خلال مجرى العديد من المحاضرات ـ الكثيرة جدا ـ التي ألقيتها، لاحظت أن الناس يميلون إلى تفضيل الشخصي على العام، المجسّد على المجرّد. لهذا سأبدأ بالحديث عن عماي الخاص المتواضع، وهو متواضع لأنه عمى كلي في عين بينما هو جزئي في الأخرى. فأنا ما زلت قادرا على أن أميز بعض الألوان؛ أستطيع، حتى الآن، رؤية الأزرق والأخضر. وقد بقي الأصفر بشكل خاص، وفيا لي. أتذكر أنني في شبابي، كنت أطيل الوقوف أمام أقفاص معينة في حديقة الحيوانات في باليرمو: أقفاص النمور والفهود. كنت أطيل الوقوف أمام ذهبي وأسود النمور. الأصفر لا يزال معي، حتى الآن. لقد كتبت قصيدة بعنوان ( ذهبي النمور) أشير فيها إلى هذه الصداقة.
الناس بشكل عام يتخيلون العميان مسجونين في عالم أسود. هناك، على سبيل المثال، عبارة شكسبير: (Looking on darkness which the blind do see). إذا فهمنا الظلام (darkness) على إنه السواد (blackness) فشكسبير على خطأ.
أحد الألوان التي لا يراها العميان ـ أو على الأقل لا يراها هذا الأعمى الذي أمامكم ـ هو الأسود؛ وآخر هو الأحمر. الأحمر والأسود هما اللونان اللذان تنكرا لنا. لقد كنت لمدة طويلة، أنا الذي اعتدت النوم في ظلام مطبق، أضيق بالنوم في هذا العالم الضبابي، في الضباب المخضر أو المزرق، المضيء بشكل غائم، الذي هو عالم العميان. كنت أريد أن أستلقي في الظلمة. إن عالم العميان ليس هو الظلام الذي يتخيله الناس. (ينبغي أن أقول أنني أتحدث نيابة عني، وعن أبي وجدتي، اللذين ماتا أعميين كلاهما ـ أعميين، ضاحكين وشجاعين، مثلما أتمنى أنا أيضا أن أموت. لقد ورثا أشياء عديدة ـ العمى، على سبيل المثال ـ لكن المرء لا يرث الشجاعة. وأنا أعرف أنهما كانا شجاعين).
يعيش العميان في عالم مربك، عالم غامض تنبثق منه بعض الألوان: بالنسبة لي، الأصفر، والأزرق (ما عدا أن الأزرق قد يكون أخضر)، والأخضر (ما عدا أن الأخضر قد يكون أزرق). الأبيض اختفى، أو أنه ملتبس بالرمادي. أما الأحمر فقد اختفى كليا. لكن آمل أنني يوما ما – إذ أنني أتبع علاجا ـ سأتحسن وأكون قادرا على رؤية ذلك اللون الرائع، ذلك اللون الذي يتألق في الشعر، والذي له الكثير من الأسماء الجميلة في لغات عديدة. لنأخذ scharlach في الألمانية، scarlet في الإنكليزية، escarlata في الإسبانية، ecarlate في الفرنسية. كلمات جديرة بذلك اللون الرائع. وعلى العكس يبدو Amarillo الأصفر، ضعيفا في الإسبانية. وفي الإنكليزية يبدو على نحو أكثر كـ (yellow) الأصفر. أعتقد أنه في الإسبانية القديمة كان يدعى amariello.
أقيم في ذلك العالم من الألوان، وأنني إذ أتحدث عن عماي المتواضع، فأنا أفعل ذلك لأنه، أولا، ليس بالعمى المثالي الذي يتخيله الناس، وثانيا، لأنه يخصني. بيد أن حالتي ليست درامية على نحو خاص. الدرامية هي حالات أولئك الذي يفقدون بصرهم بشكل مفاجئ. أما في حالتي، فقد بدأ ذلك الإعتام البطيء، فقدان البصر البطيء، منذ بدأت أرى، واستمر منذ العام 1899 بدون لحظات درامية، إعتام بطيء استمر لأكثر من ثلاثة أرباع القرن. في العام 1955 حدثت اللحظة المؤسية عندما علمت بأنني قد فقدت بصري: بصر قارئي وكاتبي.
في حياتي كُرمت بالعديد من المناصب التي لا استحقها، غير أن واحدا منها أسعدني بشكل أكبر من الأخريات: مديرية المكتبة الوطنية. فلأسباب سياسية أكثر منها أدبية، اختارتني حكومة Aramburu لهذا المنصب.
عينت مديرا للمكتبة، وعدت إلى تلك البناية التي كانت لي معها ذكريات كثيرة جدا، والتي تقع في شارع Mexico في Monserrat، جنوبي المدينة. لم أكن قد حلمت يوما بإمكانية أن أكون مديرا للمكتبة. كانت لدي ذكريات من نوع آخر، من قبيل ذهابي إلى هناك ليلا بصحبة أبي، وهو بروفيسور علم نفس، كان يطلب كتابا لبرغسون أو وليم جيمس، اللذين كانا مفضلين لديه، أو ربما لغوستاف شبيلر. أما أنا فكنت، خجلا جدا من أن أطلب كتابا، أتطلع إلى بعض أجزاء موسوعة المعارف البريطانية أو موسوعتي بروكهاوس وماير الألمانيتين، آخذ جزءا لا على التعيين من الرف وأقرأ. أتذكر في إحدى الليالي أنني كوفئت بشكل خاص لأنني قرأت ثلاث مقالات عن the Druids، the Druses، and Dryden _ هبة الحرفين DR . الليالي الأخرى كنت أقل حظا.
عرفت أن بول غروساك كان في تلك البناية. وكان يمكن أن ألتقي به شخصيا، لكنني كنت حينذاك على قدر كبير من الحياء؛ تقريبا كما أنا الآن. إذ كنت أؤمن وقتها بأن الحياء (Shyness) مهم جدا، ولكنني أعرف الآن أنه أحد الشرور التي على المرء أن يحاول تجاوزها، وأنه في الواقع لا يهم أن تكون ذا حياء ـ إنه مثل أشياء عديدة أخرى يعطيها المرء أهمية مفرطة .
تسلمت المنصب في نهاية العام 1955. كنت مسؤولا، حسب ما قيل لي، عن مليون كتاب. لاحقا علمت أنها تسع مائة ألف ـ عدد كان أكثر من كاف. ( وربما تبدو التسع مائة ألف أكثر من مليون).
شيئا فشيئا أدركت السخرية الغريبة للأقدار. فلطالما تخيلت الفردوس كنوع من مكتبة، بينما هي عند الآخرين حديقة أو قصر. في المكتبة، كنت على نحو ما مركزا لتسعمائة ألف كتاب في لغات مختلفة، لكنني اكتشفت أنني بالكاد أستطيع أن أتبين صفحات العناوين وظهور الكتب. لقد كتبت (قصيدة الهبات) التي تبدأ بـ:
ليس لأحد أن يبخس بالشكوى
والعتاب بيان جلال الرب
الذي بسخرية مدهشة
وهبني الكتب والظلام في آن واحد.
الهبتان اللتان نقضتا إحداهما الأخرى: الكتب التي لا تحصى والظلام، أي العجز عن قراءتها.
تخيلت كاتب تلك القصيدة هو غروساك، إذ أن غروساك كان كذلك مديرا للمكتبة وكذلك أعمى. بيد أنه كان أكثر شجاعة مني فبقي صامتا. مع ذلك عرفت أنه كانت هناك، بالتأكيد، لحظات تماثلت فيها مصائرنا، فكلانا كان قد أصبح أعمى، وكلانا أحب الكتب. لقد رفد هو الأدب بكتب أرفع مستوى بكثير من كتبي. لكن كلانا كان كاتبا، وكلانا مرَّ بمكتبة الكتب المحرمة ـ قد يسميها البعض، بسبب من عيوننا المطفأة، مكتبة الكتب الغفل، كتب بلا حروف. لقد كتبت عن سخرية الرب تلك، قصيدة، تساءلت في نهايتها أي منا كان قد كتب تلك القصيدة عن أنا جمع وظلام مفرد.
تجاهلت آنذاك، حقيقة أنه سبق وكان هناك مدير آخر للمكتبة، وكان أعمى: خوسيه ميرمول. هنا يظهر الرقم ثلاثة، الذي يحسم كل شيء. اثنان مجرد مصادفة؛ ثلاثة تأكيد، تأكيد ثلاثي الترتيب، تأكيد إلهي أو لاهوتي.
