((.. ولكن في العراق كاتبا واقعيا يُدعى علي الوردي . هذا الكاتب قد وضع مؤلفات أوضح فيها أن شعراء العرب في الجاهلية كانوا يمشون بالوقيعة بين قبيلة وقبيلة . وكانوا سببا ، لهذا السبب ، في القتال بين القبائل . يحرّضون على الثأر والانتقام ولا يدعون إلى سلام . وقد ذمّهم القرآن ووصفهم بالغواية . ثم كان شعراء العرب بعد ذلك ، أي أيام الخلفاء متسوّلين ، يبيعون أشعارهم في المديح والهجاء بالدينار والدرهم . يمدحون بلا سبب ، ويقدحون بلا حق . أو كانو مثل ابن الرومي وأبي نؤاس ، شعراء فاسقين . كانوا كما يقول الوردي ، بلاء على المجتمع العربي . ولم يشذ منهم ، ويسمو عليهم ، سوى أبي العلاء المعري الذي كان ينبّه الشعوب العربية إلى ضلال الحاكمين والمتديّنين ومكرهم جميعا لخطف اللقمة من أفواه الفقراء المساكين ))
( سلامة موسى )
( مقالات منوعة – القاهرة – 1958 )
# أدباء السلاطين :
——————
يرى الوردي أن من المفارقات المضحكة أن نرى الأخطل ، الشاعر النصراني المعروف يمدح معاوية فيقول :
وطدتَ لنا دينَ النبيِّ محمدٍ = بحلمكَ إذْ هرّتْ سفاهاً كلابُها
ويعلّق على ذلك بالقول :
( ولا ينتهي ضحكي من هذا البيت العجيب ، حيث أجد فيه شاعرا مسيحيا يمدح معاوية المسلم لأنه وطّد له دين النبي محمد . ولستُ أشك في أن الأخطل استلم جزاء هذا الشعر مبلغا كبيرا من المال . فهو إذن لا يبالي أن ينتصر دين محمد أو دين المسيح ما دام المال موفورا ) (266) .
إن من أهم مظاهر انفصال الأدب العربي عن الناس وآلامهم وقضاياهم اليومية والتحام الأدباء “أدباء السلاطين” كما سمّاهم الوردي آنذاك بالطبقة الحاكمة المترفة هو شيوع ظاهرة المديح في الشعر العربي والتي مازالت شائعة حتى يومنا هذا ، والتي أطلق عليها الوردي تسمية كاشفة وصادمة آنذاك ولا تتحمل المداورة وهي “شعر الاستجداء”. يقول الوردي :
( حين نقرأ دواوين الشعراء الذين نهجوا في شعرهم منهج القدماء نجد نزعة الاستجداء واضحة فيها ، ولكنهم كانوا كصاحبنا الكركوكي الذي يستجدي الناس وخنجره في حزامه ، فتراهم يتقدمون بين يدي ممدوحهم بقصائد عجيبة من الثناء الغالي ، وهم لا يترددون في أن يجعلوه ملاكا في صورة إنسان وخير من ركب المطايا . ولكنهم لا يكادون يجدون جائزته غير كافية حتى يقلبوا عليه ظهر المجن ويجعلوه ألعن خلق الله طرا ) (267) .
# مثقفون بارزون يدافعون عن شعر المديح :
alwardi 11والمشكلة التي لا تقلّ أهمية عن ذلك والتي يلفت الوردي نظرنا إليها هي الظاهرة السلوكية المعرفية التي تفشّت بين الناس ، وأثّرت في تشكيل ذائقتهم بصورة مَرَضِيّة ولا سويّة حيث نشأ من جراء ذلك معيار مزدوج تجاه الشعراء ، فصاروا لا يكترثون حين يجدون الشاعر يمدح من لا يستحق المدح ثم يذمّه بعد ذلك . ومازلنا حتى هذا اليوم مختلفين في تقييم سلوك المتنبي الشعري من كافور الأخشيدي الذي مدحه بلا وجه حق أخلاقي أو اجتماعي أو سياسي ، ثم هجاه بعد أن يئس من الحصول على ” جائزته ” . والمصيبة أن القناعة بشعر المديح لم تكن محدّدة بالعامة من الناس الذين تتلاعب بأذواقهم وأفكارهم الأهواء والاندفاعات الفكرية والعقائدية ، بل اتسعت لتشمل المثقفين المتنورين الذين بدأوا يضعون للمديح مبرّرات فكرية واجتماعية ، والأكثر مبرّرات إبداعية . فقد كتب الدكتور ” علي الزبيدي ” – وكان أستاذا جامعيا آنذاك – مقالا في مجلة ” الفنون البغدادية ” دافع فيه عن الشعراء المدّاحين ، وقال عنهم أنهم كانوا يقصدون بمديحهم السلاطين تصوير المثل الأعلى لهم . يقول الزبيدي :
( وفي قصائد المديح تتراءى المثل العليا التي يريدها الناس في الحاكم الكريم والرجل الشريف . فكان الشعراء يقدّمون الممدوح كريما حليما شجاعا عادلا شهما ذا مروءة حازمة عازمة .. كانوا ينحتون فيها المثل الأعلى للحاكم والرجل ، وكأني بهم ، وهم يمدحونه بهذا ، يقولون له في الوقت نفسه أن احذر من أضداد هذه السجايا وابتعد عن المثالب والعيوب ، وإلا فسيف الهجاء سنشهره في وجهك ) (268) .
وهذا الدكتور “عبد الرزاق محيي الدين” ، وكان أستاذا ثم وزيرا ثم رئيسا للمجمع العلمي العراقي ، يأتي برأي آخر في الدفاع عن الشعراء ، وهو رأي لا يقل غرابة عن رأي زميله الدكتور الزبيدي ، حيث يقول :
( إن الشعراء لم يكونوا يتزلفون للظالمين بدافع التزلّف وحده . إنما هو الدافع الفنّي الذي يعتلج في صدورهم فيجعلهم يسعون نحو التنفيس عنه في أية مباءة يجدونها مفتوحة أمامهم ) (269) .
