يطل المساء الكئيب على شرفتي مشرّبا بحنين غامض ، أتكوّم لصق نافذتي
الاثيرة المطلة بفضول دائم على نشاط البحر ، متطلعة لإغراء امواجة التي لا تكف عن التكسر والعويل ، متاملة الضفاف وهي تحتضن ثلة من الاطفال يتقافزون بمرح غامر .. يخترق سمعي ضجيجهم الندي متسلقا سطوح الموجات ..
كم كنت اتمنى لو اني صماء كي اتفادى تلك الاصوات الجبارة وهي تسخر من ضعفي وخواري ، وتوقظ في فضائي الجريح اكثر الذكريات وحشة وعنفا ..
ادفن راسي المتعب بين يدين ترتجفان لأي سبب كان ، وربما من دون سبب يذكر ، في محاولة يائسة لنسيان كل شيء .. وجوه غرزت بلا مبالاة الكثير من الابر في اللحم الطري ، وهي تردد على مر السنوات ( وريدها ضعيف .. ينبغي ان تتحمل هذه الوخزات ) . هي الوحيدة التي كانت تعرف بان لا وريد لديها .. ولا شيء ابدا .. لا شيء سوى بياض الجدران واغطية وكمامة اوكسجين صفراء .. تزيد الصدر اختناقا .. وعجوز صديقة .. منحتها كابوسا ورحلت .. كانتا تعانيان من المرض ذاته .. رحلت هي وتركتها وحيدة .. تعيش الكابوس ذاته كل ليلة .. ارتعدت كفأر مذعور وهي تفتح باب غرفتها !
يدان تتخبطان في الهواء .. تتشبثان بالايادي الممتدة من حولها ، ولفيف من الاطباء عبثا يحاولون غرز الحياة في الجسد الهزيل المنطفئ .. لم يمض وقت طويل حتى غادر الاطباء الغرفة .. بعد ان غطوا وجهها بخرقة بالية .
( لم استطع منع يدي من رؤية ما تخبئه الخرقة البيضاء ..! عينان شاخصتان نحو السماء بهلع اخرس .. كانت وللمرة الاولى فارغتان من أي معنى .. جاءني صوتها من دون ان تحرك شفتيها المزرقتين .. ( هذا مصيرك الفاني .. انت التالية مهما طال بكِ الوقت .. ) .
لا مفر ..!
تشعر ن صدرها يضيق شيئا فشيئا … ونَفَسها يزداد صعوبة .. انه موعد الزجاجات المصطفة امامها .. .. انه يوم اخر .. سيشطب من تاريخك .. انه العد التنازلي لذلك الرحيل المحتوم .. يعود وجه تلك العجوز يتشكل امامها بالندبة المحفورة على جبينها واسنانها المتساقطة .. يزداد اختناقها .. تزيده رائحة المطهرات ، عطر الموت الاثير الذي يملأ المكان ..
تفتح النافذة .. البحر وحده يفتح لها ذراعيه .. ياخذها الحنين الى اناس لم يكونوا معها …. يخنقها الدمع في عيني ابيها .. وهو يقول لأمها ذات يوم بانه يتمنى ان يشتري مرضها .. ويمنحها صحته .. كم تمنت حينها ان تحمل سكينا وتغرزها في عنقها وصدرها .. كي تستخرج قصباتها الهوائية ، وتريح ابيها من وجودها العقيم ، لكنها لم تجرؤ .. ولن تفعل .. لانها كما قالت تلك العجوز لها .. مجرد جبانة اخرى . الهواء الحقيقي يملأ الكون كله ، لكنها اضعف من ان تلبي دعوة البحر بكسر علبة الهواء المصنّع .. والهروب من المدينة الزجاجية .. لاحتساء لحظة حرية ..
مازالت امواج البحر تعربد بين حنايا فكرها وروحها .. وكل موجة ذراع عاشق يناديها .. ورذاذه قبلات محمومة تطبع على الجبين الشاحب دوما .. لكن انى لها ان تذهب اليه وقد اقترب موعد دوائها .. ولزوجة كمامة الأوكسجين الصفراء تشدها اليها ..!