كان ميرمول مديرا للمكتبة عندما كانت تقع في شارع Venezuela. إن من المألوف هذه الأيام أن نتحدث بسوء عن ميرمول، أو ألا نتذكره مطلقا. ولكن يجب أن نتذكر أننا حين نتحدث عن عصر روساس، فنحن لا نفكر في الكتاب الرائع لراموس ميخيا (روساس وعصره)، وإنما بذلك العصر كما يرد وصفه في رواية ميرمول الفضائحية بشكل مدهش: La Amalia . إن نقل صورة عصر أو بلد إلى الأجيال اللاحقة ليس مجدا ضئيلا.
لدينا إذن ثلاثة أشخاص تقاسموا المصير نفسه، وكذلك ـ بالنسبة لي ـ متعة العودة إلى فرع Monserrat في الجنوب. لأن الجنوب، كان بالنسبة للكل في بوينس ايريس، وبطريقة غامضة، المركز السري للمدينة، وليس المركز الآخر ذو الطابع شبه الاستعراضي، الذي نريه للسياح ـ في تلك الأيام كانت هناك أواصر اجتماعية ليست بالعادية تسمى الـ Barrio de San Telmo . ولكن حدث وأصبح الجنوب المركز السري المتواضع لبوينس آيريس.
عندما أفكر ببوينس آيريس فأنا أفكر ببوينس آيريس التي عرفتها صغيرا: البيوت المنخفضة، الباحات، الشرفات، أحواض الماء بسلاحفها، النوافذ المشبكة. لقد كانت بوينس آيريس كل بوينيس آيريس. أما الآن فالقسم الجنوبي فقط لا يزال باقيا منها. لقد شعرت بأنني أعود إلى الحي الذي قطنه أسلافي.
كانت هناك الكتب، لكن كان علي أن أسأل أصدقائي عن عناوينها. لقد تذكرت عبارة لرودولف شتاينر، في كتبه عن الأنثروبوسوفيا، وهو الاسم الذي أطلقه على الثيوبوسوفيا الخاص به. قال عندما ينتهي شيء لا بد أن نفكر بأن شيئا يبدأ. نصيحته مفيدة ولكن يصعب العمل بها، لأننا نعرف فقط ما فقدناه، لا ما سنحصل عليه. لدينا صورة محددة ـ صورة مخزية أحيانا ـ لما فقدناه، ولكننا نجهل ما قد يليه أو يحل محله.
لقد اتخذت قرارا. قلت لنفسي: بما أنني خسرت عالم المرئيات الحبيب، لا بد أن ابتكر شيئا آخر. في ذلك الوقت، كنت بروفيسورا للأدب الإنكليزي في الجامعة. ما الذي كان بإمكاني فعله لتدريس ذلك الأدب اللامتناهي تقريبا، ذلك الأدب الذي يتخطى حياة إنسان واحد، وحتى حياة أجيال من البشر؟ ماذا كان بإمكاني أن أفعل خلال أربعة أشهر أرجنتينية حافلة بالمناسبات الرسمية والإضرابات؟ لقد قمت بما استطعت لتدريس حب ذلك الأدب، وأحجمت ما أمكن عن التواريخ والأسماء.
بعض الطالبات جئن لمقابلتي، وكن قد أجرين الامتحان واجتزنه. ( كل الطلاب ينجحون لدي) قلت للفتيات ـ وكان هناك تسع أو عشر ـ: " لدي فكرة، الآن وقد اجتزتن الامتحانات، وأديت واجبي كبروفيسور، ألن يكون من الشيق أن ننكب على دراسة لغة أو أدب بالكاد نعرفه؟ سألنني: أية لغة وأي أدب. " حسنا، بالطبع اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي. لنشرع بدراستهما، الآن ونحن في حل من عبث الامتحانات؛ لنبدأ من البداية.
تذكرت أنه لدي في البيت كتابان، يمكن أن أعود إليهما. كنت قد وضعتهما على أعلى رف معتقدا أنني لن استخدمهما قط. كان الكتابان (Sweet's Anglo-Saxon Reader) و (The Anglo-Saxon Chronicle). كلاهما تضمن مسردا بالمصطلحات. وهكذا اجتمعنا صباحا في المكتبة الوطنية.
قلت مع نفسي: لقد خسرت العالم المرئي، ولكنني الآن سأستعيض بآخر، هو عالم أجدادي القدماء، أولئك الذين جدفوا عبر البحار الشمالية العاصفة قبائل من البشر، من ألمانيا، والدانمارك والبلاد المنخفضة، أولئك الذين غزوا إنكلترا، وصرنا بعدهم نسميها (England) إنكلترا ـ بما أن (Angle-Land) وتعني أرض الملائكة كانت قبل ذلك تسمى أرض البريتون(Britons) الذين كانوا سلتيين (Celts)
كان صباح سبت، حين اجتمعنا في مكتب غروساك، وأخذنا نقرأ. لقد كان جوا ملأنا بالرضا والخجل، وفي الوقت نفسه بشيء من الفخر. وقد أضفت حقيقة أن الساكسون، مثل الاسكندنافيين، استخدموا حروفا رونية (runic letters) لإبراز صوتي الحرفينth كما في thing و the، مسحة من الغموض على الصفحة.
كنا نواجه لغة بدت مختلفة عن الإنكليزية ولكنها شبيهة بالألمانية. وقد حدث ما يحدث عادة عند دراسة لغة ما: فكل كلمة من الكلمات برزت كما لو كانت منقوشة، كما لو كانت طلسما. لهذا السبب تمتلك قصائد لغة أجنبية ما ميزة لا يستمتعون بها في لغاتهم الأصلية، لأننا نسمع، ونرى كلماتها، كل كلمة على حدة، نفكر في جمال الكلمات وقوتها أو ببساطة في غرابتها.
كنا محظوظين ذلك الصباح. وقعنا على العبارة التي تقول أن (يوليوس قيصر كان أول روماني يكتشف إنكلترا) آلفين أنفسنا مع الرومان في نص عن الشمال، الأمر الذي أثارنا. يجب أن تتذكروا بأننا لم نكن نعرف شيئا عن تلك اللغة: كل كلمة كانت بمثابة طلسم استخرجناه من الأرض. لقد عثرنا على كلمتين، أصبحنا معهما سكارى تقريبا (صحيح أنني كنت عجوزا وهن كن شابات ـ وضع مثالي للسكر) شعرت: (أنني أعود إلى اللغة التي تكلمها أجدادي قبل خمسين جيلا؛ أعود إلى تلك اللغة؛ وبأنني أستعيدها. وبأنها ليست المرة الأولى التي أتكلمها؛ فهذه هي اللغة التي تكلمتها عندما كانت لي أسماء أخرى). الكلمتان كانتا أسم لندن Lundenburh، وأسم روما Romeburh ، الأمر الذي أثارنا أكثر ونحن نفكر بالضوء الذي كان قد نزل على تينك الجزيرتين الشماليتين. أعتقد أننا مضينا صارخين في الشوارع: (Romeburh…، Lundenburh ).
هكذا بدأت دراستي عن الأدب الأنكلوـ ساكسوني، تلك التي وهبني إياها العمى. والآن لدي ذاكرة ملآى بشعر رثائي، ملحمي أنكلوـ ساكسوني.
كنت قد استعضت عن العالم البصري بالعالم السمعي للغة الأنكلوـ ساكسونية. ثم اتجهت إلى العالم الأغنى للأدب الاسكندنافي: البطولات والملاحم. فكتبت (الأدب الألماني القديم) وقصائد عديدة قائمة على تلك الثيمات، ولكن الأهم أنني استمتعت بذلك. والآن أنا أعمل على كتاب حول الأدب الاسكندنافي.
لم أسمح للعمى أن يخيفني، وإلى جانب ذلك، قدم لي محرري عرضا ممتازاً: قال لي إذا أنا أنتجت ثلاثين قصيدة في العام، سينشر كتابا. ثلاثون قصيدة تتطلب انضباطا، خصوصا عندما يكون لزاما على المرء أن يملي كل سطر منها، ولكن في نفس الوقت تسمح بحرية كافية، لأنه من المستحيل أن لا يكون في سنة واحدة ثلاثون مناسبة لكتابة الشعر. وعليه، فالعمى لم يكن بالنسبة لي محنة كلية؛ ولا يجب النظر إليه بشكل مأساوي. يجب أن ينظر إليه بوصفه طريقة حياة: وواحداً من أساليب العيش.
