منقول - الجماعة الفلسفية السرية.. ماذا تعرف عن «إخوان الصفا وخلان الوفا»؟

فريق العمل

بداخل معظم البشر رغبة دفينة – فضول أو حماس – في معرفة الأسرار، هي رغبة شديدة تجذبنا نحو الأشياء الغامضة تمامًا كما تنجذب الحشرات للضوء، رحلتنا اليوم ستكون برفقة «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، أو المعروفين باسم أكثر شهرة هو «إخوان الصفا وخلان الوفا»، جريًا على عادة عربية قديمة في عدم نطق الهمزات الأخيرة للتخفيف.

«إخوان الصفا وخلان الوفا» كانوا جماعة من المفكرين والفلاسفة في عصرهم قدموا إسهامات كبيرة للفلسفة الإسلامية والفكر العربي بشكل عام، وربما لم تختلف الآراء حول جماعة ما كما اختلفت حولهم، واذا عرفت أن هذه الجماعة كانت تعمل بشكل سري طيلة وجودها، ولم تتبوأ مقاعد السلطة السياسية أو الأدبية حتى، ربما تعرف اختلاف الآراء الشديد حولها مبررًا، فللأسرار سحرها.

«إخوان الصفا وخلان الوفا» هي جماعة آمنت بأن المعرفة «غذائًا للروح»، وربطوا البحث عن السعادة والأمل في الخلاص بالكشف الدقيق عن المساعي العقلانية للروح الحرة، وتبقى الهوية الدقيقة لمؤلفي هذه الموسوعة الضخمة لرسائلهم والزمن الدقيق لتأليفها، قضايا يضطرب في شأنها البحث الأكاديمي في ميدان الدراسات الإسلامية.

ومع أن كتابات «إخوان الصفا وخلان الوفا» قد وصفت بأنها تنسب إلى التعاليم الصوفية والسنية والمعتزلة، فإن الكثير أيضًا يربط أعمالهم بالفكر الشيعي الإسماعيلي. فيما يؤكد بعض الباحثين أن رسائل «إخوان الصفا وخلان الوفا» مسندة إلى المصادر الفاطمية المبكرة، وكلها تفسيرات لم تزل محل جدل.

جماعة رجال محبون للعلم.. عربية سرية

لم يعرف عدد أعضاء الجماعة أو أسماءهم كلهم على وجه التحديد، خاصة أننا نتحدث عن عصور بعيدة عنا، حوالي القرن الرابع الهجري الموافق أوائل القرن العاشر وحتى بدايات القرن الحادي عشر الميلادي (913 – 1010م).

وكلمة إخوان الصفاء هي كلمة عربية قديمة وردت منذ العصر الجاهلي في شعر أوس بن حجر في قوله: «وودع إخوان الصفاء «وكذلك وردت في قول أبى البراء النقعي «أولئك اخوان الصفاء» الى آخر الأبيات وكلاهما من شعراء ما قبل الإسلام، كما وردت نثرًا في قصة «الحمامة المطوقة» بكتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، كما ثبت ورودها كذلك في دعاء للفيلسوف الفارابي، وعليه فاللفظة عربية أصيلة.

يعد أهم منجز مدوّن لـ«إخوان الصفا وخلان الوفا» هو رسائلهم التي صدرت في طبعات وتحقيقات مختلفة على مدار سنوات – من أهمها تلك التي نشرتها مؤسسة هنداوي للرسائل والتي صدرت في أربعة أجزاء، وكانت من تقديم: طه حسين – والرسالة بمفاهيم ذلك العصر لم تكن بالضرورة من راسل إلى مرسل إليه كما تعودنا نحن، إنما هي بمثابة المقال أو البحث في موضوع ما، فتجدهم يكتبون رسالة في الموسيقى، ورسالة أخرى في بيان الهيولي «الأصل أو المادة» والصورة، والحركة، والزمان، والمكان.

