هيرمينوطيقا الاستبعاد: رؤية داخل السياقات القانونية
Hermeneutics of exclusion: A Vision inside Legal Contexts
(1) الوعي الأنطولوجي:
يبدأ الوعي بالنص أنطولوجياً، (الحضور الأنطولوجي لدى القارئ)، خلافاً للاستحضار المقيد لدى المؤلف. فيتم تلقي النص كما تتلقى أشرعة المراكب الهواء، التي تحتجزه، ثم تتحرك مزيحة مياه التصورات المتزاحمة لتتمكن من المضي قدماً، غير أن الهواء لا يظل هو نفسه الهواء؛ إنما يتجدد فيزيح القديم دون انقطاع. فالقارئ لا ينتج معنىً خلافاً لما تقول به نظرية التلقي(Carter, David, 2006,p.87) ، بل يستبعد معاني، ويحتجز أخرى ممتنعاً عن استبعادها على وجه الظن، وفقاً لمؤشرات الإستبعاد النصي. لذلك فخطأ نظرية التلقي أنها تفترض استدعاء المعنى عبر أفق التوقعات horizon of expectations ((Selden, Raman,2005, p.50 ، ذلك أن التوقعات لا تعني شيئاً قبل النص أكثر من كونها حضورا كلياً في الوعي الوجودي. ولا أدل على ذلك من تلك الإشارة إلى كسر أفق التوقعات؛ لأن هذا الكسر يفترض بدوره أن التوقعات سابقة على النص وهذا يستحيل منطقياً إلا إن كانت تلك التوقعات كلية. فالنص بذاته لا يكسر التوقعات لأنه لا يولد في فراغ بل داخل كثافة أنطولوجية (يمكن أن نطلق عليها توقعات كلية لا محدودة)، وهذه الكثافة تعد كلها مؤشرات قابلة للإستبعاد، غير أنها مؤشرات غازيَّة ورخوة ومتهافتة ومتزاحمة، وحين يولد النص يغير من تلك المؤشرات الإستبعادية لتحدث الاستبعادات الإيجازية السريعة وحين يتمدد تحدث استبعادات جديدة واحتجازات مقابلة جديدة، وهذه العملية العقلية لا متناهية، ولا يمكن أن تخضع لتتالي زمني أو تراتبية، بل تتم بأسلوب مجموعاتي متزامن ومتمدد مما يتطلب تنوعاً في مؤشرات الإستبعاد النصية، أي المؤشرات الصغرى والكبرى طوال قراءة النص ثم بعد قراءة النص، إذ أن الوعي هو دائما وعي انطولوجي، يتسع باتساع الخبرة الحسية والعقلية ويلزم من ذلك أن النص يظل مشتغلاً داخله باستمراره. لذلك قد نقرأ النص اليوم بعين مختلفة عنها قبل بضعة أشهر، أو قبل تبصيرنا بإدراك وجودي أوسع يفرض علينا استبعادات جديدة لتضييق الحضور الأنطولوجي للمعنى.
(2) مؤشر الإستبعاد: في المقابل هو الذي يجعل بعض التصورات تبقى داخل الحقل الأنطولوجي فيمتنع استبعادها ويكون بقاؤها رهن: إما مؤشر استبعاد جديد أو حضور ظني قلق، وهذا ما يجعل المعنى إحتمالياً دائماً، ويكون مؤشر الاستبعاد مؤشراً صغيراً حينما يطلب من القارئ أن يقوم بذلك الاستبعاد داخل المحيط التداولي، ويكون أكبر منه أو كلياً حينما ينتج عن اكتشاف العلل الرابطة بين المؤشرات الصغرى بحيث تشير إلى المعنى الكلي أو الأكبر للنص، وكلما انبثقت مؤشرات صغرى، لزم أن تواكبها مؤشرات كبرى، لكي تستقيم وحدة الخطاب أو النسق النصي. فمؤشرات الإستبعاد طبقية في تمظهرها العام، بحيث قد تتعدد المؤشرات، ويكون كل مؤشر أكبر بالنسبة لما تحته من مؤشرات وأصغر لما هو أعلاه، وبما أن مؤشرات الإستبعاد ليست بذاتها المعنى؛ فهي فقط تشير إلى أن بعض التوهمات ليست هي المعنى فهي بالتالي واجبة الاستبعاد. فعندما يتحدث القانون عن ضرورة عدم انتهاك الآداب العامة، فنحن وضمن إطار وعينا الأنطولوجي نكون أمام عدة مؤشرات إستبعاد، بعضها داخلية متصلة بالنص وبعضها خارجي، فبما أننا نتحدث عن القانون، فالقانون بذاته وبكل حضوره الأنطولوجي سيشير إلى استبعاد ما غير قانوني، ومن ثمَّ الاحتفاظ بما هو قانوني فقط، ولكننا قد نجد أن القانون قد يحيلنا بعد ذلك إلى مؤشرات إستبعاد خارجية تستبعده هو بذاته من الحضور رغم ضرورة بقائه، فعندما تنص المادة (١٢٥ /٢) من القانون الجنائي لسنة ١٩٩١ على أنه: (يعد الفعل مخلاً بالآداب العامة إذا كان كذلك في معيار الدين الذي يعتنقه الفاعل أو عرف البلد الذي يقع فيه الفعل)، فهنا يكون الدين والعرف مؤشرين خارجيين عن المؤشر الإستبعادي الأول وهو القانون (التشريع)، وهما بدورهما يطلبان منا استبعاد القانون ذاته واستبعاد كل خيالاتنا الوجودية الأخرى ويحثاننا على احتجازهما هما فقط كمعايير لما يعد آداباً عامة وهكذا يحدث الفهم بالاستبعاد والاحتجاز، وهذه ليست عملية تراتبية متوالية بل تعبُر أفق الوعي بالتوازي. فيحدث الفهم بشكل شمولي كلي للنص القانوني.
فالنص قبل ظهوره راسخ في الكونية، وعند انطلاقته بملفوظه الأول يتقزم، يتقزم بنوع اللغة التي تستبعد ما عداها، وبجنسه الذي يستبعد ما عداه من أجناس، وبتفاصيله المكثفة التي تطلب استبعاد ما عداها. ولذلك فلا يوجد كسر للتوقعات كما أسلفنا، بل انعطافات في مؤشرات الإستبعاد وبالتالي استبعادات جديدة، من القانون إلى الدين إلى العرف، بناء على علل صريحة أو ضمنية، وكشف هذه العلل هو الذي يحقق الربط بين مؤشرات الإستبعاد على الوجه الكلي، وبالتالي فنحن نتنقل من مؤشرات إستبعاد صغرى إلى كبرى، ومن كبرى (صغرى) إلى كبرى (كبرى)، وهكذا..هذه المؤشرات الكبرى هي التي تعيد توحيد النص داخل معنى موحد، أو تلقي به في أفق الانفتاح، أو تحكم عليه بالعبثية..