ويقول أيضا :
( إن مهرجانات السلاطين والمُترفين كانت المجال الوحيد الذي يستطيع الشاعر أن ينفّس فيه عن شهوته الفنية ، ولو كان للشعوب مهرجانات تشجّع الشاعر على الإجادة في فنّه لما تخلّف الشاعر عن اللجوء إليها , إن جرّ ذلك عليه الحرمان والفقر” (270) .
إذن لم يكن الوردي يواجه الشعراء أصحاب المصلحة في المديح وتملّق الحكام ، لكنه كان يواجه مثقفين بارزين في المجتمع ” ينظّرون ” لتبرير سلوك أولئك الشعراء . ومن المهم أن أقول أن ظاهرة المديح التي استشرت في الثمانينات والتسعينات قد وجدت أيضا من يدافع عنها وينظّر لها من المثقفين والشعراء البارزين كما حصل في اللقاء الذي أجريته مع المبدع الراحل ” يوسف الصائغ ” ونُشر في جريدة “الزمان” على عدة حلقات ودافع فيه عن شعر المديح .
وبعد قرون عديدة وفي القرن العشرين تستشري هذه الظاهرة بضراوة فنجد الزهاوي والرصافي والجواهري وطوابير لاحقة من الشعراء العراقيين يعيدون من جديد ظاهرة الاستجداء تحت غطاء المديح . ولأنني تحدّثت عن الأبعاد النفسية لسلوك الجواهري الشعري المدحي في مخطوطة كتابي عنه ، أقدّم هنا إشارات سريعة عن سلوك الرصافي في هذا المجال والذي أظهره البعض كشاعر مقاوم للسلطات والحكومات طول حياته ، وأنه لم يمدح أحدا ، وعاش ومات منزّها عن المديح لأي غرض .
وقفة : هل كان الرصافي شاعرا معارضا دائماً ولم يمدح السلاطين ؟
لقد نُشرتْ مقالات تؤيد هذا الرأي المهم وخلاصتها هو أن الرصافي كان طوال حياته معارضا للملوك والسلاطين والطغاة ، وأنه لم يبحث عن منصبٍ أو جاه . وهذا رأي حماسي مُفرط لا تسنده الوثائق التاريخية التي بين أيدينا ، وأهمها مذكرات الرصافي التي حققها وقدم لها الدكتور (يوسف عز الدين) في كتابه : (الرصافي يروي سيرة حياته) الصادر عن دار المدى عام 2004. قال الدكتور عز الدين في مقدمته :
( الرصافي عالم وحده في شعره ودينه وعقيدته وسلوكه في الحياة العامة ، وكبريائه وإبائه في تصرفاته مع من بيدهم الأمر ، ثم نراه يعتذر ويتخاذل ويطلب المال بسبيل يأباه من يحمل هذا الكبرياء ، وهذا الاعتداد بالنفس . هذا الشذوذ في الطباع والتناقض في التصرفات جاء من مسيرته في حياته ومن المحيط الذي عاش فيه ) (ص7 ) . مدح الرصافي السيد نوري السعيد عندما قلده الملك فيصل وسام الرافدين بقصيدة عصماء : تهْ يا وسامَ الرافدينِ بصدر مَنْ هوَ في العلا للرافدين وسامُ أبو صبــــــــــــــــــاح ومن به سعدَ العراقُ فثغرهُ بسّامُ ثم عاد وهجا السعيد هجاء مقذعا رغم أن السعيد كان يرسل له المساعدة المالية -(40) دينارا بيد محمود السنوي – سرّاً حتى لا يعرف الأمير عبد الإله ، وبعدها أرسل رسالة اعتذار إلى نوري السعيد .
مدح الرصافي السيد طالب النقيب وسمّاه في قصائده “مولانا النقيب”. الكارثة هي أنّ الرصافي هجا الملك فيصل الأول ووصفه بأنه “يعدّ أياما ويقبضُ راتبا ” في حين مدح (هربرت صموئيل) المندوب السامي اليهودي في فلسطين عندما حضر دعوة راغب الشناشيبي رئيس بلدية القدس حيث قال :
kh alwardi 5خطابُ يهودا قد دعانا إلى الفكرِ وذكّرنا ما نحنُ منهُ من الذكرِ لدى محفلٍ في القدسِ بالقوم حافلٌ تبوأ هربر صموئيل في الصدرِ قاموا وفي ليل المحاق اجتماعهم يحفون من هربر صمئيل بالبدرِ ولسنا كما قال الألى يتهموننا نعادي اسرائيل في السّرِ والجهرِ فكيف وهم أعمامنا وإليهمُ يمتُّ باسماعيلَ قدماً بنو فهرِ هما من ذوي القربى ومن كفنيهما دليلٌ على صدقِ القرابةِ في النجرِ وجعل لقاء هذا اليهودي في الأيام مثل ليلة القدر : فيا ليلة كادت وقد جل قدرها تكون على علّاتها ليلةَ القدرِ ويتساءل الدكتور عز الدين : هل نسي الرصافي لماذا أُرسِل هذا المندوب السامي ؟ ويواصل عز الدين القول :
( مدح الرصافي كثيرا من المحسنين مثل رئيس عشيرة الداينية فقال عنه :