إن للعمى حسناته. فأنا مدين للظلام ببعض الهبات: هبة الأنكلوـ ساكسون، معرفتي المتواضعة بالأيسلندية، متعة العديد من أبيات الشعر، العديد من القصائد، متعة إنجازي كتابا آخر معنونا بشيء من البهتان والغطرسة (في مديح الظلام).
أود الحديث الآن عن حالات أخرى، عن حالات لامعة. سأبدأ بذلك المثال الواضح عن صداقة العمى والشعر، بذلك الشاعر الذي يدعى بـ: أعظم الشعراء: هومير. (نحن نعرف عن شاعر إغريقي أعمى آخر، تاميريس، الذي فُقدت أعماله. كان تاميريس قد هُزم في معركة مع آلهة الشعر التي كسرت قيثارته، وسلبته بصره)
كانت لأوسكار وايلد فرضية غريبة، فرضية لا أعتقد أنها صحيحة تاريخياً، ولكنها مقبولة فكريا . إن الكتّاب، بشكل عام، يحاولون أن يبدو عميقين في ما يقولون؛ وايلد كان رجلا عميقا حاول أن يبدو سطحيا. أرادنا أن ننظر إليه كمجادل؛ أرادنا أن نعتبره كما اعتبر أفلاطون الشعر بوصفه (الشيء المجنح، المتقلب، المقدس). حسنا، إن ذلك الشيء المجنح المتقلب المقدس المدعو أوسكار وايلد، بيّن بأن القدماء، صوروا، وبشكل مدروس، هومير أعمى.
نحن لا نعرف إن كان هومير قد وجد. وحقيقة أن سبع مدن تنافست؟؟؟ على حمل اسمه تكفي لحملنا على الشك في تاريخيته. ربما لم يكن هناك هومير واحد؛ ربما كان هناك عدد من الشعراء الإغريق الذين نقنعهم باسم هومير. فالآداب القديمة تشترك في أنها تقدم لنا شاعرا أعمى، ومع ذلك، فشعر هومير بصري، عادة بصري بشكل باهر ـ كما كان إلى درجة أقل بكثير شعر اوسكار وايلد.
لقد أدرك وايلد بأن شعره كان بصريا جدا، فأراد أن يعالج نفسه من ذلك العيب. أراد أن يكتب شعرا يكون سمعيا موسيقيا ـ لنقل مثل شعر تينسون، أو شعر فرلين، اللذين أحبَهما وأعجب بهما أيضا. قال وايلد أن الإغريق ادعوا بأن هومير أعمى للتأكيد على أن الشعر لا بد أن يكون سمعيا، وليس صوريا. من ذلك جاءت مقولة فرلين والرمزية المعاصرة لوايلد: (de la musique avant toute chose) الموسيقى قبل كل شيء.
من الممكن أن نصدق بأن هومير لم يوجد قط، لا أن يكون الإغريق قد تخيلوه أعمى للتأكيد على حقيقة أن الشعر، هو قبل كل شيء، موسيقى؛ وأن الشعر، قبل كل شيء، القيثارة؛ وبأن الصوري يمكن أو لا يمكن أن يوجد في شاعر. أعرف عن شعراء صوريين عظام وشعراء عظام غير صوريين ـ شعراء فكريين، شعراء ذهنيين ـ لا حاجة لذكر أسماء.
لنأخذ مثال ميلتون. عمى ميلتون كان طوعيا. لقد علم منذ البداية بأنه سيكون شاعرا عظيما. ومثل هذا حدث مع شعراء آخرين: كولريدج ودكوينسي، عرفا، قبل أن يكتبا بيت شعر واحد، أن قدرهما سيكون أدبيا. أنا أيضا، إذا جاز لي ذكر اسمي، علمت دائما بأن قدري كان، قبل كل شيء، قدرا أدبيا ـ وأن أمورا سيئة وبعض الأمور الجيدة ستحدث لي، لكن، على المدى البعيد، كل ذلك سيتحول إلى كلمات. خصوصا الأشياء السيئة، بما أن السعادة لا تحتاج إلى تحويل: السعادة هي نهايتها الخاصة.
لنعد إلى ملتون. لقد أتلف بصره في كتابة كراريس تأييد لإعدام البرلمان للملك. قال ملتون بأنه فقد بصره بإرادته دفاعا عن الحرية؛ تكلم عن تلك المهمة النبيلة ولم يشكُ عماه قط. ضحى ببصره، وبعد ذلك، تذكر رغبته الأولى، في أن يصبح شاعرا. لقد اكتشفوا في جامعة كامبردج مخطوطا يحضّر فيه ميلتون الشاب مواضيع متنوعة لقصيدة طويلة.
فقد كتب يقول: " ربما أترك عملا ما مكتوبا بشكل جيد إلى المستقبل، بحيث يحفظونه من الزوال عن طيب خاطر"، مدرجا عشرة أو خمسة عشر موضوعا، غير مدرك بأن واحدا منها سيكون نبوءة، وهو موضوع شمشون. لم يكن يعلم بأن مصيره سيكون، على نحو ما، مصير شمشون؛ شمشون الذي كان قد تنبأ بالمسيح في العهد القديم، وكذلك تنبأ بملتون، وبدقة أكبر. ما أن علم ميلتون بأنه سيصاب بعمى دائم انكب على عملين تأريخيين هما مختصر تاريخ موسكو، وتاريخ إنكلترا، اللذين بقيا كلاهما غير كاملين. وبعد ذلك، القصيدة الطويلة (الفردوس المفقود). كان يبحث عن ثيمة يمكن أن تكون مثار اهتمام كل البشر، ليس فقط الإنكليز. الموضوع كان آدم، أبانا المشترك.
قضى ملتون جزءاً كبيراً من وقته وحيداً، يقرض الشعر، وقد امتلأت ذاكرته. كان يحفظ أربعين أو خمسين بيتا عشري الوزن من الشعر المرسل في ذاكرته، ثم يمليهم على أي زائر يأتي. فبهذه الطريقة كُتبت القصيدة كلها. لقد فكر في مصير شمشون، شبيها جدا بمصيره الخاص، ففي هذه الإثناء كان كرومويل قد مات وعادت الملكية. كان ميلتون قد عُذّب وكان يمكن أن يحكم عليه بالموت لتأييده إعدام الملك. ولكن حين قدموا للملك تشارلز الثاني ـ إبن الملك تشارلز الأول (المعدوم) ـ قائمة بأسماء المحكومين بالإعدام، وضع قلمه جانبا وقال بطريقة لا تخلو من نبل (يوجد في يدي اليمنى شيء لا يسمح لي بتوقيع عقوبة إعدام). لقد أُنقذ ميلتون، وكثيرون معه.
ثم كتب شمشون، محاولا تأليف مأساة إغريقية، حيث الفعل يجري في يوم واحد، هو آخر يوم في حياة شمشون. لقد فكر ميلتون بنقاط التشابه في مصيرهما، حيث أنه كان، مثل شمشون، رجلا قويا هُزم في النهاية، وكان أعمى. فكتب تلك الأشعار التي وفقا لـ لاندور، وضع علامات تنقيطها بشكل سيئ، إلا إنها في الواقع كان يجب أن تكون ( أعمى، في غزة، عند الطاحونة، مع العبيد) ـ كما لو كانت المحن تنصب جميعها على شمشون.
لدى ملتون سونيتة يتحدث فيها عن عماه، تتضمن بيت شعر يمكن للمرء أن يعرف أن الذي كتبه أعمى. عندما توجب عليه أن يصف العالم، قال: ( في هذا العالم المظلم والواسع). هذا هو بالضبط عالم العميان عندما يكونون وحيدين، يسيرون وأيديهم ممدودة بحثا عن مرتكز. هنا لدينا حالة ـ أكثر أهمية من حالتي ـ عن رجل يتجاوز عماه ويقوم بعمله: الفردوس المفقود، الفردوس المستعاد، أفضل سونيتاته، جزء من تاريخ إنكلترا، من البداية حتى الغزو النورمندي. لقد أنجز كل ذلك وهو أعمى، وكان يجب أن يُملى كله على زوار عابرين.