لقد ظلت فكرة التوقعات أو حضور المعنى سببا أساسياً في ضعف نتائج بعض العلوم اللغوية الحديثة كنظرية التمثيل الذهني Mental Representation والتي لم تستطع حتى الآن تفسير السلوك الذكي Intelligent Behavior ((Clapin, Hugh.2004, pp.1-2 وكالإشكاليات التي واجهت أنطولوجيا اللغة وهو علم يحاول بناء روابط لشبكات علاقات واسعة رقمياً (Jérôme, Euzenat,2007,p.36) ، رغم استحالة ذلك، وذلك بسبب رسوخ التقسيم المعرفي الكانطي(,Kant, Immanuel, Ed. Guyer. Paul,1998, pp.136, 137) وكان بإمكان هذا العلم تحقيق قفزات لو اعتمد على فكرة الاستبعاد لا التوقع. إن الإستبعاد لا يتطلب ملاحقة مستحيلة كالتصنيف الأرسطي عبر مستوى الدال والمدلول السيسوري، ذلك أن الدال دائماً مجازي، ولا يصلح إلا ان يكون كذلك، وهذا ما يجعله غير قابل للقبض عليه.
(3) آليات الاستبعاد:
ولكن، كيف يحدث الاستبعاد؟ إن الاستبعاد قد يكون منظماً (علمي) لذلك فهو محدود، أو حدسياً وهذا هو الغالب لذلك فهو غير محدود.
ويلاحظ أن خلق النص القانوني هو بناء مؤشرات إستبعاد ولذلك فهو عملية معاكسة للفهم وإن كانت تتجه نحوه، وهي تتم داخل مستوى المحايثة بوصف دولوزthe plane of immanence.( (Deleuze, Gilles,2013
(4) تطبيقات لنظرية الاستبعاد:
أما تطبيقات نظرية الاستبعاد (والتي لا حصر لها) فيمكن أن تبدأ من المثال التالي:
(أ) و (ب) في حوار بسيط:
(أ)- هناك قانون يحكم كل شيء..
(ب)- قانون كوني؟
(أ)- أقصد قانوناً يحكم كل أنشطتنا الإنسانية..
(ب)- هل تؤمن بالقدر؟
(أ)- اقصد ذلك القانون الذي يصدر عن البرلمان.
سنلاحظ أن كلمة القانون يمكن أن تطلق على أي قاعدة تحكم علاقة مضطردة بين شيئين أو أكثر أو ما يطلق عليه قاموس أكسفورد الإنتظام في الأحداث الطبيعيةregularity in natural occurrences،( (The Oxford dictionary of current English, 1993, p.500 قد يكون القانون هنا قانوناً فيزيائياً أو قانوناً إجتماعياً او القانون الصادر من البرلمان أو القانون اللاهوتي..
إن ما قام به (أ) في نهاية الحوار هو أنه حصر كل الاحتمالات التي دارت في مخيلة (ب) في مفهوم القانون البرلماني. في الواقع هو بذلك طلب من (ب) إستبعاد التصورات واحدة تلو أخرى..حيث كان (ب) يتجه نحو (أ) عبر الاستبعادات المستمرة. إن الأصل في فهمنا ليس الاستدعاء وإنما الإستبعاد. وسنلاحظ أن كل النظريات المرتبطة بالتأويل والتلقي بل والمنطق الصوري انطلقت من الاستدعاء والتمثـــُّـــل (أفق التوقعات) لا الاستبعاد، وسوف نرى أن تلك الإنطلاقة أسفرت عن إشكاليات عديدة في تلك النظريات..في التفكيكية مثلاً كان هناك مبدأ التأجيل والتراخي ( (Newton, K,1997, p.112، لأن النص لا متناهي المدلولات. في الواقع سنكتشف أن النص لا يمنح مدلولات بل يشير غالباً إلى ما يعزز استبعاداتنا (مؤشرات الإستبعاد). والنص الذي لا يمنح تلك الإشارة يكون نصاً مبهماً. ليس بالضرورة أن يكون النص أو الخطاب (بشكل أوسع)، محدِّداً لكل عناصره لتحقيق مؤشرات استبعاد شاملة، وإنما يكفي أن يعتمد على سياقاته الخاصة. يعد التناص والإنتقاء الثقافي Cultural selectionismأحد تلك المعززات لعملية الاستبعاد، سنلاحظ مثلاً أن العقد قد يحتوي -وغالباً هذا ما يحدث- على مجموعة من الجمل المتعارف عليها عند القانونيين مثل boilerplate clauses and core clauses ، هذه الجمل، وطيلة حياتها القانونية، وداخل هذا الحقل، وعبر كافة مؤسسات القانون، تشكلت ملامح تاثيراتها القانونية، عبر التطبيقات المختلفة، بحيث اكتسبت إحكاماً يمنع من أي مزاحمة لتصورات أخرى، إنه لا يحتاج لبذل جهد وفير في عملية الاستبعاد. وبالمثل فإن السوابق precedents والمبادئ القضائية، تعزز الاستبعاد، فتفسير كلمة (شخص) بحيث يشتمل المعنى على الشخص الإعتباري juridical person إضافة إلى الشخص الطبيعي natural person ، دفعت بعملية الاستبعاد إلى الأمام، بحيث تساقطت كل التصورات الأخرى. كذلك يقوم النص القانوني بتعزيز الاستبعاد، فعندما نجد أن القانون يعرف المال بأنه:(كل عين أو حق له قيمه مادية في التعامل) (م25/1م.م) فإنه يتحرك –نسبياً-داخل التصور المشترك والذي يندرج ضمن أنطولوجيا اللغة العادية Ordinary Language ontology، لكنه يعود ليطالب باستبعاد بعض من التصورات الحاضرة؛ فتنص الفقرة الثانية من ذات المادة على استبعاد ما يخرج من التعامل بطبيعته (كالطيور في السماء والسمك في البحار) أو بحكم القانون (كالمخدرات) من ذلك التصور؛ لكنه قد يعود ليطلب من القارئ عدم استبعاد ذلك في حالات إستثنائية مثل المخدرات التي يتم تداولها للأغراض الطبية؛ فتضيق دائرة الاستبعاد. لذلك فالتعريف القانوني دائماً يحاول استبعاد كل التصورات المزاحمة مبقياً على بعض منها لتمثل معناه؛ سواء كان القارئ شخصاً عادياً أو قاضياً أو فقيهاً، وكلما وسع النص من دائرة الاستبعاد مضيقاً الأفق الأنطولوجي كلما حدث الانتقال من اللغة العادية إلى اللغة الوضعية.
