موسكو 10/10/1968
صديقي فيصل!
فيصل دراج
بدأت أغوص في بحار مبهمة حيث أتوق إلى فراق الأشياء التي كانت مزروعة في داخلي. فقد غادرتني مدينتي، وتركتني مثقلاً بالأحاسيس اللزجة، وجعلت اللحظة الحاضرة تشبه إبرة الحاكي تنغرس بي، وتقول لي: إن هذه الطائرة، ذات المحركات الأربعة، تحملك الآن وهي لا تدري أتطير بك، أم بعد لحظات ستطير معها.
حين لاحت موسكو بوجهها الليلي المتعب، بدت لي كغول يفتح بطنه الكبير ويبتلعني، ثم أخذ لهاثه يبعث القشعريرة في جسدي، لكنه في الصباح أخرجني أرنباً في عالم من القطط. يعجز عن أن يفهم أي شيء من حوله، فلم يتبق لي بعدها إلا الحيرة. ها أنا يا صديقي أجول في شوارع موسكو! وبعدها لن يبقى لي إلا أن أقضي الساعات الطويلة بحثاً عن البيت الذي ننام فيه. يعود الليل، ثم يعود من جديد، فلا ينبعث في داخلي إلا صوت ذاك الارتطام الغامض. فأبدو كمكوك عتيق يسعى إلى أن ينسج شيئاً ما. لقد ثملت بالأحاسيس إلى حد جعلني لا أدرك أحاسيسي. قد يتوهم أحدنا أنه اكتشف نفسه وأنه «عرف ما يريد»، لكن ذلك يبقى رهناً بالارتطام الحقيقي مع العالم في مرجل الحياة الذي يغلي. عندها يعود ويرى أن ما عرفه عن ذاته، يترجرج في تلك الحرارة. فماذا ستفعل؟
تملكتني لحظة شوق غامرة للخلاص من ذلك الإبهام الذي استقبلتني به موسكو، لأبدأ بتذوق طعم هذه الغربة. فموسكو تستعد لاستقبال شتائها القاسي. تخفق للمرة الأولى في حياتي أمام عيني عصا المايسترو. فيتناهى صوت الضربة الأولى للموسيقى، وتتكاثف الأشياء وتتجمع دمعة في عيني، وتهب حبيبات القشعريرة على جلدي. إنه «بروكفيف» ويمحى من ذاكرتي دوران الأسطوانة السوداء. في رواية «الوضع البشري» لمالرو، ثمة صورة لذاك الألم الذي يشبه هذا الألم المتقوقع في داخلي وأحاول الخلاص منه، في الرواية يموت الأبطال، لكن لكل منهم ميتة خاصة به. الإرهابي العقائدي كيو يموت ويتحول جسمه إلى شظايا تلطم سيارة «تشاي كانشيك»، أما تشن الذي يعي أنه فقد نصفه الأسفل، وأن الشرطي المرتزق الذي يلكزه ككتلة لحمية مبهمة، فيتساءل: هل قُتل تشاي؟ يموت كيو! وتموت ماي بموت حبها. ويموت الأب بموت ابنه.. فلا يبقى إلا الألم من الوضع البشري.
■ ■ ■
تولوز (بلا تاريخ)
الصديق العزيز محمد!
أعتذر لتأخري في الكتابة إليك، والسبب هو الهموم اليومية، فقد رفضت دائرة التجنيد المصدّقة الدراسية وبذلك مزقت كل مشاريعي السابقة، واضطررت الى أن أذهب إلى باريس ومراجعة السفير والاحتجاج على هذا السلوك المرتجل.
وعلى هذا يا رفيق، فسأبقى في فرنسا خلال الصيف، وربما سأشتغل في حزيران وتموز وآب وأنتقل إلى جامعة «نانتير» في أول أيلول. جامعة «نانتير» تابعة لجامعة «السوربون»، وتقع في ضواحي باريس. وفي الحقيقة، فإن هذا التصرف الغبي اللامسؤول قد جعلني أكره دمشق والعودة إلى دمشق، على الرغم من أنني كنت أجتر ظل دمشق منذ أول الربيع. إن هذه الظلال العسكرية الغبية التي تجوب دمشق قد شوهت وجه دمشق، بل سملت العينين وقطعت الأنف. إن الإنسان الواعي يبدو كأرنب مذعور في هذه الصحراء من التفاهة والغباء، وأتعس ما في الحياة أن يرسم حياتك إنسان لا يعرف معنى الحياة.
كيف يحقق الإنسان ذاته في مجتمع ضيق؟
لا شك أن رحلتنا في الاغتراب لم تزل في بداية الطريق. بعدما غُصْنا في بحور الميتافيزيقا ومغامرات الدين، نعود لنرى هلوسات الفكر القومي وفراغه وأشكاله السمجة، ثم سئمنا من ترديدات الاشتراكية والإمبريالية، والحق أن جميع هذه الأشكال كانت ولم تزل تسير في بحر من التجريد والجهل، تهتم بكل شيء وتهمل الإنسان، الإنسان يطفو دائماً كنقطة ضائعة في مستنقع الإقطاع والبورجوازية ثم الظلال العسكرية. فالعسكري ذلك الإنسان الكاريكاتوري السميك اليد الفارغ الذهن الذي يفرز في مشيته وحديثه شكل البندقية، لا شك أنه بسطار العسكري يكسر القلم ويسحق الفكر. والآن ما علاقة الكلمة بالعالم؟
هل تستنزف الكلمة كل خصب العالم، أم أن الكلمة تشوّه شكل العالم وتقبع أمامه صامتة كسيحة؟ وهل كاميرا الفنان هي تجاوز للكلمة أم لا؟ وأيهما يصل إلى قلب العالم بحدة ووضوح أكثر؟ قلم الكاتب أم كاميرا الفنان؟ وبالنسبة للأسطوانة التي طلبتها سأرسلها لك في الأسبوع القادم، وأعتذر من جديد لتأخري في الكتابة. دمت لي أخاً ورفيقاً وصديقاً!
■ ■ ■
موسكو 20/3/1969
فيصل!
لست بورجوازياً. أتناول فطوري على عشب مانيه، وأقرأ تجربة الفكر البشري المعاصر، وهي تئن تحت ضربات مطارق عدة متفاوتة القوة دافعة الفلسفة إلى الرصيف.
ستظل الفلسفة محراباً ملازماً للإنسان؛ مهما تغير وجه العصر. أبداً لن تكون صليبه المرفوع على رؤوس صواريخ عابرة للقارات ... ولن تكون أفيوناً يخدر صراع الأبيض والأسود أو الإمبريالية والجوع أو حركة التحرر والصهيونية. البحث في الإنسان هو نقطة الأهمية الوحيدة المتبقية في وضع الفلسفة المعاصر. الآراء التي طرحتها في رسالتك حول العاطفة معتبراً إياها «شيء فيه كثير من البدائية والغباء» وحصرك لها «بالغريزة» ومفهومك المجرد حول «عاطفة حضارية تعانق بين الحب والحرية». تبدو لي على الرغم من أنه توصيف محدود، لكنه يسمو ويتألق إلى فكرة راقية للجمع بين الحب والحرية. فالعاطفة حقاً فردية، لكنها تتضمن في داخلها مستوى عالياً من الحس والإدراك، سواء للذات أو للآخر.. وهذا الإدراك في جوهره ليس إدراكاً عقلياً، بل شعور يرقى شيئاً فشيئاً إلى الحد الذي يصبح فيه سيالاً من الحس الذي يبحث للالتقاء مع مرآته. العاطفة شعور أن تحس الآخر، وأن تنسل إلى جوهره، أن تنشدّ إليه انشداداً يمزق الاغتراب عنه، وأن يحقق في داخلك وجداً شبه ميتافيزيقي. بدافع من الغريزة والحس الجمالي والقيم الاجتماعية، يتبلور هذا الوجد وينتقل إلى داخل الأنثى التي في داخلك. ثمة شبق إنساني في داخلنا للعلاقة مع العالم وكسر طوق الوحدة. أما العقل فليس له أكثر من دور وعي التجربة أو الكشف عنها. فالزمن ورتابة الحياة مسؤولان عن شحذ أو خمود العاطفة، وهذه حالة فردية تختلف مع اختلاف الشخصية. الأنا لحظة اليقظة، لحظة وعيها لذاتها، تثور للبحث عن جزيئياتها في الآخر. فيتخلق نوع من الشعور بالحب لهذا الآخر.. هذا الشعور هو وجد إنساني وهو انتصار الأنا على وحدتها.
■ ■ ■
باريس2/1/74
عزيزي محمد
يبدو لي أن الحوار معك صعب جداً، فهو ينتهي حال بدئه، وعندما يعود من جديد تكون تلك الجسور الأولى التي نصبت قد زالت وتهالكت، فنبدأ بنصب جسور جديدة سريعة الكسوف. لست أدري أهو عزوفك عنا أم كما يقال كثرة المشاغل. مع ذلك، فإني أحب أن أكتب إليك، فمن ناحية لا زلت أرى فيك صديقاً حقيقياً (هذا شعوري على الأقل) أرى فيه الكثير من نفسي، يتساكن فيه عالم قديم وعالم آخر يتجاوز هذا القديم، أرى فيك الماضي وتجاوزه أي الحاضر، عالمنا القديم، مدرستنا التي نسيت حتى اسمها، عالم التدريس المُكرَه، أحياؤنا القديمة، وصبي الكوّا وصحن الفول في الصباح، عالمنا القديم الذي كنا نسير فيه، في حين يسرح الخاطر والخيال خارج أسواره، البحث عن عالم آخر يبدو هلامياً وشفافاً، صعب التملك، لحظات ثرثرات قليلة تهدس بالفن وأرنست فيشر والاشتراكية والدون الهادئ. التكلم بقدسية وشوق عن مخلوقات نراها آلهة، في حين أن ما ألّهها هو ضحالة عالمنا المعيش، وليس قيمتها الحقيقية. كنا نعكس عليها بؤسنا وتمردنا الكسيح وأشواقنا وطموحنا كما يعكس البدائي صفاته المكبوتة والآسرة على إله صنعه هو من خيالاته، فليس الإله إلا محصلة الصفات الرائعة التي يملكها الإنسان ولا يستطيع أن يجعلها تمشي، فالتأليه تعبير عن العجز والبؤس، كأن ما خلف الأسوار إلهاً في حين كان عالمنا بلا تأليه، جسر الاتصال بين التأليه والوثنية هو الفقر والعجز. فنحن يا رفيق تلك الخيوط الهلامية التي خرجت من قفصها ثم ضاعت وتهالكت، فهي لا تحب العودة ويضنيها البعاد. آمل أن لا نقع على السور. أحوالي جيدة. أكتب الآن أطروحتي، أدافع عنها في 15 حزيران. نشرت مقالة بعنوان «الأدب والأيديولوجيا» في مجلة «الطريق» اللبنانية، كانون الأول 73؛ ومقالة عن ماركس والصهيونية في «شؤون فلسطينية». رأيت فيلماً سوفياتياً اسمه: الطائر الأبيض الملطخ بالسواد (أحسن فيلم سوفياتي لعام 1971) بنظري هو فيلم سيئ، تسيّد المخرج على الموضوع صفر. رأينا في باريس للمرة الرابعة «المخدوعون» لتوفيق صالح. فيلم مذهل رائع تكنيك الإخراج، يذكرني بفيلم سيدني بولاك: نحن نجهز على الأحصنة.
■ ■ ■
بيروت 24/1/1976
عزيزي ملص
دمت سالماً
لم أرك أو أسمعك منذ زمن. فأين موقعك الآن؟
أرسلت لك رسالة من إيطاليا فلم أتلقَ جواباً، فضاع اتصالنا كما تضيع الكثير من الأشياء.
بعد أكثر من سنتين من الرحيل والرجوع والضياع رجعت إلى بيروت. اشتغلت في
إيطاليا لمدة خمسة أشهر، شاهدت أشياء كثيرة وتعلمت اللغة الإيطالية،
وفقدت حس الاستقرار وحنين العائلة. تعيد الأيام إنتاج وإعادة إنتاج الإنسان فتختزل منه أشياء وتضيف إليه أخرى. تتراجع عوالم الطفولة كما تتراجع رومانسية زرقاء كسيحة ويتحول الإنسان أولاً بأول إلى شيء جديد، غير رومانسي ولا أزرق لكنه بالتأكيد واقعي.
يقول نيتشه: «عندما يطارد الصياد التنين يصبح تنيناً هو الآخر». أما التنين بالنسبة لي فهو الاستقرار والحصول على جواز سفر، والحصول على إذن عمل وإقامة، ورؤية الأهل والأصدقاء والمرور في المطارات دون أن أقف جانباً و...
عبر عملية المطاردة يفقد الإنسان أشياء عزيزة من نفسه. أشياء عزيزة
أسميها الآن أوهاماً أو أحلاماً بلا معرفة أو رؤية مثالية للواقع. لكن ذلك لا يعني أن يصبح الصياد تنيناً، بقدر ما يعني ضرورة أن يتخلّص الإنسان من التنين الذي يحمله في عقله وأعصابه وخيالاته: أوهامنا وأحلامنا الكبيرة.
لكل حلم زمانه، ولكل زمن حلمه. وأحلامنا كالفكرة المطلقة عند هيجل، تتكشف لذاتها شيئاً فشيئاً عبر الزمان، أي تتحقق ببطء وبالتقسيط. قيل لي ان صنع الله إبراهيم كان في بيروت، كنت أتمنى أن أراه. كما قيل لي انني «أنا» أخذت روايتك من دار ابن رشد ولم أرجعها، فذهبت إلى الدار وتبيّن أن الذي أخذها رجل يشبهني. أعمل في مركز الأبحاث (الفلسطيني). لماذا لا تزورني؟ هل أنهيت الجندية؟ هل أنت سعيد؟ هل عندك مشاريع جديدة ؟ هل صنع الله إبراهيم في دمشق؟
مع صداقتي
وفي انتظار اللقاء
****
موسكو 5/1 1969م
ذاكرة شهرين من الزمن.
بعيدًا عن الأفكار والنظريات؛ المثير بالنسبة لي خلال متابعتي للحياة في موسكو؛ هو أن النتاج الفني ليس في متناول الجميع فقط؛ بل مثار اهتمام ومتابعة من الجميع أيضًا، وأنه ليس موجهًا لشريحة محددة. فالباليه كفنٍّ مثارُ اهتمام الجميع. بالطبع يحتل الاتحاد السوفييتي مكانة دولية مهمة في هذا الفن؛ وأسماء رواده وراقصيه معروفة. فهم رواد برعوا بإخلاص صوفي عجيب في تفانيهم؛ كالراقصة الرائعة بليسيستسكايا التي تؤدي هذه الأيام عروضها الأخيرة لتجاوزها سن الأربعين.
لقد أحب الناس هنا هذه الفنانة وقدرها؛ وتوّجها كراقصة أولى لمرحلة طويلة؛ ولأدوار عديدة؛ ومنها «بحيرة البجع» بالطبع. لقد أحسست بمتعة كبيرة في تصفحي لصورها في أدوار عديدة؛ وفي الوقت ذاته شعرت برهبة تشدك إلى عالم أكثر نقاءً وروحانية لما تتركه في النفس من أن الإنسان يكون أكثر سعادة حين يجد نفسه؛ مهما كان الثمن الذي يدفعه من جسده وأعصابه وعمره؛ والذي لا يمتلكه إلا مرة واحدة في الحياة.
