1
عزيزي بول
كنتُ أفكر في الصداقات، كيف تنشأ، ولماذا تدوم – أو بعضها – طويلاً، بل أطول من الارتباطات العاطفية التي تُعتَبَر أحياناً (خطأً) تقليداً باهتاً لها. كنت أوشك أنْ أكتب إليك رسالة حول هذا كله، بدءاً بملاحظة قِلَّة ما كُتِبَ عن هذا الموضوع، إذا أخذنا بعين الاعتبار مدى أهمية الصداقات في الحياة الاجتماعية، ومدى أهميتها بالنسبة إلينا، خاصة في عهد الطفولة.
لكنني تساءلت عما إذا كان هذا صحيحاً حقاً. لذلك وقبل أنْ أجلس لأكتب انطلقتُ إلى المكتبة لأُجري بحثاً سريعاً. وانظرْ ماذا وجدت، لقد كنتُ على خطأ تام. ففهرس المكتبة يحتوي قائمة بكل الكتب التي تتناول هذا الموضوع، كثيراً من الكتب، والعديد منها حديث العهد. ولكن عندما اتخذتُ خطوة أخرى وألقيتُ نظرة على تلك الكتب، استعدتُ شيئاً من احترامي لذاتي. لقد كنتُ على صواب، أو على شيء من صواب، فقبل كل شيء، إنَّ ما كان لدى الكتب لتقوله عن الصداقة ليس بذي بال، في معظمه. يبدو أنَّ الصداقة تبقى لغزاً: نحن نعلم أنها هامة، أما السبب في أنَّ الناس يُصبحون أصدقاء ويبقون أصدقاء فمجرد تخمين.
(ماذا أعني عندما أقول إنَّ ما كُتِبَ ليس بذي بال؟ قارن بين الصداقة والحب. هناك مئات الأشياء الهامة التي يمكن أنْ نقولها عن الحب. على سبيل المثال، يقع الرجال في حب النساء اللائي يُذكّرنهم بأمهاتهن، أو بالأحرى، يُذكّرنهم ولا يُذكّرنهم بأمهاتهم، اللواتي لسن أمهاتهم في الوقت نفسه. أصحيح هذا؟ ربما، وربما لا. أهو مُثير للاهتمام؟ حتماً. والآن لننتقل إلى الصداقة. مَنْ ينتقي الرجال ليكونوا أصدقاء لهم؟ رجالاً آخرين من السن نفسها تقريباً، والاهتمامات المتشابهة، الكتب مثلاً. أصحيح هذا؟ ربما. أهو مُثير للاهتمام؟ حتماً لا)
دعني أضع في قائمة بضع ملاحظات عن الصداقة، مُنتقاة من زياراتي التي قمتُ بها إلى المكتبة، ووجدتُ أنها حقاً مُثيرة للاهتمام.
مادة. يقول أرسطو (في كتاب “الأخلاق”، الفصل الثامن): لا يمكن عقد صداقة مع شيء غير حيّ. طبعاً لا! ومَنْ قال إنَّ هذا ممكن؟ لكنه أمر مُثير للاهتمام مع ذلك: إنَّ المرء يُدرك فجأة من أين استمدت الفلسفة اللغوية الحديثة إلهامها. قبل ألفين ومائتي عام كان أرسطو يُبيِّن أنَّ ما يبدو أشبه بمُسلَّمات فلسفية قد لا يكون أكثر من قواعد في النحو. وفي جُملة “أنا صديق لفلان”، يجب أنْ يكون فلان اسماً لكائن حيّ.
مادة. يمكن للمرء أنْ يتخذ أصدقاء من دون أنْ يرغب في رؤيتهم، كما يقول تشارلز لامب. هذا صحيح؛ ومُثيرٌ للاهتمام أيضاً – إنها طريقة أخرى لا تشبه فيها مشاعر الصداقة العلاقات الجنسية.
مادة. إنَّ الأصدقاء، أو على الأقلّ الأصدقاء من الذكور في الغرب، لا يبوح أحدهم بمشاعره للآخر. قارن هذا بثرثرة العشاق. حتى الآن، الأمر لا يُثير الكثير من الاهتمام. ومع ذلك عندما يموت صديق، كم يفيض الحزن: “واأسفاه، لقد فات الأوان!” (كما قال مونتاني عن ” الشِعر”، وميلتون عن الملك إدوارد) (سؤال: هل الحب ثرثار لأنَّ الرغبة متناقضة بطبيعتها – شكسبير في ” السوناتات ” – بينما الصداقة صموتة لأنها صريحة، بلا تناقُض؟)
ختاماً، ملاحظة من كريستوفر تيتجنز (1) في “نهاية الاستعراض” عمل فورد مادوكس فورد: حول أنَّ الرجل يضاجع امرأة لكي يتمكن من التحدث معها. المعنى الضمني: أنَّ تحويل امرأة إلى خليلة ما هو إلا خطوة أولى؛ الخطوة الثانية، تحويلها إلى صديقة، وهذه هي الخطوة الهامة؛ ولكن أن يكون صديقاً لامرأة لم يُضاجعها فهذا أمر مُستحيل عملياً لأنَّ هناك الكثير مما لم يُقل بينهما.
