قرأت في الكثير من الصفحات الثقافيَّة التي تصدر في عموم الصحف في العالم العربي الكثير من مدونات الكتاب عن السياب بدر, من مدعي صداقات وممن يجدون في الحديث عن الشاعر الراحل نوعاً من (الأبهة) والامتياز، باعتبار قيمة السياب الشعريَّة الكبيرة.
ومن أعجب ما قرأت كتابة أحد الشعراء العراقيين في صحيفة تصدر في لندن عن علاقته الوطيدة بالسياب وحضوره احتفالية جماعة (أهل الأدب) في دار المعلمين العالية في اليوم الثاني من كانون الأول 1956 التي أنشد فيها بدر ملحمته (بور سعيد).
إيقاف جماعة (أهل الأدب)
وجماعة (أهل الأدب) في (العالية) كان المشرف الثقافي عليها أيامها الدكتور صفاء خلوصي, ومدير ندواتها الأربعائيَّة الطالب (يومذاك) حميد الهيتي, وأعضاؤها هم طلبة الدار من قسم اللغة العربية مثل صلاح نيازي وسلمان العزاوي وسميرة المانع, ومن طلبة أدركتهم حرفة الأدب من أقسام أخرى مثل كاتب هذه السطور (من قسم التاريخ) وجليل كمال الدين وأنيس زكي حسن (من قسم اللغات الأجنبيَّة وهو مترجم اللا منتمي) وسواهم.
كان مجيء السياب وإحياؤه تلك الأمسية في رائعته (بور سعيد) وسط حضورٍ طاغٍ من طلبة وأساتذة وضيوف سبباً في إيقاف عمل هذا التجمع التقافي بأمر من العميد الأستاذ محمد ناصر رغم أنه استقبل السياب وحياه, وكان السبب واضحاً, ليس لأنَّ السياب أنشد عن بور سعيد وبطولتها، بل لأنه أشار علانية الى (عبد الناصر) مستبدلاً اسمه باسم سيف الدولة في البيت القائل:
يا أمة تصنع الأقدار من دمها....
لا تيأسي أن سيف الدولة القدر
كان ذلك مثار إعجاب الطلبة والحضور، لكن لدولة العراق الملكي رأي آخر أجبر عميد الدار العالية على إغلاق منظمتنا الثقافية الجميلة (أهل الأدب).
وعندما اشتد خلاف اليسار مع السياب بعد حركة 14 تموز هوجم السياب بالطبع, وكان مما فعلته للتعريض بالسياب الصديق اني كتبت مقالة الى مجلة (الآداب) بتوقيع (لبيب الصباغ) اطلع عليها الأصدقاء الدكاترة الشباب: لبيب السامرائي وعلي الجاف وعلاء حسين بشير قبيل إرسالها الى المجلة (لكيلا يدعي أحد اسم الكاتب سواي) عرضت فيها بالسياب ولعبته في تغيير اسم سيف الدولة الى عبد الناصر جلباً لجماهيرية ماتت بعد حين!
كنت خلالها صديقاً لبدر التقيه دوماً في المقاهي العابرة وفي ملحق جريدة (الشعب) الأسبوعي مطلعاً على بعض خفايا حياة بدر حتى ذهابنا سوية الى بيت الجواهري في الأعظمية بمشاركة فؤاد قزانجي والمرحومين علي الحلي ونزار عباس وعبد الله نيازي, بعد حركة 14 تموز للإعداد لتأسيس اتحاد الأدباء العراقيين.
ومن جانب آخر غير مكشوف لكثيرين أنّ القاصة الراحلة السيدة ديزي الامير –وهي ابنة البصرة وزميلة بدر السياب في قسم اللغات في دار المعلمين العالية تروي- في مجموعتها القصصيَّة الأولى (البلد البعيد الذي تحب) وفي قصة (حكاية ابريق الزيت) أحداث حب الشاعر لزميلته الشاعرة لميعة عباس عمارة من دون أنْ تدون الاسمين, وتصور معاناة الشاعر في حبه الذي يبدو من طرفٍ واحد, وقد اشتهرت هذه الحكاية وروجها أكثر من مصدر وللشاعرة دورها في ترويج الأمر, ولكننا سنتحدث عن سجل السياب العاطفي موثقاً، متوخين الصراحة والدقة.. فبدر شخصيّة عامة شديدة التأثير في الشعر وفي المجتمع الذي عاشه.
