فنذهب إلى غرفنا لننام ثم نخرج إلى التعريشه مرة أخرى. ولا نحس بالحر إلا إذا مشينا بالشمس. ومن الصباح حتى المغرب نبقى بلا لباس على صدرنا وظهرنا ونعمل حمام شمس وقد بدأت صدورنا بالإسمرار. وأمام القسم بجانب التعريشة هناك جنينه صغيرة عملها المسجنون قبلنا وكذلك هناك بركة ماء نملأها يومياً بماء نظيفه وينزل فيها عمو حمدي ليسبح رجليه. أما عمو أمين فهو طباخنا الممتاز. وأكثرنا ينام في الليل في هذه الجنينه. أما أنا فأنام في الداخل خشية أن يحرك البرد الذي يأتي في أخر الليل وجع رقبتي وكتفي. وعلى العموم فإن هذا الوجع أحسن الآن.
قل لماما أن تبتسم بإستمرار. ويجب أن تدفعها أنت إلى الابتسام. سلامي إلى جدو وإمي وخالتو وعمر وأخوالك وليد وخالد ومها ومنور وإلى هيثم وهشام وهمام وسعد وسلوم وكذلك سلم على فاطمة وعديلة(2) وقبل عني عمر والماما كثيراً. وإليك قبلاتي .
منيف الرزاز
*********************
١٩٦٣/٩/٩
حبيبي مؤنس
إياك أن تظن أني لا أكتب إليك. فعلى العكس من ذلك كنت سابقًا أكتب إليك مرة كل بريدين. ولكن منذ حوالي أسبوعين وأنا أكتب لك في كل بريد رسالة. وحتى هذه المرة لست أدري إذا كانت ستصلك هذه الرسالة. ولكنني مع ذلك أكتب لك وسأكتب ثلاث مرات كل أسبوع لك وللماما.
حبيبي مؤنس
ولا تظن أنني أكتب لك فقط لأنك تطلب ذلك مني. فالحق أني اكتب لك لأني أحبك. ولأني أحس حين أكتب لك كأني أحدثك وكأنك معي، وكأني لست بعيدًا عنك. وحين تصلني رسالتك أحس كأني اجتمعت بك، ولكن يظهر أن ليس كل رسائلي تصل إليك. فماذا أعمل؟ (..)
إني لا أريدك أن تحس بالحزن والضيق أبدًا. ونحن الآن نتحمل عنكم. وكل ما نرجوه أن لا يتعرض أولادنا لما نتعرض له نحن. ولذلك أنا سعيد جدًا حين أحس أنك أصبحت رجلًا ومدركًا للمسؤولية وقوي الأعصاب. إني أحب أن يدفعك هذا كله لأن تزيد من مجهودك في الدراسة وفي هوايتك من جهة ولأن تخفف من حزن الذين من حواليك من جهة أخرى.
يومًا ما سوف نلتقي. وسوف تقبلني وأقبلك. وسوف ننسى ما مضى. إني لست أباك فحسب ولكني صديقك كذلك.
سلّم على جدو وعلى إمي وخالتو والجميع. وقبّل الماما وعمر عني. وإليك أشواقي وحبي وقبلاتي.
منيف
*****************
8-
حبيبي مؤنس
في الرسائل التي كتبتها لك ولم تصلك كنتُ قد ألححت عليك بأن تأخذ الماما لحضور حفلات فيروز. إياك أن تسمح لها بأن لا تذهب.
منيف
___________________________
9-
١٩٦٣/١٠/٩
منيف الحبيب، (..)
