بنعيسى بوحمالة - العلاقات الأدبية العربية - الإفريقية.. الجوار المجهض، المستقبل الممكن(*)

ليس مرادنا، في هذه الورقة، ركوب التدابير و الأخلاقيات التي يتوسّط بها درس الأدب المقارن، سيّان ضمن وجهته الفرنسية التي غالبا ما تشدّد على الأفكار و المضامين مع إيلاء فائق الأهمية لمسألة الأصل و النسخة، أي السابق و اللاحق، أو في إطار وجهته الأمريكية التي تعنى أكثر بالتقاطعات، السافرة أو المستضمرة، بين مدوّنات بعينها من الآداب الوطنية أو العالمية إن على مستوى المحمولات التعبيرية أو على مستوى الأساليب و الجماليات. إن ما نتوخاه هو تقرّي، ما أمكن، حدود التعالق بين الأدبين العربي والإفريقي، و تبيان دواعيه القائمة و كذا ترصّد آفاقه الممكنة.
و في هذا الشأن لربّما ليس هناك ما هو أفضل من الاستئناس بما يقوله الشاعر محمد الفيتوري في سياق حوار كان قد أجراه معه طلحة جبريل حول موضوع الزنجية الذي أمّم الأعمال الأربعة الأولى في مساره الشعري و هي: "أغاني إفريقيا"، "عاشق من إفريقيا"، "اذكريني يا إفريقيا"، ثم المسرحية الشعرية "أحزان إفريقيا أو سولارا"، إذ يقول: "… القضية كما تناولتها لم يتناولها إلاّ الشعراء الأفارقة (…) أنا الشاعر العربي الوحيد الذي تعرّض لهذه القضية و هو يعلم ماذا يريد" / مجلة "المجلة"، ع 283، 1985 / مضيفا، لكن في حوار آخر أجراه معه عبد الحكيم بديع، و لكأنّنا به يستدرك إيضاحا ما فاته الإفصاح عنه: "كثيرون من النقاد يتوهمون أنني تأثرت سياسيا بشعراء أفارقة في أشعاري هذه، و الحق أن شيئا من ذلك لم يحدث، لم يكن لديّ وعي سياسي عندما كتبت قصائدي.. كنت كنبع يتدفق من صخر" / جريدة "الميثاق" المغربية، ع 2729، الأحد 27 أكتوبر 1985 /.

هذا الاستدراك بالذات لأمر لا يخلو من دلالة بالنسبة للاستخلاصات التي نتوسّمها في ورقتنا هاته، لذلك، و بصرف النظر عن النبرة الإطلاقية التي تلابس، في هذا المقام، تمثيل محمد الفيتوري للشاغل الزنجي في الشعرية العربية المعاصرة، بحيث هناك شعراء آخرون، سودانيون بالأقل، سابقون عليه أو جايلوه أو لحقوا عليه، انضووا، بهذا القدر أو ذاك، إلى ذات الشاغل، كلّ ما هنالك أنه، لاعتبارات دامغة ما في ذلك شك منها الحساسية المائزة التي سيصطبغ بها تعاطيه الشعري مع هذا الموضوع و ابتكاراته الأدائية في هذا النطاق زد على ذلك استئثاره، إن شئنا، بالضوء النقدي و الإعلامي مقارنة مع الآخرين، سيغطّي، أو يكاد، على باقي الأصوات الشعرية و يتموقع، في صلب المشهد الشعري العربي الراهن، كناطق شعري سوداني أوحد باسم القارة السمراء / أنظر كتابنا "النزعة الزنجية في الشعر السوداني المعاصر، محمد الفيتوري نموذجا"، الجزء الأول، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط 2004 /.
