لا يمكن أبدا كتابة تاريخ دقيق للفكر والثقافة المصرية فى القرن العشرين، من دون الوقوف عند إحدى محطاته التكوينية الأساسية الفاعلة؛ فكرا وثقافة وأدبا وتاريخا وفنا وعلوما وموسيقى! نعم. إننا بإزاء شخصية موسوعية تكاد تمثل «دائرة معارف عميقة وغزيرة» بكل ما تعنى العبارة!
أتحدث عن البيولوجى وعالم البحار والموسيقى والفنان والمؤرخ الأديب الدكتور حسين فوزى (1900 ــ 1988) الشهير بسندباد العلوم والمعارف والفنون والآداب؛ أحد أبناء الرعيل الأول من بناة النهضة المصرية الحديثة؛ جيل طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ومحمد حسين هيكل، وأحمد أمين، وأمين الخولى، وغيرهم، وصاحب الاهتمامات العلمية والتاريخية والأدبية والموسيقية والفنية، الغزيرة، المتنوعة، والذى عاش عمره يدعو إلى التفكير العلمى، والوطنية المصرية، كأحد رواد النهضة والتنوير فى مصر فى القرن العشرين.
والدكتور حسين فوزى مثقف واسع النظرة، يجمع بين العلم والأدب والموسيقى، ويعتنق رؤية حضارية مستنيرة أخلص لها فى كل مراحل حياته وحتى وفاته؛ وتكشف مجمل أعماله رفيعة المستوى عن مفهوم مثالى للتنوير، كان يرى صورته المثلى فى حركة «الرينسانس» أو النهضة، والتى تقدم فلورنسا نموذجا رفيعا لهذه النهضة كما يرى.
والدكتور حسين فوزى يمثل صورة نموذجية للمثقف الذى لا ينعزل فى برجه العاجى ويكتفى بالنظريات المغلقة والقراءات لذاتها، فقد كان يحاول أن يؤثر ويغير ويخلق حالة من «الرينسانس» فى مصر، وعلى مثال النموذج الأوروبى الذى أخلص له غاية الإخلاص؛ وكان سبيله إلى ذلك فن الموسيقى بنوع خاص، والذى سعى إلى غرسه فى البيئة المصرية على مثال الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وكانت له جهوده التأسيسية التى لا تنكر فى هذا المجال، وعن إغرائه لطه حسين لكى يؤسس لهذا الفن فى عهده، وتوالت جهوده بعد ذلك من خلال مؤلفاته وأحاديثه الإذاعية، وشرحه للأصول الأولى لهذا الفن، وتقديمه للأعمال الكلاسيكية الجليلة، حتى استطاع هذا الفن بفضل مجهوداته أن يصبح حقيقة ملموسة فى مصر، ومن خلال مؤسسات تنافس المؤسسات العالمية.
وقد ركز فى دعوته لهذا الفن على المفهوم الإنسانى المشترك، الذى يخاطب الإنسان فى كل مكان، مع السعى إلى إدراك «خصوصية» هذا الفن، التى اكتسبها خلال مسيرته فى تاريخ الحضارة الأوروبية.
جوانب إسهامات الدكتور حسين فوزى عظيمة ومتسعة ومتشعبة، وإن كان يربط بينها جميعا من أقصى درجات الإبداع والخيال إلى أقصى درجات الانضباط العلمى والموضوعى «حس الحضارة» وصناعتها والبحث عن صيرورتها واتصالها.. يقول:
«أفخر أن بلادى خرجت من محناتها محتفظة بشخصيتها وطبيعتها السمحة، مقبلة دائما على صناعتها الواحدة: صناعة الحضارة، برغم كل شىء، وتحت حكم كل إنسان، وضد كل إنسان».. (راجع كتابه المرجعى الفريد «سندباد مصرى ـ جولات فى رحاب التاريخ»).
هذه الرؤية «المقطرة» التى تختزل تاريخ مصر والمصريين الطويل، هى خلاصة رحلة بعرض وطول التاريخ قام بها الدكتور حسين فوزى ليس فقط فى التاريخ والجغرافيا والفنون والآداب بل فى كل ما يمكنه الإبحار والتجوال فى أرجائه وأعماقه!
لم تكن إسهامات حسين فوزى بالغزارة التى شُهر بها مجايلوه؟؟؟؟؟؟؟ وأقرانه من الكتاب والمفكرين؛ لكنه استطاع أن يقدم كتبا وأعمالا لا تشبه غيرها، وليس من السهل تقليدها لأنها ببساطة هى ــ «هو»؛ خلاصة ما عاش وقرأ وشاهد وانفعل وتأثر وتذوق! وفق هذا التصور يمكن قراءة سلسلة (سندبادياته) العظيمة الملهمة؛ «سندباد عصرى ـ جولات فى رحاب المحيط الهندى»، و«حديث السندباد القديم»، و«سندباد إلى الغرب»، ثم كتابه الأهم الذى حاز شهرة مستحقة «سندباد مصرى ـ جولات فى رحاب التاريخ»، و«سندباد فى سيارة»، واختتم هذه السلسلة الفريدة فى ثقافتنا المعاصرة بسيرته «سندباد فى رحلة الحياة»، وهى واحدة من أهم وأنصع السير الذاتية فى تاريخنا الحديث لم تنل ما تستحقه من قراءة وكشف وتحليل وذيوع!
