خرج الفقيه أحمد من المصلي وهو يهيتم بالمعقبات. وما أمن زحام الباب ووجد مضطربا يضطرب فيه، حتى رمى بجناح «سلهامه» الأيمن على كتفه اليسرى، ومضى بخطى واسعة، وبوده لو بدرك الحافلة قبل أن تتحرك.
وأمتد الطريق أمامه حافلا بالعسكر، والنظارة الذين يترقبون عودة موكب «المخزن» من المصلى، فرأى أن يتنكب عنه إلى طريق آخر، فيعمل بالسنة الشريفة، ويتفادى جموع المهنئين، من تلامذته الكثيرين، وأصدقائه الفقهاء الذين لا ينتهي لهم الحديث.
وفيما هو يهم بالانعطاف، تأدى إليه من خلفه صوت يناديه، فلم يلتفت، وما كان ليلتفت لولا يد ربتت على ظهره، واضطرته أن يتبين صاحبها. وما ألتفت حتى اشرق وجهه، وأدرك أنه كان مخطئا في تصامه وبسط يديه للعناق هاتفا:
«أهلا بالفقيه إدريس ! أهلا بالصديق الهارب ! أهلا بالرجل الذي لا نراه إلا في يوم عيد !يوم مبارك !» وتعانق الفقيهان. وما سدلا أيديهما حتى أختطف ولد الفقيه إدريس، الذي كان يحمل لبدة والده، يد الفقيه أحمد ليقبلها، ولكنه ما كاد يفعل، حتى تعالت أصوات الموسيقى مؤذنة بتحرك الموكب، فاختزل الغلام قبلته، وأسرع رشيقا أنيقا يخترق الصفوف ليتفرج...
واستأنف الفقيهان الحديث، فقال الفقيه إدريس:
ـ «لم لا أرى معك عزيزا ولدك؟ أما شوفي ؟»
ـ «بلى... ولكنه يستجم. وهو لهذا أحوج ما كان إلى الراحة».
ولم يكن عزيز شوفي تماما، ولكن الفقيه أحمد آثر إقرار صديقه على حسباته، فرارا من تشعب الحديث، غير أن الفقيه إدريس ـ وقد فاتته فرصة المحاضرة في الطب والتطيب ـ انطلق يتدفق بفيض من فلسفة الصحة، وأدب الصحة، وحكم الصحة كغاية من السعي، وكوسيلة إلى عبادة الله.
وعاد الموكب محفوفا بالعسكر فرسانا ومشاة، وعاد الناس وراءه رجالا ونساء وصبيانا، وما منهم إلا ويسيل ريقه من تخيل ما سينعم بالتهامه من شواء، ويمني بـ «بولفاف» دسم يلف الشواء لفا.
ومال انتهى حديث الصديقين، ولكن انتهى إمكان وقوفهما بين هذا الموج المتلاطم من الناس، فشرعا يتمشيان، وكان أيديهما من وفرة المهنئين، المصافحين والمقبلين، مجاديف لا تسكن على حال.
انتهز الفقيه أحمد فرصة انصراف الفقيه إدريس عن الحديث، فودعه دون أن يحفل باستيائه من لقية قصيرة بعد غياب طويل، وانحراف نحو طريقه يحث الخطى والفكر معا..
ذكر العيد زوجته التي كانت أيامها كلها أعياد وكيف تكل بثكلها لذة العيش وبهجة الحياة.
وشجى فقيهنا حتى ألفى نفسه يردد هذا البيت الذي داسه دوسا من طول ما مر عليه في شروح الألفية:
خليلي ما أحرى بذي اللب آن يرى
صبورا ولكن لا سبيل إلى الصبـر
وحاول فقيهنا أن يعزي نفسه بأن عزيزا وحيده ليس إلا امتدادا لحياة والدته ونفسا من روحها، ولكنه ذكر، والأسى يغمر جوانحه، أن عزيزا غلام معلول لا يسعى يوما إلا ليعتكف أياما ولا يسلو ساعة إلا ليتوجع ساعات...
