إهداء الى فرح غلام حسين ساعدي
لا شيء أكثر ضجراً من شراء هدية لفتاة، استغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى وجدتها- علبة عطر ايفيني صغيرة. ذهبت وعدت في الشارع مرات واخترت من كل واجهة متجر شيئاً ثم طلبت من كافيتريا قرب متجر الملابس الداخلية بوظة ولكن لم يكن لديهم.
تناولت كأس كوكتيل حليب وموز دون أن أجلس وبينما كنت أدفع ثمنها دخلت فتاتان إلى الكافيتريا تنتعلان أحذية برباطات ملونة وشعرهما مصبوغ ومصفف من تحت الشال ذكرتني رائحة الياسمين التي كانت تفوح منهما باهتزاز مصباح غرفتي الأحمر الصغير والسرير قرب النافذة ولوحة المقهى الباريسي الملصقة على باب الحمام، على الفور خرجت ومضيت نحو متجر “عربستان” للعطور وطيلة الوقت الذي كان يغلف فيه البائع علبة عطر ايفيني كانت وحمة شهلا تتراءى لي.
عندما خرجت من المتجر، احترت كيف أقضي الوقت المتبقي للموعد. ابتعت مجلة رياضية ومضيت في الطريق ألقيت نظرة على الهدية المغلفة بورق زينة طبع عليه سبعة ثمانية عشرة أرنبة صفراء وحمراء، وضعتها في جيبي وانعطفت في الشارع في ظهيرة يوم شتوي جيد، كانت الشمس تغيب خلف الغيوم وتعود لتظهر، فجأة وكأنها نفخت على الغيوم لتبقى بمفردها وحيدة وسط السماء.
رأيت أنه ما من شيء أفضل من أن أذهب وأجلس تحت أشعة الشمس على أحد مقاعد منتصف الطريق وأتورق المجلة بروية حتى يحل موعد السينما، عندها رأيت العمال منهمكين بعملهم، بعضهم يقلم بمنشار كهربائي أغصان الأشجار، لتسقط على الأرض ويجمعها البعض الآخر ويضعونها في سيارة البلدية، عبرت بهدوء وخفة ووصلت إلى حديقة لم أمانع في الدخول إليها وقضاء الوقت فيها.
سور الحديقة كان محطماً وأغلب أشجارها مقطوعة، مشيت صافراً نحو مقعدٍ قرب البركة وانحنيت ونفخت الغبار عنه ومسحته وجلست عليه وفتحت المجلة. كانت الشمس تلقي بشعاعها على عنقي وظل رأسي ملقًا على المجلة؛ فوق لاعب كرة سلة أسود البشرة يقفز عالياً رافعاً الكرة بيد فوق السلة. تورقت المجلة، غابت الشمس مرة أخرى خلف الغيوم ولف الظل المكان.
طُبع خبر موت سائق سباق سيارات تحت صورة سيارة تحترق، وفي أسفل الصفحة وضعوا صورة لعداءة عُتم عليها من الرقبة نحو الأسفل وصلت إلى آخر خط السباق. رائحة الطباعة أشعرتني بالغثيان، أغلقت المجلة وأمعنت في عبور الظل فوق الباحة المقطوعة الأشجار وقطع الحديد الملونة المتراكمة فوق بعضها البعض والتي تتسلل بهدوء من تحت الظل المغادر نحو تجمع الأشجار والغربان الناعقة.
للحظة ارتفعت مجموعة من الغربان صارخة وحلقت بشكل دائري في الهواء ثم عاد الهدوء مع الشمس وبرودة منعشة مثيرة للأحاسيس وتحملك للقفز عن متعة السينما والتنزه وكل المقدمات والخوض سريعاً بالمُراد وهو البيت والحب.
وبينما كنت أجول في هذه الرؤى ظهر شخص من بين الأشجار، ووقف، حرك جسمه ومد يديه في جهتين وتثائب وعندما لمحني حدق بيّ. كان يرتدي معطفاً طويلاً رمادياً بكمّ واحد، تحرك نحو بركة الماء ووقف هناك ثم انحنى والتقط شيئاً ورماه نحو الأشجار. ارتفع غرابٌ من بين الأشجار وما لبث أن وقع على الأرض بعد أن خفق بجناحيه قليلاً، وأسرع راكضاً نحو الاشجار مرة أخرى جاراً خلفه جناحه الأيسر. تورقت المجلة بشكل عام: نهائي “الكأس الحذفي”* لكرة القدم، تعاريف واصطلاحات في عالم المصارعة، هذه الأسبوع قبيح وجميل.
غطى الظل لاعب كرة التنس الذي أمسك بيده معجون أسنان بدل المضرب وهو يضحك ويقفز في الهواء، وعلى صفي أسنانه تلألأت النجوم. انتظرت ليعبر الظل حتى أقلب الصفحة ولكنه لم يعبر بل تقدم أكثر وأكثر وعبر من محاذاتي، ونشق ماء أنفه وجلس دون أي كلمة على الطرف الآخر من المقعد. كانت له رائحة سيئة.
رائحة تشبه الملفوف المتعفن، بصل، ثوم، وجميع الغازات سيئة الرائحة في مجاري الصرف، نظرت له بطرف عيني، يشبه المشردين الذين یتسکعون من الصبح حتى المساء بملابسهم المتسخة، يتجولون في كل مكان ثم يجلسون على أطراف سواقي المياه ويسرحون في الفضاء. كان يمعن النظر نحو الأمام باتجاه الأشجار التي ظهر منها، طرف عينه اليسرى مجروحة وجفت على جراحه الدماء.