وكلها مما يُعرف بالمفاهيم والتصورات الأساسية التي تقوم عليها العقلية الجمعية لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، وربما تعطينا هذه العناوين ملمحًا صغيرًا عن العالم الذي اهتم به «إخوان الصفا وخلان الوفا» وتعاهدوا على حفظ وفائهم له ولبعضهم البعض كذلك كما دل عليه اسمهم.

إن أقدم المصادر التي حدثتنا عن إخوان الصفا هما كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (310 – 414 هـ) ، وما أورده عنهم أبو الحسن البيهقي المتوفى 565هـ، بشكل مقتضب في كتابه (تتمة صوان الحكمة) وفيما عداهما، فالمصادر المعاصرة لهم شحيحة؛ مما يزيد مهمة التعرف عليهم صعوبة ويحفز الرغبة في الاكتشاف كذلك، ولكي نستطيع فهم وتفسير الموضوع علينا أولًا أن نتجول في شوارع البصرة وبغداد القرن الرابع الهجري لنتعرف على أحوال البلاد والعباد ولنكون صورة عامة – بإيجاز غير مخل – عن شكل الحياة وطبيعة المجتمع الذي تشكلت فيه أفكار إخوان الصفا وأثر فيهم.

كيف تأثروا بالزمن الذي عاشوا فيه؟

إن مهمة تحديد الفترة الزمنية التي نشطت فيها جماعة سرية بالأساس ليست من المهام اليسيرة، وربما كانت هذه السرية سلاحًا ذا حدين فقد منحت الجماعة جاذبيتها الاجتماعية الغامضة، ولكنها أيضًا جعلتها نهبًا للشائعات والأقاويل، وحتى نحدد الزمن الذي عاشوا فيه أكثر دقة فإننا سنستعين ببعض الشواهد التي بثوها عبر رسائلهم حين يذكرون حادثة ما، أو بيتًا رائجًا لشاعر بعينه، وحتى الحوادث التي وافق بعضها زمنهم وما يصفونه في الرسائل.

في إحدى رسائلهم جاءوا على ذكر رجل من أهل العلم يُعرف بالكيال قد شغف بتفسير الأرقام، ومعروف أن المقصود هو أحمد الكيال المتوفى عام 312هـ كما وردت في الرسائل أبيات قالها المتنبي في مدح كافور الإخشيدي سنة 349هـ الموافق 960م، ومنها: «وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه ولو أن ما في الوجه منه خراب».

وفي إحدى رسائلهم المسماة «رسالة الإنسان والحيوان» نجد الببغاء تنتقد القضاة كدلالة رمزية على فساد القضاة الذي يقبلون ما عرف وقتها بالـ«ضمان» أو الرشوة والقاضى المقصود في الرسالة هو «ابن أبى الشوارب» وفيه قال ابن الأثير: «أن هذا القاضى كان أول من ضمن من القضاة، ولم يكن ذلك معروفًا من قبل». وكان ذلك سنة 350هـ.

كما احتوت الرسائل على أبيات فارسية ينسبها البعض إلى «رودكى» أو «شهيدي»، وكليهما شاعرين فارسيان من شعراء القرن الرابع الهجري. وأخيرًا فقد حدد ابن تيمية تاريخ تصنيف الرسائل بأنه «كان بعد المائة الثالثة قريبًا من بناء القاهرة»، ومعروف أن جوهر الصقلي بدأ ببناء القاهرة سنة 358هــ، ومما تقدم يمكننا القول بأن إخوان الصفا كانوا من أهل القرن الرابع الهجري – حسب التعبير التراثي – والآن لنلقى نظرة على أهل بغداد القرن الرابع الهجري.

