كان سعدي بسيسو يستقبل المُعزين في رحيل شقيقه الشاعر مُعين (يناير/كانون ثاني 1984). الجالسون طويلاً كانوا بعض الذين عاصروا معين في شبابه، وتشاركوا معه في الهبات الشعبية في قطاع غزة، في النصف الأول من الخمسينيات، احتجاجاً على مشروع توطين، أو على وجهة سياسية عربية، أو للمطالبة بالسلاح للدفاع عن النفس. من هؤلاء، كان سعيد المزين (أبو هشام، أو فتى الثورة) الشاعر الذي كتب أغاني فتح وأناشيدها، وجعل الناشئة يرددون: "أنا يا أخي.. آمنت بالشعب المضيَّع والمكبَّل..". كانت علاقة سعيد مع معين أنموذجاً للعلاقة التي ينبغي أن تكون بين الفلسطيني وأخيه الفلسطيني، وإن اختلفت قناعاتهم الفكرية. الأول بدأ إخوانياً، والثاني من قيادة الشيوعيين، بل إن الراحل البديع، فتحي البلعاوي، الإخواني آنذاك، وهو من الضفة، كان هو الذي يحمل فوق ظهره الشيوعي الغزاوي معين، لكي يهتف في التظاهرات.
انضم إلى الجالسين زميل آخر للمتوفى ولحاضرين في العزاء. كان صلاح خلف (أبو إياد) رجل الثورة القوي. ولمّا كان أصدقاء الشباب اليافع يرفعون الكلفة بينهم عند التخاطب؛ بدأ سعيد المزين بحديث طريف، كعادته، لا يخلو من غمزاتٍ عميقة الدلالة. أراد أن يسجل احتجاجه على ما سُمي في حينه "إعلان القاهرة" الذي ألزمت حركة فتح نفسها فيه بعدم تنفيذ عمليات خارجية، ودانت مثل هذه العمليات. وبصيغة الاستفهام الإنكاري، قال الشاعر الذي لا يَحسِب في السياسة، كلما تعلق الأمر بمقاومة العدو ومطاردته في أي مكان: "صارت المقاومة إرهاباً يا صلاح". أجابه الثاني: "والله يا سعيد، لو نجحنا في أخذ دولة في الضفة وغزة، من دون الاعتراف بإسرائيل، سيكون ذلك إنجازاً عظيماً". رد سعيد بلهجة تبدو جادة، لكنها ملغمة: "أنا معك، ولم لا؟ فهذه صارت في تاريخ الأمم". لحظتئذٍ، بُشَّ أبو إياد، كمن استبشر خيراً بتأييد الشاعر السياسي، فأراد أن يعرف التفاصيل، لكي يستزيد من التفاؤل، فسأل:"إحكيلي يا سعيد، أين وكيف؟". فأجاب سعيد: "مرة واحدة يا صلاح، حدثت مع مريم بن عمران التي أنجبت عيسى عليه السلام". امتقع وجه أبو إياد، وأجابه سريعاً بواحدة من عبارات التهاجي، عند الغضب بين الشابيْن اللذيْن كاناهما، في الربع الأول من الخمسينيات.
لم تأت عتبة الدولة، أو لم يتشكل محض سراب الدولة على الأرض، من دون الاعتراف. فمقابل عتبةٍ تحرسها بنادق العدو، كان الاعتراف، وفي قاموس التوقعات، غاصت عبارة الإنجاز العظيم في رمال المفردات النقيضة التي يتداولها الفلسطينيون: التنسيق الأمني، الطرف الآخر، الإغلاق بمناسبة الأعياد اليهودية، الــ "الأرنونا" في القدس، أي الضرائب على كل شيء، المقطوعة رواتبهم، المقصوفة لجانهم القيادية، أو المجوّفة أطرهم.. إلخ.
الثورة البتول نُكحت ولم تحمل. كان المرتجى أن ينتفخ بطنها بروح جديدة، وأن تلد إنجازها العظيم، من دون مضاجعة أو نكاح. لكن هذا النكاح ظل هو الحاصل دائماً، بلا حمل أو مخاض. ولفرط ما أعياها السِفاح، كان أهلوها، بين فينة وأخرى، يحملونها إلى سوية الغضب والتوبة. انتفاضات وهبّات شعبية، وثورات صغرى، عند خطوط التماس، وعند الجدار وفي حقول الزيتون. ينفلق القلب حزناً، حين يرى ابتسامة التفاؤل، مع خلجة القلب الأخيرة، على شفتي شهيد، عند مدخل قرية بيت أُمَّر. يكون الشهيد في سياق آخر، لا علاقة لحُلمه الباذخ بأن يفتح طريقاً إلى الحرية، بدءاً من طريقٍ آمن لقريته، وأن يظل بتولاً؛ بحياة باذخة لمتزعم أو متنفذ، يهنأ بعمائره وسيارات الدفع بالعجلات الأربع، وسفرياته، ويختصر إرادة الفلسطينيين بشي من نُطقِه الركيك ومناورات الوطنية اللفظية، شبيهة البلالين.