حبيبات السياب العديدات
هن محبوبات أكثر من كونهن حبيبات للسياب, كان يحبهن من طرفٍ واحد وهن زميلاته في (العالية) التي كانت أيامها تزهو به وبالبياتي ولميعة عباس عمارة ونازك الملائكة وسليمان العيسى وديزي الامير, وإنْ تفاوتت سنوات الدراسة بينهم.
تقول الشاعرة لميعة عباس عمارة في مقابلة أجراها معها الشاعر عبد الرزاق الربيعي لإحدى الصحف في سلطنة عمان (ونشرها أكثر من موقع الكتروني) إنّ بدر كان يصارحها بعواطفه تجاه الأخريات ويشكو لها عذاباته وإنها كانت تواسيه وتهدئ من وساوسه, وتذكر لميعة للربيعي أسماء من تعرفه ممن أحبهن بدر ومنهن: ديزي الامير, ولمعان, ولبيبة, وسعاد، وذكرت أيضاً أنّ سليمان العيسى كان يحب ديزي من دون أنْ يبوح بذلك إلا لخاصته.
سر وفيقة!
وأعلنت لميعة أنّ لا وجود حقيقياً لوفيقة التي وضع السياب ديواناً باسمها وأنّ وفيقة الحقيقيّة هي لميعة عمارة ذاتها!
والظاهر أنّ جميلات (العالية) كن يستمتعن بهذا الإعجاب غير المخل بل ويجدنه ضرورياً لتأكيد جمالهن وامتيازهن عن سواهن, وهو أمرٌ يجري في كل معهد, وقد عايشته وأنا في (العالية) ايضاً في الـ1956 وما تلاها وقد تخرج الجيل الأسبق, بل إني لأجد هذه الظاهرة قد جرى تداولها في كليات الآداب والتجارة والعلوم وسواها ولكن كل هذه العواطف كانت تباح بهدوء وفي جوٍ من الصرامة والخوف وإنْ صاحبها تيه البنات أمام بعضهن.
نعود الى موضوعنا الأساسي وهو فصول من سجل السياب العاطفي لنقول: «لا أحد منا يستطيع إنكار أنَّ من حق أي إنسان أنْ يحب، فكيف هو الأمر والمحب شاعر متوقد الأحاسيس والعواطف لقي من الإنكار وسوء المعاملة الكثير ممن أحبهم أو تعايش معهم؟ ما زال بعض الدارسين والكتاب يأخذ على السياب تذبذب مواقفه وعواطفه, لكن ذلك أمر – اقصد المواقف- أما العواطف فهي خاصة بالشاعر وحده دون سواه ما دام لم يؤذ أحداً.
السياب وحب تعايشت معه
ولا بُدَّ لي هنا أنْ أشير الى حبٍ آخر للسياب لا يعرف به كثيرون وقد تعايشت معه مباشرة نتيجة علاقتي بالسياب وبالشخصيَّة موضع الاهتمام وهي المرحومة القاصة الفلسطينية الكبيرة سميرة عزام, ولا بُدَّ من القول مسبقا إني أتحدث عن تاريخ شخصي، إذ ربطتني بالفقيدة علاقة صداقة أسريَّة، فقد كانت سميرة على علاقة زمالة بخالتي الوسطى المرحومة سعدية عبد الرزاق حيث كانتا معلمتين لسنوات في مدينة الحلة قبل أنْ ترحل سميرة إلى قبرص كمذيعة للبرامج الثقافيَّة في إذاعة الشرق الأدنى (التي كانت تبث من هناك ويعمل فيها الكثير من الكوادر العربية منهم عبد المجيد ابو لبن وصبحي ابو لغد والعراقي وديع خوندة الشهير باسمه الفني: سمير بغدادي وسميرة عزام).
عندما قام العدوان الثلاثي على مصر وسوريا عام 1956 تحولت هذه الإذاعة الى بوقٍ للعاصمة البريطانيَّة لندن فانسحب معظم الإذاعيين العرب منها وفي مقدمتهم من ذكرنا، حيث التحقوا بإذاعة بغداد ليعملوا في برامج المنوعات والثقافيَّة فيها.