نظرية الاستبعاد قد تحقق أحيانا بعض الحلول للجدليات القانونية، مثل الجدل حول تعريف الإرهاب( (Forst, Brian,2009, p.3 عبر استخدام مباشر للاستبعاد بصيغة إيجابية، لتوفير استحقاقات مبدأ المشروعية، وإلا فإن كلمة إرهاب داخل النصوص القانونية، ستُبقى المعنى سابحاً في فضائه الأنطولوجي.
(1-4) العلم القضائي judicial notice وتعزيز الاستبعاد؛ يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه القضائي وليس الشخصي، حيث يمثل العلم القضائي مجموعة المعارف والمعلومات والوقائع المعلومة للشخص المعتاد بما يشمل -من باب أولى- العلم بالمجريات المختلفة للشؤون القانونية بالدولة، وقد نصت المادة (١٤) من قانون الإثبات لسنة ١٩٩٣ بالسودان على الآتي:
14ـ(1) لا حاجة إلى إثبات الوقائع التي تأخذ بها المحكمة علماً قضائياً.
(2) تأخذ المحكمة علماً قضائياً بالشئون المحلية والعامة التي يفترض علم الكافة بها .
(3) مع عدم الإخلال بأحكام البند (2) , تأخذ المحكمة علماً قضائياً بالمسائل الآتية وهى :
(أ ) الدستور والتشريع وسائر الأحكام والتدابير التي لها قوة القانون،
(ب) المسير العام لنظم الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية وأجهزتها،
(ج) تولى المناصب العامة وأسماء شاغليها وألقابهم ومهامهم وتوقيعاتهم إذا كان تعيينهم قد أعلن رسمياً،
( د) كل دولة تعترف بها حكومة السودان , وبصفة عامة كل الشئون الدولية والسياسية , المتصلة بعلاقات السودان الخارجية،
(هـ) التقاسيم الزمنية والجغرافية والمكاييل والموازين والمقاييس وسائر المعايير الشائعة في السودان،
(و ) العطلات العامة والقومية،
(ز) الأعراف السودانية العامة التي أقرتها المحاكم،
(ح) المعاني العامة للكلمات،
(ط) قوانين الطبيعة ومسيرها العادي.
(4) يجوز للمحكمة في جميع الأمور التي تأخذ بها علماً قضائياً التحري والاستعانة بأي جهة رسمية، أو أي مرجع مناسب كما يجوز لها أن تشترط على من يطلب منها أن تأخذ علماً قضائياً بأي أمر أن يمدها بما تراه لازماً من المراجع والوثائق لأخذ العلم القضائي.( Law Commission Wellington, New Zealand, 1994, p. 79)
فالعلم القضائي يعني أن المحكمة وهي في سبيل قيامها بالفصل في الدعوى القضائية لها أن تستدل بكل تلك المعارف ليقوم حكمها على التصور الصحيح. إن المحكمة في الواقع لا بد أن تحصل على ذلك الحق لأنها (وبعيداً عن إعتباريتها) إنما تتأسس على فهم الشخص الطبيعي الذي هو القاضي. والشخص الطبيعي يبني حكمه على الاستدلال، والاستدلال يتم عبر استبعاد كل ما يزاحم الحقيقة من تصورات خاطئة.
إن خاصية النشاط القانوني تختلف عن النشاط الأدبي؛ فالنشاط القانوني يجب ألا يمنح أي فرصة لمزاحمة التصورات، أما النشاط الأدبي، فهو يخلق تلك المزاحمة بل ويكون عملاً مرموقاً عندما يكون منفتحاً على التأويلات المتعددة، أي كلما ضُعفت القدرة على الاستبعاد.
(2-4) العَـقـــد والاستبعاد:
قاعدة العقد شريعة المتعاقدين، تستلزم تفسير القاضي للعقد عند الاختلاف حول تفسيره. وهنا فنحن أمام طرفين على الأقل، يملكان تصورات مختلفة عن نص واحد. وهناك ثلاثة احتمالات في هذا الصدد:
الاحتمال الاول:أن يكون طرفا العقد يمتلكان معرفة عامة..
الاحتمال الثاني:أن يمتلك الطرفان: معرفة متخصصة..
الاحتمال الثالث:أن يمتلك أحد الاطراف معرفة عامة والآخر معرفة متخصصة.
في الاحتمال الأول، وهو احتمال الرجل المعتاد، والاحتمال الثاني؛ وهو احتمال الشخص في ظروف الخبرة، فإن سياقات العقد تكون مفهومة للطرفين حيث يستخدمان نفس مؤشرات الاستبعاد، لأن الفهم يتأسس على تقارب عمليات الاستبعاد. أما في الاحتمال الثالث؛ فإن صيغة العقد لا تعزز توافق عمليات الاستبعاد. ولكن فلنلاحظ أن القاضي نفسه (وهو بصدد أداء عمله في تفسير العقد تمهيداً لتكييفه وللفصل في نقاط النزاع بما يرضي العدالة)؛ يعد بمثابة طرف ثالث؛ صحيح أنه ليس من أطراف العقد المعنيين بمضمونه ذلك الذي يرتب حقوقاً والتزامات، لكنه طرف معني بفهمه، ولذلك فعندما يقوم محامي بصياغة العقد، فإن النص سيحول دون مزاحمة أي تصورات للقاضي لفحوى العقد وبالتالي فإن القاضي يمارس استبعاداً لتلك التصورات بشكل سلس، خلافاً لما إذا كان العقد مصاغاً شفاهة أو كتابة من طرفين لا يملكان معرفة قانونية متخصصة، وفي الظروف شديدة السوء، قد يتضرر أحد الطرفين؛ ذاك الذي لا يملك معرفة قانونية عندما يكون الطرف الآخر لديه تلك المعرفة، لأن القاضي سيمارس الاستبعاد بشكل مقارب لما عناه الطرف ذو الخبرة القانونية مستخدماً مؤشرات الاستبعاد في النص. وهنا يكون التفسير أعرجاً، لأن القاضي سيميل إلى فهم النص في مستواه الفوقي ولن ينزل به إلى مستوى الطرف ذي المعرفة العامة.