رسائلك هذه رائعة نقرأها أنا ومؤنس عدة مرات ونعيد فقرات محببة منها ونعلق عليها بغبطة إذ نشعر بأن نفسيتك كما نحب وصحتك كما نتمنى. وأما عندما أقول لمؤنس أترى كم يحبك أبوك؟ هل يحب أب ابنه كما يحبك أبوك؟ يسرح بنظره ثم يجيب بضيق ولكني أريده هنا عندي، أريد أن أشعر بوجوده ولا أفهم لماذا يجب أن يكون بعيداً! إنه يحتاج إليك.. يحتاج إليك كما لم يشعر بذلك من قبل أبدًا فهو قد بدأ تلك المرحلة التي ينفصل فيها الطفل عن أمه ويتجه بعقله وقلبه لوالده يتخذ منه مثلًا أعلى وركيزة وصديق. وأنا قد عملت دائمًا ليأتي اليوم الذي يتجه فيه إليك بدون حواجز وبكل انفتاح قلبي ونفسي. فأنا أستطيع أن أكون صديقته ومحل حبه كله ولكني لا أستطيع أن أكون له ما يمكن أن تكونه بكل ما يعني ذلك. وأنا أحاول جهدي أن أملأ الفراغ الذي يتركه غيابك ولا أتركه أبدًا لوحده بعد عودته من المدرسة. وهكذا أصبح معتادًا على بقائي في البيت إلى جانبه إلى درجة أنه احتج احتجاجاً شديداً قبل يومين فقد حدث أن كنا عند طبيب الأسنان مها وأنا وعمر يتمشى معي أينما ذهبت وطلبت مني أن أتغدى عندهم فذهبت معها وتركت له خبراً بأن يلحق بي فلم يفعل لأن كان لديه دروس وعندما عدت للبيت حوالي الخامسة والنصف لم يكن يبدو عليه الراحة، وعندما ذكرته بأن هذه هي المرة الأولى التي يحدث أن يعود فيها ولا يجدني منذ أن ذهبت أنت من البيت أجاب “لو! فإذا حدث ذلك ثانية فأرجو أن تعودي إلى البيت قبل رجوعي أي حوالي الساعة الثالثة والنصف!” طلب معقول! وأنا اشعر معه فيكفيه أنه يتحمل غيابك المستمر! وهذا بالنسبة له لا يمر كما يمر بباقي الأطفال. لا أظن بأن طفلًا آخر يشعر ويحس بغياب والده بهذه القسوة وبتلك الشدة والعمق. (..)
قبلاتنا لك مع حبي وأشواقي.
لمعة
__________________________
10-
١٩٦٣/١٠/٩
لمعتي
(..) كيف يمكن أن تصبري على مرضك أسبوعين كاملين دون أن تستدعي الدكتور زهير أو دون أن تفحصي الدم؟ ومع أنني أستبعد أن يكون عندك تيفوئيد، إلا أنني لا أجزم بذلك. (..) أرجو أن تكوني قد شفيت تمامًا حين تصل رسالتي هذه إليك. أما إذا لم تكوني قد شفيت بعد فلا بد من استدعاء الدكتور زهير ليرى رأيه في الموضوع. وإياكِ أن تهملي في ذلك. لا تُضيفي إلى متاعبك متاعب جديدة. ولا إلى همومك همًا جديدًا. وعليك أن تقدّري مبلغ ما أحمل من هَم حين أعلم أنني لست بجانبك لأخفف عنك على الأقل إن لم أتمكن من شفائك.
غريب أن تحلمي وأن احلم – كما ذكرت لك في الرسالة السابقة – نفس الحلم تقريباً وفي نفس الوقت. على أنني لا أحلم كثيرًا. وبكل أسف. وأنا اسمع الراديو يومياً بل والتعليق و يمكنني أن اقدر أن هذه الأحلام هي ما يسمى أضغاث أحلام. ونحن نقضي أيامنا كمثل النبات. نأكل ونشرب وننام ونصحو. لا أكثر ولا أقل. دون أن تتاح لنا حياة المسؤولية، حياة الإنسان. وهذا هو المطلوب. فلماذا نخرج؟ (..)
عمر، كما يظهر من رسائلك، يكبر بسرعة. ولقد طربت كثيرا للذي وصفت من علائم نحوه وشعرت باعتزاز وفخر. للجميع قبلاتي وسلامي. ولك حبي وأشواقي.