وما أسرع ما أفاق الفقيه أحمد من غشيته، فأنكر نفسه، ونعى عليها أن تقنط من رحمة الله، وأن تذكر بأساءه دون نعمائه، فهيئهم خاشعا: «صدق الله العظيم : فهيئهم خاشعا: «صدق الله العظيم : إنما أموالكم وأولادكم فتنة.. اللهم لاراد لقضائك ولا معقب لحكمك إلا بالضراعة والدعاء... رب أني أضرع إليك أن تشفي عزيزا وترد عليه صحته !»
وأضفى هذا الاستسلام على فقيهنا راحة وأمنا فعاد يرى جوانب مشرقة من حياة عزيز كانت في ظلمة من يأسه وشجاه، فقال في نفسه :
«إن عزيزا على سقمه، يبيض الوجه ويشرف الآل. إن أخلاقه جماع الثناء، وثقافته مبعث الإعجاب. والإفرنجية..؟ إنها ليست على السنة لذاته بأسرع منها على لسانه، مع أنه تأخر عنهم في الالتحاق بـ «المدرسة» !.
ياللزمان كيف يتقلب ! ويا للأفكار كيف تحول ! لقد كنت أعد المدارس كنائس تعمد صبيان المسلمين.. حتى بلغ بي الزمان أن أحمل عزيزا بيدي هاتين إلى المدرسة ، وألقى به فيها، غير آسف إلا على ما قضاه عزيز من الوقت قبل أن يعرفها! لقد أفادت المدرسة عزيزا ما لم يكن في وسعه أن يفيده دونها. إن الأوهام التي كانت توجه رأي الناس في المدرسة، حرمت أكثرهم من الإفادة منها، فحرموا خيرا كثيرا. إن الحياة أصبحت في حاجة إلى زاد من المعرفة لا يتوفر عليها إلا لخريجي هذه المدارس، فما يضير ولدي أن يكون منهم ؟ صحيح أن المدرسة لا تخرج فقهاء... ولكن الدين لا يقوم على الفقيه وحده... ترى ماذا يكون من أمر الإسلام لو أصبح المسلمون كلهم فقهاء ؟!».
واقترنت كلمة «الفقهاء» في ذهن الفقيه أحمد بالجلباب والسلهام، فمد طرفه يستعرض أزياء المصلين ومن إليهم من النظارة ، فكاد يحكم ـ جائرا ـ لزي الفقهاء بالغلبة والاجتياح، لولا أن ذكر أن تسعة أعشار هؤلاء «المتجلببين المتسلهمين» لا يكادون يستقبلون ديارهم، أولا تكاد ديارهم تستقبلهم حتى يلقوا بجلابيبهم وسلاهيمهم إلى حيث تنعم العثة بها أو يأتي عيد آخر !
ورثى فقيهنا لانزواء هذا الزي الوقور، وراح يلقي تعبة هذا الانزواء على ما يسمونه بالحضارة الحديثة، فما كان الناس لولا هذه الحضارة لينكروا ماضيهم ويتخلوا عن تقاليدهم.
وذكر فقيهنا أنه، وهو يوسع الحضارة الحديثة ذما وتهجينا، لما يزل يمجد المدرسة التي هي أثر من آثارها ويد من أياديها !
أيكون إذن لهذه الحضارة وجهان ؟!
وأوشك فقيهنا أن يستنجد حكمة «الثمار للجنى والعود للحطب» لتخلصه من ارتكابه، لولا أنه شعر بما في منطقه من ضعف وتخاذل، فقد وصل إلى أن الحضارة كالشلال لا تسعها المصفاة كالزوبعة لا يقف لها الغربال.
ورضي الفقيه أحمد على نفسه التي صنعت هذا التشبيه الجميل، ولكنه أيضا نعى عليها أن تحاول التخلص من مشقة النظر وكلفة الاجتهاد، فذهب يلاحق نفسه حتى أعادها وعلى عنقها آثار إظفاره اللطاف.
لم الفقيه أحمد شتات فكره، ورجع لنفسه، وحام حولها، فأشفق من حيرتها، وعزم أن يطهرها من الشكوك بالقدر الذي يسمح به ما حولها، وإن يكفها عن الفكر المجرد الذي يكده ويضله، ويباعد بينه وبين النتيجة التي يسعى إليها ويحاول أن يقيم عمله عليها. ولا أسهل عليه من ذلك لو ضيق دائرة فكره حتى لا تتعدى مسائله الخاصة، ثم ينظر في هذه المسائل بواسطة «أصول الفقه» التي يتوفر على قواعدها. إنه إذن لواصل إلى تجلية موقفه،وطمأنة قلبه، وإراحة رأسه من هذه المطارق التي لا تنفك تنهال عليه من أيام وخلف ويمين وشمال.
