ليست وكيلة للآخر الغربي في كتاباتها، إنّما تعد الناقدة العربية يمنى العيد عقلية نقدية «ناقدة»، عرفت كيف تستفيد من تجارب الآخرين، طوال مسيرتها النقدية التي تمتد نحو نصف قرن، وهي مُدربة على إعادة إنتاج الوافد داخل الحقل الثقافي العربي في ضوء ما تمتاز به النصوص من تميّز في الخطاب، وخصوصيّة في الحكاية.
واستطاعت الأستاذة في الجامعة اللبنانية، أن تتصدر مشهد النقد الأدبي العربي، والدراسات الفكرية والإنسانية، عبر مؤلفاتها الكثيرة، وأهمها «في معرفة النص» (1983)، و«الكتابة، تحوّل في التحوّل» (1993)، و«في مفاهيم النقد وحركة الثقافة» (2005)، و«حول نظرية الرواية: الراوي، الموقع والشكل» (1986)، و«تقنيات السرد الروائي» (1990)، و«فن الرواية العربية» (1998)، و«الرواية العربية: التخيّل وبنيته الفنيّة» (2011). ولها في السيرة الذاتية «أرق الروح» و«زمن المتاهة».
البدايات كلاسيكية لا ماركسية
في وقوفنا على محطاتها النقدية الأبرز، نستهل بما يُشاع في الأوساط الأكاديمية العربية أن بدايات «العيد» النقدية كانت ماركسية، ربما استنادًا إلى شيوع الرؤى اليسارية حينما بدأت الناقدة اللبنانية في الظهور بكتاباتها، كذلك اتساقًا مع مضمون كتابها «الدلالة الاجتماعيّة لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان» (1979)، ناهيك عن مشاركتها مع محمد البكري في ترجمة كتاب «الماركسية وفلسفة اللغة» 1986 لميخائيل باختين.
بيد أن قلة تلتفت إلى 3 كتب نشرتها الباحثة قبل الكتاب المشار إليه، هي: «أمين الريحاني رحّالة العرب» 1970، و«قاسم أمين إصلاح قوامه المرأة» في العام ذاته، و«ممارسات في النقد الأدبي» 1975.
ولم يكن الكتابان الأولان لهما علاقة بالماركسيّة، بل كانا أقرب إلى الدراسة الكلاسيكيّة التي تُعرِّف بالأديب وحياته وعصره، إضافة إلى أسلوبه وتحليل مختارات من نتاجه. أما الكتاب الثالث فهو عبارة عن مجموعة دراسات لموضوعات متنوّعة تسعى لكشف الموقف أو الرؤية الفكرية في النصّ، إضافة إلى خصائصه الفنيّة. وقد مهدتْ المفكرة العربية لهذه الدراسات بفصل أول ميّزتْ فيه بين النظريّة والممارسة، وأكدتْ على حاجتنا، آنذاك، لممارسة النقد كي نستنتج من الممارسات النظريّة النقديّة بدل التقليد وإصدار الأحكام.
وسبق أن أوضحت العيد أن هاجسها الأول كان تكوين وعي معرفي، لا بالنّص الأدبي أو بما نقرأ بل بذواتنا وواقعنا، وعي معرفي ضدَّ الجهل الذي كان ثمنه، لدى كثيرين، الحرمان والبؤس ونسبة كل مصيبة إلى القدر. وهو مما كانت تعانيه حولها في نشأتها. وبقي هذا الوعي المعرفي هاجسًا يوم دخلتْ سلك التعليم وأصبحت مديرة ثانويّة للبنات ثم أستاذة جامعيّة. وقد توسلتْ لذلك سبلًا عدّة، منها الحرص على مشاركة الطلاب في الشرح والنقاش، وفي نشاطات وأبحاث تعنيهم، تُعرِّفهم بذواتهم تنمي وعيهم بها وبواقعهم الذي يعيشون. من أجل هذه الأهداف كانت لها مبادراتها الشخصيّة غير المُدرجة في برامج التعليم، وهو مما يُعتبَر تجاوزًا ومخالفة ويُعرضها للعقوبة.