تخيل لوهلة أنك تعيش في بغداد القرن الرابع الهجري، حيث الصراع السياسي والعسكري على السلطة، ووزراء يتغيرون بشكل مستمر وربما يُمنح المنصب لمن لا يستحق، في وسط هذه الأجواء الصعبة، كانت الحياة الثقافية والعلمية مزدهرة، حتى أنه يمكن القول إن القرن الرابع الهجري كان هو العصر الذهبي للعلوم والمعارف الإسلامية والفلسفية، فبعد حركات الفتوحات الكبيرة والتوسعات التي قام بها المسلمون أصبحت هناك حركة فاعلة، ونشطة لتيارات ثقافية مختلفة التقت وحاورت بعضها في هذا العصر حتى امتزجت الثقافات اليونانية، والفارسية، والهندية، والسريانية، بالثقافة الإسلامية، وتثقف الفرس، والهنود، باللغة العربية، بينما تابع السريانيون تثقفهم باللغة اليونانية.

ولأن الشيء بالشيء يذكر فقد نشأت جماعة إخوان الصفاء – حسب التوحيدي – بمدينة البصرة العراقية، وهي بحكم موقعها الجغرافي كانت تعتبر ملتقى رجالات الشرق من المفكرين والفلاسفة فمنذ تأسيسها، باتت البصرة أكبر تجمع ثقافي لمختلف المدارس الفكرية ففيها نشأ الحسن البصري وواصل بن عطاء زعيم المعتزلة ومؤسسهم، وفيها ظهر أئمة اللغة الكبار، مثل: الخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه، حتى باتت هناك مدرسة نحوية ولغوية مشهورة لم يزل الباحثون يرددون اسمها للآن بمدرسة البصرة، أو يلقبون أصحابها بالبصريين.

وقد كانت هذه المدينة بعيدة جغرافيًا عن بغداد مركز الخلافة؛ مما سمح لها بأن تكون مهيأة لتقبل الأفكار المختلفة والفرق الإسلامية لبعدها عن عيون السلطة ورقابتها الشديدة المباشرة في العاصمة وما حولها. إن نظرة سريعة للأسماء اللامعة التي ظهرت في القرن الرابع الهجري في مختلف المجالات تجعلنا ندرك مدى غزارة الإنتاج وتنوعه في ذلك العصر، فهناك ابن جني، والثعالبي، في علوم اللغة العربية، وفي الشعر برز المتنبي والمعري وفي النقد كان قدامة بن جعفر، وابن طباطبا العلوي، ومثّل هذا القرن عصرًا ذهبيًا آخر للتصوف الإسلامي، وكان من متصوفته الحسين بن منصور الشهير بالحلاج.

كانوا كما يقول أستاذ اللغة والفلسفة إبراهيم مدكور في كتابه «في الفلسفة الإسلامية»: «إذا كان المسلمون في القرنين الثاني والثالث قد شغلوا بنقل العلوم الأجنبية، وتفهمها فإنهم كانوا في القرن الرابع يدرسون بأنفسهم ولأنفسهم، وانتقلوا من الجمع والتحصيل إلى الإنتاج الشخصي». يمكننا الآن أن نقيم رأيًا مبدئيًا عن أهمية تواجد «إخوان الصفا وخلان الوفا» في عصر يملؤه النابهين والحكماء وهي ما تبينه رسائلهم من اختيارهم لأبواب المواضيع، ثم رسائلهم ولغتها.
من هم أشهر رجالهم وكيف كانوا يفكرون؟

استطاع الإسلام – كنسق ثقافي وحضاري – الانتشار واستيعاب عناصر شتى وأمم مختلفة تحت لوائه، فأسلم الفرس، والروم، والساميون، والبربر، وحتى الأيبيريين (الإسبان)، وكان لكل هذه الأمم المختلفة تأثير على الحضارة العربية التي أصبحت فيما بعد إسلامية أيضًا، أي أنها لم تقتصر في منجزها على العرب وحدهم.

وربما بسبب اختلاف الأمم والشعوب، وبالتالى اللغات قد تنشأ بعض الصراعات وحتى المشاحنات بين الأعراق المختلفة، وهو من طبائع الأمور في الإمبراطوريات مترامية الأطراف شأن الإمبراطورية الرومانية القديمة مثلًا، ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن الخمسة الكبار المعروفين من «إخوان الصفا» بصفتهم كتابًا للرسائل يرجعون لأصول عربية.