و عليه فإن نحن تمعّنا في هذا الذي يصرّح به محمد الفيتوري، و منه استدراكه الدال، الملمع إليه قبل حين، فسنضع اليد، لا محالة، على معطيين اثنين ضاربين في معادلة العلاقة الأدبية العربية - الإفريقية: أولهما أن أدبا عربيا قطريا واحدا، لا أكثر، هو الأدب السوداني، يسمح بالتنقيب في متنه، المتعدد و المتشعب، عن تناظرات مرجّحة مع الأدب الإفريقي المكتوب باللغات الأروبية، كالفرنسية و الإنجليزية و الإسبانية و البرتغالية، أمّا ثانيهما فهو إن كانت هذه حال الشاعر الأكثر أهلية لاسترفاد أعمال و تجارب الشعراء الأفارقة، نعني نفيه الجازم، و هو ما قد تدعمه القراءة المتبصرّة لنصوصه الشعرية، لأيّما تأثّر كان بإيديولوجيا الزنجية التي تبلورت، أصلا، في رحاب الأدب الإفريقي المكتوب باللغات الأروبية، و تمثّله، بالتالي، لقيم التعبير الشعري التي كرسها الشعراء الذين أنتجوا نصوصهم داخل هذه اللغات، فما الذي يمكننا توقّعه من فرقاء المجال الأدبي العربي الآخرين الذين إمّا أن كان تجاوبهم مع إفريقيا مشوبا بغير قليل من الفتور، بله التحفظ، أو كونهم سيصرفون، و ببساطة، أذهانهم، و نصوصهم كنتيجة، كلّية عن قارة تقع على مرمى حجر من العالم العربي..

من هذا الضوء نقول، بدءا و قبل مزيد من التوسع، إنه لمن باب المخاطرة أن نتحدث، يقينا أو افتراضا لا فرق، عن تأثير ما متعيّن الطوابع و القسمات، للأدب الإفريقي، المدوّن منه أو الشفاهي، في نسيج الأدب العربي ما دام التّدبّر المتّئد للأدبين، كلّ على حدة، قد لا ييسّر تسويغ تفكير من هذا القبيل، و من هنا فإن منتهى ما يصح التأشير عليه، في هذا المنحى، هو المحايثة القوية، فعلا، للموضوع الزنجي في مختلف أجناس الأدب السوداني الحديث و أشكاله و تلاوينه، ممّا تبرّره حيثيات جغرافية و تاريخية و إثنية و ثقافية.. تخص السودان دون سائر الأقطار العربية.
على أن احترازا من هذا القبيل لا يمنع، و ربّما اعتبرنا هذا الأمر أكثر أهمية و ملحاحية من غيره، من إعمال النظر في صلب هذه القضية و بسط موجبات تفاعل أوكد و أقوى و أمتن بين الأدبين، العربي و الإفريقي، تستدعيه جملة من العوامل الجغرافية و التاريخية و العقدية و الثقافية..
بهذا المعنى فإن عنصر الجوار الجغرافي بين العالمين، العربي و الإفريقي، لممّا قد يقوم، لوحده، مقام علة كافية لهذا التفاعل و يضفي عليه صدقية نافذة، ذلك أن قدر الجغرافيا سيشاء لهما أن يتماسّا عن قرب، ناهينا عن أن قسما وافرا من العالم العربي، أرضا و ساكنة، يحسب على القارة الإفريقية. و علاوة على عامل الجغرافيا هناك أيضا عامل التاريخ المشترك، نقصد انتماء العالمين كليهما إلى خانة العالم الثالث مع ما يقتضيه هذا الانتماء من تطلعات مشروعة نحو الدّمقرطة و التحديث و التقدم و الرخاء.. إثر عهود من الاستعمار و الاستغلال و الاضطهاد.. مرّ بها العرب و الأفارقة في ظل السيطرة الغربية التي سوف تترسّم مع مؤتمر برلين (1884) و اتفاقية سايس - بيكو (1917).

هذا و إذا ما كانت الذاكرة الإفريقية لمّا تزل رازحة تحت وطأة جرح جزيرة غوري السينغالية، و حيث توالت، لمدى عقود، أطوار ذلك النزيف البشري المدمّر الذي حكم على جزء لا يستهان به من أبناء و بنات القارة - بين خمسين و مائة مليون نسمة بحسب التقديرات التاريخية - بالتحول إلى رقيق مسخّر يسام مشاقّ و أهوال تحقيق الحلم الأمريكي، لتتقوّض، جرّاء هذا، بنيات و أنظمة و وشائج و تقاليد.. لن يزيدها حلول الاستعمار إلاّ محوا و اجثتاثا.. و إذا كانت، أي هذه الذاكرة، لم تشف، سوى بالأمس القريب، من جرح آخر لا يقلّ عنه فظاعة ألا و هو جرح الأبارتيد الذي طال أبدان، كما مشاعر، أجيال من سود جنوب إفريقيا التي جسدت، و بامتياز، بؤرة الغطرسة البيضاء و التعالي العرقي و إقصاء الآخر، فإن الذاكرة العربية لم تقو، من جهتها، على البرء من جرح اجتياح المغول لبغداد، منارة العصر الوسيط، و تبدّد البرهة الحضارية الأندلسية الفريدة، في الوقت الذي ما برحت فيه المأساة الفلسطينية تنغّص على الشعور العربي العام. لكن إن كان الغرب المسيحي، المتمدّن، قد عاث خرابا في إفريقيا، فضاء و بشرا و ثقافة، فإن لممّا يحسب كفضل للعرب على جيرانهم الأفارقة أنهم وفّقوا إلى انتشال الملايين منهم من اعتناقاتهم الوثنية و اقترحوا عليهم الإسلام، كعقيدة كونية بديلة، سندهم في هذا مثال بلال، الأسود المسلم النّد لأيّما عربي مسلم قحّ كان، مثلما أتاحوا لهم الانتهال من معين الثقافة العربية، لغة و أدبا و فكرا و تصوفا - الطريقتان التيجانية و الشاذلية بوجه خاص - و أشكالا فنية.. فعلوا كل هذا توسلا بجهود زمر من الفقهاء و المتصوفة و الدبلوماسيين و التجار و الرحّالة و جوّابي الآفاق.. و ليس عن طريق الحروب و الغزوات.