منيف
_______________________
11-
١٩٦٣/١١/٢٩
أبي العزيز
تحيه وأشواق وبعد (..)
أرجو أن ترسل لي بعد الآن رسائلك إلى بيت خالتو لأن بعد بضعه أيام (أربعه أو خمسه) سأكون عندهم والأرجح [أن] ترسل إلى المدرسة لأنه إذا جائتني منك رسائل في أيام الفرص فلن أستلمها إلا بعد افتتاح المدرسة أما ماما فهي لا تزال في البيت وستذهب إلى أريحا بعد أن يتم ترتيب البيت في أريحا (بعد أربعة أيام أو خمسة).
لقد أصبح عمر رجلاً الآن وهو دائماً يتذكر أنت وهديتك التي يظن أنك في الشام لترسل له (باص، ترين، سياره) فأقول له أطلب واحده فقط فيقول: أنا بدي ترين (قطار).
عندما ذهبنا عندكم للمره الثانيه ازدت في شوقي إليكم وأصبحت أحلم في الليل أنكم هنا وأنني أتكلم معك وأقبلك. في السنين الماضيه حرمتني الأقدار أبي سنتين والآن ترى كم ستحرمني الأقدار منه. هل ستحرمني أقبله وأتحدث معه أنت أبي ألا يجوز أن أشبع منك طوال حياتي؟
إن حياتنا مليئه بالمشاكل والمتاعب.
إن الشهر القادم هو إمتحان نصف السنة.
أبي العزيز : كم أنا مشتاق لكم ولكن عمر برقصه وغناءه يروح عني وهو يغني ويرقص أمام جميع الناس وهو لا يستحي. سلامي إلى عمو جمال وعمو أمين وعمو حمدي وعمو أنيس.
مؤنس رزاز
________________________
12-
١٩٦٣/١٢/٦” إجازة قصيرة في أريحا وقراءة مشتركة لمقدمة ابن خلدون! “
منيف الحبيب.
كان الطقس البارحة رديئاً للغايه ومع هذا فقد رافقنا أبو سليمان في النزول إلى أريحا وكان الضباب منتشراً بشكل يجعل الرؤية متعذرة على بعد أمتار ومع أننا تركنا عمان في الرابعة فقد خيل إلينا أن الطريق لن تنته ولن نصل بسلام. وذكرني كل ذلك بتلك الليله التي عدنا فيها من بيروت إلى الشام في ضباب شديد وبعد التاسعة ليلاً ولم يقطع على أفكاري وذكرياتي إلا ضحكات مؤنس وهو يسمع أمي تدعي وتتوسل إلى الأنبياء والصالحين والأولياء ليسيروا معنا في رحلتنا لنصل بسلام. وأما أريحا فهي جنة في هذا الوقت وصلناها فإذا بها ترقد بسلام تتمتع بالدفئ بعيداًعن العواصف والضباب والأمطار. ومع كل هذا فما كادت السيارة تقف وشعرت بقدمي تطأن الأرض حتى شعرت بغصة في حلقي وتزاحمت في خاطري الذكريات. وأما الأولاد فقد سارعوا بالنزول وتسابقوا للدخول من البوابة الصغيرة وأما عمر فقد بدا عليه أنه يتذكر وبدأ يشير ناحية البيت القديم ثم سأل هون بابا- ثم صمت وبعد قليل عاد ليسأل هون خالو فاروق ويوسف.. وقسمت؟ لقد عدنا اليوم بعد الظهر بعد أن أمضى الأولاد يوماً رائعاً فقد أخذهم أبو سليمان إلى الحديقة الغير مطروقة في طرف البلاد وهناك تفرج عمرعلى السعادين وبقية الحيوانات. وكنت مرتاحة إلى الرجوع وكأني أحس أن هنا أقرب إليك. في بيتنا. هنا حيث أمل أن تأتيني رسالة بدون تأخير أو خبر أو أي همسة قد تحمل الأمل. وبعد أن تحمم الأولاد ونام عمر تحدثت مع مؤنس حديثاً طويلاً وتركت له المجال ليفتح نفسه ويزيل عنه أثقالها فإذا به أهدأ نفساً مما عهدت، واذا به قد عاد لثقته بنفسه بالرغم من شعوره بأن مُثله قد تحطمت وتناثرت وتلاشت وترك ذلك كله أثراً من مرارة وخيبة نزيل اثرها ونتعزى بقراءة مقدمة إبن خلدون والتي قرأناها معاً قبل سنوات وسنوات في بيتنا الصغير بعد نكبة فلسطين، فاذا بنا اليوم نقرأها لأولادنا لنزيل من أنفسهم أثر الصدمة، وليعلم أن هكذا خلقنا، وأننا لا نشذ عن أسلافنا العتيدين أبداً.
