الى القاصرة الصامتة
المساحة بين عالم الصغار والكبار تضيق مع مرور الزمن، وتتكشف كل النصائح الملغومة التي يصدرها اولئك الذين سكنتهم مشاعر يخجل منها حتى حاملها، لذلك يضعونها في قوالب مشوهة، ربما تكون على شكل موعظة دينية أو دنيوية.
صغيرة كانت، تلهو بدميتها التي تروي لها أسرار عالمها الصغير وكل ما يجول بداخلها، وتحوّل خوفها الصغير الى حكاية تغيب في صمت الدمية.
كبرت وتغيرت حكاياتها التي عشعش فيها الوجع، وظل الصمت يدور حولها، كسياج يرتفع زمناً بعد آخر، ليفصل عالمها الموحش عن الفرح الذي افتقدته سنين عمرها المبكرة، وظل مكتوباً في صفحات المفقودين.
دخلت بوابة بيتهم الذي تراه في كوابيسها دائما، جلس قبالة باب المطبخ المطل على الحديقة، توسط الكنبة التي بقيت في أحلامها لسنوات طوال، عمها السكير الذي أدمن الكحول وكل الموبقات التي نصحها الكبار أن تتجنبها،وبضمنهم هذا السكير..
- عليك أن تحذري منا نحن الكبار، لاننا درسنا الخطيئة على يد الذين يصوغون المواعظ!
لكنها، الصغيرة، لم تكن تخافه، بل خافت من نصائحه التي زرعت فيها شك لا تعرف من أين جاء بها، أو ربما لأن عبارته التي كررها أمام أمها عدة مرات:
- انتبهي لابنتك هذه، إحرصي عليها أكثر من الأخريات، لانها تختلف عنهن جميعا!
كانت صغيرة على فهم مثل هذه العبارة التي حيرتها لسنوات طويلة فيما بعد، واحتلت مكانها في سلوك الصغيرة التي صارت شابة، وأكبر قليلا فيما بعد.
بماذا تختلف عن باقي شقيقاتها، فهي تشبه الكثير منهن، ولا تختلف عنهن سوى بشكلها، وهذا أمر طبيعي فكل واحدة تختلف عن الأخرى، ربما بالطول، أو بلون البشرة أو الشعر، وربما بسعة العيون أو استدارة الشفاه.. لكن الكل يتشابهن بعلاقتهن بهذا العم، لأنه عم الجميع.
يقول الكبار عبارات ولا يعرفون انها تنطبع كوشم في حياة الإنسان، ويتغير تأثير هذه العبارات وفقاً لما تخفيه من نوايا حسنة او سيئة وربما خطيرة!
كان ينفرد بها أحياناً ليقول لها هامساً، انتبهي لنفسك، عليك أن تتعلمي إن الشر لا يأتي من غريب في الشارع بل ربما من قريب هو كالظل خلفك!
عمها هذا هادىء الطبع، قليل الكلام بلسانه، لكنه يقول الكثير بعينيه، لذلك كانت تخاف أن تنظر لتلك العينين التي رغم صغرها، كانت واسعة المساحة، كأنها صحراء موحشة، غابة لا تعرف متى سيظهر منها الوحش الذي سيفترس كل ما يجده أمامه، لانه جائع.
- عمك يخاف عليك. هذا ما تكرره أمها دائما، لكنها لم تحاول يوماً أن تسأل لماذا يستثنيها بهذا الحرص المبالغ به.
لماذا يهمل الكبار أسئلة الصغار ويتركونهم حائرين يبحثون سنوات طويلة عن أجوبة قد تضعهم في متاهات تغير مسار حياتهم؟
لماذا يتجاهلون ما يربك الطفولة من حيرة لا يجدون لها تفسيراً، ويضيع بعدها الصحيح،لانهم ظلوا الطريق؟
لماذا يخترق الكبار بخطاياهم براءة عالم الصغار، دون أن يشعروا بالأذى الذي يمزق كالسكين كل حروف السعادة أوالفرح التي يبحثون عنها في سنين عمرهم الأولى واللاحقة؟
ينشغل الكبار دائما بعالم المواعظ، ولا يرون ما يدور حول صغارهم من أشباح تخطف سعادة عابرة، أو فرح سيتشكل، ويزرعون في عالم نضر بذور خطيئة لا يفهمها الإنسان إلا عندما يكبر، وعند ذاك يكون الأوان قد فات،ولا يمكن إصلاح ما حفر في صخر الطفولة.