بذلك عادت سميرة الى بغداد وتولت مسؤولية البرامج الثقافية في الإذاعة وأنشأت برامج للمواهب الشابة وفتحت المجال عريضاً أمام الشعراء والقصاصين الشباب واستحدثت مكافآت لهم عند قراءتهم للقصيدة أو القصة, وقد شجعني صديقي المرحوم القاص نزار عباس للذهاب الى الإذاعة ولقاء السيدة سميرة التي رحبت بي وأعطتني فرصة تقديم قصة لي على الهواء مباشرة, وكان ذلك أمراً عظيماً في حينه, بالنسبة لي في الأقل.
وبدا لي أنَّ السيدة سميرة تعرف عني الكثير بواسطة خالتي الراحلة وابن عمها وزوجها الاستاذ عبد القادر البراك – أحد أبرز رجال الصحافة العراقية أيامها – وقد التقيت بها مراراً في بيت البراك ودعتني للكتابة في ملحق جريدة الشعب الذي كان يصدر أسبوعياً تحت عنوان (الأسبوع) فحملت اليها قصة واخرى وثالثة نشرت جميعاً.. من دون أجور طبعاً.
كان السياب يعمل في ذات الغرفة التي تعمل فيها السيدة سميرة في المجلة وفي جريدة الشعب, وكنت أقضي وقتاً ممتعاً في الجدال والنقاش معهما عند زيارتي, وكان وقتي مع السياب هو الأكثر فسميرة مشغولة بالإذاعة ومجلة الأسبوع معاً, ولم يكن للسياب ما يشغله أيامها – وهو المفصول سياسياً –سوى الملحق والجريدة, وكنت أشهد التحول الذي يطرأ على سلوك السياب عند وجود سميرة واهتمامه بها, رغم أنَّ هذا الاهتمام لم يلق أي استجابة من تلك الإنسانة الحصيفة الرائعة في كل كتاباتها وسلوكها.
ولعلَّ سلمى الخضراء الجيوسي والسيد محيي الدين إسماعيل يعرفان تفاصيل أكثر, لكنَّ الذي أعرفه أنَّ السياب الذي خاض مغامرات فاشلة من هذا اللون قد استشاط غضباً عندما اقترنت سميرة عزام بالرجل الذي توافقت معه, وأذكر أيضا أنَّ وليمة صغيرة قد أقيمت في بيت الأستاذ البراك وخالتي أم صالح تكريماً لسميرة وهي تقرر الرحيل من بغداد والاستقرار الأسري في عمان.. ولعلَّ السجل العاطفي للسياب يحمل فصولاً أخرى ولكنها فصولٌ مليئة بالتعب وسوء المعاملة التي لقيها في مجتمعه، فقد أساء كثيرون له وهو يتغير سياسياً، متناسين أنَّ الكثير منهم لم يلقوا الذي لقيه السياب في حياته, عبر مرضه الغريب المؤلم الذي خطفه منا سريعاً دون أنْ يتجاوز الأربعين.
الكثير حاربوا السياب سياسياً بعد طول محبة واحترام, وكان السبب الجلي في هذه الحرب وقسوتها الظاهر هو انحياز السياب الى اليمين وكتاباته ضد اليسار بين (1959 – 1961), وكانت هذه الحرب سبباً في فرح أنداد السياب وخلانه السابقين ومنهم الشعراء: عبد الوهاب البياتي ورشيد ياسين, واستياء من أحبوا السياب وشعره وتتلمذوا عليه بداية وفي مقدمتهم سعدي يوسف وناظم توفيق
الحلي.
شخصياً, خصصت ملفاً كاملاً في مجلة (الوادي) الأسبوعيَّة,-وكنت سكرتيراً لتحريرها لفترة- لتجريح السياب والطعن في شاعريته وكان معي في تلك الحملة السادة: أحمد فياض المفرجي وأسعد محمد جعفر (د.أسعد الخفاجي) وسواهما.
صاحب المجلة ورئيس تحريرها الأستاذ خالد الدرة لم يقبل بما فعلت وقرر إعفائي من السكرتاريَّة- رغم أنه لم يكن من مؤيدي السياب في توجهاته السياسية- فتركت المجلة منصرفاً الى عملي الأساسي اليومي كمحرر في جريدة (الاستقلال).