“أي شو ما بتطولهم إيدي”
كان الجلوس بقربه وتجاهل كل هذه الرائحة أمر صعب، نهضتُ.
“لوين؟”
لم أعره اهتمامي، كرر مرة أخرى: “لوين رايح؟”
“بتحكي معي؟”
“ليش في غيري وغيرك وغير هالغربان الملعونة اللي عم تنعق، حدا تاني هون؟”
“ضربت واحد منهم كسرتلو جناحو”
“إيمت بتخلص الشتوية وبيحلوا من هون؟”
“ما ضل شي بس ما بظن روحة الغربان إلها علاقة بالشتوية”
“إلها”
لها إذا لها، وما دخلي بالأمر حتى أناقشه. ما حدث حتى الآن كان كافياً، مضيت في طريق، صرخ، قال “هي”. لم أعره اهتماماً وأكملت طريقي، لم أكن قد خطوت بعد ثلاث خطوات حتى قال: “هي يا حقير”.
عدت نحوه ووقفت برسوخ وقلت: “أنت وكل عيلتك حقراء”
“أنا ما عندي عيلة، بس أنت ليش بتدير ظهرك وبتمشي متل البقر من رأسك وأنا عم أحكيك؟”
رأس نصلُ السكين كان مكسوراً، أولجت إيدي في جيبي ومن بين عُلبة العطر ومفاتيح البيت وعدة ريالات، أخرجت خمسين تومان ورقية مكورة على بعضها البعض مزورة أعادها لي البائع عندما أردت شراء المصابيح الملونة الشهر الماضي.
قلت له: “حل عني! ماشي، ما معي غيرها” وكنت أدعو الله أن لا يبحث في جيوبي.
أخذها وقال : “كلكم مجرمين” وبدون أن ينظر إلى الورقة النقدية لفها ووضعها في جيب معطفه، وقال: “ما تسكتني بالمصاري يا ولد، اقعد بدي إحكي معك جوز كلام”، وأشار بذات السكين إلى طرف المقعد، جلست وبدأت بكيل الشتائم لنفسي، لماذا دخلت هذه الحديقة.
“بتاخذ سحبة؟”
عرض عليّ نصف سيجارة محروقة الرأس غير مشتعلة.
قلت له: “ما بدخن”
أشعلها وبدأ بالسعال بعد أول نشق، كانت تفوح منها رائحة ماريجوانا محروقة، ما لبث أن رماها على الأرض ودهسها بقدمه وقال: “زبالة” وبصق ومسح بقدمه بصاقه على الأرض، كان ينتعل فردتي شحاطة مختلفتين حمراء وصفراء وفي قدمه مسمار لحم. سألته: “ليش طيب..”
وأكملت وأنا أنظر إلى عينه: “أحكي اللي عندك واذا بتسمحلي أمشي أبكر بتكون فضلت على راسي”
“اوه هلأ زبطت، بصحتك!”
ولو كان في يديه أفضل مشروب في مقهى باريسي لما مدت يدي وتناولته منه، انحنيت وأعدت ربط حذائي مضيعةً للوقت، ولكن يده كانت ما تزال ممدودة، وأصابعه ترتجف، دون شك لو كان هناك مشروب في يديه لملأ الأرض.
قلت: “أنا لازم كون بمكان مهم جداً بالنسبة إليّ”.
قال: “طلعت نزلت قاتل”
لاحق بعينيه عبور الظل من فوق الأشجار والعتمة التي يجرها خلفة والضوء الذي يتسلل سريعاً للأشجار من خلفه، تقدم الظل وغطانا ثم عادت الشمس إلينا لتنهض رائحته السيئة مرة ثانية.
وضعت المجلة على المقعد وأولجت يدي بجيبي وأمسكت العطر بإحكام.
“قدي عمرك؟”
أجبت بجدية: “أنت من عمر أبي”
“أنا ما عندي ولاد”
“لو عندك”
“ما بيلزموا، ما بيستاهل الواحد يآكل مسبات على الفاضي”
أخرج من جيبه زجاجة وتجرع منها وأعادها، وأنا أيضاً اخرجت علبة العطر وقربتها من أنفي واستنشقتها ولكن كان عليّ أن اتخلص من لعنة الأرانب أولاً.
“من زمان كان هون في كافتيريا شغلة”
وأشار إلى المكان الذي قطعت أشجاره، قليلاً قليلاً مزقت الأرانب التي تزين الهدية وسحبت يدي بسرعة ووضعتها أمام أنفي وأخذت نفساً عميقاً، وتغيرت حالتي، تراءت لي شهلا قلقة تروح وتغدو أمام السينما وتناظر ساعتها المعلقة بسلسلة في رقبتها.