كبرت الصغيرة ولم يحل اللغز الذي يستثنها عن الاخريات، حملت تلك الحيرة سنة بعد أخرى، ثم نستها في زحمة حياتها، وتعدد الألغاز الأخرى التي عثرت بها أثناء مشيها بين مثالب تلك القيم والاخلاقيات التي خنقت كل ماهو واسع في الحياة، لتحشر كل البشر في ممرات ضيقة هي الأخلاق كما يسموها.
حيرتها هذه تظهر على السطح بين فترة وأخرى، ثم تعود لتختفي بين ثنايا اسئلة كثيرة تتجدد يوماً بعد آخر، وأثناء صدفة لم تكن تتوقعها ظهر أمامها حل لغز الاستثناء، عندما إلتقت بهذا العم في ركن قصي من هذه الحياة.
لقد شاب شعره، وفقدت عينيه تلك السعة التي كانت تراها في طفولتها، لم تجد في تلك العينين وحشة الصحراء ولا وحش الغابة، بل كانت نظراته منطفِئة وكأن الحياة توقفت في سوادها.
جلس قبالتها في مكانهما الغريب، ينظر كل منهما في وجه الآخر، يبحث عن أي شيء يربط بين ذلك الزمن واللحظة الحالية، لكن التغييرات التي طرأت عليهما قطعت كل الصلات، ولم يعد بينهما إلا ذلك السؤال المحير: لماذا استثناها عن باقي أخواتها.
اتعبتها الحيرة، وخافت من المواجهة، وقبل أن ينتهي اللقاء بينهما، قررت أن لا تغادر دون أن تعرف سراً معه، فسألته:
- لماذا كنت تهتم بي بشكل مختلف عن باقي شقيقاتي؟
أذهله السؤال، وبقي صامتاً لفترة ليست بالقصيرة، وحينما نظر في عينيها رأت في نظرته تلك السعة والوحشة وشيء غريب لم تره سابقاً، فقال:
- لأنك مثيرة منذ كنت صغيرة، وكنت أخاف عليك من شر الكبار,و....
- تركته وغادرت المكان، قبل أن يكمل عبارته، لأنها أدركت أن الخوف الذي كانت تشعره حينما يقترب منها، وهي صغيرة، عرفت سببه الآن!!
عن موقع المدى
المساحة بين عالم الصغار والكبار تضيق مع مرور الزمن، وتتكشف كل النصائح الملغومة التي يصدرها اولئك الذين سكنتهم مشاعر يخجل منها حتى حاملها، لذلك يضعونها في قوالب مشوهة، ربما تكون على شكل موعظة دينية أو دنيوية.
صغيرة كانت، تلهو بدميتها التي تروي لها أسرار عالمها الصغير وكل ما يجول بداخلها، وتحوّل خوفها الصغير الى حكاية تغيب في صمت الدمية.
كبرت وتغيرت حكاياتها التي عشعش فيها الوجع، وظل الصمت يدور حولها، كسياج يرتفع زمناً بعد آخر، ليفصل عالمها الموحش عن الفرح الذي افتقدته سنين عمرها المبكرة، وظل مكتوباً في صفحات المفقودين.
دخلت بوابة بيتهم الذي تراه في كوابيسها دائما، جلس قبالة باب المطبخ المطل على الحديقة، توسط الكنبة التي بقيت في أحلامها لسنوات طوال، عمها السكير الذي أدمن الكحول وكل الموبقات التي نصحها الكبار أن تتجنبها،وبضمنهم هذا السكير..
- عليك أن تحذري منا نحن الكبار، لاننا درسنا الخطيئة على يد الذين يصوغون المواعظ!
لكنها، الصغيرة، لم تكن تخافه، بل خافت من نصائحه التي زرعت فيها شك لا تعرف من أين جاء بها، أو ربما لأن عبارته التي كررها أمام أمها عدة مرات:
- انتبهي لابنتك هذه، إحرصي عليها أكثر من الأخريات، لانها تختلف عنهن جميعا!
كانت صغيرة على فهم مثل هذه العبارة التي حيرتها لسنوات طويلة فيما بعد، واحتلت مكانها في سلوك الصغيرة التي صارت شابة، وأكبر قليلا فيما بعد.
بماذا تختلف عن باقي شقيقاتها، فهي تشبه الكثير منهن، ولا تختلف عنهن سوى بشكلها، وهذا أمر طبيعي فكل واحدة تختلف عن الأخرى، ربما بالطول، أو بلون البشرة أو الشعر، وربما بسعة العيون أو استدارة الشفاه.. لكن الكل يتشابهن بعلاقتهن بهذا العم، لأنه عم الجميع.