من الصعب جداً قول أي شيء يُثير الاهتمام عن الصداقة، إذن لا بد من التعمُّق: وهذا، خلافاً للحب أو للسياسة، اللذَين ليسا كما يبدوان، فإنَّ الصداقة هي ما تبدو عليه. الصداقة شفّافة.
إنَّ الأفكار الأشدّ إثارة للاهتمام حول الصداقة تأتي من العالم القديم. لماذا؟ لأنَّ الناس في العصور القديمة لم يعتبروا الموقف الفلسفي موقفاً شكوكياً متأصّلاً، ولذلك لم يُسلِّموا بأنَّ على الصداقة أنْ تكون غير ما تبدو عليه، أو على العكس خلِصوا إلى أنه إذا كانت الصداقة هي ما تبدو عليه، فلا يمكن أنْ تكون موضوعاً فلسفياً مناسباً.
مع خالص أمنياتي
جون
_______________________________
2
بروكلن
29 تموز، 2008
عزيزي جون
لقد قلّبتُ الكثير من الأفكار في هذه القضية على مرّ السنين. ولا أستطيع أنْ أقول إنني كوّنتُ موقفاً متناسقاً من الصداقة، ولكن رداً على رسالتك (التي أثارت دوامة من الأفكار والذكريات داخلي)، لعل اللحظة قد حانت لكي أحاول.
أولاً، سوف أقتصر على صداقة الذكور، الصداقة بين الرجال، الصداقة بين الفتية.
1) نعم، هناك صداقات شفّافة وليست متناقضة (ولأستخدم تعبيرك)، ولكن حسب تجربتي ليست عديدة. لعلّ لهذا صِلة بتعبير آخر استخدمته: “صموتة”. أنت على صواب بقولك إنَّ الأصدقاء من الذكور (في الغرب على الأقلّ) لا يميلون إلى “الإفصاح عن مشاعر كل منهم نحو الآخر”. سوف أتقدّم خطوة أخرى بعد هذا وأُضيف: إنَّ الرجال لا يميلون إلى الإفصاح عن مشاعرهم، نقطة. وإذا لم تكن تعلم ما هي حقيقة مشاعر صديقك، أو مشاعره، أو لماذا يشعر هكذا، فهل تستطيع بصدق أنْ تقول إنك تعرف صديقك؟ ومع ذلك فالصداقات تدوم، حتى إلى عقود، في هذه المنطقة الغامضة من اللا معرفة.
على الأقلّ ثلاث من رواياتي تناقشُ مباشرة مسألة صداقة الذكور، هي بصورة ما قصص عن صداقة الذكور – الغرفة المُقفلة، الليفياثان و ليلة النبوءة – وفي كل حالة، تُصبح تلك الأرض المُقفِرة من اللامعرفة التي تقف عائقاً بين الأصدقاء مسرحاً تمثَّل عليها الدراما.
مثال من الحياة. على امتداد السنوات الخمس والعشرين الفائتة، أحد أشدّ أصدقائي قُرباً مني – لعله الصديق الأقرب إليّ من الذكور في عهد رشدي – هو أقلّ مَنْ عرفت من الناس ثرثرة. إنه أكبر مني سناً (بأحد عشر عاماً)، ولكن بيننا الكثير من القواسم المشتركة: فكلانا كاتب، وكلانا ممسوس بصورة حمقاء بالألعاب الرياضية، وكلانا متزوج منذ مدة طويلة من امرأتين رائعتين، وأيضاً، والأهمّ والأصعب على التعريف، ثمة شعور معيَّن مُشترك غير مُباح حول كيف ينبغي على الإنسان أنْ يعيش – أخلاقيات الرجولة. ومع ذلك، على الرغم من حبي لهذا الشخص، ورغبتي في أنْ أنزع قميصي عني لأُعطيه إياه في وقت الشِدّة، إلا أنَّ أحاديثنا كلها تقريباً من دون استثناء بليدة وتافهة، بل مبتذلة تماماً. نحن نتواصل بإصدار أصوات نخر قصيرة، تعود في أصلها إلى لغة اختزال لا يفهمها الغرباء. أما بالنسبة إلى عملنا (الذي هو القوة الدافعة في حياة كلينا)، فنادراً ما نأتي على ذِكره.
ولكي أُبيِّن مدى تحفُّظ هذا الرجل، إليك أُمثولة صغيرة. قبل بضع سنوات، كانت إحدى رواياته توشك أنْ تصدر وهي تحت الطبع. فأخبرته عن مدى تلهّفي إلى قراءتها (أحياناً يُرسل كل منا للآخر المخطوطات النهائية، وأحياناً كنا ننتظر صدور الألواح الطباعية)، فقال إنني سأتلقّى نسخة في القريب العاجل. ووصلت الألواح الطباعية بالبريد في الأسبوع التالي. فتحتُ اللفافة، ورحتُ أتصفّح الكتاب على عجل، فاكتشفت أنه مُهدى إليّ(2) . تأثّرتُ، طبعاً، بل في الحقيقة كان تأثّري عميقاً – لكنَّ المهم هو أنَّ صديقي لم ينطق بأية كلمة عن ذلك. ولا حتى بأدنى إشارة، ولا حتى بأصغر أصغر طرفة عين، لا شيء.
