سلام إبراهيم - سِحر السينما

أركبني أمامه على دراجته الهوائية وقادها باتجاه المدينة. كنتُ أتَلَفّت مُلاحِقاً بعينين كسيرتين رفاق طفولتي وزملائي في المدرسة يلهون باللعب وسط شارعنا الترابي العريض راكضين خلف كرة من البلاستك. أَتَلَفّت وقلبي يهبط إلى قدميّ المتدليتين بشكل جانبي والمحصورتين بساقيّه القويتين المنهمكتين في تحريك

الدواستين، وكأنه ذاهبٌ بيّ إلى الجحيم.

ظللتُ محاصراً منذ اللحظة التي أعادني بها خالي “مهدي” إلى أمي بعد أن يأس من لامبالاتي وشرودي وتركي دكانه للعب كلما غادر لقضاء شاغلٍ ما، أُحَاسَبْ على كل دقيقةٍ أقضيها في الشارعِ، وأشعُر طوال الوقت بأمي تراقبني أثناء اللعب، فكلما ابتعدتُ عن شارعنا، ترتدي عباءتها وتلحقُ بيّ دون أمهات رفاقي. كنتُ أتضايق وأعود صاغراً معها أول الأمر، ثم عدت أعاند أو أهرب بعيداً إلى الشوارع المجاورة كي لا تعثر عليّ، فتخبره في المساء قبل أن يبدأ الشرب. لِأَنال عقابي؛ ضرباً بالعصا على ظهري وساقي وذراعي يجعلني ألوذُ بجدار الغرفةِ باكياً بصمتٍ وألمٍ.

ابتعدنا عن شارع أحلامي، لندخل شوارع مكتظة بعربات تجرها حمير وحصن، سيارات خشبية قديمة، باعة متجولين يحملون صوانٍ على رؤوسهم منادين ببضائعهم وجِمال محملة بأكياس القمح. كان أبي يتفادى بدراجته المارة والعربات والحيوانات ببراعة. وكنتُ مذهولاً بالضجيج والزحام المحيط أتخيل شارداً المكان الذي يقودني إليه، فقد سمعتهم البارحة يتحاوران وهما في سرير النوم وسط باحة الدار الكبيرة. كنتُ تحت الغطاء أتصنع النوم وأمي تقول:

– أبو سلام ليش تضربه على رأسه.. ألف مرة قلتْ لكْ لا تضربه على رأسه. كافي ضربْ ما دام صارْ يومية معناه ما ينْفَعْ!.

– ما المطلوب مني؟!.

– لازمْ تِلقي حلّْ، سلام حلو وما يبقى بالشارعْ والمنطقة لَّمْلومْ!.

– يعنى وَينْ أوديه برأيك؟!.

– أخذه بالدكانْ يمّكْ عَلْمه النِجارةْ!.

– لا..لا يا أمْ سَلامْ لا.. أولاً ما أريدْ يعيشْ عُمْرَه بِمهْنَة مُتعِبة هذا واحدْ، وأثنينْ يَمّي أَشْكالْ وأَلوانْ مِنْ البَشَرْ، يرْوحْ يِفْسَدْ!.

وَسادَ صمتٌ جعلني أسمع حفيف النجوم المدلاة دانيةً من وجهي الذي أظهرتهُ من تحت الغطاء منتظراً بلهفةٍ تقريرَ مصيري.

– المشكلة “سلام” حلو.. حلو والأكبرْ منه بالشارِعْ اللي ما نعرفْ أَصلهُمْ وَفَصلهُمْ راحْ ما يتركوه!. وهو طيبْ القلبْ.. فَقيرْ يَصدكـ بكلْ شيْ!.

– والحلْ؟!.

طالَ الصمتُ هذه المرة فَجَمَدَني تماماً. تحولتُ إلى كيانٍ من سمعٍ أَماتَ صوت الليل والنجوم والحفيف وأصوات الجيران الخافتة، مجسماً ما يصدر من زفراتٍ وآهاتٍ ضعيفةٍ تأتي من سريرهم تبعها صوتُ أمي واضحاً وحاسماً:

– مو أنتَ قلتْ: كلْ مثقفي المدينة وشخصياتها يلتقون بدكان “خليل”.

– صحيح كل أكابر المدينة تِحْلِقْ عنده!.

– ضعه عنده!.

– فكرة ممتازة بكرى أخذه، حتى نطمئن وينزاح الهمّْ!.

ليلتها تناهبتني أحاسيس مضطربة بين رغبتي الشديدة في البقاءِ حراً للعب في الشارع، وفضول العمل في دكان “عمي” وسط المدينة.