ليقصر إذن همه على هذه النوازل التي تنزل به وبمن يسأله الله عنهم من أهله عنهم من أهله وبطانته. ولعله بعد ذلك أن يصبح أقدر على فهم هذه الحضارة، والحكم عليها، وإحلال أهلها محالهم من مراتب الطاعة ومراقي الإيمان.
واستعرض فقيهنا حياته، فما وجد فيها مبررا لما هو عليه من الغم والعناء. حتى حياة ابنه الذي هو من مواليد هذه الحضارة، لم يجد فيها، بعد أن فلاها ونفضها، مظنة لحرام. فعلى م إذن كل هذا الشجن...؟! أعلى أن يرغب ولده في استبدال الزي الإفرنجي بالزي العتيق الذي يريده هو على الدخول فيه ؟!
تالله أنه لهوس ! أمن أجل أن ولده يؤثر أن يكون ابن زمنه، يثور هو ويصخب ويحتد، حتى لتبلغ به البادرة أن يقهر وحيده في مرضه، ويأبى عليه أن يلبس البذلة التي انتقاها لعيده، فيردها هو إلى المتجر، ويلعن صاحبه، ويدعو عليه وعلى أمثاله «ممن مهدوا سبل العصبان أمام الشبان». رباه ! كيف استطاع أن يفعل هذا ؟! ولماذا ؟! ألم يلبس رسول الله صلى الله عليهم وسلم جبة رومية ؟! بمن يقتدي إذن ؟!
وذكر الفقيه أحمد ما يتعلل أحيانا بقراءته من كتابات هؤلاء المجددين الذين يصفون أمثاله بأنهم حجارة في طريق الحضارة ! أنه لم يشتر قط ولا ورقة مما يكتبه هؤلاء، فقد كان يربا برأسه أن يحشى بكلامهم الذي كان يراه فارغا في أحسن حالاته، وما كان يقراه إلا خطفا مما يأتي به ولده عزيز من الكتب والمجالات، وما كان يقرأه إلا «من باب العلم بالشيء»، وما كان يقرأه إلا في أوقات فراغه التي لو صح أن يلعب فيها لكان اللعب أجدي عليه من هذه القراءة، وما كان يقرأه إلا اختلاسا من عزيز حتى لا يظهر أمامه بمظهر الوالد الذي «ينهى عن خلق ويأتي مثله»، صحة وسدادا. فإذا من الحجارة لما يتفحر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، في حين أن ماءه هو كان أبعد من أن يستشيره حتى سقم عزيز وتظلمه.
وخجل الفقيه أحمد من نفسه، وعزم أن يصلح ما أفسده من العلائق، ويضمد ما جرح من الشاعر وهل هناك ترضية لعزيز غير أن يعيد بالبذلة التي ردها هو إلى المتجر أو بأخت لها شكلا وقياسا ؟
ليسرع إذن إلى المتجر، وأحر بصاحبه ـ إذا كانت البذلة قد بيعت ـ أن يكون عونا نافعا له في الانتقاء والاختيار ! أوه ! ومن يأتي بالوجه الذي يستطيع أن يدخل به المتجر بعد ما غمر صاحبه شتما وأوسعه سبابا ؟! ... ولكن الفقيه أحمد أبي أن يرجع عما ظهر له من الحق.
وكان صاحب المتجر رجلا «شاعرا» بقلبه، وإن لم يكن كذلك بلسانه، فقد عطفه على الفقيه أحمد حاله وهو يدخل المتجر مشفقا ويعتذر متلعثما، وسحره مشهده وهو ينصرف بحمله كما ينصرف الطفل بلعبته جذلا مسرورا.
عندما ولج الفقيه أحمد باب «الغرسة» ـ مصيفه الجديد ـ رأى عزيزا يحاول الجزار ويساعده على غسل أدواته، فسره منه هذا النشاط، وأصر على أن يعده من بشائر الخير وبوادر العافية.