العوامل إيّاها من شأنها، و الحالة هذه، أن تدني القوميتين المتجاورتين من بعضهما البعض لا أن توسّع الهوة بينهما، و لأن الأدب كان، و سيدوم، أحد أوثق أركان الهوية الجمعية إن لم يعدّ مدخلها الحاسم فما مغزى، لنتساءل، عدم انتصاب قنوات تواصل ملموس، فاعل، و سلس بين الأدبين، و ما معنى ألاّ تنتقل بينهما، مكوكيا، مفردات و أساليب و موضوعات و أخيلة و رؤى.. خصوصا و أن الأمر يتصل، فضلا عن العوامل الآنفة الذكر، بأدبين اثنين متكافئين لا سبيل إلى المفاضلة بينهما: أدب عربي ينتج داخل لغة أصلية تستقطب شريحة قرائية من السّعة و الانسجام بمكان، و أدب إفريقي ينجز بلغات أروبية على قدر من الانتشار و التداول تتولى ترويجه، زيادة على بعض من دور النشر الإفريقية النشيطة، كالمطبوعات الإفريقية الجديدة بداكار و المطبوعات الرئيسية بياوندي و المطبوعات الجامعية بكنشاسا و المطبوعات الشعبية بباماكو..؛ دور نشر عالمية عريقة و لامعة في باريس و لندن و نيويورك و مدريد ولشبونة و ساو بّاولو وهافانا.. وتتخذه كمادة للبحث أقسام الدراسات الإفريقية في العديد من الجامعات والمعاهد الغربية ؟!

ولا شك في أن أية مطارحة للأدب الإفريقي إلاّ و تقتضي، لزوما، استحضار فكرة الزنجية التي تناوبت على تثبيتها و تصليبها أجيال من الإنتلجنسيا السوداء، الإفريقية والأفرو - أمريكية و الأنتيلية، والتي هي بمثابة النواة الصلبة لكافة تجليات الثقافة السوداء. فبإزاء غرب متعجرف وعدواني دمّر هوية إفريقيا وروحيتها.. احتقر إنسانها ونهب خيراتها.. كان لابد وأن يدفع هذا المصير الظالم بالسود إلى البحث عن إمكانية استعادة هوية قارتهم الأمّ و ترميم روحيتها المشروخة.. الإعلاء من شأن إنسانها واسترجاع خيراتها و ثرواتها. وفي هذا المضمار يمكن التنويه، مثلا، إلى الفيلسوف آمو غينيا آفير الذي سيساق إلى أروبا كمجرد عبد وبأثر من إحساسه بمأزقه العبودي الخانق سيتفتح وعيه على هويته المغايرة، بل و سيعمد إلى التسلح بالمعرفة الغربية، الفلسفية تحديدا، كيما يستقيم له أن يفكر في مأزقه ذاك و يعقلنه، و ينظّر، بالتالي، لاختلافه عن أسياده البيض، و من ثم نبوغه في ألمانيا آنئذ إلى حد تربّعه على كرسي الأستاذية في جامعات هال و ويتنبرغ و إينا خلال العقد الرابع من القرن الثامن عشر، لتتوالى بعده أسماء أخرى، فكرية أو سياسية، كإدوار بلايدن وويليام دي بوا و جورج بادمور و قوامي نكروما وجومو كينياتا و جوليوس نيريري وباتريس لومومبا وأحمد سيكوتوري وأميلكار كابرال ونلسون مانديلا..