أسدٌ نمتهُ لآل قيس في العلا آياتُ مجدٍ ليس بالمكذوبِ فخر الكرام على المكارم والندى قامت دعائمُ بيته المضروبِ مدح نوري السعيد كما قلنا ، ومدح عبد المحسن السعدون حيا وميتا ومدح آل الجميل ومدح الأمير خزعل الذي لم يعرف قيمة الرصافي حين طلب منه مبلغا من المال فأرسل له مبلغا تافها هو (600) روبية . ومدح ( راقم ) وهو موظف في الدولة ، فقال بمبالغة ممجوجة : أقم في الأرض صرحا من ضياءٍ بحيث يمسّ كرسيَ السماءِ وبعدُ فجسّمْ العرفانَ شخصا تردى المجدُ فضفاض الرداءِ أيا يا كعبة الفضلاء يا مَنَ فضائله عظمى بلا انتهاءِ ومدح عبد اللطيف المنديل أكثر من مرة ، فقال : عبد اللطيفُ بفضله جعلَ الورى أسرى مكارمِ أسرة المنديلِ ورث المكارم عن أبيه وجدّه فبنى أثيلَ المجد فوق أثيلِ كما مدح طفله ، وهو في المهد ، عندما طلب منه المستر (منن) ذلك : نجل عبد اللطيف وهو نجيب كيف لا يظهر النجابة طفلا أن يكن غير واضح القول لفظا فكلام النجيب يُفهم عقلا والرصافي كان يذهب إليه إلى البصرة من أجل عطاياه ومنَحِه بعد أن كان عبد المحسن السعدون يرعاه ويرفده : أبا ماجد إني رأيتك مبصرا خفايا أمور أعجزت كل مبصر فهل أخفيت حالي عليك وقد بدا لكل صديق أنها حال مقتر أتيتك من بغداد لم أدر ما الذي أتى بيَ إلّا أنني في تحير ولو أنني بعت الثناء بنائل لما رضيت نفسي بغيرك مشتري وقد مدح آل الجميل بقصيدة تجلى فيها التناقض ، فهو يطلب المال لأنه عزيز النفس وهل يطلب الرفد إلا من الذلة . قال في القصيدة : آل الجميل سرور كل حزين لهف اليتيم وملجأ المسكين ويقول للمدوح : يا ابن الأكارم قد دعوتك ظامئا ظمأ الحياة فجُدْ بما يرويني وأنا العليل بحاجة تدري بها وأظن فضلك ناجما يشفيني فأرش جناحي كي أطير بريشه فيكون ظني في نداك يقيني ومدح الرصافي ابن سعود- والحديث للدكتور عز الدين – بقصيدة طويلة كلها إغراق في المدح والمبالغات مطلعها : كيف قد حاولوا اغتيالك غدرا خاب من دسهم إليك وأغرى ومنها : يا إمام الهدى ورب المعالي ومليكا تطيعه العرب طرا لست ممن بالقتل يرُدَ ويفنى لك خلد الحياة دنيا وأخرى ومدح شيخا أرسل له كيسا من الرز من نوع ” النگازة ” وهو ليس أفضل أنواع الرز الذي هو “العنبر” : يا (ابن الجميل) وأنت أكرم مَنْ فعل الجميل إليه إرثا خالدا أهديت لي رزا نفيسا لم أقمْ من أكله إلّا لفضلك حامدا “نقازة” حبّاتُه محمودةٌ كم فاق في طيب المذاق فوائدا كاللؤلؤ المنثور لو لا ليته في مضغه لنظمت منه قلائدا
# الزهاوي يضرب الرقم القياسي في التقلّب :
أمّا الزهاوي فالوردي يقول أنه قد ضرب الرقم القياسي في هذا التقلّب . فهو كان قد مدح الإنكليز قبل الحرب ، وعندما قامت الحرب أخذ يذمهم ويمدح الأتراك ، وفي عهد الاحتلال صار يذم الاتراك ويمدح الإنكليز ، ولما نشبت الثورة ، ثورة العشرين ، نظم قصيدة في رثاء شهداء الرميثة ، ولكنه عند مجيء كوكس إلى العراق نظم قصيدة يرحّب به فيها ويذمّ الثورة ذمّا قبيحا – لمحات ج 5 ص 43″ وأدناه مقطع من تلك القصيدة :
عُدْ للعراق وأصلحْ منه ما فسدا وابثث به العدلَ وامنحْ أهله الرغدا
إن العراق لمسعودٌ برؤيته أباً له من بلاد العدل قد وردا
إرأفْ بشعب بغاة الشر قد قصدوا إثارة الشر فيه وهو ما قصدا
ظنّوا الهدى في الذي جاؤوه من عملٍ وقد يكون ضلالا ما يُعدّ هدى
قالوا عسى أن تنيل الشعب ثورته سعادةً غير أن الشعب ما سعدا
فيالها فتنة عمياء ثائرة قد عذّبت من بنيها الروح والجسدا
احزم بناسٍ رأوا في أرضهم فتنا فلم يكونوا لمن قاموا بها سندا
ومن المفارقات أن حملة شعواء قد شُنّت على الوردي في العراق عندما جهر برأيه المناهض للمديح في الشعر العربي ، في حين حضي رأيه بالتأييد والإكبار في مصر ، ومن جانب المفكر ” سلامه موسى ” تحديدا ، حيث قال الأخير في كتابه ” مقالات منوّعة ” :
( .. ولكن في العراق كاتبا واقعيا يُدعى علي الوردي . هذا الكاتب قد وضع مؤلفات أوضح فيها أن شعراء العرب في الجاهلية كانوا يمشون بالوقيعة بين قبيلة وقبيلة . وكانوا سببا ، لهذا السبب ، في القتال بين القبائل . يحرّضون على الثأر والانتقام ولا يدعون إلى سلام . وقد ذمّهم القرآن ووصفهم بالغواية . ثم كان شعراء العرب بعد ذلك ، أي أيام الخلفاء متسوّلين ، يبيعون أشعارهم في المديح والهجاء بالدينار والدرهم . يمدحون بلا سبب ، ويقدحون بلا حق . أو كانوا مثل ابن الرومي وأبي نؤاس ، شعراء فاسقين . كانوا كما يقول الوردي ، بلاء على المجتمع العربي . ولم يشذ منهم ويسمو عليهم سوى أبي العلاء المعري الذي كان ينبه الشعوب العربية إلى ضلال الحاكمين والمتديّنين ومكرهم جميعا لخطف اللقمة من أفواه الفقراء المساكين) (271) .
