تسللن بعد أن ودّعنَ الرجل وحفيدته شاكرات الصحبة والصدفة، وغادرن بهدوء. قالت لرفيقتها وهي تمسح دمعاً قد جرى من مقلتيها حباً وقلقاً وشوق: سبحان الله نهرب من طاريها* فنجده عند (شايب)* يجلس بجوارنا في كنيسة في لا (بلاكا) في أثينا في اليونان…
ما إن أكملت كلمة شايب حتى انتبهت لخطوات لاهثة ومناداة صوت أرهقه العمر والمشي السريع،تلفتت أم الضحكات فوجدته! هو نفسه كان يسرع الخطى رغم الوهن كان يبحث عن شيء ما، قصة ما، تاريخ ما، نسيه طويلاً وتجسد له هذا النهار ومع هاتين السيدتين…
توقفتا مندهشتين متسائلتين عما يريد.. فقال كنَّ ثلاث. فجاوبته إحداهما ضاحكة ثلاث؟ فجاوبها وشقيقات، فتابعت: هذه أحجية؟ فقال بل حقيقة، كنت أتحين الفرصة وأمرُّ ببيتهن أبيع السمك وأسرق النظرات فمثلهن ما رأت عيني…
تباطأت حركتهن في الزقاق الضيق على الأرضية المرصوفة جيداً وكأن من رصفها قد أنجز عمله وغادر قبل وقت قصير وترك خلفه عبق التاريخ وقدرته على البقاء !. أفسحن الطريق لبعض المارّة المسرعين، بعضهم يلتقط الصور، وبعضهم يتبادل التحايا، يبدو أنهم قادمون في مجموعة واحدة ومن نفس البلد هكذا بدا لهن من لون القمصان والعَلَم والسيدة التي تتقدمهم وتحكي بزهوٍ عن تاريخ بلادها التي علّمت الدنيا أبجديات الحضارة، هكذا يرتفع صوتها بغرور الشعوب التي صنع أجدادها الكثير واكتفوا هم بالفخر والعجرفة على باقي خلق الله، تمتمت إحداهن وواصلت السيدة الضحوك: صحتهم تمام فجاوبتها الوقور مبتسمة (معاطي)* ناس رايقة…
فأسرعت الأخرى: لا عليك منهم (خطيهم رانا نعطوهم بعين)*.. وانطلقت بضحكتها الهستيرية التي لا يتسع لها ولا يحدّها هذا الزقاق وتعرّجه وضيقه، وواصلت: يقول لك كن ثلاثة الرجل لديه ما يقول! نعم، ومن هن هؤلاء الثلاث سيدي؟. جاوبها: زبوناتي الدائمات، كنت أنتقي أحسن المحصول وأنظِّفَهُ وأشكِّكُ عشرة وأبقيها بعيدة عن قصبتي الطويلة التي احمّل عليها شُكُكَ* الأسماك لا بل أضعها في كيس لوحدها، وعندما أصل لمنتصف الزنقة* الضيقة وبالتحديد أمام بيتهن، أبدأ في المناداة فتخرج صبية جميلة لا تنطق بكلمة فأنا أعرف طلبهن فأقدم لها الكيس وتعطيني الثمن، وتطلب مني الإنتظار قليلاً لتحضر الشاي وخبز التنور الطازج وبعض عسل وسمن. أتناول كل هذا على عجل وأمضي شاكراً طيب وفادتها. حتى كان يوم أعده يوم أيامي التي كتبها الله لي والتي سيكتبها…
كنت أتجول في المكان مجهزاً الطلب الثمين.. وما أن ناديت حتى خرجت من نفس البيت ثلاث فتيات وقفن يتأملن هذا البائع القادم من (كريت) الحامل خير بحر يجمعه بهن، الشاب الذي به بعض وسامة، شعر أشقر وعينين ملونتين ببريق متوسطي خاص لا نجده إلا في خلق الله على ضفتي ذلك البحر الحاضن لشعوبه المميّزة! وصدرت عن دائمة الضحك، ضحكة إضافية فانتبه العجوز وإبتسم وفهم ولم يهتم وواصل: سأصفهنَّ لكنّ، واحدة طويلة والأخريان متوسطتي الطول وتجمعهن تقاطيع حلوة أنف شاهق وعيون مشرقة مشعة ذكاءً وخفة دم وكلهن خمريات، والطويلة تزين محياها وشوم صغيرة متوزعة تحت الشفة وعلى الأنف المشرئب إلى الأعلى. كانت لها نظرة تأتي بكريت وكل من فيها من رجال إلى (درنة) وسيعودون منها مكسوري الخاطر فمثلها لا يملأ عينه أحد. ثم صمت العجوز قليلاً وواصل: إلّا أنا !!. من سيمسك الضحوك وقد فقدت صوابها.