صديقي العزيز!
لقد أتى شتاؤنا وشتاؤنا قاس. ففي هذا الليل وصلت البرودة إلى حد أن تجمد الماء في أنفي. بي حيرة من الصور في داخلي؛ وبي رهبة من الرؤى الجديدة… بي خوف من تفتيت تجربتي وإعادة رصفها بقوة جديدة وعمق أكبر. وبي شعور بالحاجة للإطلال على الماضي كله، لكني أحتاج أن أمتلك نفسي. فالتجربة الراهنة في هذه الغربة وفي هذا البلد مثيرة وغنية، وتدفعك لاحتضانها بعمق.
يقول عبدالوهاب البياتي في «هبوط أورفيوس»:
« وينام الناس في أسحارها دون قبور
كالعصافير على حائط نور
وأنا أحملها فوق جبيني من عصور لعصور
أرتدي أسمالهم… أنفخ في ناي الوجود
الطريق أمامنا يا صديقي شاق وصعب. الأهم أن نعود دائمًا لأنفسنا ونحاول التأكد من أن أحاسيسنا حقيقية وأصيلة.
طريقنا أن نكتشف وسط الجدران المحطمة، ومن خلال أنقاضها، فكرًا وطريقًا. حتى يكون وجودنا تعبيرًا عن موقف يماثل في أخلاقيته وصدقه استمرارنا كوجود حي. تبقى هناك قضية قادرة على أن تستنزف الحياة من داخلنا… هي أن نحيا وأن نستمر في الحياة بصورة لا تتطابق مع مواقفنا الفكرية ولا تشكل ردنا على انفعالاتنا النفسية والروحية من هذا العالم.
محمد
****
باريس 20/3 1970م
صديقي البعيد!
الساعة الآن الواحدة ليلًا، المدينة تغوص منهكة في بحر الليل. أضواء الشارع باهتة، أشعر بغربة عميقة، فأغوص في معطفي، وأصرُّ نفسي وأمشي بثقل وبطء.
هذا اليوم أرسلت هدية إلى والدتي بمناسبة عيد الأم، الأم والغربة وأمطار باريس والليل تحقن قلبي مصلًا باردًا ثقيلًا، فأشعر أنني مبلل بالأسى. كنت قبل قليل أتجول في الحي اللاتيني لأزجر عدم الرضا بقضم متوالٍ لسندويتش تونسي: وأتسكع أمام الحوانيت ومخازن الكتب. عندما يكون الإنسان في البيت يتمنى أن يكون في غابة، وحينما يصل إلى الغابة يتمنى أن يرجع إلى البيت. تذكرت هذا وأنا أسير في الحي الشهير. لا يجمّل هذه المدينة إلا نهر السين، الذي تسبح فيه بهدوء أضواء المدينة المختلفة، فأقف ثوانيَ لأتساءل: هل يسبح السين في عالم من الأضواء، أم تسبح الأضواء في السين.
****
محمد ملص
الليل للغريب مخيف، مُطارد كريه، ذئب كاسر وسفاح، أنحني وأنوء تحت سقف الليل القاسي، ثم يجثو الإنسان ماشيًا، يموء ويموء من جرح عميق دماؤه لا ترى.
العالم شرائح متعددة، المترو يزحف باردًا أمامي. سكير عجوز، يروي لي عن حبه لجولييت، ثم يشرب نخبي، يقول في صحة من لا يصغي إلى قصة حبي، ثم يقول لي من جديد: هل يمكنك أن تغني بلا كلمات، فيبدأ بترديد لحن بحبل صوته، الذي يعلو ويهبط، ثم يلهث، ويسترد لهاثه ليقول لي:
ألا ترى أنني أغنّي بلا كلمات… الرجل يقول: إنه يشرب بصحة صديق له بعيد، كان دائم الغضب والعبوس، وحين جاءه الموت ابتسم. أنتقل إلى مترو آخر، المرأة التي تقطع التذاكر، عجوز جاوزت الخمسين، تقول لي: لا تبدو مرحًا، فالشباب لا هموم له!
أقول لها: شاب بلا أرض، إنسان لا وجه له، تسألني:
أليس لك أرض؟
فأجيب:
لا! فأنا لاجئ فلسطيني، إن هذا محزن إذن يا سيدتي! الهموم لا علاقة لها بالعمر، إنها مشكلة ظروف، شروط لا أكثر.
شاهدت فلم سام بيكنبا الأخير «كلاب القش» إنه فلم رائع، كنت أريد أن أكتب لك عنه ولكنني متعب، ومتعب أيضًا من جميع أنواع الكلاب التي تتجول في الشوارع والمكتبات والبيوت.
قرأت كتاب لبولجاكوف اسمه «شيطانيات وبيوض منذرة بالسوء»، لم يعجبني، سأكتب لك عنه قريبًا، وسأرسل لك قريبًا مجلة الطليعة.
****
بلا تاريخ.
رحلة إلى ڤيلنوس.
فيصل العزيز!
دعني أحدثك عن مغامرتي في الخروج من موسكو؛ والسفر بعيدًا عنها.
كان صديقي «أليغييز» الليتواني؛ قد دعاني لزيارة مدينته « ڤيلنوس»(1). فعاد إلي اليوم منتصرًا؛ وهو يلوح ببطاقة القطار. لقد استطاع أن يتجاوز ضرورة الحصول على الفيـزا المترتبة على الأجانب مثلي؛ إذا أرادوا التحرك أبعد من خمسين كيلو مترًا بعيدًا عن موسكو.
أحس بشيء غامض يجعلني مترددًا في هذا السفر. وفي الوقت ذاته لدي شيء من الفضول يجعلني أتعلق به. فتعلقي هذا يعود إلى رغبة عارمة للهروب من موسكو؛ والبحث عن شيء جديد! كما أن «ڤيلنوس» تتردد في داخلي كشيء جميل؛ ولها في نفسي دلالات وصور.
ما إن عاد أليغييز هرعنا إلى محطة القطار على الفور، حيث لم يكن قـد بقي إلا دقائق قليلة لتحرك القطار. وركضنا إلى الرصيف الطويل لنلحق بعربتنا. فلم يكن أمامنا إلا أن ندلف أي عربة لنصير أخيرًا داخل القطار الذي بدأ بتحركه.
لكن هذا كله لم يكن يعني بالنسبة لي؛ أننا قد تجاوزنا الصعوبات لتحقيـق هذه الرحلة؛ وكان لدي الشعور بأنه ما يزال أمامي الكثير.
كان المساء الآن في أوله بعد. السماء رمادية تمنح هذا المساء شيئًا من البهاء. وعَبْر نافذة العربة كان بياض الثلج المفروش على الجانبين يتربع على الأمكنة بسطوة.
أقف وراء النافذة وأترجرج مع الاهتزازات الرتيبة، مشدودًا إلى رؤية الأشياء وهي تمر من أمامي وتبتعد، ثم تهرب، فتتولد في داخلي إيقاعات من التشوق لم أكن قد ألفتها بعد.
رائحة العربة تتربص في داخلي كطعم لسفر طويل؛ لم أعتده فـي حياتي. فشعرت بتوجس من هذه العتمة؛ التي بدأت تزحف بسرعة وتبدد الصور التي تعبُر من أمامي.
رحلة القطار ستستغرق الليل الطويل كله. فالمسافة حوالي الألف كيلو متر؛ مما جعلني أحس أني هارب بحق، ومدفوع وراء مغامرة خاصة. فقد تمردت على الحق المسموح لنا كأجانب بالسفر خارج موسكو من دون إذن رسمي. وتركت الدوام والدروس في المعهد. وتواطأت مع أليغييز بأنه في حال الإمساك بنا، فكرة ساذجة لتبرير هذه الجريمة؛ بأن أدعي حاجتي تصوير لقطات في أحياء ڤيلنوس القديمة، التي كان يحدثني عنها أليغييز والتي بدت لي تشبه دمشق القديمة، التي يجب علي تصويرها في فلمي القادم. لذلك كان لا بد من زيارتها لاستطلاعها مبدئيًّا.
ساد الظلام الآن كليًّا.
****
باريس.. أوائل عام 1972م
عزيزي محمد
من الغريب والجميل في الوقت نفسه، أن يكون لفكرينا منحى واحد، فقد كنت أفكر هذا الأسبوع بما تفكر فيه أنت، وربما في رسالتي التي أرسلتها إليك منذ يومين، تجد ملامح مشابهة لما تقول في رسالتك. لا شك أن هذا المسار الذي سارت فيه صداقتنا؛ ناتج عن سببين، أولهما أن معرفتنا قامت على قاعدة ثقافية، وأن كلًّا منا لم يرَ من الآخر إلا جانبه الثقافي.
إن ذلك الإلحاح على البعد الإنساني والأصيل هو شيء رائع. مشاكلي هذا العام؛ لم تُتِح لي وقتًا لرسائل متكاملة، مشاكل نفسية ومالية وعاطفية، حياة بلا منطق قائمة على الرهان والمغامرة أفسدت لي كل العام الفائت.
ربما أن رسائلي كانت إليك مجدبة؛ لأن عالمي الثقافي والنفسي هذا العام كان إذا أردت يا صديقي مجدبًا. استولى عليّ حنين إلى الأهل والعائلة ودمشق، وإلى المعلّم الابتدائي الذي كنته.
في هذا الجو الخانق ضاع ماركس وضاع البحث وفقدت أشياء كثيرة. الآن تركت تولوز، لكني تركت فيها تسجيلي، مع كل ذلك أصبحت في السنة الثانية؛ أي الأخيرة من الدكتوراه. وأنجزت %40. والحقيقة أن عملية تراكم الثقافة يا صديقي مسألة لم تعد تجذبني، لا أجد فعلًا شيئًا جديدًا.
قرأتُ ماركس أولًا ومن دون عمق، ثم ركضت لاهثًا لقراءة عالم الثقافة المعاصر. غارودي بكل موضوعية مفكر خفيف صنعه أولًا دعاة الأحزاب الشيوعية، ثم صنعته من جديد دُور النشر البرجوازية، وفي كلا الحالين كان صورة مصنوعة ليس فيها أي شيء حقيقي. ماركوزه ما خلا كتابه العقل والثورة؛ يقدِّم تمارين ثقافية، تزويج ماركس وفرويد، البولوني آدم شاف، شارح بسيط وسيّئ لماركس.
أدرجت في الفهرس حول الأطروحة 200 (مفكر) وكلما انتهيت من أحدهم زاد احتقاري لعالم الفكر وزاد احترامي لماركس. في عالم الماركسية المعاصر، وإذا أردت منذ لينين حتى الآن؛ لا نجد أكثر من ثلاثة أسماء تستحق لقب مفكر أو فيلسوف ماركسي هم: غرامشي، وجورج لوكاش، ولويس آلتوسير على الرغم من قلة إنتاجه.
بالنسبة لقدومك إلى باريس تخبرني طبعًا قبل قدومك، بالنسبة لإنسان غريب لا يعرف باريس ولا يعرف اللغة (يَهْلَك) وينفق يوميًّا (100 ف) على الأقل، أما حالك فهو غير ذلك. يا صديقي تحتاج فقط إلى الوصول إلى باريس. بالنسبة للطعام والشراب والنوم والدخان والمواصلات أنا أؤمّنها لك بكل رحابة صدر، ولا شك أننا سنقضي وقتًا ممتعًا وسنتحدث في أشياء كثيرة؛ وسنرى أشياء كثيرة. ونحن في انتظارك.
دمت لي أخًا وصديقًا.
****
موسكو 10/10 1968م
صديقي!
بدأت أغوص في بحار مبهمة. فأنا أتوق إلى فراق الأشياء التي كانت مزروعة في داخلي. لقد غادرتني مدينتي وتركتني مثقلًا بالأحاسيس اللّزجة، فصارت اللحظة الحاضرة أشبه بإبرة الحاكي تنغرس بي، وهي تقول: إن هذه الطائرة ذات المحركات الأربع، تحملك الآن وهي لا تدري أتطير بك أم بعد لحظات ستطير معها. وحين لاحت موسكو بوجهها الليلي بدت لي كغول يفتح بطنه الكبيرٍ ويبتلعني، وأخذ لهاثه يبعث القشعريرة في جسدي. وفي الصباح أخرجتني أرنبًا في عالم من القطط. يعجز عن أن يفهم أي شيء من حوله، فلم يتبقَّ لي بعدها إلا الحيرة.
ها أنذا يا صديقي أجول في شوارع موسكو! وبعدها لن يبقى لي إلا أن أقضي الساعات الطويلة، بحثًا للعثور على البيت الذي وضعنا فيه؛ حيث سنعيش وسنتعلم وننام داخله.
يعود الليل، ثم يعود من جديد، فلا ينبعث في داخلي إلا صوت هذا الارتطام الغامض. فأبدو كمكوك عتيق يسعى أن ينسج شيئًا ما… لقد ثملت بالأحاسيس إلى حد أني لم أعد أدرك كُنْهها. قد يتوهم أحدنا أنه اكتشف نفسه، وأنه (يعرف ما يريد)، لكن ذلك يبقى رهنًا بالارتطام الحقيقي مع العالم في مرجل الحياة الذي يغلي. عندها يعود ويرى أن ما عرفه عن ذاته، يترجرج في تلك الحرارة.
فماذا ستفعل؟
تملّكتني لحظة شوق غامرة للخلاص من ذلك الإبهام الذي استقبلَتني به موسكو؛ لأبدأ بتذوق طعم هذه الغربة… وموسكو تستعد لاستقبال شتائها القاسي.
يتناهى إليَّ الآن صوت موسيقا بروكوفييف فتهب حبيبات القشعريرة على جلدي. ويمّحي من ذاكرتي الدوران العبثي للأسطوانة السوداء.
في رواية «الوضع البشري» لمالرو، ثمة صورة لذاك الألم الذي يشبه هذا الألم المتقوقع في داخلي وأحاول الخلاص منه… في تلك الرواية يموت الأبطال، لكن لكل منهم ميتة خاصة به. الإرهابي العقائدي (كيو) يموت ويتحول جسمه إلى شظايا تلطم سيارة (تشاي كان شيك)، أما (تشن) الذي يعي أنه قد فقد نصفه الأسفل، وأن الشرطي المرتزق الذي يلكزه ككتلة لحمية مبهمة، يتساءل:
هل قُتل تشاي؟ يموت كيو! وتموت ماي بموت حبيبها. ويموت الأب بموت ابنه… فلا يبقى إلا الألم من الوضع البشري.
****
بلا تاريخ
دمشق
أيها الصديق البعيد!
عذرًا لتأخري في الكتابة لك يا محمد! بم توحي إليك ثلوج موسكو؟ وما تشعر به وأنت ترى متاحف ومسارح موسكو وتتذكر حارات وأزقّة باب سريجة؟
كيف تسير الأمور معك؟ هل ما زلت أرنبًا بين القطط، أم أنك أصبحت قطًّا أهليًّا؟
عندما يطوِّح بي الخيال، أتأمل قبضة ثلج من موسكو، وأراني متجولًا في الساحة الحمراء وساحة مايكوفسكي. وهنا أسألك أيها الرفيق البعيد، أيهما أجمل الحقيقة أم الخيال؟ عندما يتجسد الحلم هل يفقد شيئًا من نقاوته وروعته؟! كل الأحلام تموت في بدايتها، أو في نهايتها.