تتذكر ذلك الحلم .. كان وجهها خلف قضبان كثيرة .. وكان البحر وراء القضبان . تكره هذا الكابوس .. تعاود النظر الى البحر .. تطمئن ان النوافذ كلها مشرعة في وجهها وليس ثمة وجود للقضبان .. تتمنى لو ان جسدها يرتشف بعضا من رذاذه .. وحده يتيح لها فرصة للحياة ..
من يدري .. قد تشفى لو ذهبت اليه .! او تكتشف بان مرضها هاجس او اكذوبة ..!
تتجاهل التكات الرتيبة الشاخصة فوق راسها وهي تذكرها بموعد الزجاجات المصطفة امامها . تنهض .. تحاول ان تفتح الباب بأصابعها الخائرة .. تفتحه ربع انفتاحة .. تطل بعين واحدة على الممر الطويل المؤدي الى الخارج .. تحاول ان تضع قدمها خارج حدود الغرفة ، نَفَسها يزداد صعوبة .. تتضائل كمية الهواء الداخل الى رئتيها .. قصباتها الهوائية تتأهب لبث تلك الاصوات المستغيثة ، تضعف .. تدير راسها نحو الزجاجات الشاخصة امامها بتحد .. تسرع نحوها … تطوح بها على الارض ، تتسلل الراحة الى روحها وهي ترى الضوء ينعكس على الزجاج المتناثر ورائحة الدواء النفاث التي غمرت المكان بصفرتها ، تواصل سيرها ..
ثمة عرس في الخارج .. ثمة اناشيد تطلقها الطبيعة بوجه الموت .. . تشعر بانها قوية وانها اصح من الجميع .. رغم ان قصباتها الهوائية بدأت تطلق ذلك الشخير الذي يوميء بنوبة قاسية .. تحاول ان تكمل خطواتها الاولى ، لكن تكات الساعة .. جرس انذار يدق في راسها معلنا موعد الكمامة الصفراء .. ونثار الزجاجات الذي يملأ الغرفة .. لكنها… لن تعود !
اناشيد البحر تعلو في اذنيها .. كأنها اصوات جوقة موسيقية في كنيسة قديمة .. ترتل نشيد الحياة .. ومكانها بينهم .. لن تعود ..
تمضي مسيّرة .. مسحورة بتلك الاصوات . تسير وهي تتلمس الجدران كمن يتلمس طريقه نحو الشمس . تسير بهدوء حافية القدمين .. تنظر الى الردهات المتخمة بالمرضى .. عطر الموت الأثير يفوح من الجدران والزوايا ( انهم يموتون بسبب هذه الرائحة .. لكن لا احد يعلم ذلك .. وحتى ان اخبرتهم فلن يصدقوني .. موتا هنيئا)
الموت يضاجع اشلائهم الغافية .. انه يضاجع حتى نباتات اللبلاب المتدلية من الاعلى .. تشعر بالوهن .. بالكثير من الوهن . تعود الدقات الرتيبة لتدق في راسها .. لا .. لن تعود .. قصباتها تطلق الاصوات المستجدية .. لكنها لن تعود .
(لماذا اموت بالتدريج ..؟! الموت العشوائي اسوأ من الموت بعينه … لكنني هذه الليلة لن اموت .. سأرفض الموت فانا لن اعود للنثار والكمامة الصفراء ذات الهواء المتعفن .. )
يتصبب العرق من جبينها .. اطرافها تزداد ازرقاقا .. اصابع يديها قدميها .. ( لا .. لن ..)
تواصل سيرها المتقطع .. وهي تسند قامتها على الجدران التي تتشبث بها في سيرها على طول الممر . سوف تصل .. خطوات قليلة بينها وبينه .. تسمع اصوات ضحكات قادمة من مكان قريب . تمد رأسها لترى من في الداخل … انها الطبيبة التي تكره .. والتي كانت دوما تنظر اليها باشمئزاز .. كم تكرهها ..!