وقال ـ وهو يمعن في إخفاء حمله تحت جناح السلهام حتى يفاجئ عزيزا فيسعده:
«السلام عليكم... عيدكم مبارك ! لقد تأخرت عنكم كثيرا.. ولكن لا بأس.. أحسنتم التدبير..
ونحى عن كتفيه عزيزا والجزار اللذين كانا يقبلانهما، وتقدم نحو الكبشين المسلوخين، قال ـ وهو يتحسس أحدهما بأنامله:
«تبارك الله ! حتى الذي لم يعلف..!»
فأجاب الجزار ـ وهو يسمح جبهته بذراعه: «إنها غنم الصيف يا سيدنا الفقيه... كلها شبعى !»
وهنا شعر الفقيه أحمد بيد ينتزع منه ما ظن أنه خاف عن الأعين، فتلفت، فإذا «مبروكة» تقبل يده، وتبلغه أن الشواء ينتظره، وتريد أن تحمل عنه ما يحمل، فأبى عليها هذا، وأنسل قبل أن يلبسي دعوة الشواء إلى غرفة عزيز، وحط حمله فيها.
توسط الفقيه أحمد هالة نيرة من آل بيته وجلسوا يتناولون فطور العيد. وكان روح العيد طاغيا يفيض على كل شيء: كانت أشعة الشمس تنفذ من خلال زجاج النوافذ الملون، فتشارك ألوانها ألوان السجف والرياش في صنع العيد. وكان الهواء في البستان يترشف الأزهار في طريقه إلى مجلس الأسرة فيغمره بعبيرها. وكان هذا العبير ينفذ إلى المجلس قويا حين يخلو له الطريق، وضعيفا حالما حين يصده الدخان المتصاعد من السفافيد التي تعوض مبروكة عاريها بكاسيها، أو حين تتوقد المبخرة، وتضوع بروائحها التي تنقل الخيال إلى أفراح فاس، أو أسواق دمشق، أو أعياد بغداد... ولم تكن آذان القوم أقل سعادة من بقية حواسهم بأفانين العيد وشياته، فهناك: وسوسة السفافيد، وخشخشة الصحون، وصليل الكؤوس، وأزيز «البابور»، وأصوات الموسيقى الأندلسية التي تنطلق من المذياع.
وكاد سرور القوم بعيدهم يكون خالصا لولا أنهم افتقدوا ربة البيت الراحلة، فتندت منهم العيون وتحرقت القلوب... ولكن الحياة أقوى من الموت والحركة أطرد للسكون، فما لبث القوم أن انسوا ماضيهم بحاضرهم، وما لبتت يد فقيهنا أن جففت دمعتيه، واستأنفت نقرها بأناملها على الكأس البلورية، ذات المحاريب المذهب، مماشية أنغام الموسيقى الأندلسية الوقور.
وقد صرف هذا الجو النشيط عزيزا عن التفكير في نفسه، فاستشعر صحة لم يملك معها إلا أن يعلن أنه سينزل إلى المدينة ليقضي بقية يوم العيد فيها.
وقد طرب أفراد الأسرة لرغبة عزيز هذه التي زادت أعينهم به قوة وأنفسهم عليه اطمئنانا.
ولم يجد الفقيه أحمد أصلح من الجو الذي خلقته هذه البشرى لمفاجأته التي فنها فنا وأعدها أعدادا، فقال لغزيز في دعابة متوارية:
«هلم يا عزيزي... أرني كيف يستقبل الفقهاء الناشئون عيدهم... لا يجمل بك أن تستقبل الزوار هكذا... تجمل بما يروقك من جلابيبك وكساك».
وقام عزيز إلى غرفته متثاقلا ليظهر لأبيه كما يريد.
ولما عاد عزيز إلى أهله لم يكن عجبهم دون عجبه حين فوجئ بالبذلة الأنيقة تنتظره في غرفته، فطوقوه بأنظارهم وقد أدركوا أنه كان على حق في إيثاره لهذا الزي الذي صقل شبابه وأقام عوده.
وتحولت الأنظار عن عزيز إلى والده في تشف مرح وشماتة ضاحكة.
وضحك عزيز بدوره، ثم تقدم إلى والده يقبل جبينه.