“صارت معك نمت وفقت الصبح لقيت كل شي تبخر وطار بالهوا؟”
“ما بعرف”
“شو يعني ما بعرف”
“يعني بجوز أي بجوز لأ”
“احكي مزبوط خليني أفهم شو عم تقول”
“أنا بفكر بأشياء أكتر أهمية، مثلاً أنو بكرة اتذكر إني أخذ أغطية السرير والملحفة على الغسيل”
“شو عن الماضي”
“الماضي مضى، ليش بدي فكر فيه”
“بس أنا كتير بحب هالمكان، البركة وهديك الطاولة البيضاء تحت الشجرة”
لم أفهم إلى إين كان يشير وسط كل هذه الأشجار، كان ينبش جيبه ثم سألني: “معك سيكارة؟”
أجبته: “ما بدخن”
ألقى نظرة إلى بركة الماء وأخرى أمام قدميه ثم عاد ليلتقط السيجارة التي دهسها لتوه، وأشار إلى البركة، وقال: ” كان الدنيا عامرة هون كتير بس ما كان في بركة كان في نافورة بس تشتغل بتعبي الشجر مي الكل كان مبسوط الكل بيشرب، كان دايما موسيقى وآلات موسيقية ومخصوص كمان، قدي كان يعزف حلو حشمت، كنت تنبسط بس اذا بتتفرج ع الناس المبسوطة، كنت أجي آخر واحد وروح أول واحد”.
عاد إلى سكوته مرة أخرى لا تزال السيجارة في يديه نُزع عنها الفيلتر، أخرج زجاجة وتجرع منها، وقال: “المقهى الفاضي بينزع مراق الإنسان”.
أمامنا بالقرب من الأشجار كان هناك شخصين يتجولان بين الخردة الحديدية انحنيا وحملا قطعة معدنية من طرفيها ونقلاها إلى عمود قصير ووضعاها عليه وجلسا كل واحد في طرف وبدئا بالتأرجح نحو الأعلى والأسفل، قفز ذو السترة الصفراء من مكانه ووقع ذو السترة الحمراء على الأرض وركض خلف الأصفر الذي وقف بالقرب من الأشجار، عندما وصل إليه ركضا معاً نحو الأشجار ولم نراهم بعد. أعدت نظري رأيته قد مزع فيلتر السيجارة شعرة شعرة وأخذ يكنس فيه ثقب بنطاله أعلى ركبته الممزق بدوره أيضا شعرة شعرة.
“خرمان ع سيجارة”
“شوف أنا لا بدخن ولا بفكر بالماضي، إذا ما بتحكي اللي عندك هلأ بسرعة رح يحترق كل شي، إذا القصة بتنحل بسيجارة بروح بجبلك من هدوك الاثنين سيجارة “
“وين؟”
“بين الشجر بظن عمال أو هيك”
“ما حدا هونيك غير الغربان”
فجأة خرج صوت صراخ من خلف الأشجار وتصاعد الغبار مع صوت حفيف الأغصان وعقبه صوت نعيق عالي
“ما قلتلك، بس بالزمانات هون كان شي تاني، ليالي البدر، كنا كلنا ننتظر حتى نور القمر يوصل على البركة، بعدها كانت توقف النافورة، ولما كان يوصل القمر عل نص البركة كانت مهتاب تجي مع قنينتها الخاصة، حشمت كمان كان يجي مع الكمان ويحمل كرسيه ويقعد بزاويا، ويبلش عزف، من ألحانو كان ضو القمر يهز على المي ومهتاب ترقص، وشو رقص كانت ترقص مهتاب هون حوالي البركة!”.
رفع زجاجته عالياً ورمى السيجارة على الأرض، كانت هناك رائحة ماريجوانا، عيناه كانت متسمرتان على البركة، وعيناي على جرح عينيه.
“بعدين كان يوقف عزف الكمان ويسكت الكل، وتوقف مهتاب وضهرها للبركة وتنحني لورا وتفرد شعرها شعرة شعرة وراها لحتى يغطي شوي شوي كل نور القمر على سطح المي، بعدين كانت تبلش تلمع عيونها”
“أنا أول قتلتو!”
” أنا قتلتو، أنت تعبتو بالأول، وأنا قتلتو”
كانت الأصوات تأتي من خلف الأشجار، أحدهم صرخ، قلت: “شو عم يصير هون”
تابع: “كان لازم بس تتفرج، عم قلك كان الكل يسكت، حتى صرصور الليل ما كان يطلعلوا صوت، مهتاب تتني ظهرها وتحط كاسة فاضية ع جبينها، وكل واحد بدورو يحمل كاستو ويروح عند مهتاب يحطلها بكاستها سكة ذهب، فضية، خمسة ريالات، شو ما حب يحط بكاستها وبعدها يمد كاستو لتعبيلو ياها من قنينتها وتتني ظهرها لورا أكتر، وكانوا يضلوا يحطوا بالكاسة حتى ترجع كتاف مهتاب لورا أكتر وأكتر لتوصل على المي، بعدها كانت تشيل آخر عملتين وتحطها على عيونها، ويصرخ حشمت: “احترقت يا مهتاب”، ويسحب القوس على الأوتار ويعزف للقمر وتعبي الموسيقى كل الحديقة، بعدها مهتاب كانت تتدرج لعند حشمت أو لأ كانت تترقوص وتتغنج وتقعد حدو، ترتب تيابها الكاشفة عن صدرها، وتمسح عيون حشمت بخصل شعرها المبللة، ويشربوا آخر كاس سوا، كان يشربوا بصحتهم ويضلوا سهرانين للصبح وحشمت يعزف على الهدا، يعزف مشان عيون مهتاب”.