يمثل تفسير العقد معضلة حقيقية، لما عناه المتعاقدان، خاصة في العقود الصورية، او الإلتفافية، والعقود المزدوجة المتعارضة، في عمليات مضاربة سريعة ومتعددة ذات اغراض تخدم مشروعاً واحداً كبيراً. إذ تتزاحم في مخيلة القاضي عشرات التصورات وتصبح عمليات الاستبعاد أكثر صعوبة. ومع ذلك فسنجد أن القانون يضع للقاضي عدة مؤشرات استبعاد، مثل التفسير -عند الشك- لمصلحة المدين، ومثل تحويل العقد، وانتقاص العقد، ومثل إبطال العقد عند الغبن الإستغلالي..فالقاعدة السائدة في الأنظمة القانونية أنه وعند الشك يُلزم القانون القاضي باستبعاد كافة التصورات الضارة بمصلحة المدين. مع ذلك فقانون المعاملات السوداني، وسَّع من هذا المبدأ إذ لم يستلزم أن يفسر الشك لمصلحة المدين بل لمصلحة من يتضرر منه؛ فقد نصت المادة (102) على أنه:( يفسر الشك في مصلحة الطرف الذي يضار من الشرط)، وهذا في الواقع لن يكون تفسيراً للشرط بل توسعةً لسلطة القاضي في منح الشرط معنى خاصاً به يفضي حتماً لإلغاء القيمة الإنشائية للشرط. بل أن الأهم من ذلك هو أن النص حتى في هذه الحالة يعود ويلغي حكمه عندماً يغلق باب تلك المرونة فيفرض دائماً أن ينظر القاضي لمصلحة الطرف المذعن ليمنح النص معنى لا يضر به وفق ما جاء بالجزء الثاني من ذات المادة والتي تستطرد:(ومع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن). ويبدو الاستبعاد على هذا النحو تعسفياً جداً. وعند تحويل العقد يستطيع القاضي أن يقوم بتكييف عقد ما التكييف الذي يحدده القانون مستبعداً سياقات أطراف العقد، وبالتالي فالقاضي ملزم باستبعاد تلك السياقات، وهذا يعيدنا لفرضية امتلاك أحد أطراف العقد لمعرفة متخصصة دون الآخرين، إذ يستطيع أن يختلق شرطاً واسعاً ظاهره تحقيق مصلحة الطرف الآخر وهو في الواقع يحمل فيروسات موته نتيجة للغموض. فعند تحويل العقد، فإن القاضي يلتزم بموجهات القانون نحو تضييق دائرة الاستبعاد، إذ يجوز منح العقد تكييفاً قانونياً أخر مختلف عن تكييف المتعاقدين (م95 من قانون المعاملات المدنية) بحيث يشمل العقد ما لم يكن يشتمل عليه من أوصاف. وفي حالة الغبن الإستغلالي؛ فإن القاضي يستبقي تصورات ذات بعد معنوي فيضيق من دائرة الاستبعاد المفترضة رغم أن تلك التصورات خارج النص القانوني سيميائياً.
(3-4) الثقافة العامة تعزز من صحة الاستبعاد: سنلاحظ في المادة الرابعة عشر من قانون الإثبات أنها بشكل عام قد منحت القاضي الحق في الاستدلال عبر الثقافة العامة، والتي يطلق عليها بشكل شمولي العلم القضائي؛ إن القاضي في الواقع سيفسر النص (قانوناً أو عقداً) بذهنية (المواطن) لا الأجنبي، ولذلك فإنه يتقارب مع غيره من المواطنين في عملية الاستبعاد بسبب اشتراكهما في مؤشرات الاستبعاد ..إذ ان البيئة الثقافية تعزز من صحة الاستبعاد، ففي جرائم الإهانة الشخصية (كإشانة السمعة أو السب والقذف)، على القاضي أن يتنزل لمستوى الثقافة العامة في الدولة أو في الإقليم داخل الدولة او حتى في ثقافة قبيلة أو جماعة منظمة، فعندما يستخدم المتهم لفظاً ما لإهانة المجني عليه، يجب على القاضي أن يفهم ذلك اللفظ من خلال الخصوصية الثقافية التي ورد اللفظ في حياضها. أي أن عليه ممارسة استبعادات متعددة للتصورات خارج تلك البيئة، فلفظة (جَمَل) في الثقافة السودانية تعني فرج المرأة، وعلى القاضي هنا أن يستبعد التصور الطبيعي لها وهو الحيوان، فإذا قال أحدهم (جمل أمك) لرجل آخر فهذا يعني إهانة لعرض الرجل، وليس للحيوان ذي السنام العالي. هذا بالتأكيد عندما لا تكن أم الرجل تملك جملاً حقيقياً (أي حيوان). فإن كانت الأم تملك حيوان الجمل، فعلى القاضي أن يبحث عن القصد من خلال الوقائع والملابسات والقرائن الظرفية، ليستبعد أياً من المفردتين، ومن ثم ليقضي بالبراءة أو الإدانة. وهذا هو ما يسمى بالموقف اللحظي، فالموقف اللحظي يعزز استبعاد التصورات المزاحمة للتصور المباشر من الخطاب.
مع ذلك فإن فهم مؤشرات الاستبعاد نفسها شخصيٌ جداً، ليس فقط بسبب تأثير سيولة الوضع الأنطولوجي للوعي؛ وإنما أيضاً بسبب تأثيرات أخرى نفسية وآيدولوجية وبراغماتية متنوعة، ولذلك تمثل أغلب نظريات القارئ مجرد محاولات للنفاذ في حدود الوعي.
قائمة المراجع:
• Brian Forst, Terrorism, Crime, and Public Policy, Cambridge University Press, 2009.
• David Carter, Literary Theory, Pocket Essentials, 2006.
• Evidence Law: Documentary Evidence and Judicial Notice, A discussion paper, Preliminary Paper No 22, Law Commission Wellington, New Zealand, 1994.
• Gilles Deleuze , Félix Guattari, Qu’est-ce que la philosophie?, LES ÉDITIONS DE MINUIT, 2013.
• Immanuel Kant, The Critique of Pure Reason, Ed. Paul Guyer, Allen W. Wood, CAMBRIDGE UNlVERSITY PRESS, United Kingdom, 1998.
• Jérôme Euzenat , Pavel Shvaiko, Ontology Matching, Springer Berlin Heidelberg New York, 2007.
• K. M. Newton, Twentieth-Century Literary Theory, Macmillan Education, Second Edition, 1997.
• Raman Selden, Peter Widdowson, Peter Brooker, A reader’s guide to contemporary literary theory, Pearson Education Limited, Fifth edition, 2005.
• Represntation on mind: New Approaches to mental representation, Ed. Hugh Clapin, Philips Staines, Peter Slezak, ELSEVIER, New York, First Edition, 2004.
• The Oxford dictionary of current English, Ed.Delia Thompson, 2nd ed. OXFORD UNIVERSITY PRESS, 1993.