حسبما ورد في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي خلال حديثة مع وزير الأمير صمصام الدولة البويهي، وكان مهتمًا بالفلاسفة ومجالس الفلسفة وتولى الوزارة عام 372هـ، حين سأله عن جماعة تجمع أصناف العلوم كافة وتقيم بالبصرة، وهنا اقتباس يصح أن ننقله بنصه لما فيه من كشف عن طبيعة «إخوان الصفا وخلان الوفا» عن أبي حيان:

«فوضعوا بينهم مذهبًا زعموا أنهم قربوا به الطريق للفوز برضوان الله والمصير إلى جنته، وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، وذلك لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية»، كما أقر بأنهم: «صنفوا 50 رسالة في جميع أجزاء الفلسفة» ومما يؤكد كلام أبى حيان ومعرفته بهم شهادة اثنين أقرب لعصرهم وهم البيهقي – سبق ذكره – المتوفى سنة 565 هـ (1169م) والقاسم بن الحسين الخوارزمي المتوفى عام 617 هـ (1220م).
Embed from Getty Images

وحسبما حلل الدكتور فؤاد معصوم في كتابه «إخوان الصفا فلسفتهم وغايتهم» فإن أسماء الخمسة الكبار في الجماعة هي: زيد بن رفاعة صاحب كتاب «جوامع إصلاح المنطق لابن السكيت»، وأبو سليمان محمد المعروف بالمقدسي، وقد وضعه الشهرستاني بين فلاسفة الإسلام من طبقة الكندي والفارابي؛ مما يدل على مكانته الكبيرة، وقيمته كفيلسوف، ويبدو أن أبا سليمان كان المسؤل الأول في هذه الجمعية السرية، أو حتى المشرف على تأليف الرسائل فالخوارزمي يقول: «أملاها المقدسي» والتوحيدي يفهم من كلامه أيضًا أن المقدس هو من أملى الرسائل.

وأبو الحسن علي الزنجاني الذي تحدث عنه أبو حيان التوحيدى باعتباره صاحب مذهب، بما يشير لـ«إخوان الصفا وخلان الوفا» حتى أن القصة التي يقول التوحيدى أن الزنجاني قد قصها عليه موجودة بالفعل في احدى رسائل اخوان الصفاء، وأبو أحمد المهرجاني – معلوماتنا عنه قليلة – وأخيرًا العوقي الذي لم يذكر أبو حيان اسمه كاملًا، لكن اكتفى بالاسم الذي اشتهر به، وقد أشار البيهقي له باعتباره صاحب رسالة في تفسير الموجودات، وبأن له تصانيف لطيفة وهناك إضافات في بعض النسخ الأخرى لكتاب البيهقي تقول عنه إنه من أصحاب «إخوان الصفاء».
الهيكل التنظيمي لـ«إخوان الصفا وخلان الوفا»

قبل أن نتحدث عن رسائلهم تعالوا نعرف كيف كان نظامهم الداخلي، كان للانتماء إليهم أربع مراتب، المرتبة الأولى، وتختص بالأعضاء المبتدئين الذين تتراوح أعمارهم ما بين السادسة عشر والثلاثين ويسمونهم «الإخوان الأبرار الرحماء»، ويمتاز هؤلاء بالصفاء الذهني، والرغبة في التعلم، ويبدو أن الرسائل نفسها قد ألفت خصيصًا لهؤلاء أن الخطاب فيها موجهًا دائمًا للـ«أخ البار الكريم». والمرتبة الثانية هي مرتبة «الإخوان الأخيار الفضلاء»، وهم الأعضاء الذين أتموا الثلاثين وحتى الأربعين، وهي مرتبة الرؤساء، ويتلقون في هذه المرحلة الفلسفة كما أنهم يقومون بالإشراف على أعضاء المرتبة الأولى.