ومالت العمامة على عيني الفقيه أحمد، فرفعها عنهما وقد أغرورقتا بالدموع.
المصدر: دعوة الحق، العدد 17
وأمتد الطريق أمامه حافلا بالعسكر، والنظارة الذين يترقبون عودة موكب «المخزن» من المصلى، فرأى أن يتنكب عنه إلى طريق آخر، فيعمل بالسنة الشريفة، ويتفادى جموع المهنئين، من تلامذته الكثيرين، وأصدقائه الفقهاء الذين لا ينتهي لهم الحديث.
وفيما هو يهم بالانعطاف، تأدى إليه من خلفه صوت يناديه، فلم يلتفت، وما كان ليلتفت لولا يد ربتت على ظهره، واضطرته أن يتبين صاحبها. وما ألتفت حتى اشرق وجهه، وأدرك أنه كان مخطئا في تصامه وبسط يديه للعناق هاتفا:
«أهلا بالفقيه إدريس ! أهلا بالصديق الهارب ! أهلا بالرجل الذي لا نراه إلا في يوم عيد !يوم مبارك !» وتعانق الفقيهان. وما سدلا أيديهما حتى أختطف ولد الفقيه إدريس، الذي كان يحمل لبدة والده، يد الفقيه أحمد ليقبلها، ولكنه ما كاد يفعل، حتى تعالت أصوات الموسيقى مؤذنة بتحرك الموكب، فاختزل الغلام قبلته، وأسرع رشيقا أنيقا يخترق الصفوف ليتفرج...
واستأنف الفقيهان الحديث، فقال الفقيه إدريس:
ـ «لم لا أرى معك عزيزا ولدك؟ أما شوفي ؟»
ـ «بلى... ولكنه يستجم. وهو لهذا أحوج ما كان إلى الراحة».
ولم يكن عزيز شوفي تماما، ولكن الفقيه أحمد آثر إقرار صديقه على حسباته، فرارا من تشعب الحديث، غير أن الفقيه إدريس ـ وقد فاتته فرصة المحاضرة في الطب والتطيب ـ انطلق يتدفق بفيض من فلسفة الصحة، وأدب الصحة، وحكم الصحة كغاية من السعي، وكوسيلة إلى عبادة الله.
وعاد الموكب محفوفا بالعسكر فرسانا ومشاة، وعاد الناس وراءه رجالا ونساء وصبيانا، وما منهم إلا ويسيل ريقه من تخيل ما سينعم بالتهامه من شواء، ويمني بـ «بولفاف» دسم يلف الشواء لفا.
ومال انتهى حديث الصديقين، ولكن انتهى إمكان وقوفهما بين هذا الموج المتلاطم من الناس، فشرعا يتمشيان، وكان أيديهما من وفرة المهنئين، المصافحين والمقبلين، مجاديف لا تسكن على حال.
انتهز الفقيه أحمد فرصة انصراف الفقيه إدريس عن الحديث، فودعه دون أن يحفل باستيائه من لقية قصيرة بعد غياب طويل، وانحراف نحو طريقه يحث الخطى والفكر معا..
ذكر العيد زوجته التي كانت أيامها كلها أعياد وكيف تكل بثكلها لذة العيش وبهجة الحياة.
وشجى فقيهنا حتى ألفى نفسه يردد هذا البيت الذي داسه دوسا من طول ما مر عليه في شروح الألفية:
خليلي ما أحرى بذي اللب آن يرى
صبورا ولكن لا سبيل إلى الصبـر
وحاول فقيهنا أن يعزي نفسه بأن عزيزا وحيده ليس إلا امتدادا لحياة والدته ونفسا من روحها، ولكنه ذكر، والأسى يغمر جوانحه، أن عزيزا غلام معلول لا يسعى يوما إلا ليعتكف أياما ولا يسلو ساعة إلا ليتوجع ساعات...
وما أسرع ما أفاق الفقيه أحمد من غشيته، فأنكر نفسه، ونعى عليها أن تقنط من رحمة الله، وأن تذكر بأساءه دون نعمائه، فهيئهم خاشعا: «صدق الله العظيم : فهيئهم خاشعا: «صدق الله العظيم : إنما أموالكم وأولادكم فتنة.. اللهم لاراد لقضائك ولا معقب لحكمك إلا بالضراعة والدعاء... رب أني أضرع إليك أن تشفي عزيزا وترد عليه صحته !»