Hermeneutics of exclusion: A Vision inside Legal Contexts
(1) الوعي الأنطولوجي:
يبدأ الوعي بالنص أنطولوجياً، (الحضور الأنطولوجي لدى القارئ)، خلافاً للاستحضار المقيد لدى المؤلف. فيتم تلقي النص كما تتلقى أشرعة المراكب الهواء، التي تحتجزه، ثم تتحرك مزيحة مياه التصورات المتزاحمة لتتمكن من المضي قدماً، غير أن الهواء لا يظل هو نفسه الهواء؛ إنما يتجدد فيزيح القديم دون انقطاع. فالقارئ لا ينتج معنىً خلافاً لما تقول به نظرية التلقي(Carter, David, 2006,p.87) ، بل يستبعد معاني، ويحتجز أخرى ممتنعاً عن استبعادها على وجه الظن، وفقاً لمؤشرات الإستبعاد النصي. لذلك فخطأ نظرية التلقي أنها تفترض استدعاء المعنى عبر أفق التوقعات horizon of expectations ((Selden, Raman,2005, p.50 ، ذلك أن التوقعات لا تعني شيئاً قبل النص أكثر من كونها حضورا كلياً في الوعي الوجودي. ولا أدل على ذلك من تلك الإشارة إلى كسر أفق التوقعات؛ لأن هذا الكسر يفترض بدوره أن التوقعات سابقة على النص وهذا يستحيل منطقياً إلا إن كانت تلك التوقعات كلية. فالنص بذاته لا يكسر التوقعات لأنه لا يولد في فراغ بل داخل كثافة أنطولوجية (يمكن أن نطلق عليها توقعات كلية لا محدودة)، وهذه الكثافة تعد كلها مؤشرات قابلة للإستبعاد، غير أنها مؤشرات غازيَّة ورخوة ومتهافتة ومتزاحمة، وحين يولد النص يغير من تلك المؤشرات الإستبعادية لتحدث الاستبعادات الإيجازية السريعة وحين يتمدد تحدث استبعادات جديدة واحتجازات مقابلة جديدة، وهذه العملية العقلية لا متناهية، ولا يمكن أن تخضع لتتالي زمني أو تراتبية، بل تتم بأسلوب مجموعاتي متزامن ومتمدد مما يتطلب تنوعاً في مؤشرات الإستبعاد النصية، أي المؤشرات الصغرى والكبرى طوال قراءة النص ثم بعد قراءة النص، إذ أن الوعي هو دائما وعي انطولوجي، يتسع باتساع الخبرة الحسية والعقلية ويلزم من ذلك أن النص يظل مشتغلاً داخله باستمراره. لذلك قد نقرأ النص اليوم بعين مختلفة عنها قبل بضعة أشهر، أو قبل تبصيرنا بإدراك وجودي أوسع يفرض علينا استبعادات جديدة لتضييق الحضور الأنطولوجي للمعنى.
(2) مؤشر الإستبعاد: في المقابل هو الذي يجعل بعض التصورات تبقى داخل الحقل الأنطولوجي فيمتنع استبعادها ويكون بقاؤها رهن: إما مؤشر استبعاد جديد أو حضور ظني قلق، وهذا ما يجعل المعنى إحتمالياً دائماً، ويكون مؤشر الاستبعاد مؤشراً صغيراً حينما يطلب من القارئ أن يقوم بذلك الاستبعاد داخل المحيط التداولي، ويكون أكبر منه أو كلياً حينما ينتج عن اكتشاف العلل الرابطة بين المؤشرات الصغرى بحيث تشير إلى المعنى الكلي أو الأكبر للنص، وكلما انبثقت مؤشرات صغرى، لزم أن تواكبها مؤشرات كبرى، لكي تستقيم وحدة الخطاب أو النسق النصي. فمؤشرات الإستبعاد طبقية في تمظهرها العام، بحيث قد تتعدد المؤشرات، ويكون كل مؤشر أكبر بالنسبة لما تحته من مؤشرات وأصغر لما هو أعلاه، وبما أن مؤشرات الإستبعاد ليست بذاتها المعنى؛ فهي فقط تشير إلى أن بعض التوهمات ليست هي المعنى فهي بالتالي واجبة الاستبعاد. فعندما يتحدث القانون عن ضرورة عدم انتهاك الآداب العامة، فنحن وضمن إطار وعينا الأنطولوجي نكون أمام عدة مؤشرات إستبعاد، بعضها داخلية متصلة بالنص وبعضها خارجي، فبما أننا نتحدث عن القانون، فالقانون بذاته وبكل حضوره الأنطولوجي سيشير إلى استبعاد ما غير قانوني، ومن ثمَّ الاحتفاظ بما هو قانوني فقط، ولكننا قد نجد أن القانون قد يحيلنا بعد ذلك إلى مؤشرات إستبعاد خارجية تستبعده هو بذاته من الحضور رغم ضرورة بقائه، فعندما تنص المادة (١٢٥ /٢) من القانون الجنائي لسنة ١٩٩١ على أنه: (يعد الفعل مخلاً بالآداب العامة إذا كان كذلك في معيار الدين الذي يعتنقه الفاعل أو عرف البلد الذي يقع فيه الفعل)، فهنا يكون الدين والعرف مؤشرين خارجيين عن المؤشر الإستبعادي الأول وهو القانون (التشريع)، وهما بدورهما يطلبان منا استبعاد القانون ذاته واستبعاد كل خيالاتنا الوجودية الأخرى ويحثاننا على احتجازهما هما فقط كمعايير لما يعد آداباً عامة وهكذا يحدث الفهم بالاستبعاد والاحتجاز، وهذه ليست عملية تراتبية متوالية بل تعبُر أفق الوعي بالتوازي. فيحدث الفهم بشكل شمولي كلي للنص القانوني.
فالنص قبل ظهوره راسخ في الكونية، وعند انطلاقته بملفوظه الأول يتقزم، يتقزم بنوع اللغة التي تستبعد ما عداها، وبجنسه الذي يستبعد ما عداه من أجناس، وبتفاصيله المكثفة التي تطلب استبعاد ما عداها. ولذلك فلا يوجد كسر للتوقعات كما أسلفنا، بل انعطافات في مؤشرات الإستبعاد وبالتالي استبعادات جديدة، من القانون إلى الدين إلى العرف، بناء على علل صريحة أو ضمنية، وكشف هذه العلل هو الذي يحقق الربط بين مؤشرات الإستبعاد على الوجه الكلي، وبالتالي فنحن نتنقل من مؤشرات إستبعاد صغرى إلى كبرى، ومن كبرى (صغرى) إلى كبرى (كبرى)، وهكذا..هذه المؤشرات الكبرى هي التي تعيد توحيد النص داخل معنى موحد، أو تلقي به في أفق الانفتاح، أو تحكم عليه بالعبثية..