ليت الأمر ظل مثلما رسمته العبارات القليلة، في الحديث القصير، بين صلاح خلف وسعيد المزين، رحمهما الله. أن يشترط الأول عدم الاعتراف لكي يكتفي بالدولة، وأن يظل الثاني على قناعته بأن مريم بنت عمران صاحبة الحق الحصري في أن تحمل وتلد دونما نكاح.
انضم إلى الجالسين زميل آخر للمتوفى ولحاضرين في العزاء. كان صلاح خلف (أبو إياد) رجل الثورة القوي. ولمّا كان أصدقاء الشباب اليافع يرفعون الكلفة بينهم عند التخاطب؛ بدأ سعيد المزين بحديث طريف، كعادته، لا يخلو من غمزاتٍ عميقة الدلالة. أراد أن يسجل احتجاجه على ما سُمي في حينه "إعلان القاهرة" الذي ألزمت حركة فتح نفسها فيه بعدم تنفيذ عمليات خارجية، ودانت مثل هذه العمليات. وبصيغة الاستفهام الإنكاري، قال الشاعر الذي لا يَحسِب في السياسة، كلما تعلق الأمر بمقاومة العدو ومطاردته في أي مكان: "صارت المقاومة إرهاباً يا صلاح". أجابه الثاني: "والله يا سعيد، لو نجحنا في أخذ دولة في الضفة وغزة، من دون الاعتراف بإسرائيل، سيكون ذلك إنجازاً عظيماً". رد سعيد بلهجة تبدو جادة، لكنها ملغمة: "أنا معك، ولم لا؟ فهذه صارت في تاريخ الأمم". لحظتئذٍ، بُشَّ أبو إياد، كمن استبشر خيراً بتأييد الشاعر السياسي، فأراد أن يعرف التفاصيل، لكي يستزيد من التفاؤل، فسأل:"إحكيلي يا سعيد، أين وكيف؟". فأجاب سعيد: "مرة واحدة يا صلاح، حدثت مع مريم بن عمران التي أنجبت عيسى عليه السلام". امتقع وجه أبو إياد، وأجابه سريعاً بواحدة من عبارات التهاجي، عند الغضب بين الشابيْن اللذيْن كاناهما، في الربع الأول من الخمسينيات.
لم تأت عتبة الدولة، أو لم يتشكل محض سراب الدولة على الأرض، من دون الاعتراف. فمقابل عتبةٍ تحرسها بنادق العدو، كان الاعتراف، وفي قاموس التوقعات، غاصت عبارة الإنجاز العظيم في رمال المفردات النقيضة التي يتداولها الفلسطينيون: التنسيق الأمني، الطرف الآخر، الإغلاق بمناسبة الأعياد اليهودية، الــ "الأرنونا" في القدس، أي الضرائب على كل شيء، المقطوعة رواتبهم، المقصوفة لجانهم القيادية، أو المجوّفة أطرهم.. إلخ.
الثورة البتول نُكحت ولم تحمل. كان المرتجى أن ينتفخ بطنها بروح جديدة، وأن تلد إنجازها العظيم، من دون مضاجعة أو نكاح. لكن هذا النكاح ظل هو الحاصل دائماً، بلا حمل أو مخاض. ولفرط ما أعياها السِفاح، كان أهلوها، بين فينة وأخرى، يحملونها إلى سوية الغضب والتوبة. انتفاضات وهبّات شعبية، وثورات صغرى، عند خطوط التماس، وعند الجدار وفي حقول الزيتون. ينفلق القلب حزناً، حين يرى ابتسامة التفاؤل، مع خلجة القلب الأخيرة، على شفتي شهيد، عند مدخل قرية بيت أُمَّر. يكون الشهيد في سياق آخر، لا علاقة لحُلمه الباذخ بأن يفتح طريقاً إلى الحرية، بدءاً من طريقٍ آمن لقريته، وأن يظل بتولاً؛ بحياة باذخة لمتزعم أو متنفذ، يهنأ بعمائره وسيارات الدفع بالعجلات الأربع، وسفرياته، ويختصر إرادة الفلسطينيين بشي من نُطقِه الركيك ومناورات الوطنية اللفظية، شبيهة البلالين.
ليت الأمر ظل مثلما رسمته العبارات القليلة، في الحديث القصير، بين صلاح خلف وسعيد المزين، رحمهما الله. أن يشترط الأول عدم الاعتراف لكي يكتفي بالدولة، وأن يظل الثاني على قناعته بأن مريم بنت عمران صاحبة الحق الحصري في أن تحمل وتلد دونما نكاح.