والمرتبة الثالثة خاصة بالأعضاء الذين أتموا الأربعين إلى الخمسين يسمون «الإخوان الفضلاء الكرام» وهؤلاء هم المختصون بحل المشاكل والخلافات بين الأعضاء بالود والتفاهم كما أنه يقع على كواهلهم عبء الإدارة، أما المرتبة الرابعة والأخيرة فهي لمن أتموا الخمسين من العمر، وهي مرتبة الحكماء، وكل الإخوان مدعوون إلى هذه المرتبة حتى أن من يدركها يطلق عليه «واصل» بالتعبير الصوفي.

مما تقدم يتضح أن العامل الرئيس في اختيار الأعضاء وترقيهم بعد تلقيهم التدريبات الروحية والفلسفية اللازمة كان هو السن، ربما لإيمانهم بتطور الخبرات واختلافها من شخص إلى غيره في أعمار مختلفة، بل ربما حتى اختلافها لدى نفس الشخص من عمر لآخر.
«البركة بالشباب» الخروج من أسر تقليد الفلسفة اليونانية

كان «إخوان الصفا وخلان الوفا» يحرصون على ضم الشباب دون الشيوخ لقناعتهم أن الشباب سيكون كالتربة الخصبة الصالحة التي لم تنشأ على معتقدات يملؤها الصراع أو تهوى الجدل الكلامى الذي كان بمثابة آفة لذلك العصر، أرادوا تأسيس أجيال تحب النظر في العلوم والمعارف دون الوقوع في أسر الفلسفة اليونانية.

ولندرك مدى رغبتهم الشديدة في تخليص الأجيال الحالية بعصرهم من الجدل أو ما عرف بعلم الكلام، يكفينا أن نلقى نظرة خاطفة على القرنين السابقين، وبخاصة القرن الثالث الهجري الذي كان بمثابة أمواج متلاطمة من التيارات الفكرية الأصيل منها والوافد إلى العقلية الإسلامية؛ مما أنتج حالة شديدة من الصراع، يمكن فهمها ضمن السياق الحضارة لأي إمبراطورية مترامية الأطراف.

لقد استحوذت الفلسفة اليونانية على عقول كبار الفلاسفة المسلمين في ذلك العصر، ولم يكن القرن الثالث الهجري في معظمه سوى قرن دراسة وترجمة وإعادة انتاج الفلسفة اليونانية ومفاهيمها، إلا أن القرن الرابع الهجرى كان تفاعل المسلمين فيه مختلفًا مع العلوم والمعارف من حولهم.


هل كانت لهم شفرة سرية؟

لنعد الآن إلى الرسائل التي أشاروا فيها إلى شفرتهم السرية الخاصة، في احدى رسائلهم المسماة بالرسالة الجامعة – فيما يشبه البيان التأسيسي – قائلين: « ورأينا أن نكتب ما نريد بحروف ركبانها وكلمات نظمناها «حتى يكون لهم لغة فيما بينهم لا يشاركهم فيها سواهم». رسائل يتم تبادلها فيما بينهم لمناقشة أمورهم الخاصة، تلك الرسائل التي لا نعرف عنها شيء سوى ذكرهم لها في رسائلهم التي وجهت للعامة.

وقد أثبتوا شكل هذه الحروف في الرسالة آنفة الذكر وهي تختلف عن الحروف العربية في الشكل أما الأبجدية فهى نفسها ولا يعرف حتى الآن كلمات تلك اللغة ومفرداتها فقد أثبتوا شكل حروفها فقط لكنهم لم يكتبوا أيًا منها في رسائلهم المنتشرة، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن مفردات هذه اللغة السرية قد تكون هي ذاتها المفردات العربية، لكنهم غيروا معانيها ودلالاتها لتوافق ما يريدون قوله دون أن ينتبه لهم أحد.
كيف كان يعامل «إخوان الصفا وخلان الوفا» من ينشق عنهم؟

يفهم من إحدى رسائلهم أن تلك كانت مهمة الرؤساء المشرفين، الذين يتابعون الموضوع باللين والحسنى فإن عاد الشخص فمكانته كما هي لديهم وإن رفض العودة لجماعتهم فكانوا يكتفون بالعقوبة الأدبية أو ما نعرف اليوم بالابتعاد، فهم يقولون نصًا «فعقوبته في ذلك أن نخرج من صداقته ونتبرأ من ولايته، ولا نستعين به في أمورنا، ولا نعاشره في معاملتنا، ولا نكلمه في علومنا، ونطوي دونه أسرارنًا، ونوصي بمجانبته إخواننا» حسبما نصت رسالتهم رقم 47 الجزء الرابع.