طبعا لا خيار لي ولا أحد يسمع ما أقول كحال أي طفل عراقي، ما عليه سوى التنفيذ و إلا تكون العصا أو النعال أو الكف جاهزة للسع جلده.

أقبلنا من عمقِ سوق الحنطة نحو الجسر الخشبي القديم العابر نحو شارع الصيدليات القائم حتى الآن. تجاوزنا الجسر، وبعد عشرين متراً أو أقل، أوقفَ أبي دراجته مستنداً بقدمه اليمنى على حافةِ الرصيفِ العالي وأمرني:

– أنزل!.

لم يترجل، بل صاح وهو على دراجته بصوت قوي:

– خليل.. خليل!.

فظهر عمي من باطن دكان واجهته زجاجية وبيده المشط والمقص، فأكملَ أبي:

– هذا سلام درْ بالكْ عليه!.

قالها وأندفعَ بدراجتهِ إلى دكانهِ في الفرع القريب. صاحني عمي قائلاً:

– تعالْ!.

جلستُ في زاويةِ المحل مذهولاً من هيأتي المعكوسة في المرايا المعلقة على جدرانه الثلاثة ما عدا الواجهة الزجاجية الشفافة. أَنصِتُ لصوت المقص وضجيج الشارع حائراً متسائلاً:

– ماذا عليّ فعله؟!.

ما أن فرغ المحل من الزبائنِ، حتى لخّصَ لي مهامي بعباراتٍ قليلةٍ، فهمتُ منها؛ أن أكون خادماً للجميع، أجلب طلبات “عمي” والزبائن وأكنسْ الشعر المتساقط، وأنظف أدوات الحلاقة، أقول نعيماً لمن يكمل الحلاقة وأنا أمسح كتفه من الشعر العالق، كي أحصل على “الحلاوة” قطعة نقد صغيرة من فئة الخمسة فلوس أو أكثر، وأكون حارساً حينما يغيب لسببٍ ما.

في ظهيرة ذلك اليوم القائظ تركني وحيداً، نظفتُ المحل وجلستُ على كرسي الحلاقة أحملقُ في وجهي وهذه العادة ستلازمني بقية العمر؛ الحملقة في شكلي في المرآة حملقةً فارغةً، بمعنى أنظرُ إلى وجهي وكأنني أنظر لآخر غريب، وتأمل المارة في الشارع المكتظ بالعربات والسيارات القديمة المتهالكة، وحركة الناس التي لا تهدأ لحظة. أخرجتُ كرسياً إلى ناصيةِ الشارع، ورحتُ أتتبع مسحورا أجساد الناس، الدكاكين، الفيء المنحسر نحو الجدران، وجوه لا أعرفها، وجوه عبارة عن طلاسم، تبتسم لي، تمازحني، تعرفني دون أن أعرفها، فعشرات من المارة يقتربون مني ويبتسمون ويقولون:

– هذا “سلام” أبن أخو خليل!.

كنت أقابلهم بابتسامةٍ بلهاء، والقائل كأنهُ يكلم نفسه بصوتٍ يُسمِعْ به الجميع، فألزمُ الصمتَ مأخوذاً، فكل وجهٍ، وكل دكانٍ، وكل حركةٍ ستنكشف عن أسرار وحياة وتفاصيل دفعتني دفعاً عنيفاً وسريعاً إلى ناصية وعيٍ مبكرٍ قضى على براءة الطفل بيّ.

المحل يقع في أكثر الأماكن حيوية في الديوانية التي كانت صغيرة وقتها أوائل ستينات القرن الماضي. لا يبعد عن الجسر الخشبي الذي عبرته مع أبي سوى أمتار لا تتعدى العشرين أو أقل. في جانب الشارع المقابل مقهى –اللواء- من أكبر وأكثر المقاهي شعبيةً في المدينة يرتادها المثقفون، معلميها، موظفيها، أعيانها. ومن تلك النافذة الواسعة على طفلٍ مثلي رأيتُ المدينةَ بعمقٍ في كل حالاتها، عهرها وشرفها، تزمتها وانفلاتها، كل شيء يمر أمام عيني وسمعي وشمي ولمسي وأنا جالس في دكان عمي.. النافذة.