# تحوّل المديح من القبيلة إلى الشعب :
——————————————–
وهناك ملاحظة مهمة في هذا المجال التقطها الوردي ومازالت تسم المنجز الشعري العراقي والعربي حتى يومنا هذا ، وهي الظاهرة التي تحول فيها الشعراء العراقيون والعرب وخصوصا في الخمسينات من المديح المباشر للقادة والرؤساء والأبطال التاريخيين إلى مديح الشعب ، حيث حوّلوا الشعب إلى ( القبيلة ) القديمة التي كان يتغنى ببطولاتها وأمجادها الشاعر الجاهلي . يقول الوردي :
( لا ننكر أن شعراءنا قد تغيروا عما كانوا عليه بالأمس ، فقد تحول الكثيرون منهم من مدح السلاطين إلى مدح الشعوب ، ولكننا يجب أن لا ننسى أن تغيرهم هذا إنما كان من ناحية الشكل في الغالب ، أما من ناحية المحتوى فلم يتغيروا إلا قليلا . إنهم ظلوا يسيرون في شعرهم على نفس الطريقة القديمة من حيث الاندفاع في الفخر والحماس وقلّة المبالاة بحقائق الأمور . فهم بدلا من أن يجعلوا السلطانَ ظلَّ الله في الأرض وأعدل الناس طرا ، اتجهوا نحو الشعب فجعلوه ( نبيلا ) كاملا في جميع صفاته لا يتطرق إليه النقص أبدا . يبدو أن شعراءنا حين تركوا مدح السلاطين واتجهوا نحو مدح الشعب صاروا كأنهم عادوا إلى حياة البداوة الأولى حين كان الشاعر يمدح قبيلته ، ويذمّ خصومها ، في الحق والباطل . فهم لا يختلفون عن شعراء الجاهلية إلا من حيث أنهم وسّعوا نطاق القبيلة فجعلوه ( الشعب ) أو ( الوطن ) أو ( الأمة ) . إنهم بعبارة أخرى غيّروا شكل العصبية ، أما مضمونها فلم يغيروه حيث بقوا ينظرون إلى شعبهم أو وطنهم أو أمتهم كما كان الشاعر البدوي ينظر إلى قبيلته ) (272) .
# معضلة “التفكير الشعري” :
——————————-
ومن هنا يضع الوردي إصبعه على معضلة ( التفكير الشعري ) المستعصية التي وسمت العقلية العربية منذ مئات السنين والتي لا تشمل الشعراء فقط بل المفكرين وحملة الأقلام والخطباء كما يقول :
( إن هذا النمط من التفكير الحماسي – وهو الذي يصح أن نسميه بـ ( التفكير الشعري ) – لم يقتصر أثره على الشعراء فقط بل شمل أيضا الكثير من المفكرين وحملة الأقلام والخطباء ، فهم جميعا يجرون على طريقة واحدة هي طريقة عمرو بن كلثوم : ماء البحر نملأه سفينا ) (273) .
والوردي كما قلنا – وهذه من سماته الأسلوبية الأساسية – لا يترك أي وجهة نظر يطرحها دون أن يلاحقها في مؤلفاته المختلفة ويقلّبها على وجوهها المختلفة ، ويحلّل مضامينها ويتابع تطور دلالاتها عبر التحولات الاجتماعية المختلفة ، فنراه يعود إلى تناول ظاهرة المديح التي اتسعت وأصبحت ظاهرة فخر مرضي و (صوتي) دوّى في جميع أرجاء الوطن العربي وشل القدرات الإدراكية للمواطن العربي فكانت واحدة من العوامل الهامة التي أوصلتنا إلى هزيمة الخامس من حزيران . إن الوردي يضعها في مرتبة المرض النفسي الذي لا يفترق كثيرا عن السلوك السيكوباثي ، هذا السلوك الذي يمكن أن تموّهه الأغطية الاجتماعية والظروف الاقتصادية فيمكن أن تخفّفه الأخيرة أو تضخمه . فالشخص السيكوباثي قد يكون غنيّاً أو ذا جاه وسلطان وعند هذا يجد الناس له عذرا فيما يفعل ، وقد يعدون أفعاله المتناقضة من علامات العبقرية والعظمة . إن من يراجع ذكريات الجواهري – شاعر العرب الأكبر – بجزئيها ، يجد الأنموذج الأهم والأكثر صدقا على الكيفية التي يمكن أن تستتر بها اللاسوية السلوكية النفسية خلف الأستار المغيبة للسلطة والنفوذ ، وذلك من خلال دراسة أنموذج شخصية الزعيم ( عبد الكريم قاسم ) نفسيا الذي كانت لديه تراكمات نفسية – هوسية هذائية ( شعور مرضي بالإضطهاد خصوصا مؤسسة على أحاسيس بالعظمة ؛ أحاسيس عظمة تتطلب وجود أعداء ومتآمرين للنيل منها ) . وأنا أتساءل هنا : كم زعيم أو قائد سياسي عربي قاد بلاده إلى مواطن التهلكة لأن لاسواءه النفسي لم يُكتشف بفعل الأغطية السلطوية والمظهرية والصوتية الخطابية الثقيلة ؟ . والمعضلة الأكبر التي شخّصها الوردي هو أن مثل هذا الموقف المتواطيء لدى الفرد العراقي والعربي يتم تدريب المواطن عليه منذ طفولته بصورة تلقائية يفرضها التفكير الديني الوعظي – تفكير وعّاظ السلاطين – في العائلة ، والتفكير الرسمي من خلال المناهج الدراسية . يقول الوردي :
( رأيت أحد أولادي ذات يوم وهو يقرأ في كتاب للمطالعة أعطي له في المدرسة ، وكان الكتاب يحتوي على فصل عنوانه ( عَظَمَة الرشيد ) ، والأدهى من ذلك أني سمعته يتغنى بنشيد ( بغداد يا بلد الرشيد ) فأدركت عندئذ كيف أن الترف والعرش الموروث والمظاهر الباذخة تستطيع أن تجعل من المجنون عبقريا ومن الشخص السيكوباثي عظيما . رأينا كيف كان الرشيد ، رضي الله عنه ، غريب الأطوار ، يشتدّ في الطرب حتى تخاله مستهترا ثم ينقلب فجأة فيجهش في البكاء زُهداً وتقوى . وهو يشتري بأموال الأمة ثلاثة آلاف جارية ثم يُغمى عليه من خشية الله . وهو يُصلّي في اليوم مائة ركعة ثم يسفك الدم لشيء لا يستحق سفك الدم ) (274) .
ويضعنا الوردي بعد ذلك – وفي ظل تلك المرحلة المبكرة التي لم تقف فيها الثقافة النفسية المحكمة على قدميها – أمام استنتاج صادم يرى :
( أن الرشيد إذا لم يكن مجنونا فهو على الأقل كان شخصا سيكوباثيا ، ولكنه كان في الوقت ذاته أمير المؤمنين وظل الله على العالمين !!) .