وأضفى هذا الاستسلام على فقيهنا راحة وأمنا فعاد يرى جوانب مشرقة من حياة عزيز كانت في ظلمة من يأسه وشجاه، فقال في نفسه :
«إن عزيزا على سقمه، يبيض الوجه ويشرف الآل. إن أخلاقه جماع الثناء، وثقافته مبعث الإعجاب. والإفرنجية..؟ إنها ليست على السنة لذاته بأسرع منها على لسانه، مع أنه تأخر عنهم في الالتحاق بـ «المدرسة» !.
ياللزمان كيف يتقلب ! ويا للأفكار كيف تحول ! لقد كنت أعد المدارس كنائس تعمد صبيان المسلمين.. حتى بلغ بي الزمان أن أحمل عزيزا بيدي هاتين إلى المدرسة ، وألقى به فيها، غير آسف إلا على ما قضاه عزيز من الوقت قبل أن يعرفها! لقد أفادت المدرسة عزيزا ما لم يكن في وسعه أن يفيده دونها. إن الأوهام التي كانت توجه رأي الناس في المدرسة، حرمت أكثرهم من الإفادة منها، فحرموا خيرا كثيرا. إن الحياة أصبحت في حاجة إلى زاد من المعرفة لا يتوفر عليها إلا لخريجي هذه المدارس، فما يضير ولدي أن يكون منهم ؟ صحيح أن المدرسة لا تخرج فقهاء... ولكن الدين لا يقوم على الفقيه وحده... ترى ماذا يكون من أمر الإسلام لو أصبح المسلمون كلهم فقهاء ؟!».
واقترنت كلمة «الفقهاء» في ذهن الفقيه أحمد بالجلباب والسلهام، فمد طرفه يستعرض أزياء المصلين ومن إليهم من النظارة ، فكاد يحكم ـ جائرا ـ لزي الفقهاء بالغلبة والاجتياح، لولا أن ذكر أن تسعة أعشار هؤلاء «المتجلببين المتسلهمين» لا يكادون يستقبلون ديارهم، أولا تكاد ديارهم تستقبلهم حتى يلقوا بجلابيبهم وسلاهيمهم إلى حيث تنعم العثة بها أو يأتي عيد آخر !
ورثى فقيهنا لانزواء هذا الزي الوقور، وراح يلقي تعبة هذا الانزواء على ما يسمونه بالحضارة الحديثة، فما كان الناس لولا هذه الحضارة لينكروا ماضيهم ويتخلوا عن تقاليدهم.
وذكر فقيهنا أنه، وهو يوسع الحضارة الحديثة ذما وتهجينا، لما يزل يمجد المدرسة التي هي أثر من آثارها ويد من أياديها !
أيكون إذن لهذه الحضارة وجهان ؟!
وأوشك فقيهنا أن يستنجد حكمة «الثمار للجنى والعود للحطب» لتخلصه من ارتكابه، لولا أنه شعر بما في منطقه من ضعف وتخاذل، فقد وصل إلى أن الحضارة كالشلال لا تسعها المصفاة كالزوبعة لا يقف لها الغربال.
ورضي الفقيه أحمد على نفسه التي صنعت هذا التشبيه الجميل، ولكنه أيضا نعى عليها أن تحاول التخلص من مشقة النظر وكلفة الاجتهاد، فذهب يلاحق نفسه حتى أعادها وعلى عنقها آثار إظفاره اللطاف.
لم الفقيه أحمد شتات فكره، ورجع لنفسه، وحام حولها، فأشفق من حيرتها، وعزم أن يطهرها من الشكوك بالقدر الذي يسمح به ما حولها، وإن يكفها عن الفكر المجرد الذي يكده ويضله، ويباعد بينه وبين النتيجة التي يسعى إليها ويحاول أن يقيم عمله عليها. ولا أسهل عليه من ذلك لو ضيق دائرة فكره حتى لا تتعدى مسائله الخاصة، ثم ينظر في هذه المسائل بواسطة «أصول الفقه» التي يتوفر على قواعدها. إنه إذن لواصل إلى تجلية موقفه،وطمأنة قلبه، وإراحة رأسه من هذه المطارق التي لا تنفك تنهال عليه من أيام وخلف ويمين وشمال.