وضع زجاجته في جيبه ومسح أنفه بوجه يده، وقال: “المشكلة إنيّ أقدر أنسى هالقصص، ما بقدر نام بالليل، من زمان، وإيام الشتي ما بقدر نام بالأصل، هديك الليلة كان برد كتير، أبرد من الليلة اللي قبلها، لا حشمت كان قادر يعزف منيح ولا مهتاب كانت رايقة، والقمر كمان كان صاير معو شي مو مبين.
الحديقة فضت هديك الليلة بسرعة، بس تاني يوم انتشر الخبر انو كل اللي كانوا بالسهرة وشربوا من قنينة مهتاب ماتوا، حتى مهتاب، كلهم ماتوا مسمومين، ومن هديك الليلة قفلوا هادا الباب وما عاد في حدا يجي لهون، كل شي تبخر وطار بالهوا”.
كان هناك صوت يأتي من بين الأشجار، ثم طار شيء مكور أسود نحو الأعلى ووقع على طرف البركة، خرج ذات الشخصين من بين الأشجار، كان الأصفر يعلو ظهر الأحمر، وعندما ركض الأحمر صرخ الأصفر: “من هي الجهة، مو من هي الجهة”.
“هدون هنن اللي ما بيخلوني نام”
“مين هدون؟”
“لكن شو كنت عم أحكي لهلأ؟”
“ليش حطوا سم بالقنينة، ومين حط؟”
“ما بعرف، ما لاقوهم، حتى ولو لاقوهم مارح تفرق، نفس حديقة الغربان اللي شايفها هلأ كانت رح تصير نفسها حديقة غربان، بس حشمت المسكين شو تعذب، هديك الليلة كأنوا فص ملح وداب، كل شي دوروا عليه ما قدروا يلاقوه، بعد كم يوم لاقوا جثتوا بدون تياب منفوخة على بركة المي وكم جاكيتو ملفوف على رقبتو”
نصل سكينته كان موجهاً نحو بركة الماء، وأحد الشخصين انحنى بالقرب من صنبور ماء الحوض ليشرب، والآخر يدور حول الحوض على يديه وقدميه نحو الأعلى.
“هالليلة من هديك الليالي”
مسح نصل سكينته بكم معطفه وثناه ووضعه في جيبته، وأخرج زجاجته وقدمها نحوي، وقال: “ما معك دخان ع القليلة عبيلي هي القنينة من الحنفية وخلص”.
كل شيء يبدو أحادي الجهة، أقل ما يمكن قوله أن الحديث أحادي الجهة، أخذت الزجاجة وتوجهت نحو البركة، اختفى ذلك الشخصين، وبالقرب من الصنبور كانت هناك جيفة غراب ضخمة نزفت الدماء من الجهات الأربعة ولونت الرخام، أثارت رائحة الجيفة اشمئزازي.
“شبك؟”
“أنت شبك؟”
نفس الشخصين كانا يبحثان في البركة بين كمية جماجم غربان وأعقاب السجائر عن شيء ما.
قال ذو اللباس الأصفر: “لقتيو” وانحنيا وبدئا النفخ على شيء وملئت المكان رائحة المريجوانا مع رائحة الجيف، وفجأة استدارا نحوي ونظرا لي.
“من أنت؟”
وجهمها كانا مثقباً وكأنه جذع شجرة نخرتها مناقير الطيور.
قلت: “بتعرفوا هداك الزلمي؟” عدلا من وقفتهما، ونظرا إلي وقالا معاً: “بنعرفوا؟” ودخن كليهما بالتناوب نفس السيجارة وسحبا نفس عميق وقالا بصوت ممزوج بحشرجة”أي زلمي؟”
قلتُ: “هادا الزلمي اللي وراي اللي قاعد على المقعد؟”
رفعا رأسيهما إلى طرف البركة وقالا: “وين؟”
استدرت لأشير لهما أين هو لم أراه، كانت المجلة وحيدة على المقعد تتطاير أوراقها، نظرت حولي كنت أشعر بالغثيان.
قلت: “كان من هون من شوي، كان مزعوج كتير من الغربان”
نظرا لبعضهما البعض وقالا فجأةً: “ليكون نفسو؟”
قلت” “نفس مين؟”
قالوا: “نفسوا الملعون اللي بيلعي سرق الجاكيت، بأي جهة راح؟”
“مابعرف”
قفزا من الحوض، وقالا: “خلونا نلحقوا قبل ما يبعد، أنت ما بتجي؟”
لم ينتظرا ردي، ركضا وذهبا نحو الأشجار واختفيا، وأنا بقيت مع زجاجة فارغة، تحت شمسٍ كأنها صفار بيضة متعفة ملتصقة بسماء الحديقة، والحديقة كانت تختنق برائحة الجيف لدرجة لا يمكن معها التنفس، أخرجت العطر واستشممته؛ بالفعل كل شيء تبخر في الهواء الليلة، العشاء وشهلا التي حتى ولو وضعت عطور كل العطارين لما استطاعت التأقلم مع وحمة عنقها مرة أخرى بأي شكل من الأشكال.
*” الكأس الحذفي: الاسم الرسمي لنهائي كأس كرة القدم في إيران
كوروش اسدي
* من مجموعته القصصية التي تحمل اسم "الحديقة الوطنية" (باغ ملي / دار نيماج للنشر والطباعة)
jadehiran.com
لا شيء أكثر ضجراً من شراء هدية لفتاة، استغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى وجدتها- علبة عطر ايفيني صغيرة. ذهبت وعدت في الشارع مرات واخترت من كل واجهة متجر شيئاً ثم طلبت من كافيتريا قرب متجر الملابس الداخلية بوظة ولكن لم يكن لديهم.