في محبة القارئ
استقر تقريبًا الحوار مع العملية الإبداعية بوجه عام من خلال ثلاثة خطابات يحملها بجمله وتراكيبه ورؤيته، هذه الزوايا الثلاث تخرج من ثلاثية المبدع والنص والمتلقي، فالمبدع ذلك الحائر بين الظهور والخفاء، الحضور والغياب، السرمدي الساكن خلف حروف مطبوعة ورؤية كامنة وشبه مستقرة، والنص القادر على حمل تلك الهموم بجانب إشكالية الصياغة وطرائق التعبير وأنساق الكتابة، كل ذلك يصبّ عند متلقٍ مستعد ومتحفز ومهيأ للاشتباك والاتفاق والاختلاف والقبول والرفض.
ولم تعدم قراءات العيد الاستناد إلى المعرفة بهيكلية النص، ومساعدة القارئ على تجاوز موقفه السلبي من لعبة الكتابة الفنية، فلا يبقى أسير خفائها، أو سريتها، أو ما يمكن أن يتوخاه اللعب الفني من تأثير في القارئ ليس دائمًا نبيلًا، أو صادرًا من موقع التعاطف معه.
وباتت قراءات العيد النقديّة تبغي إعانة القارئ على ممارسة لذّة القراءة من موقع المعرفة لفنية الكتابة، أي بأسرار لعبها. الأمر الذي يصبح أكثر ضرورة وأبلغ أهمية حين تبتذل الكتابة اللعب الفني وتتوجه إلى قارئ قابل للتماهي مع قولها، عاجز عن النقد، متهيئ للتواطؤ مع مفهومها للبطل، بطلها.
توخت مؤلفة كتاب «في معرفة النصّ» حذر أن ينقاد القارئ خلف لعبة الكتابة بلا قدرة على حوارها، وأن تتحول متعته إلى نوع من الأسى اللذيذ، أو الحزن السطحي يؤازر به البطل. إنه حزن يُدخل القارئ في لعبة الكتابة، ويلغي المسافة بين موقعين، لا نقد مع تماثلهما وعدم اختلافهما، هما: موقع الكتابة وموقع القراءة. وهكذا تنحني القراءة أمام النّصّ لا من موقع المعرفة به، بل من موقع غيابها وإمحائها، وتخضع لقول النصّ لا من موقع الحوار والجدل وصولًا إلى قناعة، إنّما من موقع العجز والجهل وفقدان القدرة على النظر والتفكير. ثمة فروق إذن بين الخضوع والقبول، هو الفرق بين الجهل والمعرفة، بين التماهي والتمايز، بين الغياب والحضور، بين العجز والمقدرة، بين أن تكون القراءة مجرد تطويع وقولبة، وأن تكون فعل تكوّن حقيقي، وهو ما سعت إليه الناقدة اللبنانية.
مجاراة حذرة للبنيوية
مع مطلع الثمانينات بدأ المنهج البنيوي في الانتشار عربيًا، وقت أن رفعت النظرية الغربية «العلمية والمنهجية الصارمة» شعارًا، وخضع النص الأدبي للتحليل العلمي، وقبل أن تأتي استراتيجيات ما بعد الحداثة، بخاصة التفكيك مع الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، لتعمد على الانتقاص من قدر الدعاوي العلمية.
حينها، قدمت الناقدة العربية «تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي» 1990، ليبدو كتابًا تعليميًا، وصياغة في السياق المعرفي للحركة النقدية العربية، ومحاولة لتمهيد الأرض نحو إنتاج مرتكز معرفي يساعد على تطوير التجربة النقدية.