ماذا أحاول أنْ أقول؟ إنني أعرف هذا الرجل ولا أعرفه. إنه صديقي، أعزّ الأصدقاء، على الرغم من هذه اللا معرفة. لو أنه خرج غداً وسرقَ مصرفاً، لصُدِمت. من ناحية أخرى، لو أنّه تناهى إلى عِلمي أنه خان زوجته، وأنَّ لديه عشيقة صغيرة السن يُخفيها في شقّة في مكان ما، لأُصِبتُ بخيبة أمل، ولكن لم أكُنْ لأُصدَم. إنَّ كل شيء ممكن، والرجال يحتفظون بأسرار، حتى عن أقرب الأصدقاء إليهم. وفي حالة خيانة صديقي لزوجته، كنتُ سأشعر بخيبة الأمل (لأنه خذل زوجته، وأنا شديد الكَلف بها)، لكنني كنتُ سأتأذّى (لأنه لم يأتمني على سرّه، مما سيعني أنَّ صداقتنا ليست متينة كما كنتُ أعتقد)
(خطرت لي فكرة مفاجئة. إنَّ أفضل الصداقات وأطولها أمداً يقوم على أساس الإعجاب. هذا هو الأساس المتين الذي يربط بين شخصَين ردحاً طويلاً من الزمن. إنكَ تُعجَب بشخص لأعماله، لِما هو عليه، لأسلوبه في شقّ طريقه في العالم. وإعجابك يدعمه في نظرك، يجعله نبيلاً، يرفعه إلى مكانة تفوق في رأيك مكانتك. وإذا كان ذلك الشخص يُبادلك الإعجاب – وبالتالي يدعمك، ويجعلك نبيلاً، ويرفعك إلى مكانة يعتقد أنها أعلى من مكانته – فأنت إذن في وضع راقٍ جداً. كلاكما يُعطي أكثر مما يأخذ، وكلاكما يأخذ أكثر مما يُعطي، في عملية التبادل هذه، تزدهر الصداقة. وأقتبس من ” دفاتر ” جوبير(3) (1809): ” عليه ليس فقط أنْ يُهذِّب أصدقاءه، بل أنْ يُهذِّب صداقاته داخل نفسه. يجب أنْ يُحافظ عليها، ويعتني بها، ويرويها”، ومن الجدير يقول جوبير “إننا دائماً نخسر صداقة الذين يخسرون احترامنا”)
2) الفِتية. إنَّ عهد الطفولة هو الفترة الأشدّ كثافة في حياتنا لأنَّ مُعظم ما نفعل في أثنائها نفعله للمرة الأولى. وهنا ليس لديّ أقدّمه إلا ذِكرى، ولكن يبدو أنَّ تلك الذِكرى تُبرِز القيمة القُصوى التي نضعها على الصداقة ونحن صغار، بل صِغار جداً. كنتُ في الخامسة من العمر. دخل بيلي صديقي الأول إلى حياتي بطُرُق لا أتذكّرها الآن. أتذكّره شخصية غريبة ومرحة تحمل آراءً قوية وصاحبة موهبة متطورة جداً في الخبث (وهي صِفة أفتقرُ إليها بدرجة مرعبة). كانت لديه إعاقة حادة في الكلام، وعندما يتكلَّم تخرج الكلمات منه شديدة التشوُّه، والإعاقة ويتكثّف اللعاب في فمه، بحيث لا يفهم أحد ما قال – ما عدا بول الصغير، الذي كان يقوم بعمل مُترجمه. وكان مُعظم وقتنا نقضيه في التجوال في ضواحي “نيو جرزي” المجاورة نبحث عن حيوانات صغيرة نافقة – غالباً من الطيور، ولكن مع ضفدع أو سنجاب مُخطَّط بين حين وآخر – ونقوم بدفن الجثث في مسكب للزهور على طول جانب منزلنا. نُقيم شعائر رصينة، ونصنع صلبانَ خشبية، ونمنَع الضحك. كان بيلي يكره الفتيات، رافضاً أنْ يملأ صفحات دفاترنا الملوّنة التي تبيِّن صوراً لفتيات، ولأنَّ لونه المُفضّل هو الأخضر، كان مُقتنعاً بأنَّ الدم الذي يجري في عروق دميته الدب أخضر اللون. هذا هو بيلي. ثم، عندما بلغنا السادسة والنصف من العمر أو السابعة، انتقل هو وعائلته إلى بلدة أخرى. وتحطم قلبي، وتبع ذلك أسابيع إذا لم أقُل شهور من الاشتياق إلى صديق الغائب. وأخيراً، لانَ قلب أمي وسمحتْ لي أنْ أُجري المكالمة المُكلِفة لمنزل بيلي الجديد. وقد امَّحى محتوى مكالمتنا من ذاكرتي، لكنني أتذكّر مشاعري بقوةِ حيويةِ تذكّري لِما تناولت على مائدة الإفطار في صباح هذا اليوم. شعرتُ بما سأُسمّيه لاحقاً شعور مُراهِق عندما تحدثتُ عبر الهاتف مع الفتاة التي وقعتُ في حبّها.