لقد وجدت دفاية قوتها 220 فولت فهل تصلح أرجو أن تسأل وتخبرني لإرسالها حالاً.
هل أخبرتك أن في يوم عيد مؤنس كنت أنظر نحو الباب وأشعر بأنك ستدخل وأقطع الكعك وأشعر بأنك ستأتي بعد قليل وأصب لك الشاي وستعلق على الكعك الذيذ. خاصة عندما قاربة الساعة السابعة كان من غير المعقول أبداً أن لا تعود وتفتح الباب وتشترك معنا ويرقد الأولاد ويتجمعون حولك ويستأثر مؤنس دون عمر بحصة الأسد من اهتمامك في يوم عيده.
ولليوم كلما طلبنا منه أن يكتب إليك غامت عيناه وشردت نظراته، ولكنه اليوم تناول القلم وبدأ بالكتابة ولست أدري ماذا سيكتب بعد صمت هذه الأيام.
سأخذه في الغد لتمضية النهارعند نعمت التي حضرت له سريراً خاصاً في غرفة هشام (1) وينتظر الأولاد ذهابه لعندهم بفروغ صبر. وأظن أن وجوده مع هشام بعد أن أصبح ناضجاً سيفيده نوعاً ما. ولكنه لن يذهب قبل إتمام امتحاناتة.
تحياتي للرفاق جميعاً ولك كل حبي وشوقي.
لمعه
*********************
13-
١٩٦٣/١٢/٢٥
حبيبي مؤنس
اليوم اكفهرت عندنا الدنيا وانتشر الغيم. وبدأت موجة برد شديدة نوعًا ما. فكيف الجو عندكم؟ أرجو أن يكون حسنًا. وأن تتمتعوا به. بشمسه وهوائه. وأن لا تحرموا في هذه الأيام الجميلة، أيام العطلة، من هذه المتعة الرائعة. فإذا اطمأننت أنا هنا إلى أنكم منشرحون ومبسوطون اطمأنت نفسي وانشرحت وانبسطت.
اليوم عيد الميلاد. وقد مررنا على رفاقنا المعيدين اليوم وعيدنا عليهم وحاولنا أن ننشر روح البهجة والسرور في المعتقل. طبعًا لا يمكن أن يشعروا بالسرور تمامًا. فمنهم آباء كانوا يتمنون أن يقضوا العيد مع أبنائهم. ومنهم أزواج كانوا يتمنون أن يقضوا العيد مع زوجاتهم. ومنهم الشباب الذين كانوا يتمنون أن يقضوه بين أهلهم وأصدقائهم. ولكنهم حرموا من هذا كله، دون أي سبب. ودون أن يقترفوا أي جريمة. وإنما يقضون عيدهم هنا دون أن يعرفوا لماذا. ودون أن يعرفوا لمتى.
البارحة لم أستلم رسالة لا منك ولا من الماما. ولكن أعتقد أني سأستلم رسالتين منكما غدًا. فلأصبر حتى الغد.(..)
سلامي إلى الجميع وخاصة جدو وإمي. وللماما ولعمر ولك قبلاتي واشواقي.
منيف