وراحت العيد تبحث منهجيًا في بنية العمل السردي الروائي بغرض الكشف عن العناصر المكونة لهذه البنية، وهو ما اقتضى نظريًا التمييز بين العمل السردي الروائي من حيث هو حكاية وبينه من حيث هو قول أو خطاب، فهو حكاية بمعنى أنّه يثير واقعة، أي حدثًا وقع، وأحداثًا وقعت. وبالتالي يفترض أشخاصًا يفعلون الأحداث ويختلطون، بصورهم المروية مع الحياة الواقعية، وهو قول وخطاب، لا انفصال هنا بين متن الحكاية وتشكل الخطاب، دون أن يفقد خطابها النقدي الموازنة بين مجاراة العلمية وتوخي البساطة، وربما التبسيط وقرب التناول وسهولة الأخذ.
وبين الصرامة المنهجية والتبسيط، جاءت رؤيتها البنيوية التطبيقية مخولة صاحبها الإمساك بأسرار هذا اللعب الفني، ومنحه قدرة حوار النص، أو حوار معانيه، قول الذي يحمل، والذي لا يبدده اللعب الفني إلا في عين قارئ جاهل لأسراره.
وفي تطبيقها لأدوات البنيوبة، لم يفت يمنى العيد أن توجه سهام النقد للمنهج، انطلاقاً من إيمانها أنّه لا منهج كاملاً كمالًا مطلقًا، فضلًا عن أن نقد ونقض الأدوات المنهجية تأتيان بمثابة حواره لفسح مجال الذهاب أبعد منه، وحتى لا يكون التعامل معه أو مع غيره وقوعًا مطلقًا في أسره. إذ ذلك يُسيّر المنهجُ الناقد، بدل أن يشتغل الناقد بالمنهج وعليه، الأمر الذي ساهم في تحقيق هدف الكتاب الذي كان مجموعة محاضرات لطلاب الماستر في الجامعة، وقد ساعدهم على التعمق في قراءة العمل الروائي وتقييم خصائصه الفنيّة دون أن يكونوا بنيويّين.
«ممارسة» النقد
تعاملت العيد في مشوارها النقدي، خاصة في كتابيها «في معرفة النص» و«ممارسات في النقد الأدبي»، اللذين تعاملت فيهما بوصف النقد ممارسة، أي نشاطًا فكريًا يشتغل على موضوعه، والنشاط الفكري لا يبدأ من صفر لدى العيد، ولا بدايات بالمعنى المطلق في التاريخ الحضاري للإنسان. ومن ثمّ فالنشاط الفكري هو سلسلة في حقل نشاطه بخاصة، وفي حقل النشاط الثقافي الاجتماعي بعامة، وهو في حقوله غير معزولة عن الممارسات المادية.
دفعتها رؤيتها للنقد كممارسة إلى أن تجتهد في أن يكون استعمالها للمصطلحات والمفاهيم توضيحًا لها، وذلك حتى تندرج المفاهيم في سياق التعبير العربي، فيقرأه القارئ فقط في سياق وروده في النص، وليس صعبًا في مثل هذه الحالة على المتخصص أن يعرفه. ووضعت العيد في نصب أهدافها حين مارست النقد كنشاط فكري، هدف إنتاج معرفة بموضوعها، دون أن تكون نصوصها النقدية مجرد تكرار للنصوص الأدبية وشارحة ومُقيمةً، أو تصبح نصًا أدبيًا موازيًا يخون النص الأول، وإنّما أخلصت للكتابة الأدبية وقوفًا عليها، لتفتح أطروحاتها عينيها، عينًا على الداخل وأخرى على الخارج، والأخير هو حضور في النص ينهض به عالمًا مستقلًا.
أرق ثنائية الاسم
ومن المستوى النقدي إلى السيرة الشخصية، التي روتها الناقدة اللبنانية في «أرق الروح»، واستعادت فيها تساؤلات فلاسفة سبقوها بشأن ما عاشوه من ازدواج، أبرزهم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا.
