عدنان رؤوف : جماعة الوقت الضائع ومقهى الواق واق سنة 1947 … ذكريات وانطباعات

في أيار 1982، وعند ختام زيارة قصيرة لبغداد، قلت لشقيقي، وانا في طريقي الى المطار: “لم يتسع الوقت لزيارة نزار سليم، ولا اظنه سيغفر لي لو عرف انني جئت بغداد وغادرتها من دون ان اراه. ومع ذلك سأراه في المرة القادمة ان شاء الله وما دريت، انذاك، ان نزارا كان قد رحل قبل يوم الى حيث لا يضيره تقصير الاخوان والرفاق، ومن دون ان يودع احباءه او يودعه الاحباء.
اقسى ما نتوهم في الغربة ان نظن ان الزمن يتوقف مادام الاغتراب، واننا عند العودة الى الديار نستطيع ان نواصل ما انقطع حيثما انقطع مع من الفنا من الاحباب وركنا اليه من الاصدقاء.

ولكن الزمن لا يتوقف والوقت لا ينقطع، وما اشد ما نفيق عليه من رجات فاجعات باحبة وخلان. وويل لمن تبلغ به الغفلة هذا الحد من الثقة بالزمن. فالست جورج اليوت: “في كل فراق صورة للموت”. وقال شوبنهاور: “ثمة طعم الموت في فراق”
وما اكثر ما فارقت