ذلك جزءٌ من علاقة تذبذبت أردت إثباتها ولي مع أبي غيلان الراحل حديث وحديث واهتمام دائم بالأساطير العراقيَّة وتمثلاتها في الميثيولوجيا العالميَّة وذلك حديث آخر.
alsabaah.iq
ومن أعجب ما قرأت كتابة أحد الشعراء العراقيين في صحيفة تصدر في لندن عن علاقته الوطيدة بالسياب وحضوره احتفالية جماعة (أهل الأدب) في دار المعلمين العالية في اليوم الثاني من كانون الأول 1956 التي أنشد فيها بدر ملحمته (بور سعيد).
إيقاف جماعة (أهل الأدب)
وجماعة (أهل الأدب) في (العالية) كان المشرف الثقافي عليها أيامها الدكتور صفاء خلوصي, ومدير ندواتها الأربعائيَّة الطالب (يومذاك) حميد الهيتي, وأعضاؤها هم طلبة الدار من قسم اللغة العربية مثل صلاح نيازي وسلمان العزاوي وسميرة المانع, ومن طلبة أدركتهم حرفة الأدب من أقسام أخرى مثل كاتب هذه السطور (من قسم التاريخ) وجليل كمال الدين وأنيس زكي حسن (من قسم اللغات الأجنبيَّة وهو مترجم اللا منتمي) وسواهم.
كان مجيء السياب وإحياؤه تلك الأمسية في رائعته (بور سعيد) وسط حضورٍ طاغٍ من طلبة وأساتذة وضيوف سبباً في إيقاف عمل هذا التجمع التقافي بأمر من العميد الأستاذ محمد ناصر رغم أنه استقبل السياب وحياه, وكان السبب واضحاً, ليس لأنَّ السياب أنشد عن بور سعيد وبطولتها، بل لأنه أشار علانية الى (عبد الناصر) مستبدلاً اسمه باسم سيف الدولة في البيت القائل:
يا أمة تصنع الأقدار من دمها....
لا تيأسي أن سيف الدولة القدر
كان ذلك مثار إعجاب الطلبة والحضور، لكن لدولة العراق الملكي رأي آخر أجبر عميد الدار العالية على إغلاق منظمتنا الثقافية الجميلة (أهل الأدب).
وعندما اشتد خلاف اليسار مع السياب بعد حركة 14 تموز هوجم السياب بالطبع, وكان مما فعلته للتعريض بالسياب الصديق اني كتبت مقالة الى مجلة (الآداب) بتوقيع (لبيب الصباغ) اطلع عليها الأصدقاء الدكاترة الشباب: لبيب السامرائي وعلي الجاف وعلاء حسين بشير قبيل إرسالها الى المجلة (لكيلا يدعي أحد اسم الكاتب سواي) عرضت فيها بالسياب ولعبته في تغيير اسم سيف الدولة الى عبد الناصر جلباً لجماهيرية ماتت بعد حين!
كنت خلالها صديقاً لبدر التقيه دوماً في المقاهي العابرة وفي ملحق جريدة (الشعب) الأسبوعي مطلعاً على بعض خفايا حياة بدر حتى ذهابنا سوية الى بيت الجواهري في الأعظمية بمشاركة فؤاد قزانجي والمرحومين علي الحلي ونزار عباس وعبد الله نيازي, بعد حركة 14 تموز للإعداد لتأسيس اتحاد الأدباء العراقيين.
ومن جانب آخر غير مكشوف لكثيرين أنّ القاصة الراحلة السيدة ديزي الامير –وهي ابنة البصرة وزميلة بدر السياب في قسم اللغات في دار المعلمين العالية تروي- في مجموعتها القصصيَّة الأولى (البلد البعيد الذي تحب) وفي قصة (حكاية ابريق الزيت) أحداث حب الشاعر لزميلته الشاعرة لميعة عباس عمارة من دون أنْ تدون الاسمين, وتصور معاناة الشاعر في حبه الذي يبدو من طرفٍ واحد, وقد اشتهرت هذه الحكاية وروجها أكثر من مصدر وللشاعرة دورها في ترويج الأمر, ولكننا سنتحدث عن سجل السياب العاطفي موثقاً، متوخين الصراحة والدقة.. فبدر شخصيّة عامة شديدة التأثير في الشعر وفي المجتمع الذي عاشه.
حبيبات السياب العديدات
هن محبوبات أكثر من كونهن حبيبات للسياب, كان يحبهن من طرفٍ واحد وهن زميلاته في (العالية) التي كانت أيامها تزهو به وبالبياتي ولميعة عباس عمارة ونازك الملائكة وسليمان العيسى وديزي الامير, وإنْ تفاوتت سنوات الدراسة بينهم.