غير أن الانتعاشة الكبرى للفكرة و كذا ترسيمها في المحافل الأدبية والثقافية العالمية يعودان إلى الثالوث الذائع الصيت، إلى السينغالي ليوبولد سيدار سنغور والمارتينيكي إيمي سيزير والغوياني ليون داماس، وذلك من خلال مجلة "الطالب الأسود" (1934-1940) التي شكلت، إلى جانب مجلتي "الدفاع المشروع" و"مدارات"، منبرا حيويا لتفعيل الفكرة وتجذيرها، أو توسطا بأعمالهم الشعرية العميقة، مثل "أغاني الظل" (1945) و"القرابين السوداء" (1948) و"إثيوبيات" (1956) و"ليليات" (1961).. لسنغور، و"مذكرة العودة إلى مسقط الرأس" (1939) و"الأسلحة الخارقة" (1946) و"أغلال" (1960).. لسيزير، و"أصباغ" (1937).. لداماس، الذي نشرته دار غاليمار الباريسية ثم ليصادر بدعوى معاداته للغرب. وبالموازاة من هؤلاء ستتبلور أسماء أخرى وازنة ستساهم هي أيضا في الدفع، شعريا، بالفكرة ووصلها بآفاق تعبيرية وتخييلية مستحدثة ومتراحبة. من بين هؤلاء نشير، على وجه الخصوص، إلى كل من دافيد ديوب، بيراجو ديوب..من السينغال، جان جوزيف رابيريفيليو، جاك رابيمانانجارا، فيلافيان رانيفو.. من مدغشقر، تشيكايا أوتامسي.. من الكونغو، دنيس أوسادباي، غابرييل أوكارا، جوزيف كاريوكي.. من نيجيريا، ميخائيل ديانانج، كايبر منسا.. من غانا، أغوستينو نيتو، أنطونيو جاسنتو.. من أنغولا، سامورا ماخيل، نعيمة دي سوزا، مارسيلينو دوس سانتوس.. من الموزمبيق، أونيسيمو سيلفيرا.. من جزر الرأس الأخضر، لانغستون هيوز، كونتي كولن، سترلينغ براون.. من الولايات المتحدة، نيقولا غيين، خوسيه زكريا طاليت.. من كوبا، إدوار غليسان من الغوادولوب..

هؤلاء ممّن ذكرنا و غيرهم سيعملون، متضافرين، على اجتراح جملة شعرية نوعية ذات معجم خاص وتوليفات معتنفة، ابتناء مجازات وترميزات مغرقة في كثافتها و انعضالها، عملهم على استذمام المدنيّة البيضاء وتمجيد طزاجة الحياة الإفريقية وبدئيتها و التعرية عن مخازي الاسترقاق والاستعمار والميز العنصري، مسترفدين مختلف السّجلات اللغوية الإفريقية والمرويات الشعبية والطقوس الشعائرية، كطقس الفودو الهايتي، وذلك في مرمى إعادة الاعتبار للذات السوداء واسترجاعها لجدارتها وكرامتها المصادرتين ضدّا على النظرة الازدرائية البيضاء التي جعلت من الأسود، "ولنجرؤ على الإقرار بذلك، عدوا للقيم، وبهذا المعنى فهو الشرّ مطلقا" / فرانز فانون: "معذّبو الأرض" /، وهي نفس الغاية النبيلة التي سيسخّر لها نظراؤهم في الأجناس التعبيرية الأخرى نصوصهم و تجاربهم، سواء كانوا روائيين كالسينغاليين عبدولاي سادجي، سامبين عثمان، الشيخ حاميدو كان.. والإيفواري برنار داديي.. و الكونغولي جان مالونغا.. والغيني كامارا لاي.. والمالي سيدو باديان كويات.. والجنوب - إفريقيين بّيتر أبراهامس، هوت شنسون.. هذا دون أن ننسى الروائي الغوياني الكبير روني ماران الذي نال جائزة الكونغور الفرنسية الشهيرة عن روايته المتألقة "باتوالا" (1921)، وقد علّلت لجنة التحكيم تتويجه الرمزي هذا بكونه أول زنجي يتمكن من إبداع رواية تعكس بحق الروح الزنجية الأصيلة.. أو مسرحيين كالغانية إيفوا ثيودورا سوثرلند، صاحبة "سوف تؤدي اليمين"، والنيجيري وول سوينكا، صاحب "النسل القوي" و"سكان المستنقع"، ثم الجنوب - إفريقي أثول فوغارد، صاحب "عقدة الدم".. إضافة إلى سينمائيين نابهين، من أمثال السينغالي سامبين عثمان.. المالي سليمان سيسي.. الكاميروني ديكونغي بيبا.. النيجيري عمرو كندا.. اقتدروا على المواءمة بين اشتراطات الإبداعية السينمائية و بين التزامهم بقضايا العالم الأسود وهمومه.