وبين اسم يمنى العيد وحكمت الصبّاغ الاسم القانوني للناقدة، تقف الكاتبة، لتروي سيرتها التي تبدأ بسؤال وجوديّ لن يفارقها «من أنا؟ هل أنا حكمت أم أنا يمنى؟». في إشارة منها إلى النزاع الشرس بين القفص الاجتماعي وتلك الروح التائقة إلى الخروج من القضبان. وليس هذا الأمر بدْعًا جديدًا في التاريخ البشري كما أشرنا، لذلك تتساءل المؤلفة عن الصراع بين الاسمين، فتقول «هربتُ من حكمت إلى يمنى. تركتُ مدينتي بحثًا عن أفق. أريد أن أتحرر من ذلك الماضي. الماضي وقد قاربت فيه حكمت موتَها مرّتين».
فتاة صغيرة مختبئة
ترى الروائية اللبنانية نجوى بركات أن ثمة فتاة صغيرة، ما زالت مختبئة في كواليس حياة الكاتبة، وقد حان أوان ظهورها كي تحظى ببعض النور والاعتراف. ويمنى التي تغلّبت عليها محققةً أحلامها، تعود عبر الكتابة لتعترف بحقها عليها، فتمسكها من يدها وتذهب الاثنتان في رحلة مصالحة مع الماضي، رحلة لا تخلو من بوح ومساءلة ومعاناة، لأنها رحلة التخفّف مما لم تقله الناقدة في كتاباتها. إذن، عاشت يمنى العيد مخلصة للنصوص ولذاتها، غير مدفوعة برغبة الفهم أو الشرح وحدها، ولا برغبة السيطرة على النصوص فحسب، وإنّما منتبهة جل الانتباه لدورها، ولهدفها البحث عن جوهر الخطابات، التي تفضل بدلًا منها مصطلح «القول»، والبحث عن ذاتها الشخصي، متسلحة في مهمتها بالشجاعة، وهي شرط رئيسي في الممارسة النقدية وخوض غمار الحياة، وعاملة على استباحة الحدود الوهمية للأكاديمية وشروطها القديمة التي لم يعد بعضها يجلب خيرًا أو يبعد شرًا، ما انتهى بها إلى إثارة التساؤلات أكثر من اعتنائها بصياغة الإجابات.
واستطاعت الأستاذة في الجامعة اللبنانية، أن تتصدر مشهد النقد الأدبي العربي، والدراسات الفكرية والإنسانية، عبر مؤلفاتها الكثيرة، وأهمها «في معرفة النص» (1983)، و«الكتابة، تحوّل في التحوّل» (1993)، و«في مفاهيم النقد وحركة الثقافة» (2005)، و«حول نظرية الرواية: الراوي، الموقع والشكل» (1986)، و«تقنيات السرد الروائي» (1990)، و«فن الرواية العربية» (1998)، و«الرواية العربية: التخيّل وبنيته الفنيّة» (2011). ولها في السيرة الذاتية «أرق الروح» و«زمن المتاهة».
البدايات كلاسيكية لا ماركسية
في وقوفنا على محطاتها النقدية الأبرز، نستهل بما يُشاع في الأوساط الأكاديمية العربية أن بدايات «العيد» النقدية كانت ماركسية، ربما استنادًا إلى شيوع الرؤى اليسارية حينما بدأت الناقدة اللبنانية في الظهور بكتاباتها، كذلك اتساقًا مع مضمون كتابها «الدلالة الاجتماعيّة لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان» (1979)، ناهيك عن مشاركتها مع محمد البكري في ترجمة كتاب «الماركسية وفلسفة اللغة» 1986 لميخائيل باختين.
بيد أن قلة تلتفت إلى 3 كتب نشرتها الباحثة قبل الكتاب المشار إليه، هي: «أمين الريحاني رحّالة العرب» 1970، و«قاسم أمين إصلاح قوامه المرأة» في العام ذاته، و«ممارسات في النقد الأدبي» 1975.