ثم يضع الوردي هامشا يقول فيه معلقا على التغنّي بالرشيد :
( يؤسفني في هذه الأيام أن أسمع هذا النشيد يُنشد في مدارسنا ، وقد يُنشد أحيانا في دار الإذاعة . ليس من العجيب أن يُنشد هذا النشيد في العهد البائد ، إذ أن ذلك العهد لم يختلف كثيرا عن عهد الرشيد أو عهد غيره من السلاطين المترفين ، إنما العجب أن ينشد في جمهوريتنا الشعبية !!!) (275) .
www.alnaked-aliraqi.net
( سلامة موسى )
( مقالات منوعة – القاهرة – 1958 )
# أدباء السلاطين :
——————
يرى الوردي أن من المفارقات المضحكة أن نرى الأخطل ، الشاعر النصراني المعروف يمدح معاوية فيقول :
وطدتَ لنا دينَ النبيِّ محمدٍ = بحلمكَ إذْ هرّتْ سفاهاً كلابُها
ويعلّق على ذلك بالقول :
( ولا ينتهي ضحكي من هذا البيت العجيب ، حيث أجد فيه شاعرا مسيحيا يمدح معاوية المسلم لأنه وطّد له دين النبي محمد . ولستُ أشك في أن الأخطل استلم جزاء هذا الشعر مبلغا كبيرا من المال . فهو إذن لا يبالي أن ينتصر دين محمد أو دين المسيح ما دام المال موفورا ) (266) .
إن من أهم مظاهر انفصال الأدب العربي عن الناس وآلامهم وقضاياهم اليومية والتحام الأدباء “أدباء السلاطين” كما سمّاهم الوردي آنذاك بالطبقة الحاكمة المترفة هو شيوع ظاهرة المديح في الشعر العربي والتي مازالت شائعة حتى يومنا هذا ، والتي أطلق عليها الوردي تسمية كاشفة وصادمة آنذاك ولا تتحمل المداورة وهي “شعر الاستجداء”. يقول الوردي :
( حين نقرأ دواوين الشعراء الذين نهجوا في شعرهم منهج القدماء نجد نزعة الاستجداء واضحة فيها ، ولكنهم كانوا كصاحبنا الكركوكي الذي يستجدي الناس وخنجره في حزامه ، فتراهم يتقدمون بين يدي ممدوحهم بقصائد عجيبة من الثناء الغالي ، وهم لا يترددون في أن يجعلوه ملاكا في صورة إنسان وخير من ركب المطايا . ولكنهم لا يكادون يجدون جائزته غير كافية حتى يقلبوا عليه ظهر المجن ويجعلوه ألعن خلق الله طرا ) (267) .
# مثقفون بارزون يدافعون عن شعر المديح :
alwardi 11والمشكلة التي لا تقلّ أهمية عن ذلك والتي يلفت الوردي نظرنا إليها هي الظاهرة السلوكية المعرفية التي تفشّت بين الناس ، وأثّرت في تشكيل ذائقتهم بصورة مَرَضِيّة ولا سويّة حيث نشأ من جراء ذلك معيار مزدوج تجاه الشعراء ، فصاروا لا يكترثون حين يجدون الشاعر يمدح من لا يستحق المدح ثم يذمّه بعد ذلك . ومازلنا حتى هذا اليوم مختلفين في تقييم سلوك المتنبي الشعري من كافور الأخشيدي الذي مدحه بلا وجه حق أخلاقي أو اجتماعي أو سياسي ، ثم هجاه بعد أن يئس من الحصول على ” جائزته ” . والمصيبة أن القناعة بشعر المديح لم تكن محدّدة بالعامة من الناس الذين تتلاعب بأذواقهم وأفكارهم الأهواء والاندفاعات الفكرية والعقائدية ، بل اتسعت لتشمل المثقفين المتنورين الذين بدأوا يضعون للمديح مبرّرات فكرية واجتماعية ، والأكثر مبرّرات إبداعية . فقد كتب الدكتور ” علي الزبيدي ” – وكان أستاذا جامعيا آنذاك – مقالا في مجلة ” الفنون البغدادية ” دافع فيه عن الشعراء المدّاحين ، وقال عنهم أنهم كانوا يقصدون بمديحهم السلاطين تصوير المثل الأعلى لهم . يقول الزبيدي :
( وفي قصائد المديح تتراءى المثل العليا التي يريدها الناس في الحاكم الكريم والرجل الشريف . فكان الشعراء يقدّمون الممدوح كريما حليما شجاعا عادلا شهما ذا مروءة حازمة عازمة .. كانوا ينحتون فيها المثل الأعلى للحاكم والرجل ، وكأني بهم ، وهم يمدحونه بهذا ، يقولون له في الوقت نفسه أن احذر من أضداد هذه السجايا وابتعد عن المثالب والعيوب ، وإلا فسيف الهجاء سنشهره في وجهك ) (268) .
وهذا الدكتور “عبد الرزاق محيي الدين” ، وكان أستاذا ثم وزيرا ثم رئيسا للمجمع العلمي العراقي ، يأتي برأي آخر في الدفاع عن الشعراء ، وهو رأي لا يقل غرابة عن رأي زميله الدكتور الزبيدي ، حيث يقول :
( إن الشعراء لم يكونوا يتزلفون للظالمين بدافع التزلّف وحده . إنما هو الدافع الفنّي الذي يعتلج في صدورهم فيجعلهم يسعون نحو التنفيس عنه في أية مباءة يجدونها مفتوحة أمامهم ) (269) .
ويقول أيضا :
( إن مهرجانات السلاطين والمُترفين كانت المجال الوحيد الذي يستطيع الشاعر أن ينفّس فيه عن شهوته الفنية ، ولو كان للشعوب مهرجانات تشجّع الشاعر على الإجادة في فنّه لما تخلّف الشاعر عن اللجوء إليها , إن جرّ ذلك عليه الحرمان والفقر” (270) .
إذن لم يكن الوردي يواجه الشعراء أصحاب المصلحة في المديح وتملّق الحكام ، لكنه كان يواجه مثقفين بارزين في المجتمع ” ينظّرون ” لتبرير سلوك أولئك الشعراء . ومن المهم أن أقول أن ظاهرة المديح التي استشرت في الثمانينات والتسعينات قد وجدت أيضا من يدافع عنها وينظّر لها من المثقفين والشعراء البارزين كما حصل في اللقاء الذي أجريته مع المبدع الراحل ” يوسف الصائغ ” ونُشر في جريدة “الزمان” على عدة حلقات ودافع فيه عن شعر المديح .