تناولت كأس كوكتيل حليب وموز دون أن أجلس وبينما كنت أدفع ثمنها دخلت فتاتان إلى الكافيتريا تنتعلان أحذية برباطات ملونة وشعرهما مصبوغ ومصفف من تحت الشال ذكرتني رائحة الياسمين التي كانت تفوح منهما باهتزاز مصباح غرفتي الأحمر الصغير والسرير قرب النافذة ولوحة المقهى الباريسي الملصقة على باب الحمام، على الفور خرجت ومضيت نحو متجر “عربستان” للعطور وطيلة الوقت الذي كان يغلف فيه البائع علبة عطر ايفيني كانت وحمة شهلا تتراءى لي.
عندما خرجت من المتجر، احترت كيف أقضي الوقت المتبقي للموعد. ابتعت مجلة رياضية ومضيت في الطريق ألقيت نظرة على الهدية المغلفة بورق زينة طبع عليه سبعة ثمانية عشرة أرنبة صفراء وحمراء، وضعتها في جيبي وانعطفت في الشارع في ظهيرة يوم شتوي جيد، كانت الشمس تغيب خلف الغيوم وتعود لتظهر، فجأة وكأنها نفخت على الغيوم لتبقى بمفردها وحيدة وسط السماء.
رأيت أنه ما من شيء أفضل من أن أذهب وأجلس تحت أشعة الشمس على أحد مقاعد منتصف الطريق وأتورق المجلة بروية حتى يحل موعد السينما، عندها رأيت العمال منهمكين بعملهم، بعضهم يقلم بمنشار كهربائي أغصان الأشجار، لتسقط على الأرض ويجمعها البعض الآخر ويضعونها في سيارة البلدية، عبرت بهدوء وخفة ووصلت إلى حديقة لم أمانع في الدخول إليها وقضاء الوقت فيها.
سور الحديقة كان محطماً وأغلب أشجارها مقطوعة، مشيت صافراً نحو مقعدٍ قرب البركة وانحنيت ونفخت الغبار عنه ومسحته وجلست عليه وفتحت المجلة. كانت الشمس تلقي بشعاعها على عنقي وظل رأسي ملقًا على المجلة؛ فوق لاعب كرة سلة أسود البشرة يقفز عالياً رافعاً الكرة بيد فوق السلة. تورقت المجلة، غابت الشمس مرة أخرى خلف الغيوم ولف الظل المكان.
طُبع خبر موت سائق سباق سيارات تحت صورة سيارة تحترق، وفي أسفل الصفحة وضعوا صورة لعداءة عُتم عليها من الرقبة نحو الأسفل وصلت إلى آخر خط السباق. رائحة الطباعة أشعرتني بالغثيان، أغلقت المجلة وأمعنت في عبور الظل فوق الباحة المقطوعة الأشجار وقطع الحديد الملونة المتراكمة فوق بعضها البعض والتي تتسلل بهدوء من تحت الظل المغادر نحو تجمع الأشجار والغربان الناعقة.
للحظة ارتفعت مجموعة من الغربان صارخة وحلقت بشكل دائري في الهواء ثم عاد الهدوء مع الشمس وبرودة منعشة مثيرة للأحاسيس وتحملك للقفز عن متعة السينما والتنزه وكل المقدمات والخوض سريعاً بالمُراد وهو البيت والحب.
وبينما كنت أجول في هذه الرؤى ظهر شخص من بين الأشجار، ووقف، حرك جسمه ومد يديه في جهتين وتثائب وعندما لمحني حدق بيّ. كان يرتدي معطفاً طويلاً رمادياً بكمّ واحد، تحرك نحو بركة الماء ووقف هناك ثم انحنى والتقط شيئاً ورماه نحو الأشجار. ارتفع غرابٌ من بين الأشجار وما لبث أن وقع على الأرض بعد أن خفق بجناحيه قليلاً، وأسرع راكضاً نحو الاشجار مرة أخرى جاراً خلفه جناحه الأيسر. تورقت المجلة بشكل عام: نهائي “الكأس الحذفي”* لكرة القدم، تعاريف واصطلاحات في عالم المصارعة، هذه الأسبوع قبيح وجميل.
غطى الظل لاعب كرة التنس الذي أمسك بيده معجون أسنان بدل المضرب وهو يضحك ويقفز في الهواء، وعلى صفي أسنانه تلألأت النجوم. انتظرت ليعبر الظل حتى أقلب الصفحة ولكنه لم يعبر بل تقدم أكثر وأكثر وعبر من محاذاتي، ونشق ماء أنفه وجلس دون أي كلمة على الطرف الآخر من المقعد. كانت له رائحة سيئة.
رائحة تشبه الملفوف المتعفن، بصل، ثوم، وجميع الغازات سيئة الرائحة في مجاري الصرف، نظرت له بطرف عيني، يشبه المشردين الذين یتسکعون من الصبح حتى المساء بملابسهم المتسخة، يتجولون في كل مكان ثم يجلسون على أطراف سواقي المياه ويسرحون في الفضاء. كان يمعن النظر نحو الأمام باتجاه الأشجار التي ظهر منها، طرف عينه اليسرى مجروحة وجفت على جراحه الدماء.