تلقاء الحيثيات الجغرافية و التاريخية و الإثنية و الثقافية المشار إليها سابقا سينفرد الأدب السوداني الحديث إذن، دون سائر الآداب العربية الحديثة الأخرى، بنزعة زنجية قوية تمثّل صدى طبيعيا للمقوّم الإفريقي في الشخصية السودانية و حساسية فئات عريضة من المجتمع السوداني بانتسابها إلى جذور إفريقية أكثر من تحدّرها من الأرومة العربية، أفليس هذا الملمح هو ما عناه أساسا "… خليل فرح حينما أطلق على السودان "جنة بلال"، بلال النّوبي المسلم والأسود ذو اللسان العربي" / عبد الهادي الصديق: الأصل المكاني للشعر السوداني، مجلة "الآداب"، ع 4، أبريل 1975 /، بحيث "إننا لا نستطيع أن نتخلى عن إفريقيا وإن أردنا، ونحن لا نريد.." على نحو ما يؤكد الناقد السوداني صلاح الدين المليك / "فصول في الأدب و النقد" /، وذلك رغما من إلحاح وجهات نظر أخرى على وثاقة الصلات بين السودان ومحيطه العربي مثلما نلفي في كتاب عبد المجيد عابدين "تاريخ الثقافة العربية في السودان" أو كتاب إبراهيم الحاردلو "الرباط الثقافي بين مصر و السودان".
و من هنا ففي كنف وضعية مخصوصة كهاته سيصبح جنوب السودان، الذي تقطنه قبائل الدّينكا الإفريقية، عتبة ولوج كتابات شعرية سودانية إلى الفضاء الإفريقي الأشمل، مدخلا إلى المتخيّل الزنجي الأعمّ، و معينا، بالتالي، لاستنهاض جملة من الموضوعات و الإيقاعات و الأخيلة و المحكيات و الطقوس الإفريقية بينما ستمسي مكانية - زمانية الحضارة المروية بمثابة خلاص رمزي للذات السودانية الجمعية المقتلعة، انطلاقا من هذه الرؤية، من الرّحم الإفريقية الأولى، و حسبنا أن نشير إلى أسماء من جيل خمسينات القرن الماضي، كمحمد الفيتوري ومبارك حسن خليفة وتاج السّر الحسن وصلاح أحمد إبراهيم وجيلي عبد الرحمن ومحمد عثمان صالح وعبد الله شابو و محيي الدين فارس، ديوانه "الطين والأظافر" بخاصة، ومحمد المهدي المجذوب، ديوانه "البشارة، القربان، الخروج" تحديدا؛.. وإلى أخرى من جيل الستينات يحسب أغلبها على ما كان يدعى في الأدبيات النقدية السودانية تيار الغابة و الصحراء، كمحمد المكي إبراهيم و عثمان بابكر و محمد عبد الحي صاحب القصيدة - الديوان "العودة إلى سنّار" التي يستحكم فيها حسّ عودوي مكين، رعوي، طقسي نحو الينبوع الأونطولوجي الأول، أي الينبوع الإفريقي، و ذلك ضمن تركيبة رؤياوية باذخة تجمع بين الشعائرية الزنجية و الاستبصار الصوفي الإسلامي (أبو يزيد البسطامي)..