لقد ظلت فكرة التوقعات أو حضور المعنى سببا أساسياً في ضعف نتائج بعض العلوم اللغوية الحديثة كنظرية التمثيل الذهني Mental Representation والتي لم تستطع حتى الآن تفسير السلوك الذكي Intelligent Behavior ((Clapin, Hugh.2004, pp.1-2 وكالإشكاليات التي واجهت أنطولوجيا اللغة وهو علم يحاول بناء روابط لشبكات علاقات واسعة رقمياً (Jérôme, Euzenat,2007,p.36) ، رغم استحالة ذلك، وذلك بسبب رسوخ التقسيم المعرفي الكانطي(,Kant, Immanuel, Ed. Guyer. Paul,1998, pp.136, 137) وكان بإمكان هذا العلم تحقيق قفزات لو اعتمد على فكرة الاستبعاد لا التوقع. إن الإستبعاد لا يتطلب ملاحقة مستحيلة كالتصنيف الأرسطي عبر مستوى الدال والمدلول السيسوري، ذلك أن الدال دائماً مجازي، ولا يصلح إلا ان يكون كذلك، وهذا ما يجعله غير قابل للقبض عليه.
(3) آليات الاستبعاد:
ولكن، كيف يحدث الاستبعاد؟ إن الاستبعاد قد يكون منظماً (علمي) لذلك فهو محدود، أو حدسياً وهذا هو الغالب لذلك فهو غير محدود.
ويلاحظ أن خلق النص القانوني هو بناء مؤشرات إستبعاد ولذلك فهو عملية معاكسة للفهم وإن كانت تتجه نحوه، وهي تتم داخل مستوى المحايثة بوصف دولوزthe plane of immanence.( (Deleuze, Gilles,2013
(4) تطبيقات لنظرية الاستبعاد:
أما تطبيقات نظرية الاستبعاد (والتي لا حصر لها) فيمكن أن تبدأ من المثال التالي:
(أ) و (ب) في حوار بسيط:
(أ)- هناك قانون يحكم كل شيء..
(ب)- قانون كوني؟
(أ)- أقصد قانوناً يحكم كل أنشطتنا الإنسانية..
(ب)- هل تؤمن بالقدر؟
(أ)- اقصد ذلك القانون الذي يصدر عن البرلمان.
سنلاحظ أن كلمة القانون يمكن أن تطلق على أي قاعدة تحكم علاقة مضطردة بين شيئين أو أكثر أو ما يطلق عليه قاموس أكسفورد الإنتظام في الأحداث الطبيعيةregularity in natural occurrences،( (The Oxford dictionary of current English, 1993, p.500 قد يكون القانون هنا قانوناً فيزيائياً أو قانوناً إجتماعياً او القانون الصادر من البرلمان أو القانون اللاهوتي..
إن ما قام به (أ) في نهاية الحوار هو أنه حصر كل الاحتمالات التي دارت في مخيلة (ب) في مفهوم القانون البرلماني. في الواقع هو بذلك طلب من (ب) إستبعاد التصورات واحدة تلو أخرى..حيث كان (ب) يتجه نحو (أ) عبر الاستبعادات المستمرة. إن الأصل في فهمنا ليس الاستدعاء وإنما الإستبعاد. وسنلاحظ أن كل النظريات المرتبطة بالتأويل والتلقي بل والمنطق الصوري انطلقت من الاستدعاء والتمثـــُّـــل (أفق التوقعات) لا الاستبعاد، وسوف نرى أن تلك الإنطلاقة أسفرت عن إشكاليات عديدة في تلك النظريات..في التفكيكية مثلاً كان هناك مبدأ التأجيل والتراخي ( (Newton, K,1997, p.112، لأن النص لا متناهي المدلولات. في الواقع سنكتشف أن النص لا يمنح مدلولات بل يشير غالباً إلى ما يعزز استبعاداتنا (مؤشرات الإستبعاد). والنص الذي لا يمنح تلك الإشارة يكون نصاً مبهماً. ليس بالضرورة أن يكون النص أو الخطاب (بشكل أوسع)، محدِّداً لكل عناصره لتحقيق مؤشرات استبعاد شاملة، وإنما يكفي أن يعتمد على سياقاته الخاصة. يعد التناص والإنتقاء الثقافي Cultural selectionismأحد تلك المعززات لعملية الاستبعاد، سنلاحظ مثلاً أن العقد قد يحتوي -وغالباً هذا ما يحدث- على مجموعة من الجمل المتعارف عليها عند القانونيين مثل boilerplate clauses and core clauses ، هذه الجمل، وطيلة حياتها القانونية، وداخل هذا الحقل، وعبر كافة مؤسسات القانون، تشكلت ملامح تاثيراتها القانونية، عبر التطبيقات المختلفة، بحيث اكتسبت إحكاماً يمنع من أي مزاحمة لتصورات أخرى، إنه لا يحتاج لبذل جهد وفير في عملية الاستبعاد. وبالمثل فإن السوابق precedents والمبادئ القضائية، تعزز الاستبعاد، فتفسير كلمة (شخص) بحيث يشتمل المعنى على الشخص الإعتباري juridical person إضافة إلى الشخص الطبيعي natural person ، دفعت بعملية الاستبعاد إلى الأمام، بحيث تساقطت كل التصورات الأخرى. كذلك يقوم النص القانوني بتعزيز الاستبعاد، فعندما نجد أن القانون يعرف المال بأنه:(كل عين أو حق له قيمه مادية في التعامل) (م25/1م.م) فإنه يتحرك –نسبياً-داخل التصور المشترك والذي يندرج ضمن أنطولوجيا اللغة العادية Ordinary Language ontology، لكنه يعود ليطالب باستبعاد بعض من التصورات الحاضرة؛ فتنص الفقرة الثانية من ذات المادة على استبعاد ما يخرج من التعامل بطبيعته (كالطيور في السماء والسمك في البحار) أو بحكم القانون (كالمخدرات) من ذلك التصور؛ لكنه قد يعود ليطلب من القارئ عدم استبعاد ذلك في حالات إستثنائية مثل المخدرات التي يتم تداولها للأغراض الطبية؛ فتضيق دائرة الاستبعاد. لذلك فالتعريف القانوني دائماً يحاول استبعاد كل التصورات المزاحمة مبقياً على بعض منها لتمثل معناه؛ سواء كان القارئ شخصاً عادياً أو قاضياً أو فقيهاً، وكلما وسع النص من دائرة الاستبعاد مضيقاً الأفق الأنطولوجي كلما حدث الانتقال من اللغة العادية إلى اللغة الوضعية.