الأرستقراطي البوسطني بريسكوت كان قد استعان بزوجته. إذ أفقده حادث، عندما كان طالبا في هارفرد، إحدى عينيه وتركه شبه أعمى في الأخرى. فقرر أن يكرس حياته للأدب. درس وتعلم آداب إنكلترا، وفرنسا، وإيطاليا وإسبانيا. فقدمت له إسبانيا الإمبراطورية عالما توافق مع رفضه الصارم للعصر الديمقراطي. لقد تحول من دارس إلى كاتب، وكان يملي على زوجته التي كانت أيضا تقرأ له تواريخ غزو المكسيك والبيرو، وحكم الملوك الكاثوليكيين وفيليب الثاني. كان ذلك جهدا مبهجا، يكاد يكون متكاملا، استغرق أكثر من عشرين عاما.
ثمة مثالان أقرب إلينا. كنت قد ذكرت الأول سابقا، بول غروساك، الذي كان قد نُسي ظلما. فالناس ينظرون إليه الآن كمتطفل فرنسي في الأرجنتين. لقد قيل بأن عمله التاريخي تم تجاوزه، وبأن المرء اليوم يلجأ إلى مصادر تفوقه أهمية. لكنهم ينسون بأن غروساك مثل كل كاتب، ترك عملين: الأول موضوعه، والثاني أسلوب إنجازه. لقد بعث غروساك الروح في النثر الإسباني. قال لي آلفونسو ريز، أعظم ناثر في الإسبانية في كل العصور: " لقد علمني غروساك كيف يجب أن تكتب الإسبانية". فقد تغلب غروساك على عماه وخلف أفضل ما كُتب من نثر في بلدنا. وسيبقى من دواعي سروري أن أتذكر ذلك.
لنأخذ مثالا آخر، لشخص هو أكثر شهرة من غروساك. فمع جيمس جويس نحن إزاء عمل مزدوج. لدينا تينك الروايتان الضخمتان و ـ لم لا نقولها؟ ـ غير القابلتين للقراءة، يوليسيس ويقظة فينيغان. بيد أنهما تمثلان فقط نصف عمله ( الذي يتضمن أيضا قصائد جميلة والعمل الرائع: صورة الفنان شابا) والنصف الآخر الذي ربما هو أكثر الجوانب إيجابية (مثلما يقولون الآن) حقيقة أنه تصدى للغة الإنكليزية اللامتناهية تقريباً. تلك اللغة ـ وهي أكبر إحصائياً من كل اللغات الأخرى وتقدم الكثير من الإمكانات للكاتب، خصوصا في أفعالها المادية ـ لم تكن كافية له. لقد تذكر جويس، الآيرلندي، أن دبلن أنشأها الفايكنغ الدانماركيون، فدرس النرويجية ـ وكتب بها رسالة إلى إبسن ـ ثم درس اليونانية، واللاتينية.... لقد عرف كل اللغات، وكتب بلغة ابتكرها بنفسه، عسيرة على الفهم ولكنها موقعة بموسيقى غريبة. لقد جاء جويس بموسيقى جديدة إلى اللغة الإنكليزية، وقال، بشكل شجاع، (وكاذب) بأن " من بين جميع الأشياء التي وقعت لي، أعتقد أن العمى كان أقلها أهمية". إن جزءا من عمله الواسع كان قد أنجز في الظلام: كان يصقل الجمل في ذاكرته ـ عاكفا أحيانا يوما كاملا على جملة واحدة ـ ثم يكتبها ويصححها. كل ذلك في غمرة العمى أو خلال مراحل منه. وفي إطار المقارنة، كان العجز الجنسي لبويلو، وسويفت، وكانت، ورسكن، وجورج مور واسطة كئيبة للإنجاز الناجح لأعمالهم؛ ربما يقول قائل الشيء نفسه عن الشذوذ، الذي تأكد المستفيدون منه اليوم بأن لا أحد سوف يتجاهل أسماءهم. ديمقريطس اقتلع عينيه في حديقة حتى لا يلهيه مشهد الواقع: أوريجن أخصى نفسه.
لقد عددت ما يكفي من الأمثلة. بعضها جد لامع إلى حد يجعلني خجلا إذ أنني تحدثت عن حالتي الشخصية ـ ما عدا أن الناس يأملون دائما بالحصول على اعترافات وأنا ليس لدي سبب لأحرمهم من اعترافي، ولكن بالطبع، يبدو من العبث أن أضع اسمي إلى جانب أولئك الذين ذكرتهم.
لقد قلت أن العمى هو أسلوب حياة، هو ليس سيئا بالكامل. لنتذكر تلك الأبيات لأعظم شاعر إسباني، فيري لويس دي ليون:
أريد أن أعيش مع نفسي
أريد أن أتمتع بالخير الذي أدين به للسماء
بلا شهود
متحررا من الحب، ومن الغيرة
ومن الكره ومن الأمل ومن الخوف
لقد حفظ ادغار ألن بو هذا المقطع عن ظهر قلب.
بالنسبة لي، يسهل العيش بلا كره، لأنني لم أكره أبدا. أما العيش بلا حب، فأعتقد أنه مستحيل، وهو لحسن الحظ مستحيل بالنسبة لكل واحد منا. لكن الجزء الأول (أريد أن أعيش مع نفسي\أريد أن أتمتع بالخير الذي أدين به للسماء) إذا سلّمنا بإمكانية أن يكون ثمة في خير السماء ظلام أيضا، إذن من يعيش مع نفسه أكثر؟ من يستطيع أن يسبر غور نفسه أكثر؟ من يستطيع أن يعرف أكثر عن نفسه؟ وفقا لعبارة سقراطية، من يستطيع أن يعرف نفسه أكثر من الأعمى؟
إن الكاتب يعيش. مهمتك كشاعر مثلا ليست كاملة وفقا لجدول ثابت. لا أحد هو شاعر من الثامنة حتى الثانية عشرة، ومن الثانية حتى السادسة. كائنا من كان الشاعر هو دائما واحد، وهو وباستمرار عرضة لأن يهاجمه الشعر. أعتقد أن الرسام يشعر بأن الألوان والأشكال تحاصره. أو أن الموسيقي يشعر بأن عالما غريبا من الأصوات ـ العالم الأغرب للفن ـ يلاحقه، وبأن هناك تناغمات و تنافرات تبحث عنه. إن العمى، بالنسبة لفنان، ليس محنة كلية. قد يكون واسطة. فراي لويس دي ليون أهدى إحدى قصائده الغنائية إلى فرانسيسكو ساليناس، موسيقي أعمى.
على الكاتب والإنسان بشكل عام، أن يؤمن بأنه مهما يحدث له إنما هو مادة؛ كل شيء أُعطي لغاية. وهذا يصدق بشكل أقوى في حالة الفنان. وكل ما يحدث، بما في ذلك الإذلال، والإحراج، والمصائب، كلها قد مٌنحت له مثل الطين، مثل مادة يستخدمها المرء في فنه، لذا عليه أن يقبلها. لهذا السبب أتحدث في قصيدة عن طعام الأبطال القديم: الإذلال، التعاسة، النزاع. هذه الأشياء منحت لنا كي نحولها إلى أشياء أخرى، حتى يمكن أن نصنع من الظروف البائسة لحيواتنا أشياء سرمدية أو هي تطمح لأن تكون كذلك.
إذا فكّر الأعمى بهذه الطريقة فهو في أمان. إن العمى هبة. لقد أرقتكم بالهبات التي منحني إياها. وهبني العمى الأنكلوـ ساكسونية، وهبني بعضا من الاسكندنافية، وهبني معرفة أدب العصور الوسطى الذي كنت قد تجاهلته، وهبني فرصة تأليف كتب متنوعة، جيدة أو سيئة إلا إنها بررت اللحظة التي كتبت فيها. بالإضافة إلى ذلك، جعلني العمى أشعر أنني محاط بلطف الآخرين. فالناس يشعرون بالود إزاء العميان.
أود أن أختتم بعبارة لغوته: ( Alles Nahe werde fern ) كل شيء قريب يصبح بعيدا. كان غوته يشير فيه إلى الغروب. كل شيء قريب يصبح بعيدا. هذا صحيح. عند الغروب الأشياء القريبة منا تبدو أنها تبتعد عن عيوننا. هكذا ابتعد العالم المرئي عن عيني، ربما إلى الأبد.