كيف يتغلب الإنسان على الشعور بالغربة؟ وما معنى الحنين إلى الوطن الذي قرأنا عنه كثيرًا في القصص والروايات.
اليوم بدأ عندنا شهر رمضان المبارك. هل تحنُّ إليه أم تراه عادة من عادات العالم الثالث؟
أرى أن شهر رمضان يبعث في نفسي رعشة ورهبة وإجلالًا، بل وخزاتٍ طويلة تلجُ إلى أعمق أعماق نفسي. فأتساءل: هل هذا الشعور نتيجة للتربية المتوارثة، أم أنه رد فعل يفصح عن قصور الإنسان وعجزه. هذا العجز الذي يبدو جليًّا في ليلة ممطرة أو مرض ثقيل، ويبدو جليًّا أكثر حين نتفكّر في عظمة هذا الكون وأسراره.
والآن دعك من أسئلتي. ما مدى نجاحك في تعلم اللغة الروسية؟ أسألك ذلك لأعرف إن كان باستطاعتك أن تمدنا بجواب عن بعض الأسئلة. ناقش كثير من المفكرين الماركسيين في الشهر الأخير كتاب روجيه غارودي «واقعية بلا ضفاف» وكتابه الأخير «هل يمكننا أن نكون شيوعيين اليوم؟». المهم أن أفكاره تثير جدلًا يوميًّا، ويعتبره البعض أنه تحريفي، وأن تعريف الواقعية الاشتراكية في كتابه «واقعية بلا ضفاف»، تعريف فضفاض ومائع، بل إنه نحر معنى الواقعية الاشتراكية كلَّه.
أريد جوابًا استنادًا إلى رأي النقاد السوفييت إذا أمكن.
ذلك أن كتبهم المترجمة إلى العربية جملة بديهيات لا أكثر.
بالنسبة للكتب التي أريدها سأكتب لك أسماءها الآن، أما عن الثمن فتقول لي ما هو، ثم أرسله لك بالبريد أو أرسل لك بعض الحوائج إذا أردت، ولك الشكر.
الكتب المطلوبة هي:
1- «المشاكل الفلسفية لفيزياء الجزيئات الأولية». بالإنجليزية.
2- «مشاكل علم الجمال المعاصر».
3- «المنطق ونظرية المعرفة ووحدة الأضداد» للفيلسوف ب. كيدروف بالفرنسية، وهناك كتاب سنوي يخرج كل عام باسم «العلم والإنسانية»، وأي كتاب عن فلسفة العلوم أو المنطق الرياضي باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
ولك ألف شكر.
* **
[HEADING=3]موسكو 29 / 3 1969م[/HEADING]
[HEADING=3]صديقي فيصل![/HEADING]
يقول الشاعر الروسي الكبير ألكسندر بلوك: «الزمن يغفر للفنان كل الذنوب ما عدا ذنبًا واحدًا هو خيانة روح عصره…». فقد كان همُّ بروست أن يكتشف كل إنسان في ذاته رؤية جديدة للأشياء والناس.
لم ألتقِ بذاتي بعد. لم أمسك بها بعد. لم أكتشف العلاقة بينها والعالم المحيط بعد. فالإمساك بالذات هو الطريق لرؤية العالم والإبداع، ولكي أكون الشيء الذي أحلم به.
في الماضي كان حواري مع ذاتي أخرس. حين أطلُّ اليوم على هذه الذات أحس وكأني أطل على صندوق زجاجي لا قعر له. حين أتأمل زجاجه أرى الغبار المتراكم على حوافه… فالأشياء التي عشتها حتى الآن أشبة بركام بارد. كل ما أريده هو أن أعثر على الوسيلة التي تجعلني أرى العالم وأن أستبصر علاقتي بالأشياء المحيطة بي.
أقف اليوم أمام الحاضر برعب وذهول محاولًا وعيه وامتلاكه كي لا يفلت مني. فأصبو أن أتمكن من الوصول إلى التطابق بين الوعي وعلاقتي به. أعترف أن كل شيء لم يحقق ذاته بالشكل المطلوب. كأن كل ما رسمته لنفسي، وأنا أقدم على تجربة الحياة في بلد أجنبي، كان كأنه كذب على الذات. فالكثير من الطلبة المحيطين بي قطعوا شوطًا كبيرًا، وما زلت أدور في حلزون منخور. الذي يريد أن يصنع من ذاته شيئًا ما، لا بد له من العمل! لكن كل الأشياء ما تزال تبدو لي بعيدة. ولا تبدو أمامي القدرة على بناء شيء.
حين تعيش في مدينة كموسكو فإنك تغرق في عالمها، قد تنسى مشاهد تشييع الموتى مثلًا! فقد انتابني ذهول كبير وأنا أسير في موسكو حين لاحظت للمرة الأولى تكتلًا من الوجوه الحزينة، من ذوي الشعر الكثّ والأبيض الملوث بصفار دخان مديد، يلبسون ملابس فقدت ألوانها، ويسيرون بأقدام تزحف بلا رغبة نحو سيارة تحمل صندوقًا للموتى. وبدلًا من الصوت النحاسي لمؤذن ما، كان يتناهى حفيف آلات النفخ وهي تنشج حزنًا.
توقفت وتأملت المشهد الذي كان كافيًا ليحسسني بالنهايات. ثم ركضت فتاة صغيرة بفرح وهي تردِّد: أريد أن أرى حزن هؤلاء الناس! فتساءلت مع نفسي:
ترى هل الحزن واحد في هذا العالم؟!
****
تولوز.. رسالة بلا تاريخ
أخي العزيز محمد!
سلام وتحية.
ما كنت قد عبَّرت لك عنه كان مزيجًا من الاحتقار والغضب واليأس، فأن ترى تلك الكوميديا السوداء في الوطن العربي؛ شيء يخلع القلب. مجموعة من المهرجين يقودون مصير أمة مهزومة، لا شك أن وجود هؤلاء الأقزام يضاعف الهزيمة أو يوطدها ويؤبدها إذا أردت. ومما يزيد الصورة قتامة، تلك الجماعات البشرية التي تأكل وتشرب وتصفِّق وتعيش على العادات.
ماذا نفعل في تلك الصحراء البشرية؟ وهل هناك مكان نرمي به بعض البذور التي نحملها، إذا كنا نسقي بأنهار الوحل العائمة، وماذا ننتج في مجتمع سحابه لا يمطر وأرضه رملية؟
لا يزال امرؤ القيس يعشعش في كل رأس، وسيف عنترة البتار يلمع، في حين أن النابالم وصواريخ الفضاء أحالت شاعر القبيلة وفارسها إلى مهرج بلا بنطال.
يا رفيقي إننا بحاجة إلى مجتمع جديد، وإنسان جديد، إن العالم المعاصر أضحى من التعقد بحيث يحتاج إلى مضاعفة العمل ومضاعفة التخصص. لقد نام كل شيء، إنه موت في الحياة لن يعطيك إلا الحزن والاغتراب.
لست أدري ماذا أكتب لك عن الأخبار الأدبية والسينمائية، إذا كنت تهتم بشيء خاص يمكن أن أتابعه باستمرار لك. أبرز خبر عامٍّ هذا العام هو كتاب سارتر الجديد عن فلوبير بعنوان «أبله العائلة» وهو كتب يقع في ثلاثة أجزاء، 2000 صفحة، بدأه سارتر منذ عشرين عامًا، وقد قام بتطبيق التحليل الماركسي والتحليل النفسي على حياة فلوبير وأعماله. أفضل ما في فرنسا أبحاث النقد الأدبي، صدر حديثًا كتاب رائع كما يقال اسمه «بيوتيقا دوستويفسكي» لمؤلف سوفييتي. لا تزال ضجة هذا العام هي ألكسندر سولجنستين، صُوَرُه في كل مكان، طباعة فخمة لروايته، وخاصة الدائرة الأولى، دراسات مستمرة عنه، صدر له كتاب اسمه «الكاتب وحرية الرأي»، وصدر عنه كتاب اسمه: «أديب سوفييتي بوجه إنساني».
أعتقد أنه صهيوني. على كل حال تأتي قيمته هنا فقط من كونه أداة ضد الاتحاد السوفييتي. شاهدت هذا الأسبوع فلم فيسكونتي الأخير: «الموت في فينيسيا» المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لتوماس مان، الرواية لها طابع ذهني، إن عظمة فيسكونتي أنه استطاع تشخيص هذه المشاعر والأحاسيس التي تملأ هذه القصة القصيرة. فيسكونتي أعطى الفلم مضمونًا سياسيًّا واجتماعيًّا واضحًا. أرجو أن تسأل لي إن كان هناك كتب فلسفية تصدر عن أكاديمية العلوم بالفرنسية أو الإنجليزية.
سأحاول أن أكوِّن لك مجموعة كتب فنية وأرسلها. أنتظر الحصول على منحة وعندها يمكن أن تطلب ما تشاء. سأذهب إلى باريس هذا الأسبوع وأبقى حتى نهاية الشهر. عنواني هو نفسه حيث تحوّل لي الرسائل إلى باريس. آمل أن أُنهي أطروحتي العام القادم، أحدثك عن عملي في رسالة قادمة.
****
موسكو 18/11 1970م
فيصل
أستطيع القول: إنه قد بدأت في حياتي هنا مرحلة أكثر صعوبة. وهي في جوهرها أكثر امتلاءً وأكثر قلقًا. وهي تحضن في داخلها انكسار قشور العفوية والغربة، التي كانت تميز وجودي في هذه المدينة. وتضعني اليوم وجهًا لوجه أمام الهدف الذي جئت من أجله. قد تكون أكثر تعقيدًا وأقل متعة.
ليس سهلًا أن تفكِّر في كل لحظة، بمسؤولية أن تكون مخرجًا سينمائيًّا! وليس سهلًا أن يبتلعك هذا ويتمفصل داخل حسك وعظمك وجلدك، وأن تواجه هذه المسؤولية في كل لحظة.
أريد في البداية أن أكرِّس طاقتي بشكل جدي لمشروعي هذا، لذلك اعتكفت على الأقل في البداية عن مشاهدة أي عمل مسرحي أو حضور أي حفل موسيقي. وغرقت في مشاهدة كمية كبيرة من الأفلام ابتداءً من لوميير ووصولًا إلى الحرب والسلام… فأخذتْ هذه الأفلام تترسب في داخلي في تجربة يصعب الكتابة عنها في مثل هذه الفترة. ستظل تجربة الحياة في موسكو، بالنسبة لي تجربة حية، ثرة، عميقة، وترفدني بكثير من الوعي والإدراك اللذين أصبو لهما.
شعور الشك بالذات، من أقسى المشاعر التي يواجه بها الإنسان نفسه، خاصة حين تصرعه المواجهة اليومية والامتحان الدائم. فمن السهل أن يجتاز الإنسان امتحانًا ما، وقد يستطيع أن يواجه صعوبة امتحان آخر… لكنه من الصعب أن يبقى دائمًا في مواجهة مع أن يكون مخرجًا سينمائيًّا، وأن يقف أمام تصوره لهذا الاختيار متسائلًا كل لحظة عن المتابعة أو التوقف. وعن القلق في النجاح أو الفشل.
لقد لفت نظري آلان روب جرييه الذي كتب سيناريو فلم «العام الفائت في مارينباد» وأخرجه آلان رينيه. لقد شعرت أنه يستخدم إمكانيات السينما الفنية في التعبير عن قضايا جدية وحساسة وبأسلوب قريب من التشكيل الشعري. في العام الماضي شاهدت فلمه الآخر «قطار أوربا السريع». وأحسست أن الدفق الشعري الذي اتصف به فلم «الخالدة» كان مفقودًا تمامًا، والفلم رغم جدية وقوة الموضوع الذي يعالجه هو فلم يدعو لتأمل كبير.
كتبت كوظيفة للمعهد سيناريو بعنوان «ليلة شبيهة بغيرها» وهو سيناريو روائي لفلم قصير، وهو ليس للتنفيذ، لكنه مرحلة من المنهج الذي يتبعه المعلم في إعدادنا…
****
تولوز.. بلا تاريخ
الأخ محمد!
سلام وبعد.
نلهث في البحث عن أفضل العوالم، ونحنُّ إلى صباح قادم لم يأت بعد، فنظن أن ما نريده سيولد قريبًا. أحيانًا قد يتجسد الحلم، ويولد الصباح المنتظر، فنجد أن الحلم ولد مشوهًا، وأن الصباح الجديد لم يحمل معه شيئًا.
هذه الدوامة تمزق الإنسان، تخلع منه القلب وتتركه يراوح في عالم أسود لزج، بين الحلم والواقع؛ هوة لا تتجاوز أشواق الإنسان، تُخنَق قبل قدومها. عندما كنت مراهقًا قبل عشر سنوات كنت أعود إلى البيت في المساء، واليدان في جيوب المعطف والخيال مطلق السراح، حسرة وحرقة وحسد لأناس يدرسون في الغرب. وأقول: هل يجيء يومٌ أرى فيه ضباب باريس وشوارعها الضيقة. أنهار الثقافة، ممرات وردهات السوربون، ثم جاء يوم ووصلنا، لا أرى في الحياة جديدًا، وما أريده لم يأت بعد. الحياة متاهة وكثرة البحث تقتل الإنسان. ربما نرى بالقلب ما نريده، في حين أنه يجب أن يُرى بالعين، وأن نتعامل معه باليدين والعقل والجسد ومعايير الفعل والإنجاز والتراكم الكيفي والكمي…
الفن تعلّم أم معاناة، هل يمكن أن يصبح الفنان فنانًا عن طريق الدروس والتعليم، أم أن الفنان كيان فردي وتركيب نفسي يؤديان به إلى الإبداع؟ أعتقد أن الفنان يرى العالم رؤية مختلفة عن رؤية إنسان عادي، ينفُذ إلى جوهر الواقع، يشرحه، يُجزِّئه ثم يعود لتركيبه من جديد في رؤيا جديدة، ويقذفه إلى الجمهور كخلق وإبداع. إنه يظهر جروحًا لم نرها، وينير عالمًا لم نره، ويطرح مشكلة لم نعرفها، وهذه الجروح والعوالم والمشاكل نراها كل يوم، لكننا عاجزون عن رؤيتها بغير الفنان، فالفنان موهبة وبحث وثقافة وربما تعلّم.
أقول هذا بعد رؤية فلم ياباني اسمه ‹بيت العنكبوت›، كيف تعيد خلق العالم بالكاميرا، كيف تحرك عالم الإنسان الداخلي بالصورة واللون، كيف تجعل الإنسان يفكر بالكاميرا.
عالم الفنان عالم عجيب.
الفلسفة دائرة مغلقة من الأفكار، ليس عندي شيء أحدثك عنه، نفهم الحياة بالمعاناة وليس بالكتب، الكتب تزوِّدني بالألفاظ، والحياة بالمعنى. تصدر هنا مجلات كثيرة جدًّا ورائعة عن السينما، ولكن باللغة الفرنسية. إذا أردت أرسلها لك شهريًّا.