لقد ميَّزتَ في رسالتك بين الصداقة والحب. عندما نكون صِغاراً جداً، قبل أنْ تبدأ حياتنا الجنسية، لا يكون هناك فرق. الصداقة والحب شيء واحد.
3) الصداقة والحب ليسا شيئاً واحداً. كالرجال والنساء. كالفرق بين الزواج والصداقة. مُقتَطَف أخير من جوبير بتاريخ (1801): ” لا تنتقِ لك زوجةً أيّ امرأة لن تنتقيها كصديقة إنْ كانت رجلاً “
أعتقدُ أنها تركيبة سخيفة (كيف يمكن لامرأة أنْ تكون رجلاً؟)، لكنَّ الفكرة وصلتْ، وفي جوهرها ليست بعيدة عن ملاحظتك حول قصة “نهاية استعراض” لفورد مادوكس فورد والتوكيد الغريب، والعجيب على أنَّ “يأوي المرء إلى السرير مع امرأة لكي يتمكّن من التحدُّث معها”
إنَّ الزواج هو قبل أي شيء حديث، وإذا لم يتوصّل الزوج والزوجة إلى طريقة ليُصبحا صديقَين، فليس للزواج فرصة للاستمرار. والصداقة هي عنصر أساسي في الزواج، لكنَّ الزواج نقاشٌ مفتوح ودائم التجدُّد، عمل متواصل لا يتوقف، مطلبٌ مستمر لبلوغ عمق آخر من أعماق الشريك ولإعادة ابتكار الذات في صِلتها بالآخر، في حين أنَّ الصداقة نقيّة وبسيطة (أي، الصداقة خارج رباط الزواج)، وتنحو إلى أنْ تكون أكثر جموداً، وتهذيباً، وسطحيّة. إننا نتوقُ إلى الصداقة لأننا كائنات اجتماعية، نولد من كائنات أخرى ويُقدَّر لنا أنْ نعيش بين كائنات أخرى حتى مماتنا، ومع ذلك فكِّر في المشاجرات التي تتفجّر أحياناً في أفضل الزيجات، الاختلافات العنيفة في الرأي، والمهانات الحادة، والأبواب التي تُصفَع والفخّار الذي يُكسَر، وسرعان ما يفهم المرء أنَّ مثل ذلك الأسلوب لن يراه في عالم الصداقة المُحتشِم واللائق. الصداقة هي حُسن سلوك، ورقّة، وثبات في الشعور. والأصدقاء الذين يتبادلون الصراخ نادراً ما يبقون أصدقاء. أما الأزواج والزوجات الذين يتبادلون الصراخ يبقون في المعتاد أزواجاً – وسعداء في زواجهم.
هل يمكن أنْ يُصبح الرجال والنساء أصدقاء؟ أعتقد ذلك. طالما أنه لا يوجد انجذاب جسديّ عند كلا الطرفين. فحالما يدخل الجنس في المعادلة، تنهار الرهانات كلها.
4) يجب أنْ تستمر. ولكن يجب مناقشة جوانب أخرى من الصداقة أيضاً: أولاً، الصداقة التي تذوي وتموت؛ ثانياً، الصداقات بين أناس لا تجمعهم بالضرورة اهتمامات مشتركة (صداقات العمل، صداقات عهد الدراسة، صداقات زمن الحرب)؛ ثالثاً، حلقات الصداقة المُتحدة في المركز: الحميمة في الجوهر، الصداقات الأقلّ حميمية لكنها مرغوبة أكثر، والأصدقاء الذين يعيشون بعيداً، وعلاقات التعارف الممتعة، وإلى آخره؛ رابعاً، كل النقاط الأخرى التي وردتْ في رسالتك لم أتطرّق إليها.
مع أحرّ الأفكار من نيويورك الحارة
بول
—————————-
1 – كريستوفر تيتجنز هو بطل سلسلة من أربع روايات عنوانها ” نهاية الاستعراض ” للشاعر والروائي الإنكليزي فورد مادوكس فورد ، وتحكي عن الآثار النفسية والاجتماعية التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى على البريطانيين . – المترجم
2 – الكاتب المُشار إليه هنا هو دون ديليلو الذي أهدى كتابه ” كوزموبوليس ” إلى بول أوستر . (لجدير بالذكر أنَّ هذه الرواية سوف تصدر عن دار المدى في المستقبل المنظور) . – المترجم
3 – جوزيف جوبير (1754 – 1824) : فيلسوف فرنسي ارتبط اسمه مع كبار فلاسفة عصره . في أثناء حياته لم ينشر إلا القليل ، وفضّل أنْ يُسجل أفكاره في دفاتر أصبح عددها هائلاً عند موته . وبعد موته قام صديقه شاتوبريان بتوزيع تلك الدفاتر ونال صاحبها الشهرة الواسعة بسببها . الجدير بالذكر أنَّ بول أوستر نفسه قام بترجمة تلك الدفاتر إلى الإنكليزية تحت عنوان ” دفاتر جوزيف جوبير ” في عام 2005 . – المترجم
____________________________________
من مراسلات بول أوستر وج. م كويتزي “هنا والآن: رسائل 2008 – 2011” الصادر عن “فايبر آند فايبر” 2013
** ترجمة: أسامة منزلجي
عزيزي بول
كنتُ أفكر في الصداقات، كيف تنشأ، ولماذا تدوم – أو بعضها – طويلاً، بل أطول من الارتباطات العاطفية التي تُعتَبَر أحياناً (خطأً) تقليداً باهتاً لها. كنت أوشك أنْ أكتب إليك رسالة حول هذا كله، بدءاً بملاحظة قِلَّة ما كُتِبَ عن هذا الموضوع، إذا أخذنا بعين الاعتبار مدى أهمية الصداقات في الحياة الاجتماعية، ومدى أهميتها بالنسبة إلينا، خاصة في عهد الطفولة.