“أي شو ما بتطولهم إيدي”
كان الجلوس بقربه وتجاهل كل هذه الرائحة أمر صعب، نهضتُ.
“لوين؟”
لم أعره اهتمامي، كرر مرة أخرى: “لوين رايح؟”
“بتحكي معي؟”
“ليش في غيري وغيرك وغير هالغربان الملعونة اللي عم تنعق، حدا تاني هون؟”
“ضربت واحد منهم كسرتلو جناحو”
“إيمت بتخلص الشتوية وبيحلوا من هون؟”
“ما ضل شي بس ما بظن روحة الغربان إلها علاقة بالشتوية”
“إلها”
لها إذا لها، وما دخلي بالأمر حتى أناقشه. ما حدث حتى الآن كان كافياً، مضيت في طريق، صرخ، قال “هي”. لم أعره اهتماماً وأكملت طريقي، لم أكن قد خطوت بعد ثلاث خطوات حتى قال: “هي يا حقير”.
عدت نحوه ووقفت برسوخ وقلت: “أنت وكل عيلتك حقراء”
“أنا ما عندي عيلة، بس أنت ليش بتدير ظهرك وبتمشي متل البقر من رأسك وأنا عم أحكيك؟”
رأس نصلُ السكين كان مكسوراً، أولجت إيدي في جيبي ومن بين عُلبة العطر ومفاتيح البيت وعدة ريالات، أخرجت خمسين تومان ورقية مكورة على بعضها البعض مزورة أعادها لي البائع عندما أردت شراء المصابيح الملونة الشهر الماضي.
قلت له: “حل عني! ماشي، ما معي غيرها” وكنت أدعو الله أن لا يبحث في جيوبي.
أخذها وقال : “كلكم مجرمين” وبدون أن ينظر إلى الورقة النقدية لفها ووضعها في جيب معطفه، وقال: “ما تسكتني بالمصاري يا ولد، اقعد بدي إحكي معك جوز كلام”، وأشار بذات السكين إلى طرف المقعد، جلست وبدأت بكيل الشتائم لنفسي، لماذا دخلت هذه الحديقة.
“بتاخذ سحبة؟”
عرض عليّ نصف سيجارة محروقة الرأس غير مشتعلة.
قلت له: “ما بدخن”
أشعلها وبدأ بالسعال بعد أول نشق، كانت تفوح منها رائحة ماريجوانا محروقة، ما لبث أن رماها على الأرض ودهسها بقدمه وقال: “زبالة” وبصق ومسح بقدمه بصاقه على الأرض، كان ينتعل فردتي شحاطة مختلفتين حمراء وصفراء وفي قدمه مسمار لحم. سألته: “ليش طيب..”
وأكملت وأنا أنظر إلى عينه: “أحكي اللي عندك واذا بتسمحلي أمشي أبكر بتكون فضلت على راسي”
“اوه هلأ زبطت، بصحتك!”
ولو كان في يديه أفضل مشروب في مقهى باريسي لما مدت يدي وتناولته منه، انحنيت وأعدت ربط حذائي مضيعةً للوقت، ولكن يده كانت ما تزال ممدودة، وأصابعه ترتجف، دون شك لو كان هناك مشروب في يديه لملأ الأرض.
قلت: “أنا لازم كون بمكان مهم جداً بالنسبة إليّ”.
قال: “طلعت نزلت قاتل”
لاحق بعينيه عبور الظل من فوق الأشجار والعتمة التي يجرها خلفة والضوء الذي يتسلل سريعاً للأشجار من خلفه، تقدم الظل وغطانا ثم عادت الشمس إلينا لتنهض رائحته السيئة مرة ثانية.
وضعت المجلة على المقعد وأولجت يدي بجيبي وأمسكت العطر بإحكام.
“قدي عمرك؟”
أجبت بجدية: “أنت من عمر أبي”
“أنا ما عندي ولاد”
“لو عندك”
“ما بيلزموا، ما بيستاهل الواحد يآكل مسبات على الفاضي”
أخرج من جيبه زجاجة وتجرع منها وأعادها، وأنا أيضاً اخرجت علبة العطر وقربتها من أنفي واستنشقتها ولكن كان عليّ أن اتخلص من لعنة الأرانب أولاً.
“من زمان كان هون في كافتيريا شغلة”
وأشار إلى المكان الذي قطعت أشجاره، قليلاً قليلاً مزقت الأرانب التي تزين الهدية وسحبت يدي بسرعة ووضعتها أمام أنفي وأخذت نفساً عميقاً، وتغيرت حالتي، تراءت لي شهلا قلقة تروح وتغدو أمام السينما وتناظر ساعتها المعلقة بسلسلة في رقبتها.
“صارت معك نمت وفقت الصبح لقيت كل شي تبخر وطار بالهوا؟”
“ما بعرف”
“شو يعني ما بعرف”
“يعني بجوز أي بجوز لأ”
“احكي مزبوط خليني أفهم شو عم تقول”
“أنا بفكر بأشياء أكتر أهمية، مثلاً أنو بكرة اتذكر إني أخذ أغطية السرير والملحفة على الغسيل”
“شو عن الماضي”
“الماضي مضى، ليش بدي فكر فيه”
“بس أنا كتير بحب هالمكان، البركة وهديك الطاولة البيضاء تحت الشجرة”
لم أفهم إلى إين كان يشير وسط كل هذه الأشجار، كان ينبش جيبه ثم سألني: “معك سيكارة؟”
أجبته: “ما بدخن”
ألقى نظرة إلى بركة الماء وأخرى أمام قدميه ثم عاد ليلتقط السيجارة التي دهسها لتوه، وأشار إلى البركة، وقال: ” كان الدنيا عامرة هون كتير بس ما كان في بركة كان في نافورة بس تشتغل بتعبي الشجر مي الكل كان مبسوط الكل بيشرب، كان دايما موسيقى وآلات موسيقية ومخصوص كمان، قدي كان يعزف حلو حشمت، كنت تنبسط بس اذا بتتفرج ع الناس المبسوطة، كنت أجي آخر واحد وروح أول واحد”.