وبطبيعة الحال سوف لن يتقاعس المبدعون السودانيون الآخرون، المنتجون لأشكال تعبيرية رديفة، عن ركوب نفس الموجة. و في هذا المنحى حريّ بنا أن نستحضر الروائي الأبرز في السرد السوداني الحديث، نقصد الطيب صالح الذي سيسعى ليس فقط إلى معالجة إشكالية الهوية السودانية، كما فعل في "موسم الهجرة إلى الشمال" و "عرس الزين"، و إنمّا كذلك إلى استدراج الرواية العربية صوب الأفق الإفريقي و نذرها لاستثارة أسئلة و انفعالات جديدة عليها كل الجدّة، و هو ما سيحرص عليه في مجموعته القصصية "دومة و حامد" لاجئا، عن قصد، إلى توظيف المرويات المحلية و المعتقدات السودانية العريقة، الشيء الذي نلمسه أيضا في أعمال قصّاصين آخرين كإبراهيم عبد القيوم و عبد الله حامد الأمين و أبي بكر خالد و الطيب رزّوق و علي المكّ و الزبير علي.. و على نفس المنوال سيراهن الكتاب المسرحيون، من جهتهم، على مسرح سوداني - إفريقي صميم، و هنا، تدقيقا، يخلق بنا أن نتحدث عن التأثير الجليّ الذي كان لكتابات وول سوينكا الدرامية في بعض الأعمال المسرحية السودانية، مثل "الملك نمر" لإبراهيم العبادي و "نبتة حبيبتي" لهاشم الصديق، هذه الأخيرة التي تتبدّى مسكونة بهاجس استكشاف قالب مسرحي إفريقي خالص، متحرر من ضوابط و جماليات المسرح الغربي التي تنتظم أعمال آرثر ميلر و إدوار ألبي و برتولد بريخت و بّيتر فايس.. و هو عين الهاجس الذي سيوجّه، في حقل الفنون التشكيلية، لوحات رسامين مرموقين، كإبراهيم محمد الصلحي و أحمد محمد شيرين، سواء فيما يتصل بالاستيحاء الدال للبلاغة اللونية الإفريقية أو فيما يخص استثمار هندسة الأشكال و الجسوم و الأبعاد في المجسّمات الإفريقية الفطرية..

لوحده انوجد الأدب السوداني الحديث إذن مرتهنا، قوة و فعلا، بالمدار التعبيري و الرؤياوي للأدب الإفريقي، أمّا الأدب العربي الحديث فسيتلفّع، في كلّيته، بنوع من العزوف أو الإشاحة عن دينامية أدبية تهدر على مقربة منه عزوف الأدب الإفريقي أو إشاحته، هو الآخر، عن ممكنات و كشوفات وافرة يحوز عليها الأدب العربي. و بتعبير آخر لنقل مع عبد الهادي الصديق: "إننا لا نجد تعاطفا مع إفريقيا في الشعر العربي الحديث بالقدر الذي نجده عند شعراء السودان" / الأصل المكاني للشعر السوداني، مرجع مذكور /، لذا "فلا غرابة إن كنا نحن الذين عبّرنا قبل سوانا.. حتى قبل أن يولد إيمي سيزير و الطليعة الأولى من رواد الزنجية، نحن العرب الوحيدين الذين عجّ شعرهم أكثر من سواه بالإشارات إلى لونهم و إلى إفريقيتهم" على نحو ما يصرّح به الشاعر صلاح أحمد إبراهيم في حوار له مع هاديا سعيد / جريدة "العلم" المغربية، ع 636، السبت 18 دجنبر 1982 /.
ففي الوقت الذي لم تمنع فيه النظرة الاستعمارية الغرائبية إلى إفريقيا كمدى غابوي خرافي لا يحدّه البصر.. كموطن لزنوج عراة، وثنيين، يعتاشون على لحم البشر.. عددا من الشعراء الأروبيين، مثل غيوم أبّولينير و أندري بروتون، من الاستفادة، بالنسبة للأول، من جمالية التماثيل الزنجية في إغناء مشروعه الشعري - الكاليغرافي، و الإقرار، بالنسبة للثاني، بتتلمذه، من غير ما تحرّج، على يد الشاعر الزنجي السريالي إيمي سيزير في عمله المدوّخ "مذكرة العودة إلى مسقط الرأس"، و كذلك رسامين، كجورج براك و هنري ماتيس و بابلو بيكاسو، من الإشادة بالبساطة المذهلة في التشكيل الإفريقي و الاغتراف من تقنية التقنيع و تكسير الأبعاد في أعمال الفنانين الزنوج الفطريين.. لم يقتصر الأدباء العرب، و معهم الإعلاميون، على تجاهل الأدب الإفريقي و كفى بل و سوف يتسم تموقفهم من أقرانهم السودانيين طابع الاستغراب، إن لم يكن التضايق، إذ "ما أطول الدهشة التي ظلت تمارسها الصحف العربية تجاه الأدب السوداني الحديث" / ندوة "قضايا الأدب السوداني"، إعداد: حسب الله الحاج يوسف، مجلة "الآداب"، ع 3، مارس 1972 /.