عالمٌ متسعٌ أنفتح أمامي. ومنه نفذتُ إلى أشياء وأسرار قلبتْ مفاهيمي ورؤيتي للمحيط والدنيا وبالتالي الحياة. أول تلك الأسرار هي السينما كفسحة خيالٍ لم تشخ أبداً. كان مالك سينما الجمهورية الصيفي الكائنة في الشارع المقابل المشرف على نهر المدينة “حمد جمعه” يحلق لدى عمي، كنتُ أقوم بخدمته وصادقتُ أبنه “سعد” الذي كان يجلس جواري على مقعد الدرس، هذا ما وفرَّ لي الدخول كل ليلة إلى صالة العرض مجاناً. وفيها شاهدتُ كل الأفلام العربية والأجنبية فحلقتُ بعيداً صوبَ أحلامٍ مستحيلةٍ، وجعلتْ مني طفلاً حالماً حتى أني كنتُ أنفصل عن المحيط، وأعيش مع فريد شوقي، ومحمود المليجي، وعمر الشريف وفاتن حمامة، وهند رستم، وهرقل الجبار، وسبارتكوس، وهرقل، وطرزان، أتقمص الشخصيات وأنسج مساراً مختلفاً للأحداث يتناسب مع ما تمنيته وأنا أشاهد الفلم. ومن هنا دخلت في مشاكلٍ لا حصرَ لها، أصبحتُ ساهياً أنسى ما بعثني عمي لأجله، أو يأخذني حلم الشاشة البيضاء فلا أعود إلى الدكان إلا بعد ساعةٍ، أو أعيش وأنا وسط الزبائن مع أحداث فْلْمٍ رأيته البارحة، فلا أسمع ما يناديني به عمي، فشبعتُ ضرباً وشتائم. كان ينعتني بقبيح الشتائم ولكثرة ما يعيدها لم تعد تهمني:

– غبي، أثول، مطي، أطرش، أعمى، زمال!.

وغيرها من قاموس “العراقي” الثري في باب تحقير الطفل. عدا الصفعات والركلات حينما يخلو المحل من الزبائن، وكل هذا “حلاوة” على حد التعبير العراقي بالمقارنة مع محنة السينما كل ليلة، ففي المساء حينما يعتقني “عمي” وأتوجه نحو البيت، وما أن أعبر الجسر الخشبي القديم وأصبح أمام بناية المحكمة القديمة حتى تجتذبني أضواء سينما “الجمهورية” الشتوي المشعة في عمق الشارع العريض، فأحثُ الخطى نحوها ناسياً قرار الليلة السابقة ورعدة خوفها. الرعدة التي تلازمني حال نهاية العرض فتذهب بنشوة الفلم، فأحاصر بوجه أبي المحتقن وعصاه الغليظة. فلم عنف يتكرر مباشرةً بعد رحلتي الخيالية وأنا أرفرف بجناحي في سماء أمكنة خضراء وأنهار وحقول وأرياف ساكنة ووجوه وقصص حب عنيفة متدفقة في نهر من النور يمر أمام عيون المشاهدين المسحورين الصامتين.

تجتذبني أضواء السينما فأنسى لأقع في المحنة من جديد. فأهرول خافق القلب في طريق عودتي إلى دارنا البعيدة وقتذاك، فحينا كان وقتها أطرف حيّ في الديوانية. أهرول كائلاً اللوم لنفسي العنيدة المنقادة لسحر السينما كل ليلة. أنسى فلم رعبي الخاص؛ احتدام غرفة البيت الوحيدة بصراخ أبي، الذي يَميتْ أطرافي قبيل تناول عصاه الغليظة المخبأة تحت وسادة سرير نومهم، صراخاً مجنوناً، غير مفهوم بالنسبة لي، كنت أجده أحمقاً، لكنني سأدرك لاحقاً عند نضجي.. أية هواجس ومخاوف ينبعثُ منها الصراخ ذاك، ومن أية معاني ينطلق وهو في ذروة السكر. أب مرعوب من ابنٍ عنيد، يتأخر كل ليلة ساعاتٍ ثلاث بمسافة لا تتطلب سوى نصف ساعة رغم الوصايا والنصائح والضرب. كنت أتلقى ذلك الضرب المبرح متسائلاً مع نفسي:

– لِمَ يا ربي لٍمً؟!.