لكنني تساءلت عما إذا كان هذا صحيحاً حقاً. لذلك وقبل أنْ أجلس لأكتب انطلقتُ إلى المكتبة لأُجري بحثاً سريعاً. وانظرْ ماذا وجدت، لقد كنتُ على خطأ تام. ففهرس المكتبة يحتوي قائمة بكل الكتب التي تتناول هذا الموضوع، كثيراً من الكتب، والعديد منها حديث العهد. ولكن عندما اتخذتُ خطوة أخرى وألقيتُ نظرة على تلك الكتب، استعدتُ شيئاً من احترامي لذاتي. لقد كنتُ على صواب، أو على شيء من صواب، فقبل كل شيء، إنَّ ما كان لدى الكتب لتقوله عن الصداقة ليس بذي بال، في معظمه. يبدو أنَّ الصداقة تبقى لغزاً: نحن نعلم أنها هامة، أما السبب في أنَّ الناس يُصبحون أصدقاء ويبقون أصدقاء فمجرد تخمين.
(ماذا أعني عندما أقول إنَّ ما كُتِبَ ليس بذي بال؟ قارن بين الصداقة والحب. هناك مئات الأشياء الهامة التي يمكن أنْ نقولها عن الحب. على سبيل المثال، يقع الرجال في حب النساء اللائي يُذكّرنهم بأمهاتهن، أو بالأحرى، يُذكّرنهم ولا يُذكّرنهم بأمهاتهم، اللواتي لسن أمهاتهم في الوقت نفسه. أصحيح هذا؟ ربما، وربما لا. أهو مُثير للاهتمام؟ حتماً. والآن لننتقل إلى الصداقة. مَنْ ينتقي الرجال ليكونوا أصدقاء لهم؟ رجالاً آخرين من السن نفسها تقريباً، والاهتمامات المتشابهة، الكتب مثلاً. أصحيح هذا؟ ربما. أهو مُثير للاهتمام؟ حتماً لا)
دعني أضع في قائمة بضع ملاحظات عن الصداقة، مُنتقاة من زياراتي التي قمتُ بها إلى المكتبة، ووجدتُ أنها حقاً مُثيرة للاهتمام.
مادة. يقول أرسطو (في كتاب “الأخلاق”، الفصل الثامن): لا يمكن عقد صداقة مع شيء غير حيّ. طبعاً لا! ومَنْ قال إنَّ هذا ممكن؟ لكنه أمر مُثير للاهتمام مع ذلك: إنَّ المرء يُدرك فجأة من أين استمدت الفلسفة اللغوية الحديثة إلهامها. قبل ألفين ومائتي عام كان أرسطو يُبيِّن أنَّ ما يبدو أشبه بمُسلَّمات فلسفية قد لا يكون أكثر من قواعد في النحو. وفي جُملة “أنا صديق لفلان”، يجب أنْ يكون فلان اسماً لكائن حيّ.
مادة. يمكن للمرء أنْ يتخذ أصدقاء من دون أنْ يرغب في رؤيتهم، كما يقول تشارلز لامب. هذا صحيح؛ ومُثيرٌ للاهتمام أيضاً – إنها طريقة أخرى لا تشبه فيها مشاعر الصداقة العلاقات الجنسية.
مادة. إنَّ الأصدقاء، أو على الأقلّ الأصدقاء من الذكور في الغرب، لا يبوح أحدهم بمشاعره للآخر. قارن هذا بثرثرة العشاق. حتى الآن، الأمر لا يُثير الكثير من الاهتمام. ومع ذلك عندما يموت صديق، كم يفيض الحزن: “واأسفاه، لقد فات الأوان!” (كما قال مونتاني عن ” الشِعر”، وميلتون عن الملك إدوارد) (سؤال: هل الحب ثرثار لأنَّ الرغبة متناقضة بطبيعتها – شكسبير في ” السوناتات ” – بينما الصداقة صموتة لأنها صريحة، بلا تناقُض؟)
ختاماً، ملاحظة من كريستوفر تيتجنز (1) في “نهاية الاستعراض” عمل فورد مادوكس فورد: حول أنَّ الرجل يضاجع امرأة لكي يتمكن من التحدث معها. المعنى الضمني: أنَّ تحويل امرأة إلى خليلة ما هو إلا خطوة أولى؛ الخطوة الثانية، تحويلها إلى صديقة، وهذه هي الخطوة الهامة؛ ولكن أن يكون صديقاً لامرأة لم يُضاجعها فهذا أمر مُستحيل عملياً لأنَّ هناك الكثير مما لم يُقل بينهما.