إنه لمن المتعذر، فيما نرى، المجازفة بإحالة بعض الأعمال من المتن الأدبي و الفني العربي الحديث على المرجعية الإفريقية، فلا روايات نجيب محفوظ و فؤاد التكرلي و عبد الكريم غلاب و الطاهر وطار و محمود المسعدي.. و لا قصص يوسف إدريس و زكريا تامر و محمد زفزاف و محمد خضيّر.. و لا مسرحيات سعد الله ونوس و ألفريد فرج و الطيب الصديقي و روجيه عسّاف.. و لا اللوحات التشكيلية لجواد سليم و آدم حنين و أحمد مرسي و فاتح المدرس.. و لا سينما يوسف شاهين و محمد ملص و الجيلالي فرحاتي و فريد بوغدير.. تغري بالحديث عن تضمّنات ثقافية ما متقصدة إن فكريا أو جماليا. و إذا ما استثنينا انفعال الرسام المغربي الراحل محمد القاسمي، نسبيا، بالفنون التشكيلية و خوضه لتجارب إبداعية في قلب إفريقيا السوداء و كذلك تحويل رواية "آه.. ابك يا بلدي الحبيب" للكاتب الجنوب - إفريقي ألان بّاتون إلى السينما من طرف المخرج المغربي سهيل بنبركة فالظاهر أننا لن نعثر على شيء ذي بال في هذا المضمار.

قد تشكّل اللغة المشتركة وازع مثول بعض الاستيحاءات و التداعيات و الظلال في جانب من نصوص كتاب و شعراء فرانكوفونيين، كعبد اللطيف اللعبي و محمد خير الدين.. من المغرب، و مولود فرعون و كاتب ياسين.. من الجزائر، و عبد الوهاب مؤدب.. من تونس، و أندري شديد.. من مصر، و جورج شحاذة و صلاح ستيتيه و فينوس خوري غاتا.. من لبنان، مصدرها أعمال كتاب و شعراء أفارقة يكتبون باللغة الفرنسية، كما قد لا يعزّ علينا ردّ مواظفة الموضوع الزنجي في قصائد نادرة لكل من بلند الحيدري و أحمد عبد المعطي حجازي و معين بسيسو و سميح القاسم.. إلى أسباب معزولة لا ترقى إلى مرتبة قاعدة مهيمنة، في حين يمكننا تبرير التقاطع اللافت، حقا، بين بعض قصائد محمد عفيفي مطر و قصائد بعينها لإيمي سيزير، إن من حيث التغريب اللفظي - الدلالي و فائض الكثافة الترميزية أو من حيث النزوع الاستبطاني - السريالي، بمحض المصادفة الشعرية. إن الخلفية الرؤياوية المستحكمة في الشعرية العربية المعاصرة لهي خلفية تمّوزية ضاربة تتفاوت تنويعاتها الميثولوجية بين هذه التجربة و تلك بيد أنها لا تنأى عن جوهرها الإحيائي، الابتعاثي، المعروف، أمّا الشعرية الإفريقية فهي تصدر، في مجملها، عن حسّ رؤياوي أورفيوسي يؤول إلى دلالة الفقد، الحرمان، و الاستحالة، و هو ما يدافع عنه جان بول سارتر في تقديمه المميّز، الموسوم ب "أورفيوس الأسود"، الذي خصّ به "أنطولوجيا الشعر الزنجي الجديد و الملغاشي المكتوب باللغة الفرنسية" التي أنجزها ليوبولد سيدار سنغور، بل إن حلقة من الشعراء النيجيريين، نشأت في ستينات القرن العشرين، سوف تعمّد نفسها بتسمية "أورفيوس الأسود"، هذا و ليست هذه الشعرية هي ما يصدر عن الأورفيوسية و إنّما كامل الأنواع الأدبية الإفريقية و كمثال صدور رواية للكاتبة الكاميرونية ويريري لينكنغ تحت مسمّى صريح ألا و هو "أورفيوس إفريقيا" (1982).