تقول الشاعرة لميعة عباس عمارة في مقابلة أجراها معها الشاعر عبد الرزاق الربيعي لإحدى الصحف في سلطنة عمان (ونشرها أكثر من موقع الكتروني) إنّ بدر كان يصارحها بعواطفه تجاه الأخريات ويشكو لها عذاباته وإنها كانت تواسيه وتهدئ من وساوسه, وتذكر لميعة للربيعي أسماء من تعرفه ممن أحبهن بدر ومنهن: ديزي الامير, ولمعان, ولبيبة, وسعاد، وذكرت أيضاً أنّ سليمان العيسى كان يحب ديزي من دون أنْ يبوح بذلك إلا لخاصته.
سر وفيقة!
وأعلنت لميعة أنّ لا وجود حقيقياً لوفيقة التي وضع السياب ديواناً باسمها وأنّ وفيقة الحقيقيّة هي لميعة عمارة ذاتها!
والظاهر أنّ جميلات (العالية) كن يستمتعن بهذا الإعجاب غير المخل بل ويجدنه ضرورياً لتأكيد جمالهن وامتيازهن عن سواهن, وهو أمرٌ يجري في كل معهد, وقد عايشته وأنا في (العالية) ايضاً في الـ1956 وما تلاها وقد تخرج الجيل الأسبق, بل إني لأجد هذه الظاهرة قد جرى تداولها في كليات الآداب والتجارة والعلوم وسواها ولكن كل هذه العواطف كانت تباح بهدوء وفي جوٍ من الصرامة والخوف وإنْ صاحبها تيه البنات أمام بعضهن.
نعود الى موضوعنا الأساسي وهو فصول من سجل السياب العاطفي لنقول: «لا أحد منا يستطيع إنكار أنَّ من حق أي إنسان أنْ يحب، فكيف هو الأمر والمحب شاعر متوقد الأحاسيس والعواطف لقي من الإنكار وسوء المعاملة الكثير ممن أحبهم أو تعايش معهم؟ ما زال بعض الدارسين والكتاب يأخذ على السياب تذبذب مواقفه وعواطفه, لكن ذلك أمر – اقصد المواقف- أما العواطف فهي خاصة بالشاعر وحده دون سواه ما دام لم يؤذ أحداً.
السياب وحب تعايشت معه
ولا بُدَّ لي هنا أنْ أشير الى حبٍ آخر للسياب لا يعرف به كثيرون وقد تعايشت معه مباشرة نتيجة علاقتي بالسياب وبالشخصيَّة موضع الاهتمام وهي المرحومة القاصة الفلسطينية الكبيرة سميرة عزام, ولا بُدَّ من القول مسبقا إني أتحدث عن تاريخ شخصي، إذ ربطتني بالفقيدة علاقة صداقة أسريَّة، فقد كانت سميرة على علاقة زمالة بخالتي الوسطى المرحومة سعدية عبد الرزاق حيث كانتا معلمتين لسنوات في مدينة الحلة قبل أنْ ترحل سميرة إلى قبرص كمذيعة للبرامج الثقافيَّة في إذاعة الشرق الأدنى (التي كانت تبث من هناك ويعمل فيها الكثير من الكوادر العربية منهم عبد المجيد ابو لبن وصبحي ابو لغد والعراقي وديع خوندة الشهير باسمه الفني: سمير بغدادي وسميرة عزام).
عندما قام العدوان الثلاثي على مصر وسوريا عام 1956 تحولت هذه الإذاعة الى بوقٍ للعاصمة البريطانيَّة لندن فانسحب معظم الإذاعيين العرب منها وفي مقدمتهم من ذكرنا، حيث التحقوا بإذاعة بغداد ليعملوا في برامج المنوعات والثقافيَّة فيها.
بذلك عادت سميرة الى بغداد وتولت مسؤولية البرامج الثقافية في الإذاعة وأنشأت برامج للمواهب الشابة وفتحت المجال عريضاً أمام الشعراء والقصاصين الشباب واستحدثت مكافآت لهم عند قراءتهم للقصيدة أو القصة, وقد شجعني صديقي المرحوم القاص نزار عباس للذهاب الى الإذاعة ولقاء السيدة سميرة التي رحبت بي وأعطتني فرصة تقديم قصة لي على الهواء مباشرة, وكان ذلك أمراً عظيماً في حينه, بالنسبة لي في الأقل.