من الصعب جداً قول أي شيء يُثير الاهتمام عن الصداقة، إذن لا بد من التعمُّق: وهذا، خلافاً للحب أو للسياسة، اللذَين ليسا كما يبدوان، فإنَّ الصداقة هي ما تبدو عليه. الصداقة شفّافة.
إنَّ الأفكار الأشدّ إثارة للاهتمام حول الصداقة تأتي من العالم القديم. لماذا؟ لأنَّ الناس في العصور القديمة لم يعتبروا الموقف الفلسفي موقفاً شكوكياً متأصّلاً، ولذلك لم يُسلِّموا بأنَّ على الصداقة أنْ تكون غير ما تبدو عليه، أو على العكس خلِصوا إلى أنه إذا كانت الصداقة هي ما تبدو عليه، فلا يمكن أنْ تكون موضوعاً فلسفياً مناسباً.
مع خالص أمنياتي
جون
_______________________________
2
بروكلن
29 تموز، 2008
عزيزي جون
لقد قلّبتُ الكثير من الأفكار في هذه القضية على مرّ السنين. ولا أستطيع أنْ أقول إنني كوّنتُ موقفاً متناسقاً من الصداقة، ولكن رداً على رسالتك (التي أثارت دوامة من الأفكار والذكريات داخلي)، لعل اللحظة قد حانت لكي أحاول.
أولاً، سوف أقتصر على صداقة الذكور، الصداقة بين الرجال، الصداقة بين الفتية.
1) نعم، هناك صداقات شفّافة وليست متناقضة (ولأستخدم تعبيرك)، ولكن حسب تجربتي ليست عديدة. لعلّ لهذا صِلة بتعبير آخر استخدمته: “صموتة”. أنت على صواب بقولك إنَّ الأصدقاء من الذكور (في الغرب على الأقلّ) لا يميلون إلى “الإفصاح عن مشاعر كل منهم نحو الآخر”. سوف أتقدّم خطوة أخرى بعد هذا وأُضيف: إنَّ الرجال لا يميلون إلى الإفصاح عن مشاعرهم، نقطة. وإذا لم تكن تعلم ما هي حقيقة مشاعر صديقك، أو مشاعره، أو لماذا يشعر هكذا، فهل تستطيع بصدق أنْ تقول إنك تعرف صديقك؟ ومع ذلك فالصداقات تدوم، حتى إلى عقود، في هذه المنطقة الغامضة من اللا معرفة.
على الأقلّ ثلاث من رواياتي تناقشُ مباشرة مسألة صداقة الذكور، هي بصورة ما قصص عن صداقة الذكور – الغرفة المُقفلة، الليفياثان و ليلة النبوءة – وفي كل حالة، تُصبح تلك الأرض المُقفِرة من اللامعرفة التي تقف عائقاً بين الأصدقاء مسرحاً تمثَّل عليها الدراما.
مثال من الحياة. على امتداد السنوات الخمس والعشرين الفائتة، أحد أشدّ أصدقائي قُرباً مني – لعله الصديق الأقرب إليّ من الذكور في عهد رشدي – هو أقلّ مَنْ عرفت من الناس ثرثرة. إنه أكبر مني سناً (بأحد عشر عاماً)، ولكن بيننا الكثير من القواسم المشتركة: فكلانا كاتب، وكلانا ممسوس بصورة حمقاء بالألعاب الرياضية، وكلانا متزوج منذ مدة طويلة من امرأتين رائعتين، وأيضاً، والأهمّ والأصعب على التعريف، ثمة شعور معيَّن مُشترك غير مُباح حول كيف ينبغي على الإنسان أنْ يعيش – أخلاقيات الرجولة. ومع ذلك، على الرغم من حبي لهذا الشخص، ورغبتي في أنْ أنزع قميصي عني لأُعطيه إياه في وقت الشِدّة، إلا أنَّ أحاديثنا كلها تقريباً من دون استثناء بليدة وتافهة، بل مبتذلة تماماً. نحن نتواصل بإصدار أصوات نخر قصيرة، تعود في أصلها إلى لغة اختزال لا يفهمها الغرباء. أما بالنسبة إلى عملنا (الذي هو القوة الدافعة في حياة كلينا)، فنادراً ما نأتي على ذِكره.
ولكي أُبيِّن مدى تحفُّظ هذا الرجل، إليك أُمثولة صغيرة. قبل بضع سنوات، كانت إحدى رواياته توشك أنْ تصدر وهي تحت الطبع. فأخبرته عن مدى تلهّفي إلى قراءتها (أحياناً يُرسل كل منا للآخر المخطوطات النهائية، وأحياناً كنا ننتظر صدور الألواح الطباعية)، فقال إنني سأتلقّى نسخة في القريب العاجل. ووصلت الألواح الطباعية بالبريد في الأسبوع التالي. فتحتُ اللفافة، ورحتُ أتصفّح الكتاب على عجل، فاكتشفت أنه مُهدى إليّ(2) . تأثّرتُ، طبعاً، بل في الحقيقة كان تأثّري عميقاً – لكنَّ المهم هو أنَّ صديقي لم ينطق بأية كلمة عن ذلك. ولا حتى بأدنى إشارة، ولا حتى بأصغر أصغر طرفة عين، لا شيء.