ربما كان غوته يتحدث ليس فقط عن الغروب بل عن الحياة. كل الأشياء تختفي، مبتعدة عنا. قد تكون الشيخوخة هي العزلة القصوى ـ باستثناء أن العزلة القصوى هي الموت. و( كل شيء قريب يصبح بعيدا) أيضا تشير إلى الحدوث البطيء للعمى الذي كنت آمل أن أبين، خلال حديثي هذه الليلة، بأنه ليس محنة كلية. إنه وسيلة أخرى بين العديد من الوسائل ـ كلها غريبة جدا ـ التي يمدنا بها القدر أو الحظ.
ترجمة كريم جواد
الناس بشكل عام يتخيلون العميان مسجونين في عالم أسود. هناك، على سبيل المثال، عبارة شكسبير: (Looking on darkness which the blind do see). إذا فهمنا الظلام (darkness) على إنه السواد (blackness) فشكسبير على خطأ.
أحد الألوان التي لا يراها العميان ـ أو على الأقل لا يراها هذا الأعمى الذي أمامكم ـ هو الأسود؛ وآخر هو الأحمر. الأحمر والأسود هما اللونان اللذان تنكرا لنا. لقد كنت لمدة طويلة، أنا الذي اعتدت النوم في ظلام مطبق، أضيق بالنوم في هذا العالم الضبابي، في الضباب المخضر أو المزرق، المضيء بشكل غائم، الذي هو عالم العميان. كنت أريد أن أستلقي في الظلمة. إن عالم العميان ليس هو الظلام الذي يتخيله الناس. (ينبغي أن أقول أنني أتحدث نيابة عني، وعن أبي وجدتي، اللذين ماتا أعميين كلاهما ـ أعميين، ضاحكين وشجاعين، مثلما أتمنى أنا أيضا أن أموت. لقد ورثا أشياء عديدة ـ العمى، على سبيل المثال ـ لكن المرء لا يرث الشجاعة. وأنا أعرف أنهما كانا شجاعين).
يعيش العميان في عالم مربك، عالم غامض تنبثق منه بعض الألوان: بالنسبة لي، الأصفر، والأزرق (ما عدا أن الأزرق قد يكون أخضر)، والأخضر (ما عدا أن الأخضر قد يكون أزرق). الأبيض اختفى، أو أنه ملتبس بالرمادي. أما الأحمر فقد اختفى كليا. لكن آمل أنني يوما ما – إذ أنني أتبع علاجا ـ سأتحسن وأكون قادرا على رؤية ذلك اللون الرائع، ذلك اللون الذي يتألق في الشعر، والذي له الكثير من الأسماء الجميلة في لغات عديدة. لنأخذ scharlach في الألمانية، scarlet في الإنكليزية، escarlata في الإسبانية، ecarlate في الفرنسية. كلمات جديرة بذلك اللون الرائع. وعلى العكس يبدو Amarillo الأصفر، ضعيفا في الإسبانية. وفي الإنكليزية يبدو على نحو أكثر كـ (yellow) الأصفر. أعتقد أنه في الإسبانية القديمة كان يدعى amariello.
أقيم في ذلك العالم من الألوان، وأنني إذ أتحدث عن عماي المتواضع، فأنا أفعل ذلك لأنه، أولا، ليس بالعمى المثالي الذي يتخيله الناس، وثانيا، لأنه يخصني. بيد أن حالتي ليست درامية على نحو خاص. الدرامية هي حالات أولئك الذي يفقدون بصرهم بشكل مفاجئ. أما في حالتي، فقد بدأ ذلك الإعتام البطيء، فقدان البصر البطيء، منذ بدأت أرى، واستمر منذ العام 1899 بدون لحظات درامية، إعتام بطيء استمر لأكثر من ثلاثة أرباع القرن. في العام 1955 حدثت اللحظة المؤسية عندما علمت بأنني قد فقدت بصري: بصر قارئي وكاتبي.
في حياتي كُرمت بالعديد من المناصب التي لا استحقها، غير أن واحدا منها أسعدني بشكل أكبر من الأخريات: مديرية المكتبة الوطنية. فلأسباب سياسية أكثر منها أدبية، اختارتني حكومة Aramburu لهذا المنصب.
عينت مديرا للمكتبة، وعدت إلى تلك البناية التي كانت لي معها ذكريات كثيرة جدا، والتي تقع في شارع Mexico في Monserrat، جنوبي المدينة. لم أكن قد حلمت يوما بإمكانية أن أكون مديرا للمكتبة. كانت لدي ذكريات من نوع آخر، من قبيل ذهابي إلى هناك ليلا بصحبة أبي، وهو بروفيسور علم نفس، كان يطلب كتابا لبرغسون أو وليم جيمس، اللذين كانا مفضلين لديه، أو ربما لغوستاف شبيلر. أما أنا فكنت، خجلا جدا من أن أطلب كتابا، أتطلع إلى بعض أجزاء موسوعة المعارف البريطانية أو موسوعتي بروكهاوس وماير الألمانيتين، آخذ جزءا لا على التعيين من الرف وأقرأ. أتذكر في إحدى الليالي أنني كوفئت بشكل خاص لأنني قرأت ثلاث مقالات عن the Druids، the Druses، and Dryden _ هبة الحرفين DR . الليالي الأخرى كنت أقل حظا.
عرفت أن بول غروساك كان في تلك البناية. وكان يمكن أن ألتقي به شخصيا، لكنني كنت حينذاك على قدر كبير من الحياء؛ تقريبا كما أنا الآن. إذ كنت أؤمن وقتها بأن الحياء (Shyness) مهم جدا، ولكنني أعرف الآن أنه أحد الشرور التي على المرء أن يحاول تجاوزها، وأنه في الواقع لا يهم أن تكون ذا حياء ـ إنه مثل أشياء عديدة أخرى يعطيها المرء أهمية مفرطة .
تسلمت المنصب في نهاية العام 1955. كنت مسؤولا، حسب ما قيل لي، عن مليون كتاب. لاحقا علمت أنها تسع مائة ألف ـ عدد كان أكثر من كاف. ( وربما تبدو التسع مائة ألف أكثر من مليون).
شيئا فشيئا أدركت السخرية الغريبة للأقدار. فلطالما تخيلت الفردوس كنوع من مكتبة، بينما هي عند الآخرين حديقة أو قصر. في المكتبة، كنت على نحو ما مركزا لتسعمائة ألف كتاب في لغات مختلفة، لكنني اكتشفت أنني بالكاد أستطيع أن أتبين صفحات العناوين وظهور الكتب. لقد كتبت (قصيدة الهبات) التي تبدأ بـ:
ليس لأحد أن يبخس بالشكوى
والعتاب بيان جلال الرب
الذي بسخرية مدهشة
وهبني الكتب والظلام في آن واحد.
الهبتان اللتان نقضتا إحداهما الأخرى: الكتب التي لا تحصى والظلام، أي العجز عن قراءتها.
تخيلت كاتب تلك القصيدة هو غروساك، إذ أن غروساك كان كذلك مديرا للمكتبة وكذلك أعمى. بيد أنه كان أكثر شجاعة مني فبقي صامتا. مع ذلك عرفت أنه كانت هناك، بالتأكيد، لحظات تماثلت فيها مصائرنا، فكلانا كان قد أصبح أعمى، وكلانا أحب الكتب. لقد رفد هو الأدب بكتب أرفع مستوى بكثير من كتبي. لكن كلانا كان كاتبا، وكلانا مرَّ بمكتبة الكتب المحرمة ـ قد يسميها البعض، بسبب من عيوننا المطفأة، مكتبة الكتب الغفل، كتب بلا حروف. لقد كتبت عن سخرية الرب تلك، قصيدة، تساءلت في نهايتها أي منا كان قد كتب تلك القصيدة عن أنا جمع وظلام مفرد.
تجاهلت آنذاك، حقيقة أنه سبق وكان هناك مدير آخر للمكتبة، وكان أعمى: خوسيه ميرمول. هنا يظهر الرقم ثلاثة، الذي يحسم كل شيء. اثنان مجرد مصادفة؛ ثلاثة تأكيد، تأكيد ثلاثي الترتيب، تأكيد إلهي أو لاهوتي.
كان ميرمول مديرا للمكتبة عندما كانت تقع في شارع Venezuela. إن من المألوف هذه الأيام أن نتحدث بسوء عن ميرمول، أو ألا نتذكره مطلقا. ولكن يجب أن نتذكر أننا حين نتحدث عن عصر روساس، فنحن لا نفكر في الكتاب الرائع لراموس ميخيا (روساس وعصره)، وإنما بذلك العصر كما يرد وصفه في رواية ميرمول الفضائحية بشكل مدهش: La Amalia . إن نقل صورة عصر أو بلد إلى الأجيال اللاحقة ليس مجدا ضئيلا.