****
موسكو 27 / 4 1971م
العمل السينمائي الأول الذي طلبه المعلم «الماستر» تالانكين منا؛ وفقًا للمنهج الخاص بمعهد موسكو يشترط أن تروي حدثًا لا يتطلب الحوار. وأن يكون الحدث واقعي ويحصل في الأماكن الطبيعة فقط (أي ليس داخل الأستُديو). وأن يكون متصلًا مع شروط الحياة والعيش في البلد الذي ينتمي له الطالب. بالأمس شعرت وأنا في قاعة العرض بعد انتهاء الفلم الذي شاهدناه؛ أن شاشة السينما هي أكثر الأشياء حساسية وقدرة؛ وهي أدق المرايا في الكشف عن الذات الحقيقية والخفية لصانع الصورة. فقد يستطيع المبدع أن يختفي وراء الكلمات؛ لكنه لن يكون قادرًا على الاختباء وراء الصورة التي صنعها.
حين عدت من سوريا حاملًا الصور التي صورتها هناك للفلم الذي أريد تحقيقه الآن، بدا لي أن هذا «الرشز» (المواد المصورة) يتضمن كل شيء لتحقيق الفلم. وحين شاهدت المواد المصورة لأفلام الطلبة الآخرين بدا لي أنها تفتقد للكثير مما يمكن له أن يحقق تلك الأفلام التي طمحوا لتحقيقها.
بالأمس عرضنا الأفلام بشكلها الأخير. لا أعرف لماذا خرجتُ بعد العرض وأنا أشعر بصفعة على وجهي!… فقد بدا لي أنهم قد حققوا ما كنت أعتقد أنه ناقصًا؛ وأنجزوا أشياء جيدة وجميلة. وأني ما كنت أعتقد أنه بلا نقصان كان ناقصًا.
ليس هذا تقييم، وليس المقصود الجودة أو السوء؛ بل القراءة لما ترى؛ والاستقبال بلا خيال. فاستيقظت في الليل وكتبت في دفتري: «مشكلة فلمي كونه قصة مصورة».
يبدو لي أنه لا بد لي من طلاق بيني وبين القصة الأدبية. ورؤية العالم ببصرية محضة. السينما يجب أن تولد في داخلي من جديد على أنقاض فلمي الأول».
بدت لي هذه الكلمات التي كتبتها بكل نزقها؛ يجب أن تشكل مسارًا وجدانيًّا يعتلج في داخلي منذ فترة. ربما أكون بهذا قد وضعت أصبعي على المشكلة الأساسية في داخلي.
وأنا إذ أتناول هذه التجربة الأولى بصرامة؛ فلأني أحس أنه يجب الاستعداد للتجربة الثانية خلال الأيام القليلة القادمة. ربما للمعلم (تالانكين) رأي آخر. فقد عمد دائمًا وبصورة غير مباشرة على تشجيعي على الكتابة، ودائمًا كان يصف ما أقدِّمه له من نصوص أنها أدب بصري. كما لا يمكنني أن أنسى أستاذي العجوز (فيلونوف) مدرس المونتاج الذي عمل مع (إيزنشتاين) وكان شريكًا لـ(كوليشوف) مكتشف المونتاج في السينما. فبعد أن شاهد المواد المصورة في سوريا لفلمي هذا؛ خرج من صالة العرض ودمعة على طرف عينيه؛ وقال لي: فاحت لدي رائحة الواقعية الجديدة الإيطالية! وقد كان لعرض فلمي «حلم مدينة صغيرة» قبل أيام في القاعة الكبرى للمعهد على جمهور واسع من الطلبة والأساتذة؛ أن ذقت ولأول مرة طعم شيء جديد هو صوت الأكف بالتصفيق.
****
بلا تاريخ باريس
محمد يا صديقي البعيد،
العلاقة بين الفنان والفيلسوف موضوع طريف وشائك في الوقت نفسه، والذي أراه أن الفنان يمكن أن يطرح فلسفته في الموضوع المعالج، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا في جملة من أعماله، فالتعبير بالصورة عن فكرة ما، يحتاج إلى جهد مستمر متواتر. وهو عمل لا يصل إليه إلا القلائل جدًّا.
يحزن الفنان عندما يرى أن ما يريده لا يصل إلى الآخرين بالوضوح المطلوب، ومن هنا يشرع هو بعمله من جديد، فإذا انتهى منه بدأ بعمل ثالث، أي أن ما يعبِّر عنه الفيلسوف بوضوح وإتقان وخلال سطور معدودة، يعرضه الفنان خلال آلاف الأمتار وخلال صور جميلة ملونة. برغمان فيلسوف رائع وفنان حقيقي مدهش، إنه يعبِّر عن الفكرة خلال سلسلة من الأعمال والرموز، ولكنه يقدم فكرته كما يريدها كاملة من دون نقص، من دون اغتراب، إنه يصافح فكرته بوضوح، فهو يتناول دائمًا مشكلة الموت والجنس والزمان. وقد عبَّر عن هذه الأفكار في أفلام عديدة. فهو فيلسوف حقيقي. إنك ترى أفكاره تنبض بالحياة وتتنفس وتتحرك من دون غموض ولا تعثر، ونلمس ذلك بوضوح في فلمه الرائع: «الصمت». هذا الفلم معجزة، إنه تصوير ذكي وبارع لمشكلتَيِ الجنس والموت اللتين تتصارعان داخل الإنسان منذ مولده حتى مماته.
بالنسبة لدراستي جيدة. بدأت هذا الأسبوع بتحضير الدكتوراه وعنوانها «الدِّين ومشكلة الاغتراب عند ماركس»، وعلى هذا فأنا مضطر لقراءة ما له علاقة بالدِّين وبالاغتراب، مشكلة الاغتراب تأخذ أهمية كبرى الآن؛ إذ إن فهم مشكلة الاغتراب، من خلال ما كتبه ماركس يثير خلافًا كبيرًا، فإن ماركس قد شرح مُشكلة الاغتراب في المخطوطات الاقتصادية الفلسفية عام 1844م. وهنا يبدو ماركس فيلسوفًا مهتمًّا بالإنسان فقط، إنه ذو نزعة إنسانية كاملة، ثم عاد في كتاب «رأس المال» فشرح مشكلة الاغتراب انطلاقًا من ماهية الاقتصاد السياسي البرجوازي، أي كما يقول البعض سقط في الميكانيكية الاقتصادية.
فالتوفيق بين مفهوم الاغتراب عند ماركس الشاب وماركس في مرحلة النضج يثير خلافًا كبيرًا، فالبعض يرى أن ماركس في مرحلة الشباب كان هيغيليًّا، وهو يتابع فلسفة هيغل، (هيبوليت) وآخر يرى أن ماركس الحقيقي هو فقط في رأس المال، ويجب حذف مرحلة الشباب (آلتوسير)، وثالث يرى أن مؤلفات ماركس متكاملة ليس فيها انقطاع (غارودي)، ثم هناك مشكلة الاغتراب والمجتمع الصناعي.
****
باريس.. بلا تاريخ
عزيزي محمد!
يكون الكاتب أصيلًا عندما يستطيع التعبير عن عصره، وكلمة المفكر بالنسبة لي تشمل كل من يعمل في حقل الثقافة، الأديب، الفنان، العالم. من ينشغل بالتعبير عن همومه الخاصة، هو فنان زائف.
أقول هذا بعد أن رأيت أعمال سينمائيين كبار، إنهم كبار؛ لأنهم من ثوار هذا العالم، إنهم ضمير العالم كما يحلو للبعض أن يقول أحيانًا. رؤية العالم من خلال منظورٍ أخلاقيِّ المضمون هي رؤية محافظة.
إن الفنان السينمائي وهو يحمل راية الفن السابع، يمكنه أن يأخذ دورًا طليعيًّا في النضال الأيديولوجي. توني ريتشاردسون في فلمه الرائع «نيد كيلي» عبَّر عن الصراع الطبقي في أيرلندا، وعن رؤية البرجوازية التي ترى في المناضلين أناسًا لم تحسن تربيتهم وأخلاقهم، ثم أظهر قوى القمع التي تقتل كل المتمردين باسم القانون والأخلاق والدين، وأنهى فلمه بأن التاريخ يسير لصالح المستَغلين والثوار. هذا موضوعه، أما أصالته فهي التعبير عن هذه الرؤية السياسية بتكنيك متقدم، الغناء الشعبي والتصوير والحوار الدقيق، ثمة الواقعية الشعرية لمضمون سياسي، في تطابق بين شكل ومضمون متقدمين.
ميلوش فورمان نفَذ إلى قلب البيروقراطية في فلمه «قص البستوني»، النخبة، أي الحزبيين الذين يخرجون من قلب الشعب كمعبِّرين عن مصالحه، ثم يصبحون طبقة جديدة، لا جسور بينها وبين الشعب. فلم سيرجي ليوني «كان هناك ثورة» يدافع عن عفوية الجماهير في النضال، وكيف أن الفلاح البسيط إذا عرف أول الدرب سار حتى النهاية، على عكس المثقف الذي يبدأ مع الثورة، ونادرًا ما يسير حتى النهاية. الآن يعرض فلم ليلوش الجديد «المغامرة هي المغامرة» إنه فلم فيه كل الذكاء والفن لكن للتجارة، إن ليلوش لا يرى في السينما إلا أداة للتسلية اللطيفة عن المتفرج، ووسيلة لخلق رصيد في البنك، إنه أغنى فنان سينمائي في فرنسا. وتدعمه الحركة الصهيونية دعمًا ماديًّا كبيرًا. بدأ هذا الأسبوع عرض فلم غودار الجديد «كل شيء يسير بشكل حسن» الذي كانت الرقابة قد أوقفته. مع عدم إعجابي بالسينما الفرنسية، إلا أن المنحى الذي سلكه غودار مثير للفضول، فهو يرى في السينما أداة للصراع الأيديولوجي. ولكن هل الحديث عن هذا الصراع في ذاته يشكّل فنًّا؟
يقول غودار: إن فلمي ليس عن السياسة، بل هو السياسة بعينها، إن أي عمل فني لا يرى الظواهر من خلال الصراع الطبقي هو عمل رجعي، والسينما ليست للتسلية، بل للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة.
****
موسكو 26/2 1972م
أحس بتعفن اللعاب في فمي صمتًا.
إني كتلة باردة هرمة من دم يتخثر، ومرمي كأحد قطع الأثاث في هذه الغرفة الميتة، حيث يسيح من حولي زمن مذاقه مر. قرأت مجلة سورية من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة، فشعرت أني أزداد غثيانًا، وأني أغوص في وهدة موحلة تفوح بالرعب والإهانة… فالكلمات تحسسك بالذل، والكوابيس تقفز من وراء السطور وهي أقوى من أن تكون قادرًا على تحملها، كلمات ملأى بالغبار السام، والأحرف قطع من صفيح محترق. والأفكار هذيانات لدغتها الهزائم. ربما لا يحتاج المثقف إلى اختصاصي ليكتشف معه هذه التوجهات للدكتاتوريات من راضعي حليب البراغماتية الأميركية.
ترى هل هو الجهل أم العمالة؟
التراجيديا العجيبة التي تحدث في غزة اليوم، يقابلها كوميديا مولييرية بحتة في الضفة الغربية. الليل علامة مبهمة، والظلام بلا سَدَفٍ وبلا أعماقٍ وبلا سطوح. آه! أيتها العتمة ما أشبهك بالأسى الذي يدب في أعماق الروح. الغربة أشبه بعبور على سِرَاط مصنوع في أحدث معامل (نيو سوبر جيليت)، سِرَاط يطل على أربع هاويات. فعليك أن تختار. وإذا كان هناك فرق بين هاوية الجنة والنار، فإن هاويات الغربة الأربع لا فرق بينها. في كل الأحوال ليس أمامك إلا أن تستمر، فالسقوط لا يقل عذابًا عن العبور. كنت يا صديقي في رحلتي إليك في باريس تبحث عن شيء ما مفقود في وجهي، وكنت أبحث عن الشيء المتبدل في وجهك. فقد بدا لي أنه حين كنت في دمشق كان الحزن في عقلك، وفي باريس صار في عينيك. لكن كلانا كان يحس أن دمشق ثالثتنا دائمًا… وأنها كانت تتسرب في مطر باريس، وفي الكرسي الثالث في غرفتك، حيث تجالسنا أكثر من نصف الوقت في زيارتي لك ولباريس، في منحدرات مونمارتر، وخلف الأرغن في (نوتردام). كانت في ذعرنا وفرحنا وكآبتنا، ولكن غاب عنا في كل ذلك أي نوع من الحنين.
****
باريس 1/ 10 1973م
عزيزي محمد دمت سالمًا.
الآن أقطف العنب في بوردو، أطير وأمشي وأبحر للوراء. في بحر الريف الفرنسي، يعانق الإنسان هنا جملة عوالم، تصفق اليدان فتتطاير هذه العوالم كغيوم بيضاء سارحة. وفي لحظة زمان كثيفة يتعانق الحلم والماضي والحاضر وطيف أيام قادمة وشتات أيام مضت، فلا أعرف أيًّا أحتضن منها. لا تخضع لا لمنطق الزمان ولا لمنطق المكان. في ساحة ترقص أمام العين حزمة من الصور، حزمة كالحلم لا تخضع للمنطق، لكنها ترسم بوهن صورة ذلك الغريب الحائر أرى صورًا عديدة، ربما سأكتبها بعفوية وبلا تكلف، سأرسم ما يطفو على وجه الشعور، وسأكتب ما يحرك أو يحركه اللاشعور، في هذه اللحظة يتلاقى عالَمانِ فقط، وجودي الجسمي، حجم إنسان في الريف الفرنسي ومجموعة صورة حارقة تكسر وجه الصمت، إذا حدقت جيدًا أرى عينَيْ والدتي الذابلتين، إنهما عينان أفرزتا دمعًا حتى الشبع، أرى وجه صديقي محمد، وجه لطيف يبحث عن عالم رآه يومًا ما في حلم، أرى صورة صديقي محمود البداوي وقد صرَّ نفسه في يوم شتوي، أرى نفسي طفلًا أركض تحت المطر، وأرى وجه والد هدّه التعب ينتظر بعينين بارقتين مجيء ولد ضيَّعه السفر، وأرى وأرى وأرى…
في مثل هذه اللحظات المسكونة بالحنين، لا أذكر من عوالم الكتب شيئًا، ولا أرى في الماركسية إلا كتابًا بين كتب أخرى كثيرة، جاءت واستمرت وبقي العالم كما هو.
عزيزي محمد!
الصفحة الأولى من هذه الرسالة، كتبها صديقك وهو شارد حزين، الآن يكتب لك وهو صاح، ربما الفرق بين الاثنين قليل، لست أدري على أية حال أيهما أفضل! كتبت لك مرتين ولكن لم أتلقَّ جوابًا، لست أدري ماذا تفعل وما هي مشاريعك، أتمنى كثيرًا أنا أرى أحد أفلامك، أتمنى أن أرى كيف يجسد صديقي الحالِمُ رُؤَاه، كيف يعبر محمد ذلك الإنسان الشاعر عن فكره بصور. التعبير عن الفكرة بصور شيء رائع، ربما أعبِّر أنا عنها بسلسلة من السطور ذات الكلمات المجردة الغامضة، أنت تجعلها تحبو، تتحرك، تحقنها بمجموعة من الصور الحية، تلقي عليها ظلالًا ولونًا وموسيقا، الفكرة تحبو، ذلك قمة الإبداع.
عندي الكثير لأقوله لك، لكن الصمت بيننا قد تطاول، ربما سنرقع ذلك الصمت اللامرغوب في رسالة أخرى.
تتوالى الفصول، ويهطل المطر، وتزرع الغيوم من جديد في بحر السماء ونحن نقف في ميناء الغربة ونكتب للأصدقاء، ونقرأ كتبًا عن الاغتراب.
