أشرف البولاقي - فتنة العمى (5)

يعزّ عليّ أن أنهي الليلة كتابتي عن فتنة العمى، فما تزال مشاعر وأحاسيس كثيرة تبحث عن تجلّيها، وما تزال رحلتي إلى دمنهور مشحونة بتفاصيلَ تحمل في طياتها نبوءاتٍ لمستقبل غامض، وما أزال أنا بحاجة للحديث عن لذة الكتابة التي يمكن أن أفتقِدها لو تطورت الأمور إلى الأسوأ، لا أظنني سأجد لذةً في أن أُملِي على أحد ليكتب لي، ولا أعرف مَن سيضبط لي الكلمات؟ ولا مَن سيهتم بوضع علامات الترقيم حيث يجب أن تكون؟ وكيف لأصابعي نفسها أن تظل ممدودةً هكذا في فراغٍ لا معنى له؟!
مضطر أن أُنهي؛ لأن الليلة ينتهي اعتكافي في العشر الأواخر، وبدءًا من الغد سأبدأ في نشر كتابات العشر الأواخر التي كلّفت نفسي بها، وسأنهي فتنة العمى بالحديث عن الصدفة وراء أن يكون لي نص بعنوان "النزيف"*
والصدفةِ أيضًا أن يكون ثمة ذِكرٌ لحقيبةٍ ما أسافر بها في هذا النص.
والصدفةِ وراء أن تكاد حقيبةٌ ما تسبب لي "نزيفًا" حقيقيًا في رحلتي الأخيرة إلى القاهرة ومنها إلى دمنهور!
والصدفةِ أخيرًا في أن يسمّي الطبيب ما في عيني باسم "النزيف"!
لم يكن قرار السفر من أجل عيني مخططًا له، جاء فجأة للدرجة التي كان يمكن قبلَه بلحظات أن أغيّر رأيي، لكنني لم أفعل، ومددت يدي في البيت إلى حقيبة غير تلك التي أسافر بها دومًا، ولم أكن أعلم أن بها عيبًا، اكتشفته في القطار، وهو عيب كان كافيًا أن ألعن القرار الذي أخذته فجأة؛ إذ انفجرت سوستة الحقيبة في القطار، وأُسقِط في يدي!
تحمّلتها حتى وصلت القاهرة عازمًا على إصلاحها، وفي الليلة التي قضيتها هناك قبل السفر إلى دمنهور، وفي حوار بيني وبين حبيبةٍ لي سألتها عن مُصلِحي الحقائب، فلم تعرف، واكتفت بالقول إننا في يوم جمعة وربما لن تجد أحدًا.
تركتُها صباحَ السبت ملقاةً – أعني الحقيبة لا الحبيبة – وسافرت إلى دمنهور بحقيبة كتفي، ووضعت بنطلونًا وتيشيرتًا أحمر (الذي هو بدون جيب) في كيس، مُرجئًا موضوع إصلاح الحقيبة لحين عودتي.
على رصيف قطارات القاهرة الإسكندرية، كان قد انفجر البركان الخامد نحو الحبيبة التي تركتني، سالت دموع، واشتعلت آهات وشهقات، دَفعتْ بعض المنتظرين إلى مواساتي والربت على كتفي، خير يا أستاذ؟ فيه حاجة تعباك؟ ما تصلّي ع النبي امّال؟ فلم أجد غير أن أقول لهم إنني تذكرت أخي الذي مات صغيرًا!
أخرجتُ هاتفي، وظللت أكتب إليها رسالاتٍ مطوّلة، أعاتبها عتابًا خفيفًا، قلت لها إنني كنت أتمنى أن تكوني معي، قلت لها أيضًا إنني ما أزال أحبك.