عاد إلى سكوته مرة أخرى لا تزال السيجارة في يديه نُزع عنها الفيلتر، أخرج زجاجة وتجرع منها، وقال: “المقهى الفاضي بينزع مراق الإنسان”.
أمامنا بالقرب من الأشجار كان هناك شخصين يتجولان بين الخردة الحديدية انحنيا وحملا قطعة معدنية من طرفيها ونقلاها إلى عمود قصير ووضعاها عليه وجلسا كل واحد في طرف وبدئا بالتأرجح نحو الأعلى والأسفل، قفز ذو السترة الصفراء من مكانه ووقع ذو السترة الحمراء على الأرض وركض خلف الأصفر الذي وقف بالقرب من الأشجار، عندما وصل إليه ركضا معاً نحو الأشجار ولم نراهم بعد. أعدت نظري رأيته قد مزع فيلتر السيجارة شعرة شعرة وأخذ يكنس فيه ثقب بنطاله أعلى ركبته الممزق بدوره أيضا شعرة شعرة.
“خرمان ع سيجارة”
“شوف أنا لا بدخن ولا بفكر بالماضي، إذا ما بتحكي اللي عندك هلأ بسرعة رح يحترق كل شي، إذا القصة بتنحل بسيجارة بروح بجبلك من هدوك الاثنين سيجارة “
“وين؟”
“بين الشجر بظن عمال أو هيك”
“ما حدا هونيك غير الغربان”
فجأة خرج صوت صراخ من خلف الأشجار وتصاعد الغبار مع صوت حفيف الأغصان وعقبه صوت نعيق عالي
“ما قلتلك، بس بالزمانات هون كان شي تاني، ليالي البدر، كنا كلنا ننتظر حتى نور القمر يوصل على البركة، بعدها كانت توقف النافورة، ولما كان يوصل القمر عل نص البركة كانت مهتاب تجي مع قنينتها الخاصة، حشمت كمان كان يجي مع الكمان ويحمل كرسيه ويقعد بزاويا، ويبلش عزف، من ألحانو كان ضو القمر يهز على المي ومهتاب ترقص، وشو رقص كانت ترقص مهتاب هون حوالي البركة!”.
رفع زجاجته عالياً ورمى السيجارة على الأرض، كانت هناك رائحة ماريجوانا، عيناه كانت متسمرتان على البركة، وعيناي على جرح عينيه.
“بعدين كان يوقف عزف الكمان ويسكت الكل، وتوقف مهتاب وضهرها للبركة وتنحني لورا وتفرد شعرها شعرة شعرة وراها لحتى يغطي شوي شوي كل نور القمر على سطح المي، بعدين كانت تبلش تلمع عيونها”
“أنا أول قتلتو!”
” أنا قتلتو، أنت تعبتو بالأول، وأنا قتلتو”
كانت الأصوات تأتي من خلف الأشجار، أحدهم صرخ، قلت: “شو عم يصير هون”
تابع: “كان لازم بس تتفرج، عم قلك كان الكل يسكت، حتى صرصور الليل ما كان يطلعلوا صوت، مهتاب تتني ظهرها وتحط كاسة فاضية ع جبينها، وكل واحد بدورو يحمل كاستو ويروح عند مهتاب يحطلها بكاستها سكة ذهب، فضية، خمسة ريالات، شو ما حب يحط بكاستها وبعدها يمد كاستو لتعبيلو ياها من قنينتها وتتني ظهرها لورا أكتر، وكانوا يضلوا يحطوا بالكاسة حتى ترجع كتاف مهتاب لورا أكتر وأكتر لتوصل على المي، بعدها كانت تشيل آخر عملتين وتحطها على عيونها، ويصرخ حشمت: “احترقت يا مهتاب”، ويسحب القوس على الأوتار ويعزف للقمر وتعبي الموسيقى كل الحديقة، بعدها مهتاب كانت تتدرج لعند حشمت أو لأ كانت تترقوص وتتغنج وتقعد حدو، ترتب تيابها الكاشفة عن صدرها، وتمسح عيون حشمت بخصل شعرها المبللة، ويشربوا آخر كاس سوا، كان يشربوا بصحتهم ويضلوا سهرانين للصبح وحشمت يعزف على الهدا، يعزف مشان عيون مهتاب”.
وضع زجاجته في جيبه ومسح أنفه بوجه يده، وقال: “المشكلة إنيّ أقدر أنسى هالقصص، ما بقدر نام بالليل، من زمان، وإيام الشتي ما بقدر نام بالأصل، هديك الليلة كان برد كتير، أبرد من الليلة اللي قبلها، لا حشمت كان قادر يعزف منيح ولا مهتاب كانت رايقة، والقمر كمان كان صاير معو شي مو مبين.