صديقي فيصل!
فيصل دراج
بدأت أغوص في بحار مبهمة حيث أتوق إلى فراق الأشياء التي كانت مزروعة في داخلي. فقد غادرتني مدينتي، وتركتني مثقلاً بالأحاسيس اللزجة، وجعلت اللحظة الحاضرة تشبه إبرة الحاكي تنغرس بي، وتقول لي: إن هذه الطائرة، ذات المحركات الأربعة، تحملك الآن وهي لا تدري أتطير بك، أم بعد لحظات ستطير معها.
حين لاحت موسكو بوجهها الليلي المتعب، بدت لي كغول يفتح بطنه الكبير ويبتلعني، ثم أخذ لهاثه يبعث القشعريرة في جسدي، لكنه في الصباح أخرجني أرنباً في عالم من القطط. يعجز عن أن يفهم أي شيء من حوله، فلم يتبق لي بعدها إلا الحيرة. ها أنا يا صديقي أجول في شوارع موسكو! وبعدها لن يبقى لي إلا أن أقضي الساعات الطويلة بحثاً عن البيت الذي ننام فيه. يعود الليل، ثم يعود من جديد، فلا ينبعث في داخلي إلا صوت ذاك الارتطام الغامض. فأبدو كمكوك عتيق يسعى إلى أن ينسج شيئاً ما. لقد ثملت بالأحاسيس إلى حد جعلني لا أدرك أحاسيسي. قد يتوهم أحدنا أنه اكتشف نفسه وأنه «عرف ما يريد»، لكن ذلك يبقى رهناً بالارتطام الحقيقي مع العالم في مرجل الحياة الذي يغلي. عندها يعود ويرى أن ما عرفه عن ذاته، يترجرج في تلك الحرارة. فماذا ستفعل؟
تملكتني لحظة شوق غامرة للخلاص من ذلك الإبهام الذي استقبلتني به موسكو، لأبدأ بتذوق طعم هذه الغربة. فموسكو تستعد لاستقبال شتائها القاسي. تخفق للمرة الأولى في حياتي أمام عيني عصا المايسترو. فيتناهى صوت الضربة الأولى للموسيقى، وتتكاثف الأشياء وتتجمع دمعة في عيني، وتهب حبيبات القشعريرة على جلدي. إنه «بروكفيف» ويمحى من ذاكرتي دوران الأسطوانة السوداء. في رواية «الوضع البشري» لمالرو، ثمة صورة لذاك الألم الذي يشبه هذا الألم المتقوقع في داخلي وأحاول الخلاص منه، في الرواية يموت الأبطال، لكن لكل منهم ميتة خاصة به. الإرهابي العقائدي كيو يموت ويتحول جسمه إلى شظايا تلطم سيارة «تشاي كانشيك»، أما تشن الذي يعي أنه فقد نصفه الأسفل، وأن الشرطي المرتزق الذي يلكزه ككتلة لحمية مبهمة، فيتساءل: هل قُتل تشاي؟ يموت كيو! وتموت ماي بموت حبها. ويموت الأب بموت ابنه.. فلا يبقى إلا الألم من الوضع البشري.
■ ■ ■
تولوز (بلا تاريخ)
الصديق العزيز محمد!
أعتذر لتأخري في الكتابة إليك، والسبب هو الهموم اليومية، فقد رفضت دائرة التجنيد المصدّقة الدراسية وبذلك مزقت كل مشاريعي السابقة، واضطررت الى أن أذهب إلى باريس ومراجعة السفير والاحتجاج على هذا السلوك المرتجل.
وعلى هذا يا رفيق، فسأبقى في فرنسا خلال الصيف، وربما سأشتغل في حزيران وتموز وآب وأنتقل إلى جامعة «نانتير» في أول أيلول. جامعة «نانتير» تابعة لجامعة «السوربون»، وتقع في ضواحي باريس. وفي الحقيقة، فإن هذا التصرف الغبي اللامسؤول قد جعلني أكره دمشق والعودة إلى دمشق، على الرغم من أنني كنت أجتر ظل دمشق منذ أول الربيع. إن هذه الظلال العسكرية الغبية التي تجوب دمشق قد شوهت وجه دمشق، بل سملت العينين وقطعت الأنف. إن الإنسان الواعي يبدو كأرنب مذعور في هذه الصحراء من التفاهة والغباء، وأتعس ما في الحياة أن يرسم حياتك إنسان لا يعرف معنى الحياة.
كيف يحقق الإنسان ذاته في مجتمع ضيق؟
لا شك أن رحلتنا في الاغتراب لم تزل في بداية الطريق. بعدما غُصْنا في بحور الميتافيزيقا ومغامرات الدين، نعود لنرى هلوسات الفكر القومي وفراغه وأشكاله السمجة، ثم سئمنا من ترديدات الاشتراكية والإمبريالية، والحق أن جميع هذه الأشكال كانت ولم تزل تسير في بحر من التجريد والجهل، تهتم بكل شيء وتهمل الإنسان، الإنسان يطفو دائماً كنقطة ضائعة في مستنقع الإقطاع والبورجوازية ثم الظلال العسكرية. فالعسكري ذلك الإنسان الكاريكاتوري السميك اليد الفارغ الذهن الذي يفرز في مشيته وحديثه شكل البندقية، لا شك أنه بسطار العسكري يكسر القلم ويسحق الفكر. والآن ما علاقة الكلمة بالعالم؟
هل تستنزف الكلمة كل خصب العالم، أم أن الكلمة تشوّه شكل العالم وتقبع أمامه صامتة كسيحة؟ وهل كاميرا الفنان هي تجاوز للكلمة أم لا؟ وأيهما يصل إلى قلب العالم بحدة ووضوح أكثر؟ قلم الكاتب أم كاميرا الفنان؟ وبالنسبة للأسطوانة التي طلبتها سأرسلها لك في الأسبوع القادم، وأعتذر من جديد لتأخري في الكتابة. دمت لي أخاً ورفيقاً وصديقاً!
■ ■ ■
موسكو 20/3/1969
فيصل!
لست بورجوازياً. أتناول فطوري على عشب مانيه، وأقرأ تجربة الفكر البشري المعاصر، وهي تئن تحت ضربات مطارق عدة متفاوتة القوة دافعة الفلسفة إلى الرصيف.
ستظل الفلسفة محراباً ملازماً للإنسان؛ مهما تغير وجه العصر. أبداً لن تكون صليبه المرفوع على رؤوس صواريخ عابرة للقارات ... ولن تكون أفيوناً يخدر صراع الأبيض والأسود أو الإمبريالية والجوع أو حركة التحرر والصهيونية. البحث في الإنسان هو نقطة الأهمية الوحيدة المتبقية في وضع الفلسفة المعاصر. الآراء التي طرحتها في رسالتك حول العاطفة معتبراً إياها «شيء فيه كثير من البدائية والغباء» وحصرك لها «بالغريزة» ومفهومك المجرد حول «عاطفة حضارية تعانق بين الحب والحرية». تبدو لي على الرغم من أنه توصيف محدود، لكنه يسمو ويتألق إلى فكرة راقية للجمع بين الحب والحرية. فالعاطفة حقاً فردية، لكنها تتضمن في داخلها مستوى عالياً من الحس والإدراك، سواء للذات أو للآخر.. وهذا الإدراك في جوهره ليس إدراكاً عقلياً، بل شعور يرقى شيئاً فشيئاً إلى الحد الذي يصبح فيه سيالاً من الحس الذي يبحث للالتقاء مع مرآته. العاطفة شعور أن تحس الآخر، وأن تنسل إلى جوهره، أن تنشدّ إليه انشداداً يمزق الاغتراب عنه، وأن يحقق في داخلك وجداً شبه ميتافيزيقي. بدافع من الغريزة والحس الجمالي والقيم الاجتماعية، يتبلور هذا الوجد وينتقل إلى داخل الأنثى التي في داخلك. ثمة شبق إنساني في داخلنا للعلاقة مع العالم وكسر طوق الوحدة. أما العقل فليس له أكثر من دور وعي التجربة أو الكشف عنها. فالزمن ورتابة الحياة مسؤولان عن شحذ أو خمود العاطفة، وهذه حالة فردية تختلف مع اختلاف الشخصية. الأنا لحظة اليقظة، لحظة وعيها لذاتها، تثور للبحث عن جزيئياتها في الآخر. فيتخلق نوع من الشعور بالحب لهذا الآخر.. هذا الشعور هو وجد إنساني وهو انتصار الأنا على وحدتها.
■ ■ ■
باريس2/1/74
عزيزي محمد
يبدو لي أن الحوار معك صعب جداً، فهو ينتهي حال بدئه، وعندما يعود من جديد تكون تلك الجسور الأولى التي نصبت قد زالت وتهالكت، فنبدأ بنصب جسور جديدة سريعة الكسوف. لست أدري أهو عزوفك عنا أم كما يقال كثرة المشاغل. مع ذلك، فإني أحب أن أكتب إليك، فمن ناحية لا زلت أرى فيك صديقاً حقيقياً (هذا شعوري على الأقل) أرى فيه الكثير من نفسي، يتساكن فيه عالم قديم وعالم آخر يتجاوز هذا القديم، أرى فيك الماضي وتجاوزه أي الحاضر، عالمنا القديم، مدرستنا التي نسيت حتى اسمها، عالم التدريس المُكرَه، أحياؤنا القديمة، وصبي الكوّا وصحن الفول في الصباح، عالمنا القديم الذي كنا نسير فيه، في حين يسرح الخاطر والخيال خارج أسواره، البحث عن عالم آخر يبدو هلامياً وشفافاً، صعب التملك، لحظات ثرثرات قليلة تهدس بالفن وأرنست فيشر والاشتراكية والدون الهادئ. التكلم بقدسية وشوق عن مخلوقات نراها آلهة، في حين أن ما ألّهها هو ضحالة عالمنا المعيش، وليس قيمتها الحقيقية. كنا نعكس عليها بؤسنا وتمردنا الكسيح وأشواقنا وطموحنا كما يعكس البدائي صفاته المكبوتة والآسرة على إله صنعه هو من خيالاته، فليس الإله إلا محصلة الصفات الرائعة التي يملكها الإنسان ولا يستطيع أن يجعلها تمشي، فالتأليه تعبير عن العجز والبؤس، كأن ما خلف الأسوار إلهاً في حين كان عالمنا بلا تأليه، جسر الاتصال بين التأليه والوثنية هو الفقر والعجز. فنحن يا رفيق تلك الخيوط الهلامية التي خرجت من قفصها ثم ضاعت وتهالكت، فهي لا تحب العودة ويضنيها البعاد. آمل أن لا نقع على السور. أحوالي جيدة. أكتب الآن أطروحتي، أدافع عنها في 15 حزيران. نشرت مقالة بعنوان «الأدب والأيديولوجيا» في مجلة «الطريق» اللبنانية، كانون الأول 73؛ ومقالة عن ماركس والصهيونية في «شؤون فلسطينية». رأيت فيلماً سوفياتياً اسمه: الطائر الأبيض الملطخ بالسواد (أحسن فيلم سوفياتي لعام 1971) بنظري هو فيلم سيئ، تسيّد المخرج على الموضوع صفر. رأينا في باريس للمرة الرابعة «المخدوعون» لتوفيق صالح. فيلم مذهل رائع تكنيك الإخراج، يذكرني بفيلم سيدني بولاك: نحن نجهز على الأحصنة.
■ ■ ■
بيروت 24/1/1976
عزيزي ملص
دمت سالماً
لم أرك أو أسمعك منذ زمن. فأين موقعك الآن؟
أرسلت لك رسالة من إيطاليا فلم أتلقَ جواباً، فضاع اتصالنا كما تضيع الكثير من الأشياء.
بعد أكثر من سنتين من الرحيل والرجوع والضياع رجعت إلى بيروت. اشتغلت في
إيطاليا لمدة خمسة أشهر، شاهدت أشياء كثيرة وتعلمت اللغة الإيطالية،
وفقدت حس الاستقرار وحنين العائلة. تعيد الأيام إنتاج وإعادة إنتاج الإنسان فتختزل منه أشياء وتضيف إليه أخرى. تتراجع عوالم الطفولة كما تتراجع رومانسية زرقاء كسيحة ويتحول الإنسان أولاً بأول إلى شيء جديد، غير رومانسي ولا أزرق لكنه بالتأكيد واقعي.
يقول نيتشه: «عندما يطارد الصياد التنين يصبح تنيناً هو الآخر». أما التنين بالنسبة لي فهو الاستقرار والحصول على جواز سفر، والحصول على إذن عمل وإقامة، ورؤية الأهل والأصدقاء والمرور في المطارات دون أن أقف جانباً و...
عبر عملية المطاردة يفقد الإنسان أشياء عزيزة من نفسه. أشياء عزيزة
أسميها الآن أوهاماً أو أحلاماً بلا معرفة أو رؤية مثالية للواقع. لكن ذلك لا يعني أن يصبح الصياد تنيناً، بقدر ما يعني ضرورة أن يتخلّص الإنسان من التنين الذي يحمله في عقله وأعصابه وخيالاته: أوهامنا وأحلامنا الكبيرة.
لكل حلم زمانه، ولكل زمن حلمه. وأحلامنا كالفكرة المطلقة عند هيجل، تتكشف لذاتها شيئاً فشيئاً عبر الزمان، أي تتحقق ببطء وبالتقسيط. قيل لي ان صنع الله إبراهيم كان في بيروت، كنت أتمنى أن أراه. كما قيل لي انني «أنا» أخذت روايتك من دار ابن رشد ولم أرجعها، فذهبت إلى الدار وتبيّن أن الذي أخذها رجل يشبهني. أعمل في مركز الأبحاث (الفلسطيني). لماذا لا تزورني؟ هل أنهيت الجندية؟ هل أنت سعيد؟ هل عندك مشاريع جديدة ؟ هل صنع الله إبراهيم في دمشق؟
مع صداقتي
وفي انتظار اللقاء
****
موسكو 5/1 1969م
ذاكرة شهرين من الزمن.
بعيدًا عن الأفكار والنظريات؛ المثير بالنسبة لي خلال متابعتي للحياة في موسكو؛ هو أن النتاج الفني ليس في متناول الجميع فقط؛ بل مثار اهتمام ومتابعة من الجميع أيضًا، وأنه ليس موجهًا لشريحة محددة. فالباليه كفنٍّ مثارُ اهتمام الجميع. بالطبع يحتل الاتحاد السوفييتي مكانة دولية مهمة في هذا الفن؛ وأسماء رواده وراقصيه معروفة. فهم رواد برعوا بإخلاص صوفي عجيب في تفانيهم؛ كالراقصة الرائعة بليسيستسكايا التي تؤدي هذه الأيام عروضها الأخيرة لتجاوزها سن الأربعين.
لقد أحب الناس هنا هذه الفنانة وقدرها؛ وتوّجها كراقصة أولى لمرحلة طويلة؛ ولأدوار عديدة؛ ومنها «بحيرة البجع» بالطبع. لقد أحسست بمتعة كبيرة في تصفحي لصورها في أدوار عديدة؛ وفي الوقت ذاته شعرت برهبة تشدك إلى عالم أكثر نقاءً وروحانية لما تتركه في النفس من أن الإنسان يكون أكثر سعادة حين يجد نفسه؛ مهما كان الثمن الذي يدفعه من جسده وأعصابه وعمره؛ والذي لا يمتلكه إلا مرة واحدة في الحياة.
