زوران جيفكوفيتش - جامع الأحلام … قصة قصيرة - ترجمة: فاطمة النعيمي

في البداية ظننت أني سمعت صوت رنين الأجراس التي كنت أعلقها على جسدي وأنا طفل، لكني لم أعد طفلاً الآن. ثم شعرت وكأنّ جرس يتدلّى من رقبة خروف يقود قطيع غنم. لكنّي لم أكن في قرية. وأخيراً خلصتُ، وبسبب قوة الرنين، أنها لابدّ أن تكون أجراس الكنيسة. لكن في حلمي لم تكن هناك من كنيسة.

إدراكي لكوني كنت أحلم أيقظني. لم أستطع رؤية نفسي في الحلكة، ولم يكن هناك من شك أن الرنين كان عائداً للهاتف الجاثم على الطاولة بقربي. يقطع سكون الليل زعيقه المتواصل المزعج.

مددت يدي للوصول إلى المصباح المثبت أعلى السرير، سطوع النور جعلني أغمض نصف إغماضة وأنا أنقلب لجانب الطاولة.

نظرت أولاً للساعة، إنها الثالثة وسبع وعشرين دقيقة. بالرغم من أن الرنين بقي يدويّ دون توقف، إلاً أني بقيت محدقاً في عقارب الساعة غير مصدّق.

أخيراً رفعت السماعة: (هلو) قلتُ بصوتٍ أجش.

“مساء الخير” أعتذر عن اتصالي بوقت كهذا لكن يجب علينا التحدث دون تأخير” كان الصوت عميقاً وناضجاً.

“من أنت؟”

“جامع الأحلام”

كان يجب أن أفصل سلك الهاتف قبل خلودي إلى النوم. لكن من يمكنه أن يتوقع حدوث أمر كهذا له؟ لم يكن ينقصني سوى أن أصبح ضحيّة للمعتوهين الذين لا شاغل لهم سوى إزعاج الناس في جوف الليل

“تصرف صبياني كهذا لا يليق بعمرك” قلتُ بنبرة عصبية وانا أهم بإعادة السماعة عندما استوقفتني كلماته “رجال الإطفاء الاقزام”

أصبحت خلال لحظة في تمام يقظتي “عفواً”

“كنت تحلم برجال إطفاء أقزام يلبسون خوذات ارجوانية يحاولون إخماد حريقٍ يلتهم عنكبوتاً خضماً، وما يخرج من الخراطيم لم يكن ماء بل”…

“أعرف ما كان يخرج من خراطيمهم”. قلت مقاطعاً اياه باقتضاب، “لكن كيف تعرف ما أحلم به”؟

“أي جامع أحلام أكون إن لم أستطع معرفة أحلام الناس، لستُ أعرفها فحسب بل أتذكرها أفضل من أصحابها. لذلك أسرعت بالاتصال بك قبل أن يصبح الأمر متأخراً جداً، ففي الصباح غالباً لن تتذكر أحلامك”

بقيت صامتاً بعض الوقت، أحاول جمع أفكاري قبل أن أنطق بكلمة، قرصت خدي بيدي اليسرى. كان الألم حقيقياً.

سألته أخيراً بصوت هادئ: “ماذا تريد مني؟”

“حلمك”

“حلمي”؟

“نعم”

“لماذا تريد حلمي”؟

“أريد ضمّه لمجموعتي طبعاً. أنا أجمع الأحلام التي بها تفاصيل أرجوانية. لو لم يكن الأقزام يرتدون خوذات بذلك اللون لَما أزعجتك أبداً”

“ومالذي منعك من أن تأخذها دون مشورتي؟ دون أيقاظي؟ ألا تقول أني سأنساها صباحاً”؟

“سيكون هذا مخالفاً للقوانين. لا يمكنك ضم حلم لمجموعتك من دون موافقة صاحبه”

“هل يعني هذا أنه بإمكاني الرفض”؟

“طبعاً، لكن هذا لن يكون في صالحك”.

“حقاً، وكيف هذا”؟

“لأنك بهذا لن تحصل على الجائزة”.

“جائزة”؟

“هذا صحيح، الأحلام لا تمنح هكذا مجاناً، لكل شيء ثمن حتى الأحلام”

“لم أكن أعلم”

“طبعا ليست كل الأحلام متساوية في الثمن، غالبها في الحقيقة لا تساوي شيئاً ولا أحد يطمع فيها، أنت أحد المحظوظين هنا، ذلك أن الأحلام ذات التفاصيل الأرجوانية هي أغلى الأحلام وأندرها. يمكنك أن تحيا حياة باذخة لسنين طويلة معتمداً على ما سأعرضه عليك في مقابل حلم الأقزام ذي الخوذات الأرجوانية”.