ولم يكن الكتابان الأولان لهما علاقة بالماركسيّة، بل كانا أقرب إلى الدراسة الكلاسيكيّة التي تُعرِّف بالأديب وحياته وعصره، إضافة إلى أسلوبه وتحليل مختارات من نتاجه. أما الكتاب الثالث فهو عبارة عن مجموعة دراسات لموضوعات متنوّعة تسعى لكشف الموقف أو الرؤية الفكرية في النصّ، إضافة إلى خصائصه الفنيّة. وقد مهدتْ المفكرة العربية لهذه الدراسات بفصل أول ميّزتْ فيه بين النظريّة والممارسة، وأكدتْ على حاجتنا، آنذاك، لممارسة النقد كي نستنتج من الممارسات النظريّة النقديّة بدل التقليد وإصدار الأحكام.
وسبق أن أوضحت العيد أن هاجسها الأول كان تكوين وعي معرفي، لا بالنّص الأدبي أو بما نقرأ بل بذواتنا وواقعنا، وعي معرفي ضدَّ الجهل الذي كان ثمنه، لدى كثيرين، الحرمان والبؤس ونسبة كل مصيبة إلى القدر. وهو مما كانت تعانيه حولها في نشأتها. وبقي هذا الوعي المعرفي هاجسًا يوم دخلتْ سلك التعليم وأصبحت مديرة ثانويّة للبنات ثم أستاذة جامعيّة. وقد توسلتْ لذلك سبلًا عدّة، منها الحرص على مشاركة الطلاب في الشرح والنقاش، وفي نشاطات وأبحاث تعنيهم، تُعرِّفهم بذواتهم تنمي وعيهم بها وبواقعهم الذي يعيشون. من أجل هذه الأهداف كانت لها مبادراتها الشخصيّة غير المُدرجة في برامج التعليم، وهو مما يُعتبَر تجاوزًا ومخالفة ويُعرضها للعقوبة.
في محبة القارئ
استقر تقريبًا الحوار مع العملية الإبداعية بوجه عام من خلال ثلاثة خطابات يحملها بجمله وتراكيبه ورؤيته، هذه الزوايا الثلاث تخرج من ثلاثية المبدع والنص والمتلقي، فالمبدع ذلك الحائر بين الظهور والخفاء، الحضور والغياب، السرمدي الساكن خلف حروف مطبوعة ورؤية كامنة وشبه مستقرة، والنص القادر على حمل تلك الهموم بجانب إشكالية الصياغة وطرائق التعبير وأنساق الكتابة، كل ذلك يصبّ عند متلقٍ مستعد ومتحفز ومهيأ للاشتباك والاتفاق والاختلاف والقبول والرفض.
ولم تعدم قراءات العيد الاستناد إلى المعرفة بهيكلية النص، ومساعدة القارئ على تجاوز موقفه السلبي من لعبة الكتابة الفنية، فلا يبقى أسير خفائها، أو سريتها، أو ما يمكن أن يتوخاه اللعب الفني من تأثير في القارئ ليس دائمًا نبيلًا، أو صادرًا من موقع التعاطف معه.
وباتت قراءات العيد النقديّة تبغي إعانة القارئ على ممارسة لذّة القراءة من موقع المعرفة لفنية الكتابة، أي بأسرار لعبها. الأمر الذي يصبح أكثر ضرورة وأبلغ أهمية حين تبتذل الكتابة اللعب الفني وتتوجه إلى قارئ قابل للتماهي مع قولها، عاجز عن النقد، متهيئ للتواطؤ مع مفهومها للبطل، بطلها.