صديقي العزيز!
لقد أتى شتاؤنا وشتاؤنا قاس. ففي هذا الليل وصلت البرودة إلى حد أن تجمد الماء في أنفي. بي حيرة من الصور في داخلي؛ وبي رهبة من الرؤى الجديدة… بي خوف من تفتيت تجربتي وإعادة رصفها بقوة جديدة وعمق أكبر. وبي شعور بالحاجة للإطلال على الماضي كله، لكني أحتاج أن أمتلك نفسي. فالتجربة الراهنة في هذه الغربة وفي هذا البلد مثيرة وغنية، وتدفعك لاحتضانها بعمق.
يقول عبدالوهاب البياتي في «هبوط أورفيوس»:
« وينام الناس في أسحارها دون قبور
كالعصافير على حائط نور
وأنا أحملها فوق جبيني من عصور لعصور
أرتدي أسمالهم… أنفخ في ناي الوجود
الطريق أمامنا يا صديقي شاق وصعب. الأهم أن نعود دائمًا لأنفسنا ونحاول التأكد من أن أحاسيسنا حقيقية وأصيلة.
طريقنا أن نكتشف وسط الجدران المحطمة، ومن خلال أنقاضها، فكرًا وطريقًا. حتى يكون وجودنا تعبيرًا عن موقف يماثل في أخلاقيته وصدقه استمرارنا كوجود حي. تبقى هناك قضية قادرة على أن تستنزف الحياة من داخلنا… هي أن نحيا وأن نستمر في الحياة بصورة لا تتطابق مع مواقفنا الفكرية ولا تشكل ردنا على انفعالاتنا النفسية والروحية من هذا العالم.
محمد
****
باريس 20/3 1970م
صديقي البعيد!
الساعة الآن الواحدة ليلًا، المدينة تغوص منهكة في بحر الليل. أضواء الشارع باهتة، أشعر بغربة عميقة، فأغوص في معطفي، وأصرُّ نفسي وأمشي بثقل وبطء.
هذا اليوم أرسلت هدية إلى والدتي بمناسبة عيد الأم، الأم والغربة وأمطار باريس والليل تحقن قلبي مصلًا باردًا ثقيلًا، فأشعر أنني مبلل بالأسى. كنت قبل قليل أتجول في الحي اللاتيني لأزجر عدم الرضا بقضم متوالٍ لسندويتش تونسي: وأتسكع أمام الحوانيت ومخازن الكتب. عندما يكون الإنسان في البيت يتمنى أن يكون في غابة، وحينما يصل إلى الغابة يتمنى أن يرجع إلى البيت. تذكرت هذا وأنا أسير في الحي الشهير. لا يجمّل هذه المدينة إلا نهر السين، الذي تسبح فيه بهدوء أضواء المدينة المختلفة، فأقف ثوانيَ لأتساءل: هل يسبح السين في عالم من الأضواء، أم تسبح الأضواء في السين.
****
محمد ملص
الليل للغريب مخيف، مُطارد كريه، ذئب كاسر وسفاح، أنحني وأنوء تحت سقف الليل القاسي، ثم يجثو الإنسان ماشيًا، يموء ويموء من جرح عميق دماؤه لا ترى.
العالم شرائح متعددة، المترو يزحف باردًا أمامي. سكير عجوز، يروي لي عن حبه لجولييت، ثم يشرب نخبي، يقول في صحة من لا يصغي إلى قصة حبي، ثم يقول لي من جديد: هل يمكنك أن تغني بلا كلمات، فيبدأ بترديد لحن بحبل صوته، الذي يعلو ويهبط، ثم يلهث، ويسترد لهاثه ليقول لي:
ألا ترى أنني أغنّي بلا كلمات… الرجل يقول: إنه يشرب بصحة صديق له بعيد، كان دائم الغضب والعبوس، وحين جاءه الموت ابتسم. أنتقل إلى مترو آخر، المرأة التي تقطع التذاكر، عجوز جاوزت الخمسين، تقول لي: لا تبدو مرحًا، فالشباب لا هموم له!
أقول لها: شاب بلا أرض، إنسان لا وجه له، تسألني:
أليس لك أرض؟
فأجيب:
لا! فأنا لاجئ فلسطيني، إن هذا محزن إذن يا سيدتي! الهموم لا علاقة لها بالعمر، إنها مشكلة ظروف، شروط لا أكثر.
شاهدت فلم سام بيكنبا الأخير «كلاب القش» إنه فلم رائع، كنت أريد أن أكتب لك عنه ولكنني متعب، ومتعب أيضًا من جميع أنواع الكلاب التي تتجول في الشوارع والمكتبات والبيوت.
قرأت كتاب لبولجاكوف اسمه «شيطانيات وبيوض منذرة بالسوء»، لم يعجبني، سأكتب لك عنه قريبًا، وسأرسل لك قريبًا مجلة الطليعة.
****
بلا تاريخ.
رحلة إلى ڤيلنوس.
فيصل العزيز!
دعني أحدثك عن مغامرتي في الخروج من موسكو؛ والسفر بعيدًا عنها.
كان صديقي «أليغييز» الليتواني؛ قد دعاني لزيارة مدينته « ڤيلنوس»(1). فعاد إلي اليوم منتصرًا؛ وهو يلوح ببطاقة القطار. لقد استطاع أن يتجاوز ضرورة الحصول على الفيـزا المترتبة على الأجانب مثلي؛ إذا أرادوا التحرك أبعد من خمسين كيلو مترًا بعيدًا عن موسكو.
أحس بشيء غامض يجعلني مترددًا في هذا السفر. وفي الوقت ذاته لدي شيء من الفضول يجعلني أتعلق به. فتعلقي هذا يعود إلى رغبة عارمة للهروب من موسكو؛ والبحث عن شيء جديد! كما أن «ڤيلنوس» تتردد في داخلي كشيء جميل؛ ولها في نفسي دلالات وصور.
ما إن عاد أليغييز هرعنا إلى محطة القطار على الفور، حيث لم يكن قـد بقي إلا دقائق قليلة لتحرك القطار. وركضنا إلى الرصيف الطويل لنلحق بعربتنا. فلم يكن أمامنا إلا أن ندلف أي عربة لنصير أخيرًا داخل القطار الذي بدأ بتحركه.
لكن هذا كله لم يكن يعني بالنسبة لي؛ أننا قد تجاوزنا الصعوبات لتحقيـق هذه الرحلة؛ وكان لدي الشعور بأنه ما يزال أمامي الكثير.
كان المساء الآن في أوله بعد. السماء رمادية تمنح هذا المساء شيئًا من البهاء. وعَبْر نافذة العربة كان بياض الثلج المفروش على الجانبين يتربع على الأمكنة بسطوة.
أقف وراء النافذة وأترجرج مع الاهتزازات الرتيبة، مشدودًا إلى رؤية الأشياء وهي تمر من أمامي وتبتعد، ثم تهرب، فتتولد في داخلي إيقاعات من التشوق لم أكن قد ألفتها بعد.
رائحة العربة تتربص في داخلي كطعم لسفر طويل؛ لم أعتده فـي حياتي. فشعرت بتوجس من هذه العتمة؛ التي بدأت تزحف بسرعة وتبدد الصور التي تعبُر من أمامي.
رحلة القطار ستستغرق الليل الطويل كله. فالمسافة حوالي الألف كيلو متر؛ مما جعلني أحس أني هارب بحق، ومدفوع وراء مغامرة خاصة. فقد تمردت على الحق المسموح لنا كأجانب بالسفر خارج موسكو من دون إذن رسمي. وتركت الدوام والدروس في المعهد. وتواطأت مع أليغييز بأنه في حال الإمساك بنا، فكرة ساذجة لتبرير هذه الجريمة؛ بأن أدعي حاجتي تصوير لقطات في أحياء ڤيلنوس القديمة، التي كان يحدثني عنها أليغييز والتي بدت لي تشبه دمشق القديمة، التي يجب علي تصويرها في فلمي القادم. لذلك كان لا بد من زيارتها لاستطلاعها مبدئيًّا.
ساد الظلام الآن كليًّا.
****
باريس.. أوائل عام 1972م
عزيزي محمد
من الغريب والجميل في الوقت نفسه، أن يكون لفكرينا منحى واحد، فقد كنت أفكر هذا الأسبوع بما تفكر فيه أنت، وربما في رسالتي التي أرسلتها إليك منذ يومين، تجد ملامح مشابهة لما تقول في رسالتك. لا شك أن هذا المسار الذي سارت فيه صداقتنا؛ ناتج عن سببين، أولهما أن معرفتنا قامت على قاعدة ثقافية، وأن كلًّا منا لم يرَ من الآخر إلا جانبه الثقافي.
إن ذلك الإلحاح على البعد الإنساني والأصيل هو شيء رائع. مشاكلي هذا العام؛ لم تُتِح لي وقتًا لرسائل متكاملة، مشاكل نفسية ومالية وعاطفية، حياة بلا منطق قائمة على الرهان والمغامرة أفسدت لي كل العام الفائت.
ربما أن رسائلي كانت إليك مجدبة؛ لأن عالمي الثقافي والنفسي هذا العام كان إذا أردت يا صديقي مجدبًا. استولى عليّ حنين إلى الأهل والعائلة ودمشق، وإلى المعلّم الابتدائي الذي كنته.
في هذا الجو الخانق ضاع ماركس وضاع البحث وفقدت أشياء كثيرة. الآن تركت تولوز، لكني تركت فيها تسجيلي، مع كل ذلك أصبحت في السنة الثانية؛ أي الأخيرة من الدكتوراه. وأنجزت %40. والحقيقة أن عملية تراكم الثقافة يا صديقي مسألة لم تعد تجذبني، لا أجد فعلًا شيئًا جديدًا.
قرأتُ ماركس أولًا ومن دون عمق، ثم ركضت لاهثًا لقراءة عالم الثقافة المعاصر. غارودي بكل موضوعية مفكر خفيف صنعه أولًا دعاة الأحزاب الشيوعية، ثم صنعته من جديد دُور النشر البرجوازية، وفي كلا الحالين كان صورة مصنوعة ليس فيها أي شيء حقيقي. ماركوزه ما خلا كتابه العقل والثورة؛ يقدِّم تمارين ثقافية، تزويج ماركس وفرويد، البولوني آدم شاف، شارح بسيط وسيّئ لماركس.
أدرجت في الفهرس حول الأطروحة 200 (مفكر) وكلما انتهيت من أحدهم زاد احتقاري لعالم الفكر وزاد احترامي لماركس. في عالم الماركسية المعاصر، وإذا أردت منذ لينين حتى الآن؛ لا نجد أكثر من ثلاثة أسماء تستحق لقب مفكر أو فيلسوف ماركسي هم: غرامشي، وجورج لوكاش، ولويس آلتوسير على الرغم من قلة إنتاجه.
بالنسبة لقدومك إلى باريس تخبرني طبعًا قبل قدومك، بالنسبة لإنسان غريب لا يعرف باريس ولا يعرف اللغة (يَهْلَك) وينفق يوميًّا (100 ف) على الأقل، أما حالك فهو غير ذلك. يا صديقي تحتاج فقط إلى الوصول إلى باريس. بالنسبة للطعام والشراب والنوم والدخان والمواصلات أنا أؤمّنها لك بكل رحابة صدر، ولا شك أننا سنقضي وقتًا ممتعًا وسنتحدث في أشياء كثيرة؛ وسنرى أشياء كثيرة. ونحن في انتظارك.
دمت لي أخًا وصديقًا.
****
موسكو 10/10 1968م
صديقي!
بدأت أغوص في بحار مبهمة. فأنا أتوق إلى فراق الأشياء التي كانت مزروعة في داخلي. لقد غادرتني مدينتي وتركتني مثقلًا بالأحاسيس اللّزجة، فصارت اللحظة الحاضرة أشبه بإبرة الحاكي تنغرس بي، وهي تقول: إن هذه الطائرة ذات المحركات الأربع، تحملك الآن وهي لا تدري أتطير بك أم بعد لحظات ستطير معها. وحين لاحت موسكو بوجهها الليلي بدت لي كغول يفتح بطنه الكبيرٍ ويبتلعني، وأخذ لهاثه يبعث القشعريرة في جسدي. وفي الصباح أخرجتني أرنبًا في عالم من القطط. يعجز عن أن يفهم أي شيء من حوله، فلم يتبقَّ لي بعدها إلا الحيرة.
ها أنذا يا صديقي أجول في شوارع موسكو! وبعدها لن يبقى لي إلا أن أقضي الساعات الطويلة، بحثًا للعثور على البيت الذي وضعنا فيه؛ حيث سنعيش وسنتعلم وننام داخله.
يعود الليل، ثم يعود من جديد، فلا ينبعث في داخلي إلا صوت هذا الارتطام الغامض. فأبدو كمكوك عتيق يسعى أن ينسج شيئًا ما… لقد ثملت بالأحاسيس إلى حد أني لم أعد أدرك كُنْهها. قد يتوهم أحدنا أنه اكتشف نفسه، وأنه (يعرف ما يريد)، لكن ذلك يبقى رهنًا بالارتطام الحقيقي مع العالم في مرجل الحياة الذي يغلي. عندها يعود ويرى أن ما عرفه عن ذاته، يترجرج في تلك الحرارة.
فماذا ستفعل؟
تملّكتني لحظة شوق غامرة للخلاص من ذلك الإبهام الذي استقبلَتني به موسكو؛ لأبدأ بتذوق طعم هذه الغربة… وموسكو تستعد لاستقبال شتائها القاسي.
يتناهى إليَّ الآن صوت موسيقا بروكوفييف فتهب حبيبات القشعريرة على جلدي. ويمّحي من ذاكرتي الدوران العبثي للأسطوانة السوداء.
في رواية «الوضع البشري» لمالرو، ثمة صورة لذاك الألم الذي يشبه هذا الألم المتقوقع في داخلي وأحاول الخلاص منه… في تلك الرواية يموت الأبطال، لكن لكل منهم ميتة خاصة به. الإرهابي العقائدي (كيو) يموت ويتحول جسمه إلى شظايا تلطم سيارة (تشاي كان شيك)، أما (تشن) الذي يعي أنه قد فقد نصفه الأسفل، وأن الشرطي المرتزق الذي يلكزه ككتلة لحمية مبهمة، يتساءل:
هل قُتل تشاي؟ يموت كيو! وتموت ماي بموت حبيبها. ويموت الأب بموت ابنه… فلا يبقى إلا الألم من الوضع البشري.
****
بلا تاريخ
دمشق
أيها الصديق البعيد!
عذرًا لتأخري في الكتابة لك يا محمد! بم توحي إليك ثلوج موسكو؟ وما تشعر به وأنت ترى متاحف ومسارح موسكو وتتذكر حارات وأزقّة باب سريجة؟
كيف تسير الأمور معك؟ هل ما زلت أرنبًا بين القطط، أم أنك أصبحت قطًّا أهليًّا؟
عندما يطوِّح بي الخيال، أتأمل قبضة ثلج من موسكو، وأراني متجولًا في الساحة الحمراء وساحة مايكوفسكي. وهنا أسألك أيها الرفيق البعيد، أيهما أجمل الحقيقة أم الخيال؟ عندما يتجسد الحلم هل يفقد شيئًا من نقاوته وروعته؟! كل الأحلام تموت في بدايتها، أو في نهايتها.