لدينا إذن ثلاثة أشخاص تقاسموا المصير نفسه، وكذلك ـ بالنسبة لي ـ متعة العودة إلى فرع Monserrat في الجنوب. لأن الجنوب، كان بالنسبة للكل في بوينس ايريس، وبطريقة غامضة، المركز السري للمدينة، وليس المركز الآخر ذو الطابع شبه الاستعراضي، الذي نريه للسياح ـ في تلك الأيام كانت هناك أواصر اجتماعية ليست بالعادية تسمى الـ Barrio de San Telmo . ولكن حدث وأصبح الجنوب المركز السري المتواضع لبوينس آيريس.
عندما أفكر ببوينس آيريس فأنا أفكر ببوينس آيريس التي عرفتها صغيرا: البيوت المنخفضة، الباحات، الشرفات، أحواض الماء بسلاحفها، النوافذ المشبكة. لقد كانت بوينس آيريس كل بوينيس آيريس. أما الآن فالقسم الجنوبي فقط لا يزال باقيا منها. لقد شعرت بأنني أعود إلى الحي الذي قطنه أسلافي.
كانت هناك الكتب، لكن كان علي أن أسأل أصدقائي عن عناوينها. لقد تذكرت عبارة لرودولف شتاينر، في كتبه عن الأنثروبوسوفيا، وهو الاسم الذي أطلقه على الثيوبوسوفيا الخاص به. قال عندما ينتهي شيء لا بد أن نفكر بأن شيئا يبدأ. نصيحته مفيدة ولكن يصعب العمل بها، لأننا نعرف فقط ما فقدناه، لا ما سنحصل عليه. لدينا صورة محددة ـ صورة مخزية أحيانا ـ لما فقدناه، ولكننا نجهل ما قد يليه أو يحل محله.
لقد اتخذت قرارا. قلت لنفسي: بما أنني خسرت عالم المرئيات الحبيب، لا بد أن ابتكر شيئا آخر. في ذلك الوقت، كنت بروفيسورا للأدب الإنكليزي في الجامعة. ما الذي كان بإمكاني فعله لتدريس ذلك الأدب اللامتناهي تقريبا، ذلك الأدب الذي يتخطى حياة إنسان واحد، وحتى حياة أجيال من البشر؟ ماذا كان بإمكاني أن أفعل خلال أربعة أشهر أرجنتينية حافلة بالمناسبات الرسمية والإضرابات؟ لقد قمت بما استطعت لتدريس حب ذلك الأدب، وأحجمت ما أمكن عن التواريخ والأسماء.
بعض الطالبات جئن لمقابلتي، وكن قد أجرين الامتحان واجتزنه. ( كل الطلاب ينجحون لدي) قلت للفتيات ـ وكان هناك تسع أو عشر ـ: " لدي فكرة، الآن وقد اجتزتن الامتحانات، وأديت واجبي كبروفيسور، ألن يكون من الشيق أن ننكب على دراسة لغة أو أدب بالكاد نعرفه؟ سألنني: أية لغة وأي أدب. " حسنا، بالطبع اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي. لنشرع بدراستهما، الآن ونحن في حل من عبث الامتحانات؛ لنبدأ من البداية.
تذكرت أنه لدي في البيت كتابان، يمكن أن أعود إليهما. كنت قد وضعتهما على أعلى رف معتقدا أنني لن استخدمهما قط. كان الكتابان (Sweet's Anglo-Saxon Reader) و (The Anglo-Saxon Chronicle). كلاهما تضمن مسردا بالمصطلحات. وهكذا اجتمعنا صباحا في المكتبة الوطنية.
قلت مع نفسي: لقد خسرت العالم المرئي، ولكنني الآن سأستعيض بآخر، هو عالم أجدادي القدماء، أولئك الذين جدفوا عبر البحار الشمالية العاصفة قبائل من البشر، من ألمانيا، والدانمارك والبلاد المنخفضة، أولئك الذين غزوا إنكلترا، وصرنا بعدهم نسميها (England) إنكلترا ـ بما أن (Angle-Land) وتعني أرض الملائكة كانت قبل ذلك تسمى أرض البريتون(Britons) الذين كانوا سلتيين (Celts)
كان صباح سبت، حين اجتمعنا في مكتب غروساك، وأخذنا نقرأ. لقد كان جوا ملأنا بالرضا والخجل، وفي الوقت نفسه بشيء من الفخر. وقد أضفت حقيقة أن الساكسون، مثل الاسكندنافيين، استخدموا حروفا رونية (runic letters) لإبراز صوتي الحرفينth كما في thing و the، مسحة من الغموض على الصفحة.
كنا نواجه لغة بدت مختلفة عن الإنكليزية ولكنها شبيهة بالألمانية. وقد حدث ما يحدث عادة عند دراسة لغة ما: فكل كلمة من الكلمات برزت كما لو كانت منقوشة، كما لو كانت طلسما. لهذا السبب تمتلك قصائد لغة أجنبية ما ميزة لا يستمتعون بها في لغاتهم الأصلية، لأننا نسمع، ونرى كلماتها، كل كلمة على حدة، نفكر في جمال الكلمات وقوتها أو ببساطة في غرابتها.
كنا محظوظين ذلك الصباح. وقعنا على العبارة التي تقول أن (يوليوس قيصر كان أول روماني يكتشف إنكلترا) آلفين أنفسنا مع الرومان في نص عن الشمال، الأمر الذي أثارنا. يجب أن تتذكروا بأننا لم نكن نعرف شيئا عن تلك اللغة: كل كلمة كانت بمثابة طلسم استخرجناه من الأرض. لقد عثرنا على كلمتين، أصبحنا معهما سكارى تقريبا (صحيح أنني كنت عجوزا وهن كن شابات ـ وضع مثالي للسكر) شعرت: (أنني أعود إلى اللغة التي تكلمها أجدادي قبل خمسين جيلا؛ أعود إلى تلك اللغة؛ وبأنني أستعيدها. وبأنها ليست المرة الأولى التي أتكلمها؛ فهذه هي اللغة التي تكلمتها عندما كانت لي أسماء أخرى). الكلمتان كانتا أسم لندن Lundenburh، وأسم روما Romeburh ، الأمر الذي أثارنا أكثر ونحن نفكر بالضوء الذي كان قد نزل على تينك الجزيرتين الشماليتين. أعتقد أننا مضينا صارخين في الشوارع: (Romeburh…، Lundenburh ).
هكذا بدأت دراستي عن الأدب الأنكلوـ ساكسوني، تلك التي وهبني إياها العمى. والآن لدي ذاكرة ملآى بشعر رثائي، ملحمي أنكلوـ ساكسوني.
كنت قد استعضت عن العالم البصري بالعالم السمعي للغة الأنكلوـ ساكسونية. ثم اتجهت إلى العالم الأغنى للأدب الاسكندنافي: البطولات والملاحم. فكتبت (الأدب الألماني القديم) وقصائد عديدة قائمة على تلك الثيمات، ولكن الأهم أنني استمتعت بذلك. والآن أنا أعمل على كتاب حول الأدب الاسكندنافي.
لم أسمح للعمى أن يخيفني، وإلى جانب ذلك، قدم لي محرري عرضا ممتازاً: قال لي إذا أنا أنتجت ثلاثين قصيدة في العام، سينشر كتابا. ثلاثون قصيدة تتطلب انضباطا، خصوصا عندما يكون لزاما على المرء أن يملي كل سطر منها، ولكن في نفس الوقت تسمح بحرية كافية، لأنه من المستحيل أن لا يكون في سنة واحدة ثلاثون مناسبة لكتابة الشعر. وعليه، فالعمى لم يكن بالنسبة لي محنة كلية؛ ولا يجب النظر إليه بشكل مأساوي. يجب أن ينظر إليه بوصفه طريقة حياة: وواحداً من أساليب العيش.
إن للعمى حسناته. فأنا مدين للظلام ببعض الهبات: هبة الأنكلوـ ساكسون، معرفتي المتواضعة بالأيسلندية، متعة العديد من أبيات الشعر، العديد من القصائد، متعة إنجازي كتابا آخر معنونا بشيء من البهتان والغطرسة (في مديح الظلام).