هاهي تتغازل مع الطبيب المقيم .. تدمدم مع نفسها بضحكة ساخرة ( قزم وحرباء ..لايصحان للاندراج ضمن قائمة الاطباء .. …. لن يتزوجها… فهي حرباء . سيكتشف ذلك في ليلة العرس . . وسيضطر الى القفز من النافذة لانها ستحكم اقفال الباب عليه حتما .. .)
تنتابها نوبة سعال قوية .. تضع يدها على فمها لئلا يسمعوها ،…يعاودها السعال ، تخنقه في صدرها وهي تسير بسرعة متعثرة ، وثرثرتهم مازالت تتناهى الى مسامعها . يهبط على قلبها وجع الاحلام العجاف وهي تردد ( حرباء .. حرباء .. مجرد حرباء ..)
ثمة زر على الحائط .. تشعر بلذة طفولية وهي تكسر الزجاجة الصغيرة وتضغط على زر الحريق وتمضي ضاحكة ..
( انها امسية رائعة ..)
تعبر الجسر الحديدي المحاذي للبحر .. صدى الامواج يعلو صوت قصباتها .. انها تمطر .. تجتاحها النسائم العليلة .. والبشائر الحالمة .. انها تمطر .. مضى وقت طويل لم تقبل فيها قطرات المطر جسدها الواهن .. من قال ان المطر يضرّ بها ..؟
اصابعها تزداد ازرقاقا .. والعرق المتصبب من جبينها وجسدها يختلط بحبات المطر .. كلها نبوءات لقادم جديد .. ستشكل بجسد اخر . لا يمكن لهذه الروح القوية ان تستوطن هذا الجسد الخرب الواهن ..
يقترب صدى الامواج .. تعجز قدماها عن حملها .. تسقط .. تتهاوى على الارض .. يمتلئ فمها بالطين . ( كم اعشق رائحة التراب المبلل بالمطر ) . تحاول الزحف على الارض التي تميد من تحتها .. البحر قريب منها .. يصطخب في ثنايا فكرها وروحها وجسدها .. تسمع همهمات بعيدة .. تنظر خلفها .. اسراب حشرات تلاحقها بقمصان بيض .. ( لن استسلم .. البحر يمنحني خلودا .. وهم يمنحوني مصيرا فانيا مثل تلك العجوز ..)
يختلط العرق بحبات الطين العالقة على جبينها وخصلات شعرها .. ( انها عناصر الطبيعة والتكوين .. تمتزج معا لخلقي من جديد ..)
اصابعها تزداد ازرقاقا . تتنفس بصعوبة .. التكات الرتيبة مازالت تدق في راسها .. تزحف على الطين .. المطر يندي جبينها .. تستسلم بخشوع لحباته .. وهي تطبع على الجبين الشاحب قبلاته الطرية .. تقترب من البحر .. خطوات بينها وبينه .. خطوات .. لم تعد قادرة على تجاوزها … تتقرفص على بعضها .. تشعر ان ثمة مخلوقا يحلق فوقها ..
ترفع راسها المغسول بالمطر والدموع .. انها نوارس البحر .. تحلق فوقها تداعبها بحب واصرار .. تقترب من البحر .. لا تستطيع ان تتنفس .. تفتح عينيها على اتساعهما .. تتطلع الى مديات بعيدة لا يراها احد سواها .. تطبق حواسها على صدى امواجه .. هاهو رذاذه يندي وجهها .. بخشوع تمتصه مثل كيان رملي .. يمتلئ جسدها بالبكاء ..
اصواتهم .. وجوههم .. الزجاجات الصفراء… الكمامة الصفراء .. النحيب والبكاء ، كلها حلقات دخان في فضاء عميق .. انه اكتمال وجودها .. لا نهايته ..
ينبثق الحلم .. من البحر وهو يحتويها .. بصدى امواجه الضاحكة بسخرية مؤلمة من حبيسي المدينة الزجاجية ..