ماذا أحاول أنْ أقول؟ إنني أعرف هذا الرجل ولا أعرفه. إنه صديقي، أعزّ الأصدقاء، على الرغم من هذه اللا معرفة. لو أنه خرج غداً وسرقَ مصرفاً، لصُدِمت. من ناحية أخرى، لو أنّه تناهى إلى عِلمي أنه خان زوجته، وأنَّ لديه عشيقة صغيرة السن يُخفيها في شقّة في مكان ما، لأُصِبتُ بخيبة أمل، ولكن لم أكُنْ لأُصدَم. إنَّ كل شيء ممكن، والرجال يحتفظون بأسرار، حتى عن أقرب الأصدقاء إليهم. وفي حالة خيانة صديقي لزوجته، كنتُ سأشعر بخيبة الأمل (لأنه خذل زوجته، وأنا شديد الكَلف بها)، لكنني كنتُ سأتأذّى (لأنه لم يأتمني على سرّه، مما سيعني أنَّ صداقتنا ليست متينة كما كنتُ أعتقد)
(خطرت لي فكرة مفاجئة. إنَّ أفضل الصداقات وأطولها أمداً يقوم على أساس الإعجاب. هذا هو الأساس المتين الذي يربط بين شخصَين ردحاً طويلاً من الزمن. إنكَ تُعجَب بشخص لأعماله، لِما هو عليه، لأسلوبه في شقّ طريقه في العالم. وإعجابك يدعمه في نظرك، يجعله نبيلاً، يرفعه إلى مكانة تفوق في رأيك مكانتك. وإذا كان ذلك الشخص يُبادلك الإعجاب – وبالتالي يدعمك، ويجعلك نبيلاً، ويرفعك إلى مكانة يعتقد أنها أعلى من مكانته – فأنت إذن في وضع راقٍ جداً. كلاكما يُعطي أكثر مما يأخذ، وكلاكما يأخذ أكثر مما يُعطي، في عملية التبادل هذه، تزدهر الصداقة. وأقتبس من ” دفاتر ” جوبير(3) (1809): ” عليه ليس فقط أنْ يُهذِّب أصدقاءه، بل أنْ يُهذِّب صداقاته داخل نفسه. يجب أنْ يُحافظ عليها، ويعتني بها، ويرويها”، ومن الجدير يقول جوبير “إننا دائماً نخسر صداقة الذين يخسرون احترامنا”)
2) الفِتية. إنَّ عهد الطفولة هو الفترة الأشدّ كثافة في حياتنا لأنَّ مُعظم ما نفعل في أثنائها نفعله للمرة الأولى. وهنا ليس لديّ أقدّمه إلا ذِكرى، ولكن يبدو أنَّ تلك الذِكرى تُبرِز القيمة القُصوى التي نضعها على الصداقة ونحن صغار، بل صِغار جداً. كنتُ في الخامسة من العمر. دخل بيلي صديقي الأول إلى حياتي بطُرُق لا أتذكّرها الآن. أتذكّره شخصية غريبة ومرحة تحمل آراءً قوية وصاحبة موهبة متطورة جداً في الخبث (وهي صِفة أفتقرُ إليها بدرجة مرعبة). كانت لديه إعاقة حادة في الكلام، وعندما يتكلَّم تخرج الكلمات منه شديدة التشوُّه، والإعاقة ويتكثّف اللعاب في فمه، بحيث لا يفهم أحد ما قال – ما عدا بول الصغير، الذي كان يقوم بعمل مُترجمه. وكان مُعظم وقتنا نقضيه في التجوال في ضواحي “نيو جرزي” المجاورة نبحث عن حيوانات صغيرة نافقة – غالباً من الطيور، ولكن مع ضفدع أو سنجاب مُخطَّط بين حين وآخر – ونقوم بدفن الجثث في مسكب للزهور على طول جانب منزلنا. نُقيم شعائر رصينة، ونصنع صلبانَ خشبية، ونمنَع الضحك. كان بيلي يكره الفتيات، رافضاً أنْ يملأ صفحات دفاترنا الملوّنة التي تبيِّن صوراً لفتيات، ولأنَّ لونه المُفضّل هو الأخضر، كان مُقتنعاً بأنَّ الدم الذي يجري في عروق دميته الدب أخضر اللون. هذا هو بيلي. ثم، عندما بلغنا السادسة والنصف من العمر أو السابعة، انتقل هو وعائلته إلى بلدة أخرى. وتحطم قلبي، وتبع ذلك أسابيع إذا لم أقُل شهور من الاشتياق إلى صديق الغائب. وأخيراً، لانَ قلب أمي وسمحتْ لي أنْ أُجري المكالمة المُكلِفة لمنزل بيلي الجديد. وقد امَّحى محتوى مكالمتنا من ذاكرتي، لكنني أتذكّر مشاعري بقوةِ حيويةِ تذكّري لِما تناولت على مائدة الإفطار في صباح هذا اليوم. شعرتُ بما سأُسمّيه لاحقاً شعور مُراهِق عندما تحدثتُ عبر الهاتف مع الفتاة التي وقعتُ في حبّها.