نظرية الاستبعاد قد تحقق أحيانا بعض الحلول للجدليات القانونية، مثل الجدل حول تعريف الإرهاب( (Forst, Brian,2009, p.3 عبر استخدام مباشر للاستبعاد بصيغة إيجابية، لتوفير استحقاقات مبدأ المشروعية، وإلا فإن كلمة إرهاب داخل النصوص القانونية، ستُبقى المعنى سابحاً في فضائه الأنطولوجي.
(1-4) العلم القضائي judicial notice وتعزيز الاستبعاد؛ يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه القضائي وليس الشخصي، حيث يمثل العلم القضائي مجموعة المعارف والمعلومات والوقائع المعلومة للشخص المعتاد بما يشمل -من باب أولى- العلم بالمجريات المختلفة للشؤون القانونية بالدولة، وقد نصت المادة (١٤) من قانون الإثبات لسنة ١٩٩٣ بالسودان على الآتي:
14ـ(1) لا حاجة إلى إثبات الوقائع التي تأخذ بها المحكمة علماً قضائياً.
(2) تأخذ المحكمة علماً قضائياً بالشئون المحلية والعامة التي يفترض علم الكافة بها .
(3) مع عدم الإخلال بأحكام البند (2) , تأخذ المحكمة علماً قضائياً بالمسائل الآتية وهى :
(أ ) الدستور والتشريع وسائر الأحكام والتدابير التي لها قوة القانون،
(ب) المسير العام لنظم الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية وأجهزتها،
(ج) تولى المناصب العامة وأسماء شاغليها وألقابهم ومهامهم وتوقيعاتهم إذا كان تعيينهم قد أعلن رسمياً،
( د) كل دولة تعترف بها حكومة السودان , وبصفة عامة كل الشئون الدولية والسياسية , المتصلة بعلاقات السودان الخارجية،
(هـ) التقاسيم الزمنية والجغرافية والمكاييل والموازين والمقاييس وسائر المعايير الشائعة في السودان،
(و ) العطلات العامة والقومية،
(ز) الأعراف السودانية العامة التي أقرتها المحاكم،
(ح) المعاني العامة للكلمات،
(ط) قوانين الطبيعة ومسيرها العادي.
(4) يجوز للمحكمة في جميع الأمور التي تأخذ بها علماً قضائياً التحري والاستعانة بأي جهة رسمية، أو أي مرجع مناسب كما يجوز لها أن تشترط على من يطلب منها أن تأخذ علماً قضائياً بأي أمر أن يمدها بما تراه لازماً من المراجع والوثائق لأخذ العلم القضائي.( Law Commission Wellington, New Zealand, 1994, p. 79)
فالعلم القضائي يعني أن المحكمة وهي في سبيل قيامها بالفصل في الدعوى القضائية لها أن تستدل بكل تلك المعارف ليقوم حكمها على التصور الصحيح. إن المحكمة في الواقع لا بد أن تحصل على ذلك الحق لأنها (وبعيداً عن إعتباريتها) إنما تتأسس على فهم الشخص الطبيعي الذي هو القاضي. والشخص الطبيعي يبني حكمه على الاستدلال، والاستدلال يتم عبر استبعاد كل ما يزاحم الحقيقة من تصورات خاطئة.
إن خاصية النشاط القانوني تختلف عن النشاط الأدبي؛ فالنشاط القانوني يجب ألا يمنح أي فرصة لمزاحمة التصورات، أما النشاط الأدبي، فهو يخلق تلك المزاحمة بل ويكون عملاً مرموقاً عندما يكون منفتحاً على التأويلات المتعددة، أي كلما ضُعفت القدرة على الاستبعاد.
(2-4) العَـقـــد والاستبعاد:
قاعدة العقد شريعة المتعاقدين، تستلزم تفسير القاضي للعقد عند الاختلاف حول تفسيره. وهنا فنحن أمام طرفين على الأقل، يملكان تصورات مختلفة عن نص واحد. وهناك ثلاثة احتمالات في هذا الصدد:
الاحتمال الاول:أن يكون طرفا العقد يمتلكان معرفة عامة..
الاحتمال الثاني:أن يمتلك الطرفان: معرفة متخصصة..
الاحتمال الثالث:أن يمتلك أحد الاطراف معرفة عامة والآخر معرفة متخصصة.
في الاحتمال الأول، وهو احتمال الرجل المعتاد، والاحتمال الثاني؛ وهو احتمال الشخص في ظروف الخبرة، فإن سياقات العقد تكون مفهومة للطرفين حيث يستخدمان نفس مؤشرات الاستبعاد، لأن الفهم يتأسس على تقارب عمليات الاستبعاد. أما في الاحتمال الثالث؛ فإن صيغة العقد لا تعزز توافق عمليات الاستبعاد. ولكن فلنلاحظ أن القاضي نفسه (وهو بصدد أداء عمله في تفسير العقد تمهيداً لتكييفه وللفصل في نقاط النزاع بما يرضي العدالة)؛ يعد بمثابة طرف ثالث؛ صحيح أنه ليس من أطراف العقد المعنيين بمضمونه ذلك الذي يرتب حقوقاً والتزامات، لكنه طرف معني بفهمه، ولذلك فعندما يقوم محامي بصياغة العقد، فإن النص سيحول دون مزاحمة أي تصورات للقاضي لفحوى العقد وبالتالي فإن القاضي يمارس استبعاداً لتلك التصورات بشكل سلس، خلافاً لما إذا كان العقد مصاغاً شفاهة أو كتابة من طرفين لا يملكان معرفة قانونية متخصصة، وفي الظروف شديدة السوء، قد يتضرر أحد الطرفين؛ ذاك الذي لا يملك معرفة قانونية عندما يكون الطرف الآخر لديه تلك المعرفة، لأن القاضي سيمارس الاستبعاد بشكل مقارب لما عناه الطرف ذو الخبرة القانونية مستخدماً مؤشرات الاستبعاد في النص. وهنا يكون التفسير أعرجاً، لأن القاضي سيميل إلى فهم النص في مستواه الفوقي ولن ينزل به إلى مستوى الطرف ذي المعرفة العامة.