من المحقق أن هناك بعضا من نقاط الضوء أو العلامات الإيجابية في سيرورة العلائق الأدبية و الثقافية العربية - الإفريقية، من ذلك ما شهدته مصر الناصرية، في تضاعيف خمسينات و ستينات القرن المنصرم، من انفتاح إيجابي على إفريقيا و انخراط في قضاياها سيعرفان ملموسيتهما الأدبية و الثقافية في حصيلة لابأس بها من الدراسات و الوثائق و المترجمات التي ستقرّب أكثر العالم الإفريقي إلى أذهان المبدعين و القراء العرب سواء بسواء. و بالمناسبة لا ضير في أن نفرد بالذكر بعض العناوين الأساسية في هذا المضمار، ككتاب "وجدان إفريقيا" لجمال محمد أحمد و "مطالعات في الشؤون الإفريقية" و "ألوان من الأدب الإفريقي" لعلي شلش، الذي سيتولى كذلك ترجمة كتاب جيرالد مور المعنون ب "سبعة أدباء من إفريقيا"، و "مختارات من الشعر الإفريقي - الآسيوي" الذي أشرف عليه كل من إدوار الخراط و نهاد سالم بينما تكفلت بالترجمة جماعة من الكتاب.. هذا دون إهمال ما كان من فائدة التقاء و تحاور الأدباء العرب و الأفارقة في إطار منظمة الكتاب الأفرو - آسيويين التي احتضنتها القاهرة و تجاور قصائد الشعراء منهم في رحاب مجلة "اللوتس"، لسان حال المنظمة، أو حظوة عاصمة عربية، هي الجزائر، باستضافة الدورة الثانية لمهرجان الثقافة السوداء عام 1969، بعد دورته الأولى التي انعقدت بداكار عام 1966 و قبل الدورة الثالثة التي جرت أطوارها بلاغوس عام 1977.

لكن، و حيال هذه التحققات، فإن السمعة الطيبة التي كانت لليوبولد سيدار سنغور، بوصفه أحد حكماء إفريقيا، في العالم العربي، و في المغرب بوجه خاص، لم تتثمر امتدادات شعرية يعتدّ بها لتجربته في الكتابة الشعرية العربية المعاصرة، تماما كما لم يفلح تواجد الجالية السينغالية بالمغرب، مثلا، في إفراز أسماء و كفاءات إبداعية يمكنها خدمة التقارب الأدبي السينغالي - المغربي، و الإفريقي - العربي في نطاق أوسع، و بالمثل فإن إقامة الشاعر الرومنتيكي السوري اللامع، عبد الباسط الصوفي، لردح من الزمن في غرب إفريقيا، و ذلك في إطار مهامّه الدبلوماسية، لم يسفر عن تأثيرات محسوسة في النص الشعري الإفريقي. و إذا كانت الجالية المغربية - اللبنانية في السينغال و الغابون و غينيا و ساحل العاج… و نظيرتها اليمنية - العمانية في تنزانيا و زنجبار.. قد نجحتا في إفراز رجال صناعة و مقاولين و متاجرين و حرفيّين.. موهوبين و مهرة فإنهما أخفقتا، بالمقابل، في بلورة أسماء و كفاءات إبداعية بمقدورها تشكيل طليعة متقدمة لاختراق الكتابة و الذائقة الإفريقيتين كلتيهما.

على سبيل الختم نقول: هل سيبقى محتّما على الأدباء العرب و زملائهم الأفارقة أن يشتطّوا بمخيلاتهم بعيدا صوب المراكز الأدبية العالمية المتنفذة، صوب أروبا و الأمريكيتين و اليابان و الصين..؛ متنكرين، هكذا لبعضهم البعض ؟ أهي عقدة الولاء للمركز الثقافي و إقصاء الهوامش الثقافية لبعضها البعض ؟ أو ليس في مجازاة اسمين أدبيين كبيرين، العربي نجيب محفوظ و الإفريقي وول سوينكا، بوسام نوبل للآداب عبرة و أيّما عبرة لأدبين اثنين متجاورين مفادها جودة أدائهما و عمق محمولهما ممّا استحقّا عليه هذه الالتفاتة الكونية ؟ أفلا تستوجب مخاطر الآلة العمياء، الكاسحة، للعولمة الثقافية تعاضدا أكثر و أصلب بين الهويات و الثقافات، المحلية و الجهوية و القارية، و إلاّ حكمت على نفسها بالاندثار و الامّحاء ؟!
وممّا لا شك فيه أن الوعي المسؤول للقائمين على الشأن الأدبي، في العالمين كليهما، بجسامة إضاعة ما ينطوي عليه جوارهما من فرص جمّة واعدة لهو المفتاح الحقيقي لبوّابة مستقبل أدبي مشترك، أرقى و أمثل.

(*) قدمت هذه الورقة ضمن ندوة "العلاقات الثقافية العربية - الإفريقية، رؤية مستقبلية" التي انعقدت بمدينة سرت بليبيا بين 29 يوليوز و 3 غشت 2005 و ذلك في إطار فعاليات الاجتماع الدوري لأمانة الاتحاد العام للأدباء و الكتاب العرب.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...