وبعد قرون عديدة وفي القرن العشرين تستشري هذه الظاهرة بضراوة فنجد الزهاوي والرصافي والجواهري وطوابير لاحقة من الشعراء العراقيين يعيدون من جديد ظاهرة الاستجداء تحت غطاء المديح . ولأنني تحدّثت عن الأبعاد النفسية لسلوك الجواهري الشعري المدحي في مخطوطة كتابي عنه ، أقدّم هنا إشارات سريعة عن سلوك الرصافي في هذا المجال والذي أظهره البعض كشاعر مقاوم للسلطات والحكومات طول حياته ، وأنه لم يمدح أحدا ، وعاش ومات منزّها عن المديح لأي غرض .
وقفة : هل كان الرصافي شاعرا معارضا دائماً ولم يمدح السلاطين ؟
لقد نُشرتْ مقالات تؤيد هذا الرأي المهم وخلاصتها هو أن الرصافي كان طوال حياته معارضا للملوك والسلاطين والطغاة ، وأنه لم يبحث عن منصبٍ أو جاه . وهذا رأي حماسي مُفرط لا تسنده الوثائق التاريخية التي بين أيدينا ، وأهمها مذكرات الرصافي التي حققها وقدم لها الدكتور (يوسف عز الدين) في كتابه : (الرصافي يروي سيرة حياته) الصادر عن دار المدى عام 2004. قال الدكتور عز الدين في مقدمته :
( الرصافي عالم وحده في شعره ودينه وعقيدته وسلوكه في الحياة العامة ، وكبريائه وإبائه في تصرفاته مع من بيدهم الأمر ، ثم نراه يعتذر ويتخاذل ويطلب المال بسبيل يأباه من يحمل هذا الكبرياء ، وهذا الاعتداد بالنفس . هذا الشذوذ في الطباع والتناقض في التصرفات جاء من مسيرته في حياته ومن المحيط الذي عاش فيه ) (ص7 ) . مدح الرصافي السيد نوري السعيد عندما قلده الملك فيصل وسام الرافدين بقصيدة عصماء : تهْ يا وسامَ الرافدينِ بصدر مَنْ هوَ في العلا للرافدين وسامُ أبو صبــــــــــــــــــاح ومن به سعدَ العراقُ فثغرهُ بسّامُ ثم عاد وهجا السعيد هجاء مقذعا رغم أن السعيد كان يرسل له المساعدة المالية -(40) دينارا بيد محمود السنوي – سرّاً حتى لا يعرف الأمير عبد الإله ، وبعدها أرسل رسالة اعتذار إلى نوري السعيد .
مدح الرصافي السيد طالب النقيب وسمّاه في قصائده “مولانا النقيب”. الكارثة هي أنّ الرصافي هجا الملك فيصل الأول ووصفه بأنه “يعدّ أياما ويقبضُ راتبا ” في حين مدح (هربرت صموئيل) المندوب السامي اليهودي في فلسطين عندما حضر دعوة راغب الشناشيبي رئيس بلدية القدس حيث قال :
kh alwardi 5خطابُ يهودا قد دعانا إلى الفكرِ وذكّرنا ما نحنُ منهُ من الذكرِ لدى محفلٍ في القدسِ بالقوم حافلٌ تبوأ هربر صموئيل في الصدرِ قاموا وفي ليل المحاق اجتماعهم يحفون من هربر صمئيل بالبدرِ ولسنا كما قال الألى يتهموننا نعادي اسرائيل في السّرِ والجهرِ فكيف وهم أعمامنا وإليهمُ يمتُّ باسماعيلَ قدماً بنو فهرِ هما من ذوي القربى ومن كفنيهما دليلٌ على صدقِ القرابةِ في النجرِ وجعل لقاء هذا اليهودي في الأيام مثل ليلة القدر : فيا ليلة كادت وقد جل قدرها تكون على علّاتها ليلةَ القدرِ ويتساءل الدكتور عز الدين : هل نسي الرصافي لماذا أُرسِل هذا المندوب السامي ؟ ويواصل عز الدين القول :
( مدح الرصافي كثيرا من المحسنين مثل رئيس عشيرة الداينية فقال عنه :
أسدٌ نمتهُ لآل قيس في العلا آياتُ مجدٍ ليس بالمكذوبِ فخر الكرام على المكارم والندى قامت دعائمُ بيته المضروبِ مدح نوري السعيد كما قلنا ، ومدح عبد المحسن السعدون حيا وميتا ومدح آل الجميل ومدح الأمير خزعل الذي لم يعرف قيمة الرصافي حين طلب منه مبلغا من المال فأرسل له مبلغا تافها هو (600) روبية . ومدح ( راقم ) وهو موظف في الدولة ، فقال بمبالغة ممجوجة : أقم في الأرض صرحا من ضياءٍ بحيث يمسّ كرسيَ السماءِ وبعدُ فجسّمْ العرفانَ شخصا تردى المجدُ فضفاض الرداءِ أيا يا كعبة الفضلاء يا مَنَ فضائله عظمى بلا انتهاءِ ومدح عبد اللطيف المنديل أكثر من مرة ، فقال : عبد اللطيفُ بفضله جعلَ الورى أسرى مكارمِ أسرة المنديلِ ورث المكارم عن أبيه وجدّه فبنى أثيلَ المجد فوق أثيلِ كما مدح طفله ، وهو في المهد ، عندما طلب منه المستر (منن) ذلك : نجل عبد اللطيف وهو نجيب كيف لا يظهر النجابة طفلا أن يكن غير واضح القول لفظا فكلام النجيب يُفهم عقلا والرصافي كان يذهب إليه إلى البصرة من أجل عطاياه ومنَحِه بعد أن كان عبد المحسن السعدون يرعاه ويرفده : أبا ماجد إني رأيتك مبصرا خفايا أمور أعجزت كل مبصر فهل أخفيت حالي عليك وقد بدا لكل صديق أنها حال مقتر أتيتك من بغداد لم أدر ما الذي أتى بيَ إلّا أنني في تحير ولو أنني بعت الثناء بنائل لما رضيت نفسي بغيرك مشتري وقد مدح آل الجميل بقصيدة تجلى فيها التناقض ، فهو يطلب المال لأنه عزيز النفس وهل يطلب الرفد إلا من الذلة . قال في القصيدة : آل الجميل سرور كل حزين لهف اليتيم وملجأ المسكين ويقول للمدوح : يا ابن الأكارم قد دعوتك