وهزّت ضحكتها هدوء الزقاق المتعرج وتسربت صدى الضحكات معه حتى وصلت لنهايته ورجّتْ أركانَ أثينا كلها. وانتقلت العدوى لرفيقتها الوقور وحاولت زجرها بغير فائدة غير أن الرجل لم يكترث متمماً حديثه غير مهتمٍ بردة فعلهن…
كنت أنزل الميناء كل اسبوع أبيع أسماكي وأتبضع من سوق درنة، فكريت بلد الفقراء ولا شيء فيها كنا نشتري القمح والأرز والسكر وكان الدراونة يستغربون حالنا وهيئتنا المزرية ويتعاطفون معنا ولنا معهم حكايات لا تنته. أحدنا مرّ من أمام مجموعة منهم تتسارى على المصطبة أمام جامع الصرواحي* فقال أحدالجالسين بصوتٍ عال: في جيب هذا الرقريقي* خمس سفريتات* فتحسس الرجل جيبه ليتأكد وأصيب برعبٍ شديد فليس في الجيب سوى خمس سفريتات! فانطلق يعدو صوب البحر وأقسم ألا يعود لمدينة يعلم أهلها ما في جيوب الأغراب !!
بادرته الضحوك: دعك منهم لا جديد فهذا حالهم، أخبرني عن أم النفايل*.. واصل: واضبتُ على المجيء وواضبتْ هي على الخروج وأخذِ السمك ودفع الثمن وكأس الشاي في يدها وكسرة خبز التنور والعسل والسمن. غرقتُ في العسل وخارت دفاعاتي وخوفي وحذري، كنّا نحكي أنا بعربيتي المكسورة وهي بلسانها الطلق الحَيّي. مرّ عام ونحن على هذا الحال أحضر السمك وتأتيني بالسمن والعسل فأغرق ولا أستغيث! حتى ذلك النهار الصيفي القائظ والهدوء يعمُّ المكان وأنا واقف معها أمام بيتهن فاذا بغيمة تمر أمام عينيّ وكأن السماء ادلهمّت فجأة ولم أر إلا خيالها يندفع داخل البيت وأنا بين شابين يمسكان بتلابيبي، وفهمت ما يجري ورميت القصبة الطويلة بحملها الثمين واندفعت نحو الميناء واحتميت بالمركب ومن فيه ورجوتهم سرعة الرحيل.
لازال لدى الساردة ما تقوله.……….
محبوبة خليفة Mahbuba Khalifa
[*] طاريها: ذكرها او الحديث عنها.
[*] شايب: عجوز.
[*] معاطي: حظوظ
[*] خَطَيهِمْ رانا نعطوهم بعين: اتركيهم لئلا يصابوا بالعين أو الحسد.
[*] شُكْك: مجموعة من الأسماك خمس أو عشر مربوطة بخيوط من سعف النخيل.
[*] الزنقة: الزقاق.
[*] الرقريق: يطلقه الدراونة على صيادي كريت.
[*] نفايل:وشم.
[*] سفريتة: هكذا تداول الناس الرواية وبحثت في أصل هذه العُملة ولم أجد لها ذكر في تاريخ العملات في اليونان.