وبدا لي أنَّ السيدة سميرة تعرف عني الكثير بواسطة خالتي الراحلة وابن عمها وزوجها الاستاذ عبد القادر البراك – أحد أبرز رجال الصحافة العراقية أيامها – وقد التقيت بها مراراً في بيت البراك ودعتني للكتابة في ملحق جريدة الشعب الذي كان يصدر أسبوعياً تحت عنوان (الأسبوع) فحملت اليها قصة واخرى وثالثة نشرت جميعاً.. من دون أجور طبعاً.
كان السياب يعمل في ذات الغرفة التي تعمل فيها السيدة سميرة في المجلة وفي جريدة الشعب, وكنت أقضي وقتاً ممتعاً في الجدال والنقاش معهما عند زيارتي, وكان وقتي مع السياب هو الأكثر فسميرة مشغولة بالإذاعة ومجلة الأسبوع معاً, ولم يكن للسياب ما يشغله أيامها – وهو المفصول سياسياً –سوى الملحق والجريدة, وكنت أشهد التحول الذي يطرأ على سلوك السياب عند وجود سميرة واهتمامه بها, رغم أنَّ هذا الاهتمام لم يلق أي استجابة من تلك الإنسانة الحصيفة الرائعة في كل كتاباتها وسلوكها.
ولعلَّ سلمى الخضراء الجيوسي والسيد محيي الدين إسماعيل يعرفان تفاصيل أكثر, لكنَّ الذي أعرفه أنَّ السياب الذي خاض مغامرات فاشلة من هذا اللون قد استشاط غضباً عندما اقترنت سميرة عزام بالرجل الذي توافقت معه, وأذكر أيضا أنَّ وليمة صغيرة قد أقيمت في بيت الأستاذ البراك وخالتي أم صالح تكريماً لسميرة وهي تقرر الرحيل من بغداد والاستقرار الأسري في عمان.. ولعلَّ السجل العاطفي للسياب يحمل فصولاً أخرى ولكنها فصولٌ مليئة بالتعب وسوء المعاملة التي لقيها في مجتمعه، فقد أساء كثيرون له وهو يتغير سياسياً، متناسين أنَّ الكثير منهم لم يلقوا الذي لقيه السياب في حياته, عبر مرضه الغريب المؤلم الذي خطفه منا سريعاً دون أنْ يتجاوز الأربعين.
الكثير حاربوا السياب سياسياً بعد طول محبة واحترام, وكان السبب الجلي في هذه الحرب وقسوتها الظاهر هو انحياز السياب الى اليمين وكتاباته ضد اليسار بين (1959 – 1961), وكانت هذه الحرب سبباً في فرح أنداد السياب وخلانه السابقين ومنهم الشعراء: عبد الوهاب البياتي ورشيد ياسين, واستياء من أحبوا السياب وشعره وتتلمذوا عليه بداية وفي مقدمتهم سعدي يوسف وناظم توفيق
الحلي.
شخصياً, خصصت ملفاً كاملاً في مجلة (الوادي) الأسبوعيَّة,-وكنت سكرتيراً لتحريرها لفترة- لتجريح السياب والطعن في شاعريته وكان معي في تلك الحملة السادة: أحمد فياض المفرجي وأسعد محمد جعفر (د.أسعد الخفاجي) وسواهما.
صاحب المجلة ورئيس تحريرها الأستاذ خالد الدرة لم يقبل بما فعلت وقرر إعفائي من السكرتاريَّة- رغم أنه لم يكن من مؤيدي السياب في توجهاته السياسية- فتركت المجلة منصرفاً الى عملي الأساسي اليومي كمحرر في جريدة (الاستقلال).
ذلك جزءٌ من علاقة تذبذبت أردت إثباتها ولي مع أبي غيلان الراحل حديث وحديث واهتمام دائم بالأساطير العراقيَّة وتمثلاتها في الميثيولوجيا العالميَّة وذلك حديث آخر.
بدر شاكر السياب.. سجل عاطفي مليء بالعذابات
بدر شاكر السياب.. سجل عاطفي مليء بالعذابات, بدر شاكر السياب.. سجل عاطفي مليء بالعذابات