لقد ميَّزتَ في رسالتك بين الصداقة والحب. عندما نكون صِغاراً جداً، قبل أنْ تبدأ حياتنا الجنسية، لا يكون هناك فرق. الصداقة والحب شيء واحد.
3) الصداقة والحب ليسا شيئاً واحداً. كالرجال والنساء. كالفرق بين الزواج والصداقة. مُقتَطَف أخير من جوبير بتاريخ (1801): ” لا تنتقِ لك زوجةً أيّ امرأة لن تنتقيها كصديقة إنْ كانت رجلاً “
أعتقدُ أنها تركيبة سخيفة (كيف يمكن لامرأة أنْ تكون رجلاً؟)، لكنَّ الفكرة وصلتْ، وفي جوهرها ليست بعيدة عن ملاحظتك حول قصة “نهاية استعراض” لفورد مادوكس فورد والتوكيد الغريب، والعجيب على أنَّ “يأوي المرء إلى السرير مع امرأة لكي يتمكّن من التحدُّث معها”
إنَّ الزواج هو قبل أي شيء حديث، وإذا لم يتوصّل الزوج والزوجة إلى طريقة ليُصبحا صديقَين، فليس للزواج فرصة للاستمرار. والصداقة هي عنصر أساسي في الزواج، لكنَّ الزواج نقاشٌ مفتوح ودائم التجدُّد، عمل متواصل لا يتوقف، مطلبٌ مستمر لبلوغ عمق آخر من أعماق الشريك ولإعادة ابتكار الذات في صِلتها بالآخر، في حين أنَّ الصداقة نقيّة وبسيطة (أي، الصداقة خارج رباط الزواج)، وتنحو إلى أنْ تكون أكثر جموداً، وتهذيباً، وسطحيّة. إننا نتوقُ إلى الصداقة لأننا كائنات اجتماعية، نولد من كائنات أخرى ويُقدَّر لنا أنْ نعيش بين كائنات أخرى حتى مماتنا، ومع ذلك فكِّر في المشاجرات التي تتفجّر أحياناً في أفضل الزيجات، الاختلافات العنيفة في الرأي، والمهانات الحادة، والأبواب التي تُصفَع والفخّار الذي يُكسَر، وسرعان ما يفهم المرء أنَّ مثل ذلك الأسلوب لن يراه في عالم الصداقة المُحتشِم واللائق. الصداقة هي حُسن سلوك، ورقّة، وثبات في الشعور. والأصدقاء الذين يتبادلون الصراخ نادراً ما يبقون أصدقاء. أما الأزواج والزوجات الذين يتبادلون الصراخ يبقون في المعتاد أزواجاً – وسعداء في زواجهم.
هل يمكن أنْ يُصبح الرجال والنساء أصدقاء؟ أعتقد ذلك. طالما أنه لا يوجد انجذاب جسديّ عند كلا الطرفين. فحالما يدخل الجنس في المعادلة، تنهار الرهانات كلها.
4) يجب أنْ تستمر. ولكن يجب مناقشة جوانب أخرى من الصداقة أيضاً: أولاً، الصداقة التي تذوي وتموت؛ ثانياً، الصداقات بين أناس لا تجمعهم بالضرورة اهتمامات مشتركة (صداقات العمل، صداقات عهد الدراسة، صداقات زمن الحرب)؛ ثالثاً، حلقات الصداقة المُتحدة في المركز: الحميمة في الجوهر، الصداقات الأقلّ حميمية لكنها مرغوبة أكثر، والأصدقاء الذين يعيشون بعيداً، وعلاقات التعارف الممتعة، وإلى آخره؛ رابعاً، كل النقاط الأخرى التي وردتْ في رسالتك لم أتطرّق إليها.
مع أحرّ الأفكار من نيويورك الحارة
بول
—————————-
1 – كريستوفر تيتجنز هو بطل سلسلة من أربع روايات عنوانها ” نهاية الاستعراض ” للشاعر والروائي الإنكليزي فورد مادوكس فورد ، وتحكي عن الآثار النفسية والاجتماعية التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى على البريطانيين . – المترجم
2 – الكاتب المُشار إليه هنا هو دون ديليلو الذي أهدى كتابه ” كوزموبوليس ” إلى بول أوستر . (لجدير بالذكر أنَّ هذه الرواية سوف تصدر عن دار المدى في المستقبل المنظور) . – المترجم
3 – جوزيف جوبير (1754 – 1824) : فيلسوف فرنسي ارتبط اسمه مع كبار فلاسفة عصره . في أثناء حياته لم ينشر إلا القليل ، وفضّل أنْ يُسجل أفكاره في دفاتر أصبح عددها هائلاً عند موته . وبعد موته قام صديقه شاتوبريان بتوزيع تلك الدفاتر ونال صاحبها الشهرة الواسعة بسببها . الجدير بالذكر أنَّ بول أوستر نفسه قام بترجمة تلك الدفاتر إلى الإنكليزية تحت عنوان ” دفاتر جوزيف جوبير ” في عام 2005 . – المترجم
____________________________________
من مراسلات بول أوستر وج. م كويتزي “هنا والآن: رسائل 2008 – 2011” الصادر عن “فايبر آند فايبر” 2013
** ترجمة: أسامة منزلجي