الحديقة فضت هديك الليلة بسرعة، بس تاني يوم انتشر الخبر انو كل اللي كانوا بالسهرة وشربوا من قنينة مهتاب ماتوا، حتى مهتاب، كلهم ماتوا مسمومين، ومن هديك الليلة قفلوا هادا الباب وما عاد في حدا يجي لهون، كل شي تبخر وطار بالهوا”.
كان هناك صوت يأتي من بين الأشجار، ثم طار شيء مكور أسود نحو الأعلى ووقع على طرف البركة، خرج ذات الشخصين من بين الأشجار، كان الأصفر يعلو ظهر الأحمر، وعندما ركض الأحمر صرخ الأصفر: “من هي الجهة، مو من هي الجهة”.
“هدون هنن اللي ما بيخلوني نام”
“مين هدون؟”
“لكن شو كنت عم أحكي لهلأ؟”
“ليش حطوا سم بالقنينة، ومين حط؟”
“ما بعرف، ما لاقوهم، حتى ولو لاقوهم مارح تفرق، نفس حديقة الغربان اللي شايفها هلأ كانت رح تصير نفسها حديقة غربان، بس حشمت المسكين شو تعذب، هديك الليلة كأنوا فص ملح وداب، كل شي دوروا عليه ما قدروا يلاقوه، بعد كم يوم لاقوا جثتوا بدون تياب منفوخة على بركة المي وكم جاكيتو ملفوف على رقبتو”
نصل سكينته كان موجهاً نحو بركة الماء، وأحد الشخصين انحنى بالقرب من صنبور ماء الحوض ليشرب، والآخر يدور حول الحوض على يديه وقدميه نحو الأعلى.
“هالليلة من هديك الليالي”
مسح نصل سكينته بكم معطفه وثناه ووضعه في جيبته، وأخرج زجاجته وقدمها نحوي، وقال: “ما معك دخان ع القليلة عبيلي هي القنينة من الحنفية وخلص”.
كل شيء يبدو أحادي الجهة، أقل ما يمكن قوله أن الحديث أحادي الجهة، أخذت الزجاجة وتوجهت نحو البركة، اختفى ذلك الشخصين، وبالقرب من الصنبور كانت هناك جيفة غراب ضخمة نزفت الدماء من الجهات الأربعة ولونت الرخام، أثارت رائحة الجيفة اشمئزازي.
“شبك؟”
“أنت شبك؟”
نفس الشخصين كانا يبحثان في البركة بين كمية جماجم غربان وأعقاب السجائر عن شيء ما.
قال ذو اللباس الأصفر: “لقتيو” وانحنيا وبدئا النفخ على شيء وملئت المكان رائحة المريجوانا مع رائحة الجيف، وفجأة استدارا نحوي ونظرا لي.
“من أنت؟”
وجهمها كانا مثقباً وكأنه جذع شجرة نخرتها مناقير الطيور.
قلت: “بتعرفوا هداك الزلمي؟” عدلا من وقفتهما، ونظرا إلي وقالا معاً: “بنعرفوا؟” ودخن كليهما بالتناوب نفس السيجارة وسحبا نفس عميق وقالا بصوت ممزوج بحشرجة”أي زلمي؟”
قلتُ: “هادا الزلمي اللي وراي اللي قاعد على المقعد؟”
رفعا رأسيهما إلى طرف البركة وقالا: “وين؟”
استدرت لأشير لهما أين هو لم أراه، كانت المجلة وحيدة على المقعد تتطاير أوراقها، نظرت حولي كنت أشعر بالغثيان.
قلت: “كان من هون من شوي، كان مزعوج كتير من الغربان”
نظرا لبعضهما البعض وقالا فجأةً: “ليكون نفسو؟”
قلت” “نفس مين؟”
قالوا: “نفسوا الملعون اللي بيلعي سرق الجاكيت، بأي جهة راح؟”
“مابعرف”
قفزا من الحوض، وقالا: “خلونا نلحقوا قبل ما يبعد، أنت ما بتجي؟”
لم ينتظرا ردي، ركضا وذهبا نحو الأشجار واختفيا، وأنا بقيت مع زجاجة فارغة، تحت شمسٍ كأنها صفار بيضة متعفة ملتصقة بسماء الحديقة، والحديقة كانت تختنق برائحة الجيف لدرجة لا يمكن معها التنفس، أخرجت العطر واستشممته؛ بالفعل كل شيء تبخر في الهواء الليلة، العشاء وشهلا التي حتى ولو وضعت عطور كل العطارين لما استطاعت التأقلم مع وحمة عنقها مرة أخرى بأي شكل من الأشكال.
*” الكأس الحذفي: الاسم الرسمي لنهائي كأس كرة القدم في إيران
كوروش اسدي
* من مجموعته القصصية التي تحمل اسم "الحديقة الوطنية" (باغ ملي / دار نيماج للنشر والطباعة)
أدب فارسي مترجم: "حديقة مهتاب" | جاده ايران
في الزاوية الأدبية بجاده إيران نقدم إليكم ترجمة لقصة "حديقة مهتاب"، التي أهداها الكاتب الإيراني كوروش اسدي، لفرح غلام حسين ساعدي، ضمن مجموعته القصصية التي تحمل اسم "الحديقة الوطنية" (باغ ملي / دار نيماج للنشر والطباعة)