نشرت على موقع السقيفة الليبية
- راجع: سيرة ضحكة [1].. (لابلاكا ذات صيف)
https://www.facebook.com/Assaqeefa/posts/785156602112619
ما إن أكملت كلمة شايب حتى انتبهت لخطوات لاهثة ومناداة صوت أرهقه العمر والمشي السريع،تلفتت أم الضحكات فوجدته! هو نفسه كان يسرع الخطى رغم الوهن كان يبحث عن شيء ما، قصة ما، تاريخ ما، نسيه طويلاً وتجسد له هذا النهار ومع هاتين السيدتين…
توقفتا مندهشتين متسائلتين عما يريد.. فقال كنَّ ثلاث. فجاوبته إحداهما ضاحكة ثلاث؟ فجاوبها وشقيقات، فتابعت: هذه أحجية؟ فقال بل حقيقة، كنت أتحين الفرصة وأمرُّ ببيتهن أبيع السمك وأسرق النظرات فمثلهن ما رأت عيني…
تباطأت حركتهن في الزقاق الضيق على الأرضية المرصوفة جيداً وكأن من رصفها قد أنجز عمله وغادر قبل وقت قصير وترك خلفه عبق التاريخ وقدرته على البقاء !. أفسحن الطريق لبعض المارّة المسرعين، بعضهم يلتقط الصور، وبعضهم يتبادل التحايا، يبدو أنهم قادمون في مجموعة واحدة ومن نفس البلد هكذا بدا لهن من لون القمصان والعَلَم والسيدة التي تتقدمهم وتحكي بزهوٍ عن تاريخ بلادها التي علّمت الدنيا أبجديات الحضارة، هكذا يرتفع صوتها بغرور الشعوب التي صنع أجدادها الكثير واكتفوا هم بالفخر والعجرفة على باقي خلق الله، تمتمت إحداهن وواصلت السيدة الضحوك: صحتهم تمام فجاوبتها الوقور مبتسمة (معاطي)* ناس رايقة…
فأسرعت الأخرى: لا عليك منهم (خطيهم رانا نعطوهم بعين)*.. وانطلقت بضحكتها الهستيرية التي لا يتسع لها ولا يحدّها هذا الزقاق وتعرّجه وضيقه، وواصلت: يقول لك كن ثلاثة الرجل لديه ما يقول! نعم، ومن هن هؤلاء الثلاث سيدي؟. جاوبها: زبوناتي الدائمات، كنت أنتقي أحسن المحصول وأنظِّفَهُ وأشكِّكُ عشرة وأبقيها بعيدة عن قصبتي الطويلة التي احمّل عليها شُكُكَ* الأسماك لا بل أضعها في كيس لوحدها، وعندما أصل لمنتصف الزنقة* الضيقة وبالتحديد أمام بيتهن، أبدأ في المناداة فتخرج صبية جميلة لا تنطق بكلمة فأنا أعرف طلبهن فأقدم لها الكيس وتعطيني الثمن، وتطلب مني الإنتظار قليلاً لتحضر الشاي وخبز التنور الطازج وبعض عسل وسمن. أتناول كل هذا على عجل وأمضي شاكراً طيب وفادتها. حتى كان يوم أعده يوم أيامي التي كتبها الله لي والتي سيكتبها…
كنت أتجول في المكان مجهزاً الطلب الثمين.. وما أن ناديت حتى خرجت من نفس البيت ثلاث فتيات وقفن يتأملن هذا البائع القادم من (كريت) الحامل خير بحر يجمعه بهن، الشاب الذي به بعض وسامة، شعر أشقر وعينين ملونتين ببريق متوسطي خاص لا نجده إلا في خلق الله على ضفتي ذلك البحر الحاضن لشعوبه المميّزة! وصدرت عن دائمة الضحك، ضحكة إضافية فانتبه العجوز وإبتسم وفهم ولم يهتم وواصل: سأصفهنَّ لكنّ، واحدة طويلة والأخريان متوسطتي الطول وتجمعهن تقاطيع حلوة أنف شاهق وعيون مشرقة مشعة ذكاءً وخفة دم وكلهن خمريات، والطويلة تزين محياها وشوم صغيرة متوزعة تحت الشفة وعلى الأنف المشرئب إلى الأعلى. كانت لها نظرة تأتي بكريت وكل من فيها من رجال إلى (درنة) وسيعودون منها مكسوري الخاطر فمثلها لا يملأ عينه أحد. ثم صمت العجوز قليلاً وواصل: إلّا أنا !!. من سيمسك الضحوك وقد فقدت صوابها.