ظامئا ظمأ الحياة فجُدْ بما يرويني وأنا العليل بحاجة تدري بها وأظن فضلك ناجما يشفيني فأرش جناحي كي أطير بريشه فيكون ظني في نداك يقيني ومدح الرصافي ابن سعود- والحديث للدكتور عز الدين – بقصيدة طويلة كلها إغراق في المدح والمبالغات مطلعها : كيف قد حاولوا اغتيالك غدرا خاب من دسهم إليك وأغرى ومنها : يا إمام الهدى ورب المعالي ومليكا تطيعه العرب طرا لست ممن بالقتل يرُدَ ويفنى لك خلد الحياة دنيا وأخرى ومدح شيخا أرسل له كيسا من الرز من نوع ” النگازة ” وهو ليس أفضل أنواع الرز الذي هو “العنبر” : يا (ابن الجميل) وأنت أكرم مَنْ فعل الجميل إليه إرثا خالدا أهديت لي رزا نفيسا لم أقمْ من أكله إلّا لفضلك حامدا “نقازة” حبّاتُه محمودةٌ كم فاق في طيب المذاق فوائدا كاللؤلؤ المنثور لو لا ليته في مضغه لنظمت منه قلائدا
# الزهاوي يضرب الرقم القياسي في التقلّب :
أمّا الزهاوي فالوردي يقول أنه قد ضرب الرقم القياسي في هذا التقلّب . فهو كان قد مدح الإنكليز قبل الحرب ، وعندما قامت الحرب أخذ يذمهم ويمدح الأتراك ، وفي عهد الاحتلال صار يذم الاتراك ويمدح الإنكليز ، ولما نشبت الثورة ، ثورة العشرين ، نظم قصيدة في رثاء شهداء الرميثة ، ولكنه عند مجيء كوكس إلى العراق نظم قصيدة يرحّب به فيها ويذمّ الثورة ذمّا قبيحا – لمحات ج 5 ص 43″ وأدناه مقطع من تلك القصيدة :
عُدْ للعراق وأصلحْ منه ما فسدا وابثث به العدلَ وامنحْ أهله الرغدا
إن العراق لمسعودٌ برؤيته أباً له من بلاد العدل قد وردا
إرأفْ بشعب بغاة الشر قد قصدوا إثارة الشر فيه وهو ما قصدا
ظنّوا الهدى في الذي جاؤوه من عملٍ وقد يكون ضلالا ما يُعدّ هدى
قالوا عسى أن تنيل الشعب ثورته سعادةً غير أن الشعب ما سعدا
فيالها فتنة عمياء ثائرة قد عذّبت من بنيها الروح والجسدا
احزم بناسٍ رأوا في أرضهم فتنا فلم يكونوا لمن قاموا بها سندا
ومن المفارقات أن حملة شعواء قد شُنّت على الوردي في العراق عندما جهر برأيه المناهض للمديح في الشعر العربي ، في حين حضي رأيه بالتأييد والإكبار في مصر ، ومن جانب المفكر ” سلامه موسى ” تحديدا ، حيث قال الأخير في كتابه ” مقالات منوّعة ” :
( .. ولكن في العراق كاتبا واقعيا يُدعى علي الوردي . هذا الكاتب قد وضع مؤلفات أوضح فيها أن شعراء العرب في الجاهلية كانوا يمشون بالوقيعة بين قبيلة وقبيلة . وكانوا سببا ، لهذا السبب ، في القتال بين القبائل . يحرّضون على الثأر والانتقام ولا يدعون إلى سلام . وقد ذمّهم القرآن ووصفهم بالغواية . ثم كان شعراء العرب بعد ذلك ، أي أيام الخلفاء متسوّلين ، يبيعون أشعارهم في المديح والهجاء بالدينار والدرهم . يمدحون بلا سبب ، ويقدحون بلا حق . أو كانوا مثل ابن الرومي وأبي نؤاس ، شعراء فاسقين . كانوا كما يقول الوردي ، بلاء على المجتمع العربي . ولم يشذ منهم ويسمو عليهم سوى أبي العلاء المعري الذي كان ينبه الشعوب العربية إلى ضلال الحاكمين والمتديّنين ومكرهم جميعا لخطف اللقمة من أفواه الفقراء المساكين) (271) .
# تحوّل المديح من القبيلة إلى الشعب :
——————————————–
وهناك ملاحظة مهمة في هذا المجال التقطها الوردي ومازالت تسم المنجز الشعري العراقي والعربي حتى يومنا هذا ، وهي الظاهرة التي تحول فيها الشعراء العراقيون والعرب وخصوصا في الخمسينات من المديح المباشر للقادة والرؤساء والأبطال التاريخيين إلى مديح الشعب ، حيث حوّلوا الشعب إلى ( القبيلة ) القديمة التي كان يتغنى ببطولاتها وأمجادها الشاعر الجاهلي . يقول الوردي :
( لا ننكر أن شعراءنا قد تغيروا عما كانوا عليه بالأمس ، فقد تحول الكثيرون منهم من مدح السلاطين إلى مدح الشعوب ، ولكننا يجب أن لا ننسى أن تغيرهم هذا إنما كان من ناحية الشكل في الغالب ، أما من ناحية المحتوى فلم يتغيروا إلا قليلا . إنهم ظلوا يسيرون في شعرهم على نفس الطريقة القديمة من حيث الاندفاع في الفخر والحماس وقلّة المبالاة بحقائق الأمور . فهم بدلا من أن يجعلوا السلطانَ ظلَّ الله في الأرض وأعدل الناس طرا ، اتجهوا نحو الشعب فجعلوه ( نبيلا ) كاملا في جميع صفاته لا يتطرق إليه النقص أبدا . يبدو أن شعراءنا حين تركوا مدح السلاطين واتجهوا نحو مدح الشعب صاروا كأنهم عادوا إلى حياة البداوة الأولى حين كان الشاعر يمدح قبيلته ، ويذمّ خصومها ، في الحق والباطل . فهم لا يختلفون عن شعراء الجاهلية إلا من حيث أنهم وسّعوا نطاق القبيلة فجعلوه ( الشعب ) أو ( الوطن ) أو ( الأمة ) . إنهم بعبارة أخرى غيّروا شكل العصبية ، أما مضمونها فلم يغيروه حيث بقوا ينظرون إلى شعبهم أو وطنهم أو أمتهم كما كان الشاعر البدوي ينظر إلى قبيلته ) (272) .