كيف يتغلب الإنسان على الشعور بالغربة؟ وما معنى الحنين إلى الوطن الذي قرأنا عنه كثيرًا في القصص والروايات.
اليوم بدأ عندنا شهر رمضان المبارك. هل تحنُّ إليه أم تراه عادة من عادات العالم الثالث؟
أرى أن شهر رمضان يبعث في نفسي رعشة ورهبة وإجلالًا، بل وخزاتٍ طويلة تلجُ إلى أعمق أعماق نفسي. فأتساءل: هل هذا الشعور نتيجة للتربية المتوارثة، أم أنه رد فعل يفصح عن قصور الإنسان وعجزه. هذا العجز الذي يبدو جليًّا في ليلة ممطرة أو مرض ثقيل، ويبدو جليًّا أكثر حين نتفكّر في عظمة هذا الكون وأسراره.
والآن دعك من أسئلتي. ما مدى نجاحك في تعلم اللغة الروسية؟ أسألك ذلك لأعرف إن كان باستطاعتك أن تمدنا بجواب عن بعض الأسئلة. ناقش كثير من المفكرين الماركسيين في الشهر الأخير كتاب روجيه غارودي «واقعية بلا ضفاف» وكتابه الأخير «هل يمكننا أن نكون شيوعيين اليوم؟». المهم أن أفكاره تثير جدلًا يوميًّا، ويعتبره البعض أنه تحريفي، وأن تعريف الواقعية الاشتراكية في كتابه «واقعية بلا ضفاف»، تعريف فضفاض ومائع، بل إنه نحر معنى الواقعية الاشتراكية كلَّه.
أريد جوابًا استنادًا إلى رأي النقاد السوفييت إذا أمكن.
ذلك أن كتبهم المترجمة إلى العربية جملة بديهيات لا أكثر.
بالنسبة للكتب التي أريدها سأكتب لك أسماءها الآن، أما عن الثمن فتقول لي ما هو، ثم أرسله لك بالبريد أو أرسل لك بعض الحوائج إذا أردت، ولك الشكر.
الكتب المطلوبة هي:
1- «المشاكل الفلسفية لفيزياء الجزيئات الأولية». بالإنجليزية.
2- «مشاكل علم الجمال المعاصر».
3- «المنطق ونظرية المعرفة ووحدة الأضداد» للفيلسوف ب. كيدروف بالفرنسية، وهناك كتاب سنوي يخرج كل عام باسم «العلم والإنسانية»، وأي كتاب عن فلسفة العلوم أو المنطق الرياضي باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
ولك ألف شكر.
* **
[HEADING=3]موسكو 29 / 3 1969م[/HEADING]
[HEADING=3]صديقي فيصل![/HEADING]
يقول الشاعر الروسي الكبير ألكسندر بلوك: «الزمن يغفر للفنان كل الذنوب ما عدا ذنبًا واحدًا هو خيانة روح عصره…». فقد كان همُّ بروست أن يكتشف كل إنسان في ذاته رؤية جديدة للأشياء والناس.
لم ألتقِ بذاتي بعد. لم أمسك بها بعد. لم أكتشف العلاقة بينها والعالم المحيط بعد. فالإمساك بالذات هو الطريق لرؤية العالم والإبداع، ولكي أكون الشيء الذي أحلم به.
في الماضي كان حواري مع ذاتي أخرس. حين أطلُّ اليوم على هذه الذات أحس وكأني أطل على صندوق زجاجي لا قعر له. حين أتأمل زجاجه أرى الغبار المتراكم على حوافه… فالأشياء التي عشتها حتى الآن أشبة بركام بارد. كل ما أريده هو أن أعثر على الوسيلة التي تجعلني أرى العالم وأن أستبصر علاقتي بالأشياء المحيطة بي.
أقف اليوم أمام الحاضر برعب وذهول محاولًا وعيه وامتلاكه كي لا يفلت مني. فأصبو أن أتمكن من الوصول إلى التطابق بين الوعي وعلاقتي به. أعترف أن كل شيء لم يحقق ذاته بالشكل المطلوب. كأن كل ما رسمته لنفسي، وأنا أقدم على تجربة الحياة في بلد أجنبي، كان كأنه كذب على الذات. فالكثير من الطلبة المحيطين بي قطعوا شوطًا كبيرًا، وما زلت أدور في حلزون منخور. الذي يريد أن يصنع من ذاته شيئًا ما، لا بد له من العمل! لكن كل الأشياء ما تزال تبدو لي بعيدة. ولا تبدو أمامي القدرة على بناء شيء.
حين تعيش في مدينة كموسكو فإنك تغرق في عالمها، قد تنسى مشاهد تشييع الموتى مثلًا! فقد انتابني ذهول كبير وأنا أسير في موسكو حين لاحظت للمرة الأولى تكتلًا من الوجوه الحزينة، من ذوي الشعر الكثّ والأبيض الملوث بصفار دخان مديد، يلبسون ملابس فقدت ألوانها، ويسيرون بأقدام تزحف بلا رغبة نحو سيارة تحمل صندوقًا للموتى. وبدلًا من الصوت النحاسي لمؤذن ما، كان يتناهى حفيف آلات النفخ وهي تنشج حزنًا.
توقفت وتأملت المشهد الذي كان كافيًا ليحسسني بالنهايات. ثم ركضت فتاة صغيرة بفرح وهي تردِّد: أريد أن أرى حزن هؤلاء الناس! فتساءلت مع نفسي:
ترى هل الحزن واحد في هذا العالم؟!
****
تولوز.. رسالة بلا تاريخ
أخي العزيز محمد!
سلام وتحية.
ما كنت قد عبَّرت لك عنه كان مزيجًا من الاحتقار والغضب واليأس، فأن ترى تلك الكوميديا السوداء في الوطن العربي؛ شيء يخلع القلب. مجموعة من المهرجين يقودون مصير أمة مهزومة، لا شك أن وجود هؤلاء الأقزام يضاعف الهزيمة أو يوطدها ويؤبدها إذا أردت. ومما يزيد الصورة قتامة، تلك الجماعات البشرية التي تأكل وتشرب وتصفِّق وتعيش على العادات.
ماذا نفعل في تلك الصحراء البشرية؟ وهل هناك مكان نرمي به بعض البذور التي نحملها، إذا كنا نسقي بأنهار الوحل العائمة، وماذا ننتج في مجتمع سحابه لا يمطر وأرضه رملية؟
لا يزال امرؤ القيس يعشعش في كل رأس، وسيف عنترة البتار يلمع، في حين أن النابالم وصواريخ الفضاء أحالت شاعر القبيلة وفارسها إلى مهرج بلا بنطال.
يا رفيقي إننا بحاجة إلى مجتمع جديد، وإنسان جديد، إن العالم المعاصر أضحى من التعقد بحيث يحتاج إلى مضاعفة العمل ومضاعفة التخصص. لقد نام كل شيء، إنه موت في الحياة لن يعطيك إلا الحزن والاغتراب.
لست أدري ماذا أكتب لك عن الأخبار الأدبية والسينمائية، إذا كنت تهتم بشيء خاص يمكن أن أتابعه باستمرار لك. أبرز خبر عامٍّ هذا العام هو كتاب سارتر الجديد عن فلوبير بعنوان «أبله العائلة» وهو كتب يقع في ثلاثة أجزاء، 2000 صفحة، بدأه سارتر منذ عشرين عامًا، وقد قام بتطبيق التحليل الماركسي والتحليل النفسي على حياة فلوبير وأعماله. أفضل ما في فرنسا أبحاث النقد الأدبي، صدر حديثًا كتاب رائع كما يقال اسمه «بيوتيقا دوستويفسكي» لمؤلف سوفييتي. لا تزال ضجة هذا العام هي ألكسندر سولجنستين، صُوَرُه في كل مكان، طباعة فخمة لروايته، وخاصة الدائرة الأولى، دراسات مستمرة عنه، صدر له كتاب اسمه «الكاتب وحرية الرأي»، وصدر عنه كتاب اسمه: «أديب سوفييتي بوجه إنساني».
أعتقد أنه صهيوني. على كل حال تأتي قيمته هنا فقط من كونه أداة ضد الاتحاد السوفييتي. شاهدت هذا الأسبوع فلم فيسكونتي الأخير: «الموت في فينيسيا» المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لتوماس مان، الرواية لها طابع ذهني، إن عظمة فيسكونتي أنه استطاع تشخيص هذه المشاعر والأحاسيس التي تملأ هذه القصة القصيرة. فيسكونتي أعطى الفلم مضمونًا سياسيًّا واجتماعيًّا واضحًا. أرجو أن تسأل لي إن كان هناك كتب فلسفية تصدر عن أكاديمية العلوم بالفرنسية أو الإنجليزية.
سأحاول أن أكوِّن لك مجموعة كتب فنية وأرسلها. أنتظر الحصول على منحة وعندها يمكن أن تطلب ما تشاء. سأذهب إلى باريس هذا الأسبوع وأبقى حتى نهاية الشهر. عنواني هو نفسه حيث تحوّل لي الرسائل إلى باريس. آمل أن أُنهي أطروحتي العام القادم، أحدثك عن عملي في رسالة قادمة.
****
موسكو 18/11 1970م
فيصل
أستطيع القول: إنه قد بدأت في حياتي هنا مرحلة أكثر صعوبة. وهي في جوهرها أكثر امتلاءً وأكثر قلقًا. وهي تحضن في داخلها انكسار قشور العفوية والغربة، التي كانت تميز وجودي في هذه المدينة. وتضعني اليوم وجهًا لوجه أمام الهدف الذي جئت من أجله. قد تكون أكثر تعقيدًا وأقل متعة.
ليس سهلًا أن تفكِّر في كل لحظة، بمسؤولية أن تكون مخرجًا سينمائيًّا! وليس سهلًا أن يبتلعك هذا ويتمفصل داخل حسك وعظمك وجلدك، وأن تواجه هذه المسؤولية في كل لحظة.
أريد في البداية أن أكرِّس طاقتي بشكل جدي لمشروعي هذا، لذلك اعتكفت على الأقل في البداية عن مشاهدة أي عمل مسرحي أو حضور أي حفل موسيقي. وغرقت في مشاهدة كمية كبيرة من الأفلام ابتداءً من لوميير ووصولًا إلى الحرب والسلام… فأخذتْ هذه الأفلام تترسب في داخلي في تجربة يصعب الكتابة عنها في مثل هذه الفترة. ستظل تجربة الحياة في موسكو، بالنسبة لي تجربة حية، ثرة، عميقة، وترفدني بكثير من الوعي والإدراك اللذين أصبو لهما.
شعور الشك بالذات، من أقسى المشاعر التي يواجه بها الإنسان نفسه، خاصة حين تصرعه المواجهة اليومية والامتحان الدائم. فمن السهل أن يجتاز الإنسان امتحانًا ما، وقد يستطيع أن يواجه صعوبة امتحان آخر… لكنه من الصعب أن يبقى دائمًا في مواجهة مع أن يكون مخرجًا سينمائيًّا، وأن يقف أمام تصوره لهذا الاختيار متسائلًا كل لحظة عن المتابعة أو التوقف. وعن القلق في النجاح أو الفشل.
لقد لفت نظري آلان روب جرييه الذي كتب سيناريو فلم «العام الفائت في مارينباد» وأخرجه آلان رينيه. لقد شعرت أنه يستخدم إمكانيات السينما الفنية في التعبير عن قضايا جدية وحساسة وبأسلوب قريب من التشكيل الشعري. في العام الماضي شاهدت فلمه الآخر «قطار أوربا السريع». وأحسست أن الدفق الشعري الذي اتصف به فلم «الخالدة» كان مفقودًا تمامًا، والفلم رغم جدية وقوة الموضوع الذي يعالجه هو فلم يدعو لتأمل كبير.
كتبت كوظيفة للمعهد سيناريو بعنوان «ليلة شبيهة بغيرها» وهو سيناريو روائي لفلم قصير، وهو ليس للتنفيذ، لكنه مرحلة من المنهج الذي يتبعه المعلم في إعدادنا…
****
تولوز.. بلا تاريخ
الأخ محمد!
سلام وبعد.
نلهث في البحث عن أفضل العوالم، ونحنُّ إلى صباح قادم لم يأت بعد، فنظن أن ما نريده سيولد قريبًا. أحيانًا قد يتجسد الحلم، ويولد الصباح المنتظر، فنجد أن الحلم ولد مشوهًا، وأن الصباح الجديد لم يحمل معه شيئًا.
هذه الدوامة تمزق الإنسان، تخلع منه القلب وتتركه يراوح في عالم أسود لزج، بين الحلم والواقع؛ هوة لا تتجاوز أشواق الإنسان، تُخنَق قبل قدومها. عندما كنت مراهقًا قبل عشر سنوات كنت أعود إلى البيت في المساء، واليدان في جيوب المعطف والخيال مطلق السراح، حسرة وحرقة وحسد لأناس يدرسون في الغرب. وأقول: هل يجيء يومٌ أرى فيه ضباب باريس وشوارعها الضيقة. أنهار الثقافة، ممرات وردهات السوربون، ثم جاء يوم ووصلنا، لا أرى في الحياة جديدًا، وما أريده لم يأت بعد. الحياة متاهة وكثرة البحث تقتل الإنسان. ربما نرى بالقلب ما نريده، في حين أنه يجب أن يُرى بالعين، وأن نتعامل معه باليدين والعقل والجسد ومعايير الفعل والإنجاز والتراكم الكيفي والكمي…
الفن تعلّم أم معاناة، هل يمكن أن يصبح الفنان فنانًا عن طريق الدروس والتعليم، أم أن الفنان كيان فردي وتركيب نفسي يؤديان به إلى الإبداع؟ أعتقد أن الفنان يرى العالم رؤية مختلفة عن رؤية إنسان عادي، ينفُذ إلى جوهر الواقع، يشرحه، يُجزِّئه ثم يعود لتركيبه من جديد في رؤيا جديدة، ويقذفه إلى الجمهور كخلق وإبداع. إنه يظهر جروحًا لم نرها، وينير عالمًا لم نره، ويطرح مشكلة لم نعرفها، وهذه الجروح والعوالم والمشاكل نراها كل يوم، لكننا عاجزون عن رؤيتها بغير الفنان، فالفنان موهبة وبحث وثقافة وربما تعلّم.
أقول هذا بعد رؤية فلم ياباني اسمه ‹بيت العنكبوت›، كيف تعيد خلق العالم بالكاميرا، كيف تحرك عالم الإنسان الداخلي بالصورة واللون، كيف تجعل الإنسان يفكر بالكاميرا.
عالم الفنان عالم عجيب.
الفلسفة دائرة مغلقة من الأفكار، ليس عندي شيء أحدثك عنه، نفهم الحياة بالمعاناة وليس بالكتب، الكتب تزوِّدني بالألفاظ، والحياة بالمعنى. تصدر هنا مجلات كثيرة جدًّا ورائعة عن السينما، ولكن باللغة الفرنسية. إذا أردت أرسلها لك شهريًّا.
****
موسكو 27 / 4 1971م
العمل السينمائي الأول الذي طلبه المعلم «الماستر» تالانكين منا؛ وفقًا للمنهج الخاص بمعهد موسكو يشترط أن تروي حدثًا لا يتطلب الحوار. وأن يكون الحدث واقعي ويحصل في الأماكن الطبيعة فقط (أي ليس داخل الأستُديو). وأن يكون متصلًا مع شروط الحياة والعيش في البلد الذي ينتمي له الطالب. بالأمس شعرت وأنا في قاعة العرض بعد انتهاء الفلم الذي شاهدناه؛ أن شاشة السينما هي أكثر الأشياء حساسية وقدرة؛ وهي أدق المرايا في الكشف عن الذات الحقيقية والخفية لصانع الصورة. فقد يستطيع المبدع أن يختفي وراء الكلمات؛ لكنه لن يكون قادرًا على الاختباء وراء الصورة التي صنعها.