أنتظر جامع الأحلام أن أقول شيئاً، لكني بقيت صامتاً وأنا غارق في حيرتي.

قال بعد مضي لحظات: “ربما من الأفضل أن تقبل هذا العرض. أنظر للأمر على أنه عمل فني وليس بالضرورة حلماً. المقارنة لا تجعل منه نقيضاً. الكثير من الناس يحاول خلق أعمال فنية لكن القليل فقط من ينجح في ذلك”

هذا شبيه بعالم الأحلام، الكثير يحلم، لكن عدد الأحلام الناجحة قليل جداً، هذه طبيعة الاشياء، الموهبة ضروريّة للأحلام كما للفن، وأصحاب الأحلام الموهوبة نادرون، أنت حتماً أحدهم”

“لم أكن أعلم بهذا “تمتمت

“هذا يحدث دائماً، الحالم الموهوب لا يعلم أنه كذلك إلا عندما يخبره بذلك جامع الأحلام، أفخر بأنني قمت باكتشاف عدد من أكثر الحالمين موهبة. لو رأيت مجموعتي ..ليس هناك جامع أحلام لا يحسدني. لدي معرض كامل من روائع الاحلام الأرجوانية. سيكون حلمك في رفقة ممتازة”

“كم هذا لطيف” قلت ببلاغة. من دون أن تطرأ على بالي كلمة متماسكة أخرى في ساعة متأخرة كهذه.

“إذن كل ما علي فعله لتلقي الجائزة هو منحك موافقتي”

“نعم، وأيضاً عليك أن تجيب عن بعض الأسئلة”

“أية أسئلة؟”

“أسئلة تتعلق بك. يجب أن أتأكد من بعض الأمور. فهناك بعض العوائق التي تمنع الأحلام من الانضمام للمجموعة”

“عوائق؟”

“نعم، لسنا كبقية تجار الفن في هذا الشأن. تحقق كهذا لن يكون ضرورياً لو كنا كذلك. فلنقل أن فنان وصاحب معرض. حياتك الخاصة لن تعنيني مطلقاً. لكن جامعي الأحلام يجب أن يتمسكوا بالقوانين الصارمة. فقط الأحلام الصافية من أية شوائب يمكنها أن تنضم للمجموعة. هذا الشرط تسبب في فقدي لعدد من العينات المميزة لكن لا تقلق، تقريباً يمكنني التيقن معك أن كل شيء سيكون على ما يرام. هل نبدأ؟”

“تفضل” قلت بعد وقفة قصيرة

“هل قتلت أحداً؟”

“مالذي أعطاك انطباعاً كهذا؟” قلت بغضب

“برجاء لا تشعر بالإهانة، السؤال ليس موجهاً إليك بشكل شخصي. القتلة يحلمون أيضاً. بل أحياناً تكون أحلامهم قيمة أكثر من أحلام الأناس العاديين. واحدة من أجمل الأحلام هربت مني فقط لأن العجوز الحالم كان، دون قصد، قد تسبب في شبابه في موت امرأة عجوز، بالرغم من أنها ستموت لاحقاً في السنوات اللاحقة بنفس الطريقة. لكن ليس بيدي شيء. القوانين تبقى نفسها. فلنكمل، هل تعاني من أية حساسية ضد حبوب اللقاح أو ريش الإوز؟”

“لا، لا أعاني من أي منها”

“حسناً. هل عاني أحد من أسرتك في الأجيال الثلاثة السابقة من أي اضطراب عقليّ؟”

تفاقم غضبي مجدداً لكنّي بالرغم من ذلك أجبته من بين أسناني المطبقة “بالطبع لا”

“جميل جداً، هل عانيت من مرضٍ مُعدي؟”

“الحمى القرمزية والنكاف”

“أهذا كل شيء؟ ألم تعان من التيفوئيد، الملاريا، الكوليرا، الجدري او الطاعون؟”

هززت رأسي بقوة مع أنه لم يكن مجدياً: “لا”

“رائع، هل تلتذ بتعذيب الحيوانات الأليفة؟”

“ليست لديً أية حيوانات أليفة”

“إذاً لا تجد لذة في تعذيب الحيوانات. حسناً، هل تعاني من عمى الألوان؟”

“كيف لي أن أحلم بالأقزام ذوي الخوذات الأرجوانية إذا كنت مصاباً بعمى الألوان؟”

“لم يكن هذا ليقف في طريقك، ربما لا تعلم هذا، أحلام المصابين بعمى الألوان متخمة بها. محزن أن القوانين لا تسمح لنا بضّمهم إلى مجموعاتنا. هل تخاف من المرتفعات؟”

“قليلاً نعم” أجبته، على مضض.