أود الحديث الآن عن حالات أخرى، عن حالات لامعة. سأبدأ بذلك المثال الواضح عن صداقة العمى والشعر، بذلك الشاعر الذي يدعى بـ: أعظم الشعراء: هومير. (نحن نعرف عن شاعر إغريقي أعمى آخر، تاميريس، الذي فُقدت أعماله. كان تاميريس قد هُزم في معركة مع آلهة الشعر التي كسرت قيثارته، وسلبته بصره)
كانت لأوسكار وايلد فرضية غريبة، فرضية لا أعتقد أنها صحيحة تاريخياً، ولكنها مقبولة فكريا . إن الكتّاب، بشكل عام، يحاولون أن يبدو عميقين في ما يقولون؛ وايلد كان رجلا عميقا حاول أن يبدو سطحيا. أرادنا أن ننظر إليه كمجادل؛ أرادنا أن نعتبره كما اعتبر أفلاطون الشعر بوصفه (الشيء المجنح، المتقلب، المقدس). حسنا، إن ذلك الشيء المجنح المتقلب المقدس المدعو أوسكار وايلد، بيّن بأن القدماء، صوروا، وبشكل مدروس، هومير أعمى.
نحن لا نعرف إن كان هومير قد وجد. وحقيقة أن سبع مدن تنافست؟؟؟ على حمل اسمه تكفي لحملنا على الشك في تاريخيته. ربما لم يكن هناك هومير واحد؛ ربما كان هناك عدد من الشعراء الإغريق الذين نقنعهم باسم هومير. فالآداب القديمة تشترك في أنها تقدم لنا شاعرا أعمى، ومع ذلك، فشعر هومير بصري، عادة بصري بشكل باهر ـ كما كان إلى درجة أقل بكثير شعر اوسكار وايلد.
لقد أدرك وايلد بأن شعره كان بصريا جدا، فأراد أن يعالج نفسه من ذلك العيب. أراد أن يكتب شعرا يكون سمعيا موسيقيا ـ لنقل مثل شعر تينسون، أو شعر فرلين، اللذين أحبَهما وأعجب بهما أيضا. قال وايلد أن الإغريق ادعوا بأن هومير أعمى للتأكيد على أن الشعر لا بد أن يكون سمعيا، وليس صوريا. من ذلك جاءت مقولة فرلين والرمزية المعاصرة لوايلد: (de la musique avant toute chose) الموسيقى قبل كل شيء.
من الممكن أن نصدق بأن هومير لم يوجد قط، لا أن يكون الإغريق قد تخيلوه أعمى للتأكيد على حقيقة أن الشعر، هو قبل كل شيء، موسيقى؛ وأن الشعر، قبل كل شيء، القيثارة؛ وبأن الصوري يمكن أو لا يمكن أن يوجد في شاعر. أعرف عن شعراء صوريين عظام وشعراء عظام غير صوريين ـ شعراء فكريين، شعراء ذهنيين ـ لا حاجة لذكر أسماء.
لنأخذ مثال ميلتون. عمى ميلتون كان طوعيا. لقد علم منذ البداية بأنه سيكون شاعرا عظيما. ومثل هذا حدث مع شعراء آخرين: كولريدج ودكوينسي، عرفا، قبل أن يكتبا بيت شعر واحد، أن قدرهما سيكون أدبيا. أنا أيضا، إذا جاز لي ذكر اسمي، علمت دائما بأن قدري كان، قبل كل شيء، قدرا أدبيا ـ وأن أمورا سيئة وبعض الأمور الجيدة ستحدث لي، لكن، على المدى البعيد، كل ذلك سيتحول إلى كلمات. خصوصا الأشياء السيئة، بما أن السعادة لا تحتاج إلى تحويل: السعادة هي نهايتها الخاصة.
لنعد إلى ملتون. لقد أتلف بصره في كتابة كراريس تأييد لإعدام البرلمان للملك. قال ملتون بأنه فقد بصره بإرادته دفاعا عن الحرية؛ تكلم عن تلك المهمة النبيلة ولم يشكُ عماه قط. ضحى ببصره، وبعد ذلك، تذكر رغبته الأولى، في أن يصبح شاعرا. لقد اكتشفوا في جامعة كامبردج مخطوطا يحضّر فيه ميلتون الشاب مواضيع متنوعة لقصيدة طويلة.
فقد كتب يقول: " ربما أترك عملا ما مكتوبا بشكل جيد إلى المستقبل، بحيث يحفظونه من الزوال عن طيب خاطر"، مدرجا عشرة أو خمسة عشر موضوعا، غير مدرك بأن واحدا منها سيكون نبوءة، وهو موضوع شمشون. لم يكن يعلم بأن مصيره سيكون، على نحو ما، مصير شمشون؛ شمشون الذي كان قد تنبأ بالمسيح في العهد القديم، وكذلك تنبأ بملتون، وبدقة أكبر. ما أن علم ميلتون بأنه سيصاب بعمى دائم انكب على عملين تأريخيين هما مختصر تاريخ موسكو، وتاريخ إنكلترا، اللذين بقيا كلاهما غير كاملين. وبعد ذلك، القصيدة الطويلة (الفردوس المفقود). كان يبحث عن ثيمة يمكن أن تكون مثار اهتمام كل البشر، ليس فقط الإنكليز. الموضوع كان آدم، أبانا المشترك.
قضى ملتون جزءاً كبيراً من وقته وحيداً، يقرض الشعر، وقد امتلأت ذاكرته. كان يحفظ أربعين أو خمسين بيتا عشري الوزن من الشعر المرسل في ذاكرته، ثم يمليهم على أي زائر يأتي. فبهذه الطريقة كُتبت القصيدة كلها. لقد فكر في مصير شمشون، شبيها جدا بمصيره الخاص، ففي هذه الإثناء كان كرومويل قد مات وعادت الملكية. كان ميلتون قد عُذّب وكان يمكن أن يحكم عليه بالموت لتأييده إعدام الملك. ولكن حين قدموا للملك تشارلز الثاني ـ إبن الملك تشارلز الأول (المعدوم) ـ قائمة بأسماء المحكومين بالإعدام، وضع قلمه جانبا وقال بطريقة لا تخلو من نبل (يوجد في يدي اليمنى شيء لا يسمح لي بتوقيع عقوبة إعدام). لقد أُنقذ ميلتون، وكثيرون معه.
ثم كتب شمشون، محاولا تأليف مأساة إغريقية، حيث الفعل يجري في يوم واحد، هو آخر يوم في حياة شمشون. لقد فكر ميلتون بنقاط التشابه في مصيرهما، حيث أنه كان، مثل شمشون، رجلا قويا هُزم في النهاية، وكان أعمى. فكتب تلك الأشعار التي وفقا لـ لاندور، وضع علامات تنقيطها بشكل سيئ، إلا إنها في الواقع كان يجب أن تكون ( أعمى، في غزة، عند الطاحونة، مع العبيد) ـ كما لو كانت المحن تنصب جميعها على شمشون.
لدى ملتون سونيتة يتحدث فيها عن عماه، تتضمن بيت شعر يمكن للمرء أن يعرف أن الذي كتبه أعمى. عندما توجب عليه أن يصف العالم، قال: ( في هذا العالم المظلم والواسع). هذا هو بالضبط عالم العميان عندما يكونون وحيدين، يسيرون وأيديهم ممدودة بحثا عن مرتكز. هنا لدينا حالة ـ أكثر أهمية من حالتي ـ عن رجل يتجاوز عماه ويقوم بعمله: الفردوس المفقود، الفردوس المستعاد، أفضل سونيتاته، جزء من تاريخ إنكلترا، من البداية حتى الغزو النورمندي. لقد أنجز كل ذلك وهو أعمى، وكان يجب أن يُملى كله على زوار عابرين.
الأرستقراطي البوسطني بريسكوت كان قد استعان بزوجته. إذ أفقده حادث، عندما كان طالبا في هارفرد، إحدى عينيه وتركه شبه أعمى في الأخرى. فقرر أن يكرس حياته للأدب. درس وتعلم آداب إنكلترا، وفرنسا، وإيطاليا وإسبانيا. فقدمت له إسبانيا الإمبراطورية عالما توافق مع رفضه الصارم للعصر الديمقراطي. لقد تحول من دارس إلى كاتب، وكان يملي على زوجته التي كانت أيضا تقرأ له تواريخ غزو المكسيك والبيرو، وحكم الملوك الكاثوليكيين وفيليب الثاني. كان ذلك جهدا مبهجا، يكاد يكون متكاملا، استغرق أكثر من عشرين عاما.