أما كتاباته وإنتاجه فى مجال الموسيقى فتكاد تكون الأهم مما كتب باللغة العربية عن الموسيقى الكلاسيكية وجمالياتها وتذوقها وتاريخها وأعلامها.. ما زلت عند رأيى بأن هذا الرجل؛ أحد صناع ثقافتنا المصرية الحديثة، لم يحظ بما يستحقه من حضور ولم ينل ما يجب أن يناله من مساحات فى زمننا العابث هذا!... (وللحديث بقية)
إيهاب الملاح
أتحدث عن البيولوجى وعالم البحار والموسيقى والفنان والمؤرخ الأديب الدكتور حسين فوزى (1900 ــ 1988) الشهير بسندباد العلوم والمعارف والفنون والآداب؛ أحد أبناء الرعيل الأول من بناة النهضة المصرية الحديثة؛ جيل طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ومحمد حسين هيكل، وأحمد أمين، وأمين الخولى، وغيرهم، وصاحب الاهتمامات العلمية والتاريخية والأدبية والموسيقية والفنية، الغزيرة، المتنوعة، والذى عاش عمره يدعو إلى التفكير العلمى، والوطنية المصرية، كأحد رواد النهضة والتنوير فى مصر فى القرن العشرين.
والدكتور حسين فوزى مثقف واسع النظرة، يجمع بين العلم والأدب والموسيقى، ويعتنق رؤية حضارية مستنيرة أخلص لها فى كل مراحل حياته وحتى وفاته؛ وتكشف مجمل أعماله رفيعة المستوى عن مفهوم مثالى للتنوير، كان يرى صورته المثلى فى حركة «الرينسانس» أو النهضة، والتى تقدم فلورنسا نموذجا رفيعا لهذه النهضة كما يرى.
والدكتور حسين فوزى يمثل صورة نموذجية للمثقف الذى لا ينعزل فى برجه العاجى ويكتفى بالنظريات المغلقة والقراءات لذاتها، فقد كان يحاول أن يؤثر ويغير ويخلق حالة من «الرينسانس» فى مصر، وعلى مثال النموذج الأوروبى الذى أخلص له غاية الإخلاص؛ وكان سبيله إلى ذلك فن الموسيقى بنوع خاص، والذى سعى إلى غرسه فى البيئة المصرية على مثال الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وكانت له جهوده التأسيسية التى لا تنكر فى هذا المجال، وعن إغرائه لطه حسين لكى يؤسس لهذا الفن فى عهده، وتوالت جهوده بعد ذلك من خلال مؤلفاته وأحاديثه الإذاعية، وشرحه للأصول الأولى لهذا الفن، وتقديمه للأعمال الكلاسيكية الجليلة، حتى استطاع هذا الفن بفضل مجهوداته أن يصبح حقيقة ملموسة فى مصر، ومن خلال مؤسسات تنافس المؤسسات العالمية.
وقد ركز فى دعوته لهذا الفن على المفهوم الإنسانى المشترك، الذى يخاطب الإنسان فى كل مكان، مع السعى إلى إدراك «خصوصية» هذا الفن، التى اكتسبها خلال مسيرته فى تاريخ الحضارة الأوروبية.
جوانب إسهامات الدكتور حسين فوزى عظيمة ومتسعة ومتشعبة، وإن كان يربط بينها جميعا من أقصى درجات الإبداع والخيال إلى أقصى درجات الانضباط العلمى والموضوعى «حس الحضارة» وصناعتها والبحث عن صيرورتها واتصالها.. يقول:
«أفخر أن بلادى خرجت من محناتها محتفظة بشخصيتها وطبيعتها السمحة، مقبلة دائما على صناعتها الواحدة: صناعة الحضارة، برغم كل شىء، وتحت حكم كل إنسان، وضد كل إنسان».. (راجع كتابه المرجعى الفريد «سندباد مصرى ـ جولات فى رحاب التاريخ»).
هذه الرؤية «المقطرة» التى تختزل تاريخ مصر والمصريين الطويل، هى خلاصة رحلة بعرض وطول التاريخ قام بها الدكتور حسين فوزى ليس فقط فى التاريخ والجغرافيا والفنون والآداب بل فى كل ما يمكنه الإبحار والتجوال فى أرجائه وأعماقه!
لم تكن إسهامات حسين فوزى بالغزارة التى شُهر بها مجايلوه؟؟؟؟؟؟؟ وأقرانه من الكتاب والمفكرين؛ لكنه استطاع أن يقدم كتبا وأعمالا لا تشبه غيرها، وليس من السهل تقليدها لأنها ببساطة هى ــ «هو»؛ خلاصة ما عاش وقرأ وشاهد وانفعل وتأثر وتذوق! وفق هذا التصور يمكن قراءة سلسلة (سندبادياته) العظيمة الملهمة؛ «سندباد عصرى ـ جولات فى رحاب المحيط الهندى»، و«حديث السندباد القديم»، و«سندباد إلى الغرب»، ثم كتابه الأهم الذى حاز شهرة مستحقة «سندباد مصرى ـ جولات فى رحاب التاريخ»، و«سندباد فى سيارة»، واختتم هذه السلسلة الفريدة فى ثقافتنا المعاصرة بسيرته «سندباد فى رحلة الحياة»، وهى واحدة من أهم وأنصع السير الذاتية فى تاريخنا الحديث لم تنل ما تستحقه من قراءة وكشف وتحليل وذيوع!
أما كتاباته وإنتاجه فى مجال الموسيقى فتكاد تكون الأهم مما كتب باللغة العربية عن الموسيقى الكلاسيكية وجمالياتها وتذوقها وتاريخها وأعلامها.. ما زلت عند رأيى بأن هذا الرجل؛ أحد صناع ثقافتنا المصرية الحديثة، لم يحظ بما يستحقه من حضور ولم ينل ما يجب أن يناله من مساحات فى زمننا العابث هذا!... (وللحديث بقية)
إيهاب الملاح