توخت مؤلفة كتاب «في معرفة النصّ» حذر أن ينقاد القارئ خلف لعبة الكتابة بلا قدرة على حوارها، وأن تتحول متعته إلى نوع من الأسى اللذيذ، أو الحزن السطحي يؤازر به البطل. إنه حزن يُدخل القارئ في لعبة الكتابة، ويلغي المسافة بين موقعين، لا نقد مع تماثلهما وعدم اختلافهما، هما: موقع الكتابة وموقع القراءة. وهكذا تنحني القراءة أمام النّصّ لا من موقع المعرفة به، بل من موقع غيابها وإمحائها، وتخضع لقول النصّ لا من موقع الحوار والجدل وصولًا إلى قناعة، إنّما من موقع العجز والجهل وفقدان القدرة على النظر والتفكير. ثمة فروق إذن بين الخضوع والقبول، هو الفرق بين الجهل والمعرفة، بين التماهي والتمايز، بين الغياب والحضور، بين العجز والمقدرة، بين أن تكون القراءة مجرد تطويع وقولبة، وأن تكون فعل تكوّن حقيقي، وهو ما سعت إليه الناقدة اللبنانية.
مجاراة حذرة للبنيوية
مع مطلع الثمانينات بدأ المنهج البنيوي في الانتشار عربيًا، وقت أن رفعت النظرية الغربية «العلمية والمنهجية الصارمة» شعارًا، وخضع النص الأدبي للتحليل العلمي، وقبل أن تأتي استراتيجيات ما بعد الحداثة، بخاصة التفكيك مع الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، لتعمد على الانتقاص من قدر الدعاوي العلمية.
حينها، قدمت الناقدة العربية «تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي» 1990، ليبدو كتابًا تعليميًا، وصياغة في السياق المعرفي للحركة النقدية العربية، ومحاولة لتمهيد الأرض نحو إنتاج مرتكز معرفي يساعد على تطوير التجربة النقدية.
وراحت العيد تبحث منهجيًا في بنية العمل السردي الروائي بغرض الكشف عن العناصر المكونة لهذه البنية، وهو ما اقتضى نظريًا التمييز بين العمل السردي الروائي من حيث هو حكاية وبينه من حيث هو قول أو خطاب، فهو حكاية بمعنى أنّه يثير واقعة، أي حدثًا وقع، وأحداثًا وقعت. وبالتالي يفترض أشخاصًا يفعلون الأحداث ويختلطون، بصورهم المروية مع الحياة الواقعية، وهو قول وخطاب، لا انفصال هنا بين متن الحكاية وتشكل الخطاب، دون أن يفقد خطابها النقدي الموازنة بين مجاراة العلمية وتوخي البساطة، وربما التبسيط وقرب التناول وسهولة الأخذ.
وبين الصرامة المنهجية والتبسيط، جاءت رؤيتها البنيوية التطبيقية مخولة صاحبها الإمساك بأسرار هذا اللعب الفني، ومنحه قدرة حوار النص، أو حوار معانيه، قول الذي يحمل، والذي لا يبدده اللعب الفني إلا في عين قارئ جاهل لأسراره.
وفي تطبيقها لأدوات البنيوبة، لم يفت يمنى العيد أن توجه سهام النقد للمنهج، انطلاقاً من إيمانها أنّه لا منهج كاملاً كمالًا مطلقًا، فضلًا عن أن نقد ونقض الأدوات المنهجية تأتيان بمثابة حواره لفسح مجال الذهاب أبعد منه، وحتى لا يكون التعامل معه أو مع غيره وقوعًا مطلقًا في أسره. إذ ذلك يُسيّر المنهجُ الناقد، بدل أن يشتغل الناقد بالمنهج وعليه، الأمر الذي ساهم في تحقيق هدف الكتاب الذي كان مجموعة محاضرات لطلاب الماستر في الجامعة، وقد ساعدهم على التعمق في قراءة العمل الروائي وتقييم خصائصه الفنيّة دون أن يكونوا بنيويّين.