# معضلة “التفكير الشعري” :
——————————-
ومن هنا يضع الوردي إصبعه على معضلة ( التفكير الشعري ) المستعصية التي وسمت العقلية العربية منذ مئات السنين والتي لا تشمل الشعراء فقط بل المفكرين وحملة الأقلام والخطباء كما يقول :
( إن هذا النمط من التفكير الحماسي – وهو الذي يصح أن نسميه بـ ( التفكير الشعري ) – لم يقتصر أثره على الشعراء فقط بل شمل أيضا الكثير من المفكرين وحملة الأقلام والخطباء ، فهم جميعا يجرون على طريقة واحدة هي طريقة عمرو بن كلثوم : ماء البحر نملأه سفينا ) (273) .
والوردي كما قلنا – وهذه من سماته الأسلوبية الأساسية – لا يترك أي وجهة نظر يطرحها دون أن يلاحقها في مؤلفاته المختلفة ويقلّبها على وجوهها المختلفة ، ويحلّل مضامينها ويتابع تطور دلالاتها عبر التحولات الاجتماعية المختلفة ، فنراه يعود إلى تناول ظاهرة المديح التي اتسعت وأصبحت ظاهرة فخر مرضي و (صوتي) دوّى في جميع أرجاء الوطن العربي وشل القدرات الإدراكية للمواطن العربي فكانت واحدة من العوامل الهامة التي أوصلتنا إلى هزيمة الخامس من حزيران . إن الوردي يضعها في مرتبة المرض النفسي الذي لا يفترق كثيرا عن السلوك السيكوباثي ، هذا السلوك الذي يمكن أن تموّهه الأغطية الاجتماعية والظروف الاقتصادية فيمكن أن تخفّفه الأخيرة أو تضخمه . فالشخص السيكوباثي قد يكون غنيّاً أو ذا جاه وسلطان وعند هذا يجد الناس له عذرا فيما يفعل ، وقد يعدون أفعاله المتناقضة من علامات العبقرية والعظمة . إن من يراجع ذكريات الجواهري – شاعر العرب الأكبر – بجزئيها ، يجد الأنموذج الأهم والأكثر صدقا على الكيفية التي يمكن أن تستتر بها اللاسوية السلوكية النفسية خلف الأستار المغيبة للسلطة والنفوذ ، وذلك من خلال دراسة أنموذج شخصية الزعيم ( عبد الكريم قاسم ) نفسيا الذي كانت لديه تراكمات نفسية – هوسية هذائية ( شعور مرضي بالإضطهاد خصوصا مؤسسة على أحاسيس بالعظمة ؛ أحاسيس عظمة تتطلب وجود أعداء ومتآمرين للنيل منها ) . وأنا أتساءل هنا : كم زعيم أو قائد سياسي عربي قاد بلاده إلى مواطن التهلكة لأن لاسواءه النفسي لم يُكتشف بفعل الأغطية السلطوية والمظهرية والصوتية الخطابية الثقيلة ؟ . والمعضلة الأكبر التي شخّصها الوردي هو أن مثل هذا الموقف المتواطيء لدى الفرد العراقي والعربي يتم تدريب المواطن عليه منذ طفولته بصورة تلقائية يفرضها التفكير الديني الوعظي – تفكير وعّاظ السلاطين – في العائلة ، والتفكير الرسمي من خلال المناهج الدراسية . يقول الوردي :
( رأيت أحد أولادي ذات يوم وهو يقرأ في كتاب للمطالعة أعطي له في المدرسة ، وكان الكتاب يحتوي على فصل عنوانه ( عَظَمَة الرشيد ) ، والأدهى من ذلك أني سمعته يتغنى بنشيد ( بغداد يا بلد الرشيد ) فأدركت عندئذ كيف أن الترف والعرش الموروث والمظاهر الباذخة تستطيع أن تجعل من المجنون عبقريا ومن الشخص السيكوباثي عظيما . رأينا كيف كان الرشيد ، رضي الله عنه ، غريب الأطوار ، يشتدّ في الطرب حتى تخاله مستهترا ثم ينقلب فجأة فيجهش في البكاء زُهداً وتقوى . وهو يشتري بأموال الأمة ثلاثة آلاف جارية ثم يُغمى عليه من خشية الله . وهو يُصلّي في اليوم مائة ركعة ثم يسفك الدم لشيء لا يستحق سفك الدم ) (274) .
ويضعنا الوردي بعد ذلك – وفي ظل تلك المرحلة المبكرة التي لم تقف فيها الثقافة النفسية المحكمة على قدميها – أمام استنتاج صادم يرى :
( أن الرشيد إذا لم يكن مجنونا فهو على الأقل كان شخصا سيكوباثيا ، ولكنه كان في الوقت ذاته أمير المؤمنين وظل الله على العالمين !!) .
ثم يضع الوردي هامشا يقول فيه معلقا على التغنّي بالرشيد :
( يؤسفني في هذه الأيام أن أسمع هذا النشيد يُنشد في مدارسنا ، وقد يُنشد أحيانا في دار الإذاعة . ليس من العجيب أن يُنشد هذا النشيد في العهد البائد ، إذ أن ذلك العهد لم يختلف كثيرا عن عهد الرشيد أو عهد غيره من السلاطين المترفين ، إنما العجب أن ينشد في جمهوريتنا الشعبية !!!) (275) .
علي الوردي : (38) معضلة المديح في الشعر العربي والموقف من “أدباء السلاطين”
د. حسين سرمك حسن بغداد المحروسة -2015 ((.. ولكن في العراق كاتبا واقعيا يُدعى علي الوردي . هذا الكاتب قد وضع مؤلفات أوضح فيها أن شعراء العرب في الجاهلية كانوا يمشون بالوقيعة بين قبيلة وقبيلة . وكانو…