ليقصر إذن همه على هذه النوازل التي تنزل به وبمن يسأله الله عنهم من أهله عنهم من أهله وبطانته. ولعله بعد ذلك أن يصبح أقدر على فهم هذه الحضارة، والحكم عليها، وإحلال أهلها محالهم من مراتب الطاعة ومراقي الإيمان.
واستعرض فقيهنا حياته، فما وجد فيها مبررا لما هو عليه من الغم والعناء. حتى حياة ابنه الذي هو من مواليد هذه الحضارة، لم يجد فيها، بعد أن فلاها ونفضها، مظنة لحرام. فعلى م إذن كل هذا الشجن...؟! أعلى أن يرغب ولده في استبدال الزي الإفرنجي بالزي العتيق الذي يريده هو على الدخول فيه ؟!
تالله أنه لهوس ! أمن أجل أن ولده يؤثر أن يكون ابن زمنه، يثور هو ويصخب ويحتد، حتى لتبلغ به البادرة أن يقهر وحيده في مرضه، ويأبى عليه أن يلبس البذلة التي انتقاها لعيده، فيردها هو إلى المتجر، ويلعن صاحبه، ويدعو عليه وعلى أمثاله «ممن مهدوا سبل العصبان أمام الشبان». رباه ! كيف استطاع أن يفعل هذا ؟! ولماذا ؟! ألم يلبس رسول الله صلى الله عليهم وسلم جبة رومية ؟! بمن يقتدي إذن ؟!
وذكر الفقيه أحمد ما يتعلل أحيانا بقراءته من كتابات هؤلاء المجددين الذين يصفون أمثاله بأنهم حجارة في طريق الحضارة ! أنه لم يشتر قط ولا ورقة مما يكتبه هؤلاء، فقد كان يربا برأسه أن يحشى بكلامهم الذي كان يراه فارغا في أحسن حالاته، وما كان يقراه إلا خطفا مما يأتي به ولده عزيز من الكتب والمجالات، وما كان يقرأه إلا «من باب العلم بالشيء»، وما كان يقرأه إلا في أوقات فراغه التي لو صح أن يلعب فيها لكان اللعب أجدي عليه من هذه القراءة، وما كان يقرأه إلا اختلاسا من عزيز حتى لا يظهر أمامه بمظهر الوالد الذي «ينهى عن خلق ويأتي مثله»، صحة وسدادا. فإذا من الحجارة لما يتفحر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، في حين أن ماءه هو كان أبعد من أن يستشيره حتى سقم عزيز وتظلمه.
وخجل الفقيه أحمد من نفسه، وعزم أن يصلح ما أفسده من العلائق، ويضمد ما جرح من الشاعر وهل هناك ترضية لعزيز غير أن يعيد بالبذلة التي ردها هو إلى المتجر أو بأخت لها شكلا وقياسا ؟
ليسرع إذن إلى المتجر، وأحر بصاحبه ـ إذا كانت البذلة قد بيعت ـ أن يكون عونا نافعا له في الانتقاء والاختيار ! أوه ! ومن يأتي بالوجه الذي يستطيع أن يدخل به المتجر بعد ما غمر صاحبه شتما وأوسعه سبابا ؟! ... ولكن الفقيه أحمد أبي أن يرجع عما ظهر له من الحق.
وكان صاحب المتجر رجلا «شاعرا» بقلبه، وإن لم يكن كذلك بلسانه، فقد عطفه على الفقيه أحمد حاله وهو يدخل المتجر مشفقا ويعتذر متلعثما، وسحره مشهده وهو ينصرف بحمله كما ينصرف الطفل بلعبته جذلا مسرورا.
عندما ولج الفقيه أحمد باب «الغرسة» ـ مصيفه الجديد ـ رأى عزيزا يحاول الجزار ويساعده على غسل أدواته، فسره منه هذا النشاط، وأصر على أن يعده من بشائر الخير وبوادر العافية.
وقال ـ وهو يمعن في إخفاء حمله تحت جناح السلهام حتى يفاجئ عزيزا فيسعده:
«السلام عليكم... عيدكم مبارك ! لقد تأخرت عنكم كثيرا.. ولكن لا بأس.. أحسنتم التدبير..