«ممارسة» النقد
تعاملت العيد في مشوارها النقدي، خاصة في كتابيها «في معرفة النص» و«ممارسات في النقد الأدبي»، اللذين تعاملت فيهما بوصف النقد ممارسة، أي نشاطًا فكريًا يشتغل على موضوعه، والنشاط الفكري لا يبدأ من صفر لدى العيد، ولا بدايات بالمعنى المطلق في التاريخ الحضاري للإنسان. ومن ثمّ فالنشاط الفكري هو سلسلة في حقل نشاطه بخاصة، وفي حقل النشاط الثقافي الاجتماعي بعامة، وهو في حقوله غير معزولة عن الممارسات المادية.
دفعتها رؤيتها للنقد كممارسة إلى أن تجتهد في أن يكون استعمالها للمصطلحات والمفاهيم توضيحًا لها، وذلك حتى تندرج المفاهيم في سياق التعبير العربي، فيقرأه القارئ فقط في سياق وروده في النص، وليس صعبًا في مثل هذه الحالة على المتخصص أن يعرفه. ووضعت العيد في نصب أهدافها حين مارست النقد كنشاط فكري، هدف إنتاج معرفة بموضوعها، دون أن تكون نصوصها النقدية مجرد تكرار للنصوص الأدبية وشارحة ومُقيمةً، أو تصبح نصًا أدبيًا موازيًا يخون النص الأول، وإنّما أخلصت للكتابة الأدبية وقوفًا عليها، لتفتح أطروحاتها عينيها، عينًا على الداخل وأخرى على الخارج، والأخير هو حضور في النص ينهض به عالمًا مستقلًا.
أرق ثنائية الاسم
ومن المستوى النقدي إلى السيرة الشخصية، التي روتها الناقدة اللبنانية في «أرق الروح»، واستعادت فيها تساؤلات فلاسفة سبقوها بشأن ما عاشوه من ازدواج، أبرزهم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا.
وبين اسم يمنى العيد وحكمت الصبّاغ الاسم القانوني للناقدة، تقف الكاتبة، لتروي سيرتها التي تبدأ بسؤال وجوديّ لن يفارقها «من أنا؟ هل أنا حكمت أم أنا يمنى؟». في إشارة منها إلى النزاع الشرس بين القفص الاجتماعي وتلك الروح التائقة إلى الخروج من القضبان. وليس هذا الأمر بدْعًا جديدًا في التاريخ البشري كما أشرنا، لذلك تتساءل المؤلفة عن الصراع بين الاسمين، فتقول «هربتُ من حكمت إلى يمنى. تركتُ مدينتي بحثًا عن أفق. أريد أن أتحرر من ذلك الماضي. الماضي وقد قاربت فيه حكمت موتَها مرّتين».
فتاة صغيرة مختبئة
ترى الروائية اللبنانية نجوى بركات أن ثمة فتاة صغيرة، ما زالت مختبئة في كواليس حياة الكاتبة، وقد حان أوان ظهورها كي تحظى ببعض النور والاعتراف. ويمنى التي تغلّبت عليها محققةً أحلامها، تعود عبر الكتابة لتعترف بحقها عليها، فتمسكها من يدها وتذهب الاثنتان في رحلة مصالحة مع الماضي، رحلة لا تخلو من بوح ومساءلة ومعاناة، لأنها رحلة التخفّف مما لم تقله الناقدة في كتاباتها. إذن، عاشت يمنى العيد مخلصة للنصوص ولذاتها، غير مدفوعة برغبة الفهم أو الشرح وحدها، ولا برغبة السيطرة على النصوص فحسب، وإنّما منتبهة جل الانتباه لدورها، ولهدفها البحث عن جوهر الخطابات، التي تفضل بدلًا منها مصطلح «القول»، والبحث عن ذاتها الشخصي، متسلحة في مهمتها بالشجاعة، وهي شرط رئيسي في الممارسة النقدية وخوض غمار الحياة، وعاملة على استباحة الحدود الوهمية للأكاديمية وشروطها القديمة التي لم يعد بعضها يجلب خيرًا أو يبعد شرًا، ما انتهى بها إلى إثارة التساؤلات أكثر من اعتنائها بصياغة الإجابات.