وربما قد ننظر نحن بعين الدهشة إلى هذا النواهى الشديدة وقطع العلاقات الدائم، لكن إذا أمعنا النظر في ظروف جماعتهم ونشأتها السرية في وسط يموج بالصراعات من كل الجوانب يصبح مقبولًا لعيوننا الآن تكتمهم الشديد وحرصهم على عدم خروج أي عضو، أو الاتصال بمن انشق عنهم بأي شكل من الأشكال.

من الرياضيات إلى الحب.. رسائل إخوان الصفا

حتى ندرك الثراء المعرفي والتنوع الفلسفي للمواضيع التي تناولها «إخوان الصفاء وخلان الوفاء» في رسائلهم علينا أن نمر على عناوينها ومضامينها دون إخلال لتعطينا لمحة عن إنتاجهم الفلسفي والعلمي وأهميته. تنقسم الرسائل إلى أربع مجموعات هي كالتالي:

المجموعة الأولى وهي ما يعرف بالرسائل الرياضية التعليمية وعددها 14 رسالة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، رسالة في العدد وماهيته ورسالة في الهندسة وبيان ماهيتها، ورسالة في النجوم وتعريف الأفلاك والبروج، وأخرى في الموسيقى، وبيان الأنغام، والألحان، وأخيرًا وليس آخر رسالة في الجغرافيا بينوا فيها أن الأرض كروية الشكل.

المجموعة الثانية وهي ما يعرف بالطبيعيات وعددها 17 رسالة نذكر منها: رسالة في الهيولى والصورة وما الزمان والمكان والحركة؟ ورسالة في السماء والعالم، وأخرى في كيفية تكوين المعادن، ورسالتين إحداهما في أجناس النبات، وأنواعها وأخرى في أصناف الحيوان، وكذلك رسالة في تركيب الجسد، ورسالة في ماهية الموت والحياة، وفي ماهية اللذات والآلام الجسمانية والروحي، والمجموعة الثالثة أو ما يعرف بالمجموعة النفسانية العقلية وعددها 10 رسائل نذكرها منها:

رسالة في العقل والمعقول، في المبادئ العقلية على رأي «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، ورسالة في ماهية العشق ومحبة النفوس ونزوعها وتشوقها إلى الاتحاد، رسالتين أولهما في العلل والمعلولات أو معرفة أصول العلوم والثانية رسالة في الحدود والرسوم والغرض منها معرفة حقائق الأشياء.

أما المجموعة الرابعة والأخيرة وهي المعروفة بالناموسية الإلهية والشرعية الدينية وعددها 11 رسالة نذكر منها: رسالة في ماهية الطريق إلى الله عز وجل وكيفية الوصول إليه، ورسالة في ماهية الإيمان وخصال المؤمنين الحقين، ورسالة في ماهية الناموس الإلهي والوضع الشرعي.

ومن الجدير بالذكر أن الرسائل لا تقتصر على هذه المواضيع التي تظهرها العناوين فحسب، بل إنها تتطرق إلى مواضيع عديدة من مختلف المجالات الثقافية والفكرية والعلمية التي لم تتناولها عناوين الرسائل، وكأنهم كانوا يضعون في هذه الرسائل خلاصة معارفهم وحكمتهم لنقلها إلى الأجيال القادمة التي ربما لن تكون حينها أعضاءً في جماعة «إخوان الصفا وخلان الوفا»، لكنها بلا شك ستكون قادرة على مناقشة أفكارهم المدونة.