حاولتُ وَلمْ أستطع، حاولتُ.. وحاولت دون جدوى، ماذا أفعل لنفسي؟.. قوةٌ مجنونةٌ تجذبني رغم عزمي الشديد على عبور الباب العريضة المفتوحة المضيئة بالصور والوجوه والمجسمات في إعلانات تزين جدران المدخل والواجهات، حسناوات يقطّرن حلاوة، مسدسات تدور بين الأصابع، و.. و حقول مشتعلة بالخضرة تعانق الآفاق. عشاق يتعانقون في الخلوات،.. دخان معارك، وغابات وأغاني ومعارك بالسيوف، بالدبابات. بابٌ يؤدي إلى ظلمةٍ وعالمٍ يجعلني أحلم لأيام وليالٍ. عالمٌ ساحرٌ ينسيني علقة الأمس القاسية، ويتداخل مع عالم دكان الحلاقة الساحر الذي يلقيني أخر النهار مخدراً بقصص المدينة وما يحدث في الخفاء والذي أسمعه من أفواه الزبائن فتصيبني الدهشة، حالماً أنسى كل شيء وأجدني أخطو لتحتويني الباحة المضيئة وصوت أم كلثوم الصادح قبيل العرض، أسير على مهلٍ نحو بوابة الصالة مخدراً بروائح السينما وعيون الممثلين المحدقة نحوي والمنبثقة عبر زجاج صناديق العرض الدعائية التي تملأ الباحة العريضة. لا احتاج قطع تذكرة، فجميع العاملين يعرفونني فقد أوصاهم “حمد” صاحب السينما وهو يقودني من يدي ويطلقني في فضاء صالة العرض قائلا للبواب “حسين”:

– سلام يدخل وقت ما يريد مفهوم!.

– صار عمي!

عبرتُ العتبة. تلمستُ أقرب كرسي وجلست، فالصالة أعتمت حال دخولي، لأغوص في بحر الشاشة الغاصة ببشرٍ يبغون مقاصدهم، يحبون ويتباغضون، يولدون ويموتون في الحقول، على ضفاف الأنهار، في الأحياء الفقيرة، في الثلج، والحر والجبال وعلى البغال، في الحرب والسلام. أغوص حالماً وكأنني أعيش معهم.. معهم إلى لحظة انفجار الضوء الصلد المعلن نهاية العرض، الضوء الطارد أحلام المخيلة، الكاشف كذبة حائط القماش الأبيض المؤطر بحاشية سوداء رفيعة. الضوء الملعون الذي يدفعني إلى الممر المرتفع حتى باب الخروج، إلى الرعدة والظلمة، إلى رعبٍ مركّبٍ من مخاوف وتحذيرات أمي وأبي من رجالٍ كبار قد يسخّمونَ وجهي. تصورته شيئاً فظيعاً.. سأدرك لاحقاً ما يقصدون بالضبط. أهرع حذراً متوجساً أبتعد عن رواد السينما، أسلكُ فروعاً تفضي بيّ إلى منافذ يسكنها الظلام والصمت وظلال مصابيح أعمدة عالية باهتة الإضاءة، أعيش هذه المخاوف طوال الطريق الممتد حتى شارعنا. وما أن أطأ بقدميّ المرتعدتين ترابه حتى تهجم عليّ مخاوف مختلفة، مخاوف كل ليلة تزداد وتتوحش كلما اقتربتُ من باب دارنا الخشبي العتيق الواطئ، فخلفهُ تكمن محنة الليلة، سيستيقظ أبي رغم سكره، سيحتد غضباً، سيهرع حيث يخبأ عصاه، ستلسعني ضرباته الكاوية، التي تشتد كلما أمعنتُ بصمتي، إذ لم يعد يصدق بأني كل ليلة أتأخر بسبب السينما كما أدعي. سيستعر غضبه فيشدد ضرباته مكرراً:

– وين كنتْ؟ كل ليلة تتأخر وين كنت؟.. قول بالسينما.. قول يا أبن الكلب.. قول؟!.

– …!.

ماذا سأقول.. ماذا؟ وهو سلفاً لا يصدق أين كنتْ؟!.

وقفتُ طويلاً تلكَ الليلة في سكونِ الشارعِ أمام بابنا المسدود، كان الشهر رمضان وجارنا نائب الضباط الورع “أبو محمد” بدأ بصوته الرخيم يردد أدعية انسابتْ في العتمة والسكون صاعدة نحو مصابيح السماء وروحي، أدعيةً جعلتني ألبث في وقفتي أمام الباب متخيلاً وجهه بلحيته الشيباء وقسماته المسالمة، وعينيه الحزينتين المناقضتين لعيني أبي الجاحظتين، الواسعتين، اللتين تقدحان ناراً عند الغضب. صوته اللاهج بالخشوع هدأ قلبي وجعلني أختصر المحنة ولا أبالي لشيء. فكرتُ مع نفسي وقتها، وكان ذلك أول بادرة لتمردي اللاحق الذي قادني من تشرد إلى تشرد حتى وجدت نفسي في بقعة من أرض غريبة تجاور القطب دون أهلي وأحبابي وأمكنتي الحارة، فكرتُ وأنا أتأرجح على حافة الغفوة من تعب النهار الطويل:

– ما حاجتي إلى الدخول، فالليلة صيفية رائقة، سوف يستيقظ أبي حتماً ويذيقني عصاه في غرفتنا الوحيدة كي لا يوقظ أخوتي، وستنقذني أمي في أخر لحظة!. سوف لا يفهم أبداً.. أبداً سحر الشاشة البيضاء ولا يصدق أنها تجذبني كل ليلة.. لا يصدق وأنا لا أستطيع!.