يقول الكبار عبارات ولا يعرفون انها تنطبع كوشم في حياة الإنسان، ويتغير تأثير هذه العبارات وفقاً لما تخفيه من نوايا حسنة او سيئة وربما خطيرة!
كان ينفرد بها أحياناً ليقول لها هامساً، انتبهي لنفسك، عليك أن تتعلمي إن الشر لا يأتي من غريب في الشارع بل ربما من قريب هو كالظل خلفك!
عمها هذا هادىء الطبع، قليل الكلام بلسانه، لكنه يقول الكثير بعينيه، لذلك كانت تخاف أن تنظر لتلك العينين التي رغم صغرها، كانت واسعة المساحة، كأنها صحراء موحشة، غابة لا تعرف متى سيظهر منها الوحش الذي سيفترس كل ما يجده أمامه، لانه جائع.
- عمك يخاف عليك. هذا ما تكرره أمها دائما، لكنها لم تحاول يوماً أن تسأل لماذا يستثنيها بهذا الحرص المبالغ به.
لماذا يهمل الكبار أسئلة الصغار ويتركونهم حائرين يبحثون سنوات طويلة عن أجوبة قد تضعهم في متاهات تغير مسار حياتهم؟
لماذا يتجاهلون ما يربك الطفولة من حيرة لا يجدون لها تفسيراً، ويضيع بعدها الصحيح،لانهم ظلوا الطريق؟
لماذا يخترق الكبار بخطاياهم براءة عالم الصغار، دون أن يشعروا بالأذى الذي يمزق كالسكين كل حروف السعادة أوالفرح التي يبحثون عنها في سنين عمرهم الأولى واللاحقة؟
ينشغل الكبار دائما بعالم المواعظ، ولا يرون ما يدور حول صغارهم من أشباح تخطف سعادة عابرة، أو فرح سيتشكل، ويزرعون في عالم نضر بذور خطيئة لا يفهمها الإنسان إلا عندما يكبر، وعند ذاك يكون الأوان قد فات،ولا يمكن إصلاح ما حفر في صخر الطفولة.
كبرت الصغيرة ولم يحل اللغز الذي يستثنها عن الاخريات، حملت تلك الحيرة سنة بعد أخرى، ثم نستها في زحمة حياتها، وتعدد الألغاز الأخرى التي عثرت بها أثناء مشيها بين مثالب تلك القيم والاخلاقيات التي خنقت كل ماهو واسع في الحياة، لتحشر كل البشر في ممرات ضيقة هي الأخلاق كما يسموها.
حيرتها هذه تظهر على السطح بين فترة وأخرى، ثم تعود لتختفي بين ثنايا اسئلة كثيرة تتجدد يوماً بعد آخر، وأثناء صدفة لم تكن تتوقعها ظهر أمامها حل لغز الاستثناء، عندما إلتقت بهذا العم في ركن قصي من هذه الحياة.
لقد شاب شعره، وفقدت عينيه تلك السعة التي كانت تراها في طفولتها، لم تجد في تلك العينين وحشة الصحراء ولا وحش الغابة، بل كانت نظراته منطفِئة وكأن الحياة توقفت في سوادها.
جلس قبالتها في مكانهما الغريب، ينظر كل منهما في وجه الآخر، يبحث عن أي شيء يربط بين ذلك الزمن واللحظة الحالية، لكن التغييرات التي طرأت عليهما قطعت كل الصلات، ولم يعد بينهما إلا ذلك السؤال المحير: لماذا استثناها عن باقي أخواتها.
اتعبتها الحيرة، وخافت من المواجهة، وقبل أن ينتهي اللقاء بينهما، قررت أن لا تغادر دون أن تعرف سراً معه، فسألته:
- لماذا كنت تهتم بي بشكل مختلف عن باقي شقيقاتي؟
أذهله السؤال، وبقي صامتاً لفترة ليست بالقصيرة، وحينما نظر في عينيها رأت في نظرته تلك السعة والوحشة وشيء غريب لم تره سابقاً، فقال:
- لأنك مثيرة منذ كنت صغيرة، وكنت أخاف عليك من شر الكبار,و....
- تركته وغادرت المكان، قبل أن يكمل عبارته، لأنها أدركت أن الخوف الذي كانت تشعره حينما يقترب منها، وهي صغيرة، عرفت سببه الآن!!
عن موقع المدى