وهزّت ضحكتها هدوء الزقاق المتعرج وتسربت صدى الضحكات معه حتى وصلت لنهايته ورجّتْ أركانَ أثينا كلها. وانتقلت العدوى لرفيقتها الوقور وحاولت زجرها بغير فائدة غير أن الرجل لم يكترث متمماً حديثه غير مهتمٍ بردة فعلهن…
كنت أنزل الميناء كل اسبوع أبيع أسماكي وأتبضع من سوق درنة، فكريت بلد الفقراء ولا شيء فيها كنا نشتري القمح والأرز والسكر وكان الدراونة يستغربون حالنا وهيئتنا المزرية ويتعاطفون معنا ولنا معهم حكايات لا تنته. أحدنا مرّ من أمام مجموعة منهم تتسارى على المصطبة أمام جامع الصرواحي* فقال أحدالجالسين بصوتٍ عال: في جيب هذا الرقريقي* خمس سفريتات* فتحسس الرجل جيبه ليتأكد وأصيب برعبٍ شديد فليس في الجيب سوى خمس سفريتات! فانطلق يعدو صوب البحر وأقسم ألا يعود لمدينة يعلم أهلها ما في جيوب الأغراب !!
بادرته الضحوك: دعك منهم لا جديد فهذا حالهم، أخبرني عن أم النفايل*.. واصل: واضبتُ على المجيء وواضبتْ هي على الخروج وأخذِ السمك ودفع الثمن وكأس الشاي في يدها وكسرة خبز التنور والعسل والسمن. غرقتُ في العسل وخارت دفاعاتي وخوفي وحذري، كنّا نحكي أنا بعربيتي المكسورة وهي بلسانها الطلق الحَيّي. مرّ عام ونحن على هذا الحال أحضر السمك وتأتيني بالسمن والعسل فأغرق ولا أستغيث! حتى ذلك النهار الصيفي القائظ والهدوء يعمُّ المكان وأنا واقف معها أمام بيتهن فاذا بغيمة تمر أمام عينيّ وكأن السماء ادلهمّت فجأة ولم أر إلا خيالها يندفع داخل البيت وأنا بين شابين يمسكان بتلابيبي، وفهمت ما يجري ورميت القصبة الطويلة بحملها الثمين واندفعت نحو الميناء واحتميت بالمركب ومن فيه ورجوتهم سرعة الرحيل.
لازال لدى الساردة ما تقوله.……….
محبوبة خليفة Mahbuba Khalifa
[*] طاريها: ذكرها او الحديث عنها.
[*] شايب: عجوز.
[*] معاطي: حظوظ
[*] خَطَيهِمْ رانا نعطوهم بعين: اتركيهم لئلا يصابوا بالعين أو الحسد.
[*] شُكْك: مجموعة من الأسماك خمس أو عشر مربوطة بخيوط من سعف النخيل.
[*] الزنقة: الزقاق.
[*] الرقريق: يطلقه الدراونة على صيادي كريت.
[*] نفايل:وشم.
[*] سفريتة: هكذا تداول الناس الرواية وبحثت في أصل هذه العُملة ولم أجد لها ذكر في تاريخ العملات في اليونان.
نشرت على موقع السقيفة الليبية
- راجع: سيرة ضحكة [1].. (لابلاكا ذات صيف)
https://www.facebook.com/Assaqeefa/posts/785156602112619