يمثل تفسير العقد معضلة حقيقية، لما عناه المتعاقدان، خاصة في العقود الصورية، او الإلتفافية، والعقود المزدوجة المتعارضة، في عمليات مضاربة سريعة ومتعددة ذات اغراض تخدم مشروعاً واحداً كبيراً. إذ تتزاحم في مخيلة القاضي عشرات التصورات وتصبح عمليات الاستبعاد أكثر صعوبة. ومع ذلك فسنجد أن القانون يضع للقاضي عدة مؤشرات استبعاد، مثل التفسير -عند الشك- لمصلحة المدين، ومثل تحويل العقد، وانتقاص العقد، ومثل إبطال العقد عند الغبن الإستغلالي..فالقاعدة السائدة في الأنظمة القانونية أنه وعند الشك يُلزم القانون القاضي باستبعاد كافة التصورات الضارة بمصلحة المدين. مع ذلك فقانون المعاملات السوداني، وسَّع من هذا المبدأ إذ لم يستلزم أن يفسر الشك لمصلحة المدين بل لمصلحة من يتضرر منه؛ فقد نصت المادة (102) على أنه:( يفسر الشك في مصلحة الطرف الذي يضار من الشرط)، وهذا في الواقع لن يكون تفسيراً للشرط بل توسعةً لسلطة القاضي في منح الشرط معنى خاصاً به يفضي حتماً لإلغاء القيمة الإنشائية للشرط. بل أن الأهم من ذلك هو أن النص حتى في هذه الحالة يعود ويلغي حكمه عندماً يغلق باب تلك المرونة فيفرض دائماً أن ينظر القاضي لمصلحة الطرف المذعن ليمنح النص معنى لا يضر به وفق ما جاء بالجزء الثاني من ذات المادة والتي تستطرد:(ومع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن). ويبدو الاستبعاد على هذا النحو تعسفياً جداً. وعند تحويل العقد يستطيع القاضي أن يقوم بتكييف عقد ما التكييف الذي يحدده القانون مستبعداً سياقات أطراف العقد، وبالتالي فالقاضي ملزم باستبعاد تلك السياقات، وهذا يعيدنا لفرضية امتلاك أحد أطراف العقد لمعرفة متخصصة دون الآخرين، إذ يستطيع أن يختلق شرطاً واسعاً ظاهره تحقيق مصلحة الطرف الآخر وهو في الواقع يحمل فيروسات موته نتيجة للغموض. فعند تحويل العقد، فإن القاضي يلتزم بموجهات القانون نحو تضييق دائرة الاستبعاد، إذ يجوز منح العقد تكييفاً قانونياً أخر مختلف عن تكييف المتعاقدين (م95 من قانون المعاملات المدنية) بحيث يشمل العقد ما لم يكن يشتمل عليه من أوصاف. وفي حالة الغبن الإستغلالي؛ فإن القاضي يستبقي تصورات ذات بعد معنوي فيضيق من دائرة الاستبعاد المفترضة رغم أن تلك التصورات خارج النص القانوني سيميائياً.
(3-4) الثقافة العامة تعزز من صحة الاستبعاد: سنلاحظ في المادة الرابعة عشر من قانون الإثبات أنها بشكل عام قد منحت القاضي الحق في الاستدلال عبر الثقافة العامة، والتي يطلق عليها بشكل شمولي العلم القضائي؛ إن القاضي في الواقع سيفسر النص (قانوناً أو عقداً) بذهنية (المواطن) لا الأجنبي، ولذلك فإنه يتقارب مع غيره من المواطنين في عملية الاستبعاد بسبب اشتراكهما في مؤشرات الاستبعاد ..إذ ان البيئة الثقافية تعزز من صحة الاستبعاد، ففي جرائم الإهانة الشخصية (كإشانة السمعة أو السب والقذف)، على القاضي أن يتنزل لمستوى الثقافة العامة في الدولة أو في الإقليم داخل الدولة او حتى في ثقافة قبيلة أو جماعة منظمة، فعندما يستخدم المتهم لفظاً ما لإهانة المجني عليه، يجب على القاضي أن يفهم ذلك اللفظ من خلال الخصوصية الثقافية التي ورد اللفظ في حياضها. أي أن عليه ممارسة استبعادات متعددة للتصورات خارج تلك البيئة، فلفظة (جَمَل) في الثقافة السودانية تعني فرج المرأة، وعلى القاضي هنا أن يستبعد التصور الطبيعي لها وهو الحيوان، فإذا قال أحدهم (جمل أمك) لرجل آخر فهذا يعني إهانة لعرض الرجل، وليس للحيوان ذي السنام العالي. هذا بالتأكيد عندما لا تكن أم الرجل تملك جملاً حقيقياً (أي حيوان). فإن كانت الأم تملك حيوان الجمل، فعلى القاضي أن يبحث عن القصد من خلال الوقائع والملابسات والقرائن الظرفية، ليستبعد أياً من المفردتين، ومن ثم ليقضي بالبراءة أو الإدانة. وهذا هو ما يسمى بالموقف اللحظي، فالموقف اللحظي يعزز استبعاد التصورات المزاحمة للتصور المباشر من الخطاب.
مع ذلك فإن فهم مؤشرات الاستبعاد نفسها شخصيٌ جداً، ليس فقط بسبب تأثير سيولة الوضع الأنطولوجي للوعي؛ وإنما أيضاً بسبب تأثيرات أخرى نفسية وآيدولوجية وبراغماتية متنوعة، ولذلك تمثل أغلب نظريات القارئ مجرد محاولات للنفاذ في حدود الوعي.
قائمة المراجع:
• Brian Forst, Terrorism, Crime, and Public Policy, Cambridge University Press, 2009.
• David Carter, Literary Theory, Pocket Essentials, 2006.
• Evidence Law: Documentary Evidence and Judicial Notice, A discussion paper, Preliminary Paper No 22, Law Commission Wellington, New Zealand, 1994.
• Gilles Deleuze , Félix Guattari, Qu’est-ce que la philosophie?, LES ÉDITIONS DE MINUIT, 2013.
• Immanuel Kant, The Critique of Pure Reason, Ed. Paul Guyer, Allen W. Wood, CAMBRIDGE UNlVERSITY PRESS, United Kingdom, 1998.
• Jérôme Euzenat , Pavel Shvaiko, Ontology Matching, Springer Berlin Heidelberg New York, 2007.
• K. M. Newton, Twentieth-Century Literary Theory, Macmillan Education, Second Edition, 1997.
• Raman Selden, Peter Widdowson, Peter Brooker, A reader’s guide to contemporary literary theory, Pearson Education Limited, Fifth edition, 2005.
• Represntation on mind: New Approaches to mental representation, Ed. Hugh Clapin, Philips Staines, Peter Slezak, ELSEVIER, New York, First Edition, 2004.
• The Oxford dictionary of current English, Ed.Delia Thompson, 2nd ed. OXFORD UNIVERSITY PRESS, 1993.