ثمة مثالان أقرب إلينا. كنت قد ذكرت الأول سابقا، بول غروساك، الذي كان قد نُسي ظلما. فالناس ينظرون إليه الآن كمتطفل فرنسي في الأرجنتين. لقد قيل بأن عمله التاريخي تم تجاوزه، وبأن المرء اليوم يلجأ إلى مصادر تفوقه أهمية. لكنهم ينسون بأن غروساك مثل كل كاتب، ترك عملين: الأول موضوعه، والثاني أسلوب إنجازه. لقد بعث غروساك الروح في النثر الإسباني. قال لي آلفونسو ريز، أعظم ناثر في الإسبانية في كل العصور: " لقد علمني غروساك كيف يجب أن تكتب الإسبانية". فقد تغلب غروساك على عماه وخلف أفضل ما كُتب من نثر في بلدنا. وسيبقى من دواعي سروري أن أتذكر ذلك.
لنأخذ مثالا آخر، لشخص هو أكثر شهرة من غروساك. فمع جيمس جويس نحن إزاء عمل مزدوج. لدينا تينك الروايتان الضخمتان و ـ لم لا نقولها؟ ـ غير القابلتين للقراءة، يوليسيس ويقظة فينيغان. بيد أنهما تمثلان فقط نصف عمله ( الذي يتضمن أيضا قصائد جميلة والعمل الرائع: صورة الفنان شابا) والنصف الآخر الذي ربما هو أكثر الجوانب إيجابية (مثلما يقولون الآن) حقيقة أنه تصدى للغة الإنكليزية اللامتناهية تقريباً. تلك اللغة ـ وهي أكبر إحصائياً من كل اللغات الأخرى وتقدم الكثير من الإمكانات للكاتب، خصوصا في أفعالها المادية ـ لم تكن كافية له. لقد تذكر جويس، الآيرلندي، أن دبلن أنشأها الفايكنغ الدانماركيون، فدرس النرويجية ـ وكتب بها رسالة إلى إبسن ـ ثم درس اليونانية، واللاتينية.... لقد عرف كل اللغات، وكتب بلغة ابتكرها بنفسه، عسيرة على الفهم ولكنها موقعة بموسيقى غريبة. لقد جاء جويس بموسيقى جديدة إلى اللغة الإنكليزية، وقال، بشكل شجاع، (وكاذب) بأن " من بين جميع الأشياء التي وقعت لي، أعتقد أن العمى كان أقلها أهمية". إن جزءا من عمله الواسع كان قد أنجز في الظلام: كان يصقل الجمل في ذاكرته ـ عاكفا أحيانا يوما كاملا على جملة واحدة ـ ثم يكتبها ويصححها. كل ذلك في غمرة العمى أو خلال مراحل منه. وفي إطار المقارنة، كان العجز الجنسي لبويلو، وسويفت، وكانت، ورسكن، وجورج مور واسطة كئيبة للإنجاز الناجح لأعمالهم؛ ربما يقول قائل الشيء نفسه عن الشذوذ، الذي تأكد المستفيدون منه اليوم بأن لا أحد سوف يتجاهل أسماءهم. ديمقريطس اقتلع عينيه في حديقة حتى لا يلهيه مشهد الواقع: أوريجن أخصى نفسه.
لقد عددت ما يكفي من الأمثلة. بعضها جد لامع إلى حد يجعلني خجلا إذ أنني تحدثت عن حالتي الشخصية ـ ما عدا أن الناس يأملون دائما بالحصول على اعترافات وأنا ليس لدي سبب لأحرمهم من اعترافي، ولكن بالطبع، يبدو من العبث أن أضع اسمي إلى جانب أولئك الذين ذكرتهم.
لقد قلت أن العمى هو أسلوب حياة، هو ليس سيئا بالكامل. لنتذكر تلك الأبيات لأعظم شاعر إسباني، فيري لويس دي ليون:
أريد أن أعيش مع نفسي
أريد أن أتمتع بالخير الذي أدين به للسماء
بلا شهود
متحررا من الحب، ومن الغيرة
ومن الكره ومن الأمل ومن الخوف
لقد حفظ ادغار ألن بو هذا المقطع عن ظهر قلب.
بالنسبة لي، يسهل العيش بلا كره، لأنني لم أكره أبدا. أما العيش بلا حب، فأعتقد أنه مستحيل، وهو لحسن الحظ مستحيل بالنسبة لكل واحد منا. لكن الجزء الأول (أريد أن أعيش مع نفسي\أريد أن أتمتع بالخير الذي أدين به للسماء) إذا سلّمنا بإمكانية أن يكون ثمة في خير السماء ظلام أيضا، إذن من يعيش مع نفسه أكثر؟ من يستطيع أن يسبر غور نفسه أكثر؟ من يستطيع أن يعرف أكثر عن نفسه؟ وفقا لعبارة سقراطية، من يستطيع أن يعرف نفسه أكثر من الأعمى؟
إن الكاتب يعيش. مهمتك كشاعر مثلا ليست كاملة وفقا لجدول ثابت. لا أحد هو شاعر من الثامنة حتى الثانية عشرة، ومن الثانية حتى السادسة. كائنا من كان الشاعر هو دائما واحد، وهو وباستمرار عرضة لأن يهاجمه الشعر. أعتقد أن الرسام يشعر بأن الألوان والأشكال تحاصره. أو أن الموسيقي يشعر بأن عالما غريبا من الأصوات ـ العالم الأغرب للفن ـ يلاحقه، وبأن هناك تناغمات و تنافرات تبحث عنه. إن العمى، بالنسبة لفنان، ليس محنة كلية. قد يكون واسطة. فراي لويس دي ليون أهدى إحدى قصائده الغنائية إلى فرانسيسكو ساليناس، موسيقي أعمى.
على الكاتب والإنسان بشكل عام، أن يؤمن بأنه مهما يحدث له إنما هو مادة؛ كل شيء أُعطي لغاية. وهذا يصدق بشكل أقوى في حالة الفنان. وكل ما يحدث، بما في ذلك الإذلال، والإحراج، والمصائب، كلها قد مٌنحت له مثل الطين، مثل مادة يستخدمها المرء في فنه، لذا عليه أن يقبلها. لهذا السبب أتحدث في قصيدة عن طعام الأبطال القديم: الإذلال، التعاسة، النزاع. هذه الأشياء منحت لنا كي نحولها إلى أشياء أخرى، حتى يمكن أن نصنع من الظروف البائسة لحيواتنا أشياء سرمدية أو هي تطمح لأن تكون كذلك.
إذا فكّر الأعمى بهذه الطريقة فهو في أمان. إن العمى هبة. لقد أرقتكم بالهبات التي منحني إياها. وهبني العمى الأنكلوـ ساكسونية، وهبني بعضا من الاسكندنافية، وهبني معرفة أدب العصور الوسطى الذي كنت قد تجاهلته، وهبني فرصة تأليف كتب متنوعة، جيدة أو سيئة إلا إنها بررت اللحظة التي كتبت فيها. بالإضافة إلى ذلك، جعلني العمى أشعر أنني محاط بلطف الآخرين. فالناس يشعرون بالود إزاء العميان.
أود أن أختتم بعبارة لغوته: ( Alles Nahe werde fern ) كل شيء قريب يصبح بعيدا. كان غوته يشير فيه إلى الغروب. كل شيء قريب يصبح بعيدا. هذا صحيح. عند الغروب الأشياء القريبة منا تبدو أنها تبتعد عن عيوننا. هكذا ابتعد العالم المرئي عن عيني، ربما إلى الأبد.
ربما كان غوته يتحدث ليس فقط عن الغروب بل عن الحياة. كل الأشياء تختفي، مبتعدة عنا. قد تكون الشيخوخة هي العزلة القصوى ـ باستثناء أن العزلة القصوى هي الموت. و( كل شيء قريب يصبح بعيدا) أيضا تشير إلى الحدوث البطيء للعمى الذي كنت آمل أن أبين، خلال حديثي هذه الليلة، بأنه ليس محنة كلية. إنه وسيلة أخرى بين العديد من الوسائل ـ كلها غريبة جدا ـ التي يمدنا بها القدر أو الحظ.
ترجمة كريم جواد