حين عدت من سوريا حاملًا الصور التي صورتها هناك للفلم الذي أريد تحقيقه الآن، بدا لي أن هذا «الرشز» (المواد المصورة) يتضمن كل شيء لتحقيق الفلم. وحين شاهدت المواد المصورة لأفلام الطلبة الآخرين بدا لي أنها تفتقد للكثير مما يمكن له أن يحقق تلك الأفلام التي طمحوا لتحقيقها.
بالأمس عرضنا الأفلام بشكلها الأخير. لا أعرف لماذا خرجتُ بعد العرض وأنا أشعر بصفعة على وجهي!… فقد بدا لي أنهم قد حققوا ما كنت أعتقد أنه ناقصًا؛ وأنجزوا أشياء جيدة وجميلة. وأني ما كنت أعتقد أنه بلا نقصان كان ناقصًا.
ليس هذا تقييم، وليس المقصود الجودة أو السوء؛ بل القراءة لما ترى؛ والاستقبال بلا خيال. فاستيقظت في الليل وكتبت في دفتري: «مشكلة فلمي كونه قصة مصورة».
يبدو لي أنه لا بد لي من طلاق بيني وبين القصة الأدبية. ورؤية العالم ببصرية محضة. السينما يجب أن تولد في داخلي من جديد على أنقاض فلمي الأول».
بدت لي هذه الكلمات التي كتبتها بكل نزقها؛ يجب أن تشكل مسارًا وجدانيًّا يعتلج في داخلي منذ فترة. ربما أكون بهذا قد وضعت أصبعي على المشكلة الأساسية في داخلي.
وأنا إذ أتناول هذه التجربة الأولى بصرامة؛ فلأني أحس أنه يجب الاستعداد للتجربة الثانية خلال الأيام القليلة القادمة. ربما للمعلم (تالانكين) رأي آخر. فقد عمد دائمًا وبصورة غير مباشرة على تشجيعي على الكتابة، ودائمًا كان يصف ما أقدِّمه له من نصوص أنها أدب بصري. كما لا يمكنني أن أنسى أستاذي العجوز (فيلونوف) مدرس المونتاج الذي عمل مع (إيزنشتاين) وكان شريكًا لـ(كوليشوف) مكتشف المونتاج في السينما. فبعد أن شاهد المواد المصورة في سوريا لفلمي هذا؛ خرج من صالة العرض ودمعة على طرف عينيه؛ وقال لي: فاحت لدي رائحة الواقعية الجديدة الإيطالية! وقد كان لعرض فلمي «حلم مدينة صغيرة» قبل أيام في القاعة الكبرى للمعهد على جمهور واسع من الطلبة والأساتذة؛ أن ذقت ولأول مرة طعم شيء جديد هو صوت الأكف بالتصفيق.
****
بلا تاريخ باريس
محمد يا صديقي البعيد،
العلاقة بين الفنان والفيلسوف موضوع طريف وشائك في الوقت نفسه، والذي أراه أن الفنان يمكن أن يطرح فلسفته في الموضوع المعالج، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا في جملة من أعماله، فالتعبير بالصورة عن فكرة ما، يحتاج إلى جهد مستمر متواتر. وهو عمل لا يصل إليه إلا القلائل جدًّا.
يحزن الفنان عندما يرى أن ما يريده لا يصل إلى الآخرين بالوضوح المطلوب، ومن هنا يشرع هو بعمله من جديد، فإذا انتهى منه بدأ بعمل ثالث، أي أن ما يعبِّر عنه الفيلسوف بوضوح وإتقان وخلال سطور معدودة، يعرضه الفنان خلال آلاف الأمتار وخلال صور جميلة ملونة. برغمان فيلسوف رائع وفنان حقيقي مدهش، إنه يعبِّر عن الفكرة خلال سلسلة من الأعمال والرموز، ولكنه يقدم فكرته كما يريدها كاملة من دون نقص، من دون اغتراب، إنه يصافح فكرته بوضوح، فهو يتناول دائمًا مشكلة الموت والجنس والزمان. وقد عبَّر عن هذه الأفكار في أفلام عديدة. فهو فيلسوف حقيقي. إنك ترى أفكاره تنبض بالحياة وتتنفس وتتحرك من دون غموض ولا تعثر، ونلمس ذلك بوضوح في فلمه الرائع: «الصمت». هذا الفلم معجزة، إنه تصوير ذكي وبارع لمشكلتَيِ الجنس والموت اللتين تتصارعان داخل الإنسان منذ مولده حتى مماته.
بالنسبة لدراستي جيدة. بدأت هذا الأسبوع بتحضير الدكتوراه وعنوانها «الدِّين ومشكلة الاغتراب عند ماركس»، وعلى هذا فأنا مضطر لقراءة ما له علاقة بالدِّين وبالاغتراب، مشكلة الاغتراب تأخذ أهمية كبرى الآن؛ إذ إن فهم مشكلة الاغتراب، من خلال ما كتبه ماركس يثير خلافًا كبيرًا، فإن ماركس قد شرح مُشكلة الاغتراب في المخطوطات الاقتصادية الفلسفية عام 1844م. وهنا يبدو ماركس فيلسوفًا مهتمًّا بالإنسان فقط، إنه ذو نزعة إنسانية كاملة، ثم عاد في كتاب «رأس المال» فشرح مشكلة الاغتراب انطلاقًا من ماهية الاقتصاد السياسي البرجوازي، أي كما يقول البعض سقط في الميكانيكية الاقتصادية.
فالتوفيق بين مفهوم الاغتراب عند ماركس الشاب وماركس في مرحلة النضج يثير خلافًا كبيرًا، فالبعض يرى أن ماركس في مرحلة الشباب كان هيغيليًّا، وهو يتابع فلسفة هيغل، (هيبوليت) وآخر يرى أن ماركس الحقيقي هو فقط في رأس المال، ويجب حذف مرحلة الشباب (آلتوسير)، وثالث يرى أن مؤلفات ماركس متكاملة ليس فيها انقطاع (غارودي)، ثم هناك مشكلة الاغتراب والمجتمع الصناعي.
****
باريس.. بلا تاريخ
عزيزي محمد!
يكون الكاتب أصيلًا عندما يستطيع التعبير عن عصره، وكلمة المفكر بالنسبة لي تشمل كل من يعمل في حقل الثقافة، الأديب، الفنان، العالم. من ينشغل بالتعبير عن همومه الخاصة، هو فنان زائف.
أقول هذا بعد أن رأيت أعمال سينمائيين كبار، إنهم كبار؛ لأنهم من ثوار هذا العالم، إنهم ضمير العالم كما يحلو للبعض أن يقول أحيانًا. رؤية العالم من خلال منظورٍ أخلاقيِّ المضمون هي رؤية محافظة.
إن الفنان السينمائي وهو يحمل راية الفن السابع، يمكنه أن يأخذ دورًا طليعيًّا في النضال الأيديولوجي. توني ريتشاردسون في فلمه الرائع «نيد كيلي» عبَّر عن الصراع الطبقي في أيرلندا، وعن رؤية البرجوازية التي ترى في المناضلين أناسًا لم تحسن تربيتهم وأخلاقهم، ثم أظهر قوى القمع التي تقتل كل المتمردين باسم القانون والأخلاق والدين، وأنهى فلمه بأن التاريخ يسير لصالح المستَغلين والثوار. هذا موضوعه، أما أصالته فهي التعبير عن هذه الرؤية السياسية بتكنيك متقدم، الغناء الشعبي والتصوير والحوار الدقيق، ثمة الواقعية الشعرية لمضمون سياسي، في تطابق بين شكل ومضمون متقدمين.
ميلوش فورمان نفَذ إلى قلب البيروقراطية في فلمه «قص البستوني»، النخبة، أي الحزبيين الذين يخرجون من قلب الشعب كمعبِّرين عن مصالحه، ثم يصبحون طبقة جديدة، لا جسور بينها وبين الشعب. فلم سيرجي ليوني «كان هناك ثورة» يدافع عن عفوية الجماهير في النضال، وكيف أن الفلاح البسيط إذا عرف أول الدرب سار حتى النهاية، على عكس المثقف الذي يبدأ مع الثورة، ونادرًا ما يسير حتى النهاية. الآن يعرض فلم ليلوش الجديد «المغامرة هي المغامرة» إنه فلم فيه كل الذكاء والفن لكن للتجارة، إن ليلوش لا يرى في السينما إلا أداة للتسلية اللطيفة عن المتفرج، ووسيلة لخلق رصيد في البنك، إنه أغنى فنان سينمائي في فرنسا. وتدعمه الحركة الصهيونية دعمًا ماديًّا كبيرًا. بدأ هذا الأسبوع عرض فلم غودار الجديد «كل شيء يسير بشكل حسن» الذي كانت الرقابة قد أوقفته. مع عدم إعجابي بالسينما الفرنسية، إلا أن المنحى الذي سلكه غودار مثير للفضول، فهو يرى في السينما أداة للصراع الأيديولوجي. ولكن هل الحديث عن هذا الصراع في ذاته يشكّل فنًّا؟
يقول غودار: إن فلمي ليس عن السياسة، بل هو السياسة بعينها، إن أي عمل فني لا يرى الظواهر من خلال الصراع الطبقي هو عمل رجعي، والسينما ليست للتسلية، بل للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة.
****
موسكو 26/2 1972م
أحس بتعفن اللعاب في فمي صمتًا.
إني كتلة باردة هرمة من دم يتخثر، ومرمي كأحد قطع الأثاث في هذه الغرفة الميتة، حيث يسيح من حولي زمن مذاقه مر. قرأت مجلة سورية من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة، فشعرت أني أزداد غثيانًا، وأني أغوص في وهدة موحلة تفوح بالرعب والإهانة… فالكلمات تحسسك بالذل، والكوابيس تقفز من وراء السطور وهي أقوى من أن تكون قادرًا على تحملها، كلمات ملأى بالغبار السام، والأحرف قطع من صفيح محترق. والأفكار هذيانات لدغتها الهزائم. ربما لا يحتاج المثقف إلى اختصاصي ليكتشف معه هذه التوجهات للدكتاتوريات من راضعي حليب البراغماتية الأميركية.
ترى هل هو الجهل أم العمالة؟
التراجيديا العجيبة التي تحدث في غزة اليوم، يقابلها كوميديا مولييرية بحتة في الضفة الغربية. الليل علامة مبهمة، والظلام بلا سَدَفٍ وبلا أعماقٍ وبلا سطوح. آه! أيتها العتمة ما أشبهك بالأسى الذي يدب في أعماق الروح. الغربة أشبه بعبور على سِرَاط مصنوع في أحدث معامل (نيو سوبر جيليت)، سِرَاط يطل على أربع هاويات. فعليك أن تختار. وإذا كان هناك فرق بين هاوية الجنة والنار، فإن هاويات الغربة الأربع لا فرق بينها. في كل الأحوال ليس أمامك إلا أن تستمر، فالسقوط لا يقل عذابًا عن العبور. كنت يا صديقي في رحلتي إليك في باريس تبحث عن شيء ما مفقود في وجهي، وكنت أبحث عن الشيء المتبدل في وجهك. فقد بدا لي أنه حين كنت في دمشق كان الحزن في عقلك، وفي باريس صار في عينيك. لكن كلانا كان يحس أن دمشق ثالثتنا دائمًا… وأنها كانت تتسرب في مطر باريس، وفي الكرسي الثالث في غرفتك، حيث تجالسنا أكثر من نصف الوقت في زيارتي لك ولباريس، في منحدرات مونمارتر، وخلف الأرغن في (نوتردام). كانت في ذعرنا وفرحنا وكآبتنا، ولكن غاب عنا في كل ذلك أي نوع من الحنين.
****
باريس 1/ 10 1973م
عزيزي محمد دمت سالمًا.
الآن أقطف العنب في بوردو، أطير وأمشي وأبحر للوراء. في بحر الريف الفرنسي، يعانق الإنسان هنا جملة عوالم، تصفق اليدان فتتطاير هذه العوالم كغيوم بيضاء سارحة. وفي لحظة زمان كثيفة يتعانق الحلم والماضي والحاضر وطيف أيام قادمة وشتات أيام مضت، فلا أعرف أيًّا أحتضن منها. لا تخضع لا لمنطق الزمان ولا لمنطق المكان. في ساحة ترقص أمام العين حزمة من الصور، حزمة كالحلم لا تخضع للمنطق، لكنها ترسم بوهن صورة ذلك الغريب الحائر أرى صورًا عديدة، ربما سأكتبها بعفوية وبلا تكلف، سأرسم ما يطفو على وجه الشعور، وسأكتب ما يحرك أو يحركه اللاشعور، في هذه اللحظة يتلاقى عالَمانِ فقط، وجودي الجسمي، حجم إنسان في الريف الفرنسي ومجموعة صورة حارقة تكسر وجه الصمت، إذا حدقت جيدًا أرى عينَيْ والدتي الذابلتين، إنهما عينان أفرزتا دمعًا حتى الشبع، أرى وجه صديقي محمد، وجه لطيف يبحث عن عالم رآه يومًا ما في حلم، أرى صورة صديقي محمود البداوي وقد صرَّ نفسه في يوم شتوي، أرى نفسي طفلًا أركض تحت المطر، وأرى وجه والد هدّه التعب ينتظر بعينين بارقتين مجيء ولد ضيَّعه السفر، وأرى وأرى وأرى…
في مثل هذه اللحظات المسكونة بالحنين، لا أذكر من عوالم الكتب شيئًا، ولا أرى في الماركسية إلا كتابًا بين كتب أخرى كثيرة، جاءت واستمرت وبقي العالم كما هو.
عزيزي محمد!
الصفحة الأولى من هذه الرسالة، كتبها صديقك وهو شارد حزين، الآن يكتب لك وهو صاح، ربما الفرق بين الاثنين قليل، لست أدري على أية حال أيهما أفضل! كتبت لك مرتين ولكن لم أتلقَّ جوابًا، لست أدري ماذا تفعل وما هي مشاريعك، أتمنى كثيرًا أنا أرى أحد أفلامك، أتمنى أن أرى كيف يجسد صديقي الحالِمُ رُؤَاه، كيف يعبر محمد ذلك الإنسان الشاعر عن فكره بصور. التعبير عن الفكرة بصور شيء رائع، ربما أعبِّر أنا عنها بسلسلة من السطور ذات الكلمات المجردة الغامضة، أنت تجعلها تحبو، تتحرك، تحقنها بمجموعة من الصور الحية، تلقي عليها ظلالًا ولونًا وموسيقا، الفكرة تحبو، ذلك قمة الإبداع.
عندي الكثير لأقوله لك، لكن الصمت بيننا قد تطاول، ربما سنرقع ذلك الصمت اللامرغوب في رسالة أخرى.
تتوالى الفصول، ويهطل المطر، وتزرع الغيوم من جديد في بحر السماء ونحن نقف في ميناء الغربة ونكتب للأصدقاء، ونقرأ كتبًا عن الاغتراب.