تحسستُ ظهري المتورم من عقوبة الأمس، ورجعت من حيث أتيت مفتشاً عن موضع صالحٍ للنوم، وفي منحدر جوار استدارة “محلتنا التي كانت نهاية الطرق المعبدة بالمدينة وجدت فراشاً ترابياً ناعماً أسفل المنحدرٍ. سويت مكانا بكفيّ يسع لطولي واستلقيت محدقاً بالنجوم المنثورة بكثافة في عمق السواد العظيم، وعلى إيقاع غمزات ضوئهن غفوت حالماً بـ “عنتر بن شداد” يخوض الصعاب والحروب في تيه الصحراء ويقتل أشرس الأعداء لينال حبيبته “عبلة” الضاحكة دوماً. كانت لحظة فريدة لم أنسها طوال العمر، لذة ما بعدها لذة. النوم في سريرٍ من تراب دون عصا، دون تقريع وإذلال. حتى الآن لم أجد فراشاً أنعم من ذلك الفراش المبذول، ولم أجد لذةً كلذة تلك الغفوة في شارع ومنحدرٍ يشكل ما يشبه المخبأ. تراب ناعم وأحلام وخيال وغفوة لا مبالية كانت عتبة لحياة المغامرة والتشرد التي خضتها لاحقاً.

وكأنني في حلمٍ انحنتْ على غفوتي امرأةٌ جليلةٌ بثيابها السوداء ورائحتها الأليفة المسكرة، جعلت تربت على خدي بأصابعها الحانية ربتاً رفيقاً، ثم هزتني من كتفي وهي تنادي همساً في الظلمة والسكون:

– يمه.. يمه.. أكعد..أكعد يمه.. ليش.. ليش نايم هنا، ما عندك بيتْ.. ليش؟!.

كمن كان في قفرٍ موحشٍ شديد الوطأة ارتميتُ بين اليقظة والمنام إلى حضنها غاطاً في عبق رائحتها القديمة المعجونة بكياني، تعلقتُ برقبتها باكياً.. باكياً، شاكياً أردد مفردة واحدة بمرارة:

– يمه يا يمه.. يمه يا يمه!.

أرددها مختنقاً بعبراتي. أتذكر بوضوح عباءة أمي شديدة السواد التي لفتني فيها، فشعرتٌ وكأنني طيرٌ ضائعٌ وجد ملاذه. أتذكر شكل السماء الضاحكة النجوم قبيل الالتئام بحضنها ودفق الأمان من كلامها الرقيق.

الشيء الذي استوقفني وسيكون مفتاحي لاحقاً لبلوغ حرية سمحت لي المغامرة والثورة هو: رد فعلهم الضعيف على ترك البيت والنوم في الشارع بالنسبة لعائلة لها تقاليد صارمة إذ لم ألمس في كلامها شدةً ولوماً وتقريعاً بل رقةً وتوسلاً وحنواً:

– تعال يمه.. تعال!.

تمنعتُ متخيلا أبي يقف منتظراً بعصاه في مدخل البيت فقلت لها متوسلاً:

– اتركيني أنام هنا أحسن!.

– لا تخاف يمه.. لا تخاف. أبوك يحبك ويخاف عليك، ما راح يضربك.. ما راح يضربك!.

سحبتني صوب بيتنا الذي يبعد قرابة مئة متر. سرتُ بعناء، أكاد أتهاوى من النعاس.

كم بَحِثِتْ في الزوايا والبيوت والشوارع المجاورة حتى عثرت عليّ؟!.

وبشيطنة طفلٍ يبدو ظاهراً شديد السذاجة اكتشفتُ مبلغ ضعف الأب والأم إزاء مظاهر التمرد التي يبديها طفلهم. فعند دخولنا ساحة البيت تَصَنّعَ أبي النوم فتعالى شخيره. قادتني إلى فراشي المبسوط جنب أخوتي وأخواتي. غطتني وأسرت لي بهمس:

– لا تخف.. نم أبني نم.. أبوك نائم!.

لكنني لم أنم. لبثتُ أتتبعها وهي تندس جوار أبي. أرهفتُ السمع. كان الصمت مطبقاً، وفيما كنت أشرع في النوم سمعتُ أبي يسألها:

– أين وجدتيه؟!.

15-6-2016


* عن الناقد العراقي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...