ونحى عن كتفيه عزيزا والجزار اللذين كانا يقبلانهما، وتقدم نحو الكبشين المسلوخين، قال ـ وهو يتحسس أحدهما بأنامله:
«تبارك الله ! حتى الذي لم يعلف..!»
فأجاب الجزار ـ وهو يسمح جبهته بذراعه: «إنها غنم الصيف يا سيدنا الفقيه... كلها شبعى !»
وهنا شعر الفقيه أحمد بيد ينتزع منه ما ظن أنه خاف عن الأعين، فتلفت، فإذا «مبروكة» تقبل يده، وتبلغه أن الشواء ينتظره، وتريد أن تحمل عنه ما يحمل، فأبى عليها هذا، وأنسل قبل أن يلبسي دعوة الشواء إلى غرفة عزيز، وحط حمله فيها.
توسط الفقيه أحمد هالة نيرة من آل بيته وجلسوا يتناولون فطور العيد. وكان روح العيد طاغيا يفيض على كل شيء: كانت أشعة الشمس تنفذ من خلال زجاج النوافذ الملون، فتشارك ألوانها ألوان السجف والرياش في صنع العيد. وكان الهواء في البستان يترشف الأزهار في طريقه إلى مجلس الأسرة فيغمره بعبيرها. وكان هذا العبير ينفذ إلى المجلس قويا حين يخلو له الطريق، وضعيفا حالما حين يصده الدخان المتصاعد من السفافيد التي تعوض مبروكة عاريها بكاسيها، أو حين تتوقد المبخرة، وتضوع بروائحها التي تنقل الخيال إلى أفراح فاس، أو أسواق دمشق، أو أعياد بغداد... ولم تكن آذان القوم أقل سعادة من بقية حواسهم بأفانين العيد وشياته، فهناك: وسوسة السفافيد، وخشخشة الصحون، وصليل الكؤوس، وأزيز «البابور»، وأصوات الموسيقى الأندلسية التي تنطلق من المذياع.
وكاد سرور القوم بعيدهم يكون خالصا لولا أنهم افتقدوا ربة البيت الراحلة، فتندت منهم العيون وتحرقت القلوب... ولكن الحياة أقوى من الموت والحركة أطرد للسكون، فما لبث القوم أن انسوا ماضيهم بحاضرهم، وما لبتت يد فقيهنا أن جففت دمعتيه، واستأنفت نقرها بأناملها على الكأس البلورية، ذات المحاريب المذهب، مماشية أنغام الموسيقى الأندلسية الوقور.
وقد صرف هذا الجو النشيط عزيزا عن التفكير في نفسه، فاستشعر صحة لم يملك معها إلا أن يعلن أنه سينزل إلى المدينة ليقضي بقية يوم العيد فيها.
وقد طرب أفراد الأسرة لرغبة عزيز هذه التي زادت أعينهم به قوة وأنفسهم عليه اطمئنانا.
ولم يجد الفقيه أحمد أصلح من الجو الذي خلقته هذه البشرى لمفاجأته التي فنها فنا وأعدها أعدادا، فقال لغزيز في دعابة متوارية:
«هلم يا عزيزي... أرني كيف يستقبل الفقهاء الناشئون عيدهم... لا يجمل بك أن تستقبل الزوار هكذا... تجمل بما يروقك من جلابيبك وكساك».
وقام عزيز إلى غرفته متثاقلا ليظهر لأبيه كما يريد.
ولما عاد عزيز إلى أهله لم يكن عجبهم دون عجبه حين فوجئ بالبذلة الأنيقة تنتظره في غرفته، فطوقوه بأنظارهم وقد أدركوا أنه كان على حق في إيثاره لهذا الزي الذي صقل شبابه وأقام عوده.
وتحولت الأنظار عن عزيز إلى والده في تشف مرح وشماتة ضاحكة.
وضحك عزيز بدوره، ثم تقدم إلى والده يقبل جبينه.
ومالت العمامة على عيني الفقيه أحمد، فرفعها عنهما وقد أغرورقتا بالدموع.
المصدر: دعوة الحق، العدد 17