“عندما تكون على حافة هاوية ، هل تصبح غير قادر على الحركة، تصاب بالغثيان أو تغرق في عرق بارد؟”

“أحاول البقاء بعيداً عن المنحدرات”

“تفكير ذكي، يمكننا استنتاج أنك لا تعاني من خوف مرضيّ من المرتفعات. هل تجمع الطوابع؟”

“لا”.

“هذا رائع، إلى الآن فقدت أحلاماً كثيرة كان أصحابها من هواة جمع الطوابع”

“وما الخطأ في كون الحالم جامع طوابع؟”

“ليس بخطأ طبعاً، أنا شخصياً لا مشكلة لدي مع هواة جمع الطوابع، في الحقيقة أنا معجب بهم، مع أنهم سببوا لي بعض الخسارة، لكن تلك هي القوانين ولم أكن من وضعها. بكل حال أنت تبلي جيداً. بقيت لدينا ثلاثة أسئلة فقط. هل تعرضت يوماً لزلزال أقوى من ست درجات بمقياس ريختر؟”

“لم أتعرض يوماً لأيّ زلزال”

“ولا حتى زلزال صغير؟”

“ولا حتى زلزال صغير”

“أنت محظوظ حقاً، حتى الزلازل الصغيرة مؤذية. هل تعد السلالم وأنت تصعد؟”

“لا أفعل، وعادة أستخدم المصعد”

“هذا ليس خياراً صحّياً، تبين أن الأشخاص الذين يستخدمون السلالم للصعود يعيشون في المتوسط ثلاث سنوات وأربعة أشهر وسبعة ايام أكثر. في الجانب الآخر أدرك أنه من الصعب رفض الخيارات المريحة. وها نحن نصل للسؤال الأخير. هل شربت مشروباً كحولياً قبل خلودك للنوم في الليلة الماضية؟”

“نعم، شربت نصف كأس من النبيذ، كما أفعل كل ليلة” قلت بتردد

“نبيذ ابيض أم أحمر؟”

“أحمر”

سادت فترة صمت على الجانب الآخر من الخط.

“هذا ليس جيداً؟” سألته بعد لحظات.

تنهد جامع الأحلام قبل أن يجيب ” لا، ليس جيداً، القوانين صريحة بهذا الشأن. غير مسموح بقطرة من النبيذ الأحمر، لأنه يعتبر منشط قوي. بعكس النبيذ الأبيض المسموح بكميات معتدلة، الأحلام التي تأتي تحت تأثير النبيذ الأحمر تعتبر مصطنعة وليست طبيعية”

“لو كنت أعلم لما لمسته”

“لو كنت تعلم لكان من المشكوك فيه أن تحلم برجال إطفاء أقزام يرتدون خوذات أرجوانية”

“والآن، ماذا” قلت بعد فترة صمت

“لا شيء، كلانا خسر. أنت لن تحصل على جائزتك السخيّة؛ وأنا خسرت حلماً رائعاً، لكن لا تفقد الأمل. كما قلت لك قبل قليل، أنت حالم وموهوب. فقط تجنب النبيذ الأحمر قبل خلودك للنوم. سابقي عينيّ على أحلامك. وسأتصل بك مجدداً عندما يمر بها شيء أرجواني على الرغم من احتمال مضيّ وقت طويل إلى أن يحدث الأمر مجدداً. لكن على الأقل لن نضطر للخوض في الأسئلة مرة أخرى. والآن عد إلى النوم، ليلة سعيدة.

“ليلة سعيدة” أحبته بعد أن أقفل الخط

أعدت السماعة لمكانها وأطفأت المصباح. بقيت مستلقياً محدقاً في الحلكة التي تحيط بي، إلى أن جاء صوت رنين من مسافة بعيدة. الأجراس المدويّة للكنيسة وصلت أولاً. متبوعة بالصوت المكتوم للجرس المعلّق برقبة الكبش، سرعان ما أصبح الصوت متصلاً مع الرنين الخافت لطفولتي. وأخيراً لم يكن يحيط بي سوى الصمت.


زوران جيفكو فيتش (صربيا






ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...