في دمنهور، كنتُ مضطرًا أن أظل يومًا آخر، بعد حَقن العين، لإجراء كشف نظر مِن أجل النظارتين، وهو ما تم صباح الاثنين، لكن أخصائي النظارات لم يستطع الانتهاء منها إلا بعد منتصف الليل، وهو ما اضطرني إلى المبيت ليلة ثالثة.
شاهدت مباراة الزمالك ونهضة بركان، بصحبة الصديقين بهجت صميدة، وعمر مكرم، على المقهى الذي شهِد فضيحة سعيد عبد المقصود، وبعد منتصف الليل بساعتين عدتُ إلى غرفتي بالفندق لأواجِه محنةً جديدة، كيف أضع لنفسي القطرات في عيني؟ ربما يبدو الأمر سهلا ويسيرًا عند الآخرين، لكن مثلي عاش حياته كلها مدللا، ومعتمِدًا على الآخرين، ولم يحدث من قبل أن قطرتُ لأحد، ولا أن قطرتُ لنفسي ... كان وجودي مع الأصدقاء كافيًا لأن يتولوا مشكورين عني هذه المهمة والتي تتضمن ثلاثة أنواع من القطرات، منها ما هو كل ساعتين، لكنني الآن وحدي تمامًا.

كانت المحنة قاسية، أستلقي على السرير، وأحاول جاهدًا أن أفتح العين مقتربًا مِن أعلى بيدي ممسِكًا القطرة، وكلما ضغطت عليها لتُسقِط سائلها، أرجفتْ عيني مِن تلقاء نفسها، فتَسقط ديك أمّ القطرة بعيدًا عن العين!
لم أستطع أن أستعين بأحد من العاملين بالفندق، فالثقافة الشعبية الخاصة بأن تخاطب أحدًا بأن يقطر لك قطرة في عينك، محرِجة وذات دلالات وإيحاءات ليست لطيفة، فكيف بي وأنا في شهر رمضان؟! كررت المحاولات مرة إثر مرة، ولعلّي نجحت مرة وفشلت مرات، واستمرت المحاولات حتى صباح اليوم التالي ولقاء الصديق عمرو الشيخ الذي أفطرت معه مساء الاثنين، ومع صديقِه الأستاذ حسام القادم من العريش، وهو فتى جميل سافر إلى أوروبا، حدّثنا كثيرًا عن سوء فهمنا للحياة في أوروبا، وعن تصوراتنا الواهية عن علاقة الرجل والمرأة هناك، وعن وضع المرأة الأوروبية المزري الذي يقِل كثيرًا عن مثيلتها العربية!
تسلّمنا النظارتين بعد منتصف الليل، وحجزت تذكرة العودة للقاهرة ظهر الثلاثاء، وقضيت الليلة الأخيرة في الغرفة أكرر جهادي العنيف مع القطرات حتى جاءت ظهيرة اليوم التالي وأقلّني القطار إلى القاهرة، وهناك هاتفتني الحبيبة التي لا تعرف مصلِحي الحقائب، وطلبت مني أن أتجه لبائع حقائب شهير بوسط البلد، حيث تفضلت بشراء حقيبة سفر هديةً لي، بدلا من تلك التي فضحتني في القطار!
حاولتُ مراجعتها، لكنني – كعادتي معها – لم أفلِح، قلت لها إن رؤيتك كانت أهمّ عندي من الحقيبة، ربما كان شفاءٌ لو خاطبتْ عينيَّ في لغة الهوى عيناكِ، لكنها اعتذرت بأن أيامَ الهوى ذهبت .. كالحلمِ آهًا لأيامِ الهوى آهَا!

استلمتُ الحقيبة، واحتضنتها بمحبة، بينما الرجل كان يبتسم لي قائلا: واضح إنها بتعِز حضرتك قوي!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*"هيَ الفوضَى .. تؤجّلُ ثوْرتي الكبرى على التاريخِ
فارتقِبوا إذا خَرج الرواةُ مُسلَّحين عليكمُ
وخرجتُ منزعجًا؛ أفكِّرُ كيف ألحقُ بالقطارِ؟
وما الذي سيكونُ طيَّ حقيبتِي؟
سافرتُ قَبْلاً بالهزائمِ ....، فاحترَقتُ
فهل ستحتمِلُ الحقيبة أن أُسافرَ بالجراحِ؟
كثيرةٌ هذي الجراحُ
وواحِدٌ هذا الجريِح!"


ــــــــــــــــ
#فتنة_العمى





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...