موسوعات القرن الرابع الهجري الشعبية

تبقى الإشارة إلى نقطة هامة في تناول الرسائل وقراءتها، فهذه الرسائل عاب عليها أبو حيان التوحيدي كونها مبثوثة من كل فن أو علم وقد ضاع فيها الصواب لغلبة الخطأ، أو حتى النقد الذي وجهه لها أبو سليمان المنطقي السجستاني من كونها غير منظمة، وهى وجهات نظر علماء وكتاب مدققين.

ولكن هل كتبت الرسائل بالأساس للعلماء والمدققين؟ أم استهدف «إخوان الصفا وخلان الوفا» عامة الناس ليستطيعوا تبسيط العلوم والمعارف لهم وكذلك ضمهم إلى جماعتهم إن استطاعوا، حسنًا ربما نجد الإجابة على هذا السؤال في رسائل «إخوان الصفا وخلان الوفا» أنفسهم، إذ يقولون في الرسالة الخامسة عشر:

«عملنا هذه الرسائل وأوجزنا القول فيها شبه المدخل والمقدمات لكيما يقرب على المتعلمين فهمها، ويسهل على المبتدئين النظر فيها» فهنا بالتحديد هم لا يعترفون فقط بتبسيطهم لهذه العلوم والمعارف العميقة والمعقدة، وإنما كذلك برغبتهم في نشر هذه العلوم المبسطة بين عامة الناس من المتعلمين، تمامًا كحركات تبسيط العلوم وتوفيرها للجميع بشكل ثري وممتع التي تنشط الآن في قرننا الحادي والعشرين.

لنبقى في الحسبان أن هذه الرسائل كانت قد كتبت بالأساس للمنتمين الجدد أو أصحاب المرتبة الأولى الذين تحدثنا عنهم في السابق، وكانت الرغبة الأساسية هي تحقيق مفهوم معتمد من مفاهيم الثقافة وهو أن تعرف شيئًا عن كل شيء، على طريقة الموسوعات الحديثة.

وبعد هذه الرحلة بصبحة «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، لاشك أننا لم نستطع الإلمام بكل جوانب منجزهم الحضاري والفلسفي، والذي تشعب في محاولة لتغطية أكبر قدر ممكن العلوم والفلسفة وكانت كتابات «إخوان الصفا»، ولم تزل مصدر خلاف بين علماء الإسلام، وشمل الجدل التساؤل حول الانتماء المذهبي للجماعة فالبعض اعتبرهم من أتباع المدرسة المعتزلية، والبعض الآخر اعتبرهم من نتاج المدرسة الباطنية، وذهب البعض الآخر إلى حد وصفهم بالإلحاد والزندقة، بينما كان الهدف المعلن من هذه الحركة «التضافر للسعى إلى سعادة النفس عن طريق العلوم التي تطهر النفس».

رسالة الطريق إلى الله هي واحدة من رسائل «إخوان الصفا وخلان الوفا»، ويوضحون خلالها وجهة نطرهم عن العنوان المختار للرسالة، بأن الطريق إلى الله هو الغاية والقصد، ومن وجهة نظرهم فإن المعرفة والعلم هي طريق الوصول إلى الله، ولا يمكن تحقيق هذا، إلا بعد أن يدرك الإنسان نفسه وأسرارها ويعيش ساعيًا للخير من خلال أفكار ومعتقدات تتعالى عن النوازع البشرية والأهداف الدنيوية، وأن الطريق إلى الله هو تحقيق العدالة والوصول إلى درجات عليا من الحكمة.

لكن رحلتنا هذه بمثابة محاولة للتعرف على «إخوان الصفا وخلان الوفا» لندرك لمحًا من عصر في الثقافة والفنون استطاع فيه بعض المسلمين الذين انفتحوا على ثقافات العالم المختلفة وقتها حيازة هذه العلوم وهضمها، بل الإضافة عليها حتى أصبحت اللغة العربية لغة العلم والرقي آنذاك، وبالتأكيد لا يعني ذلك أن صورة هذا العصر كانت ناصعة البياض، فليس ثمة ملائكة في التاريخ، إنما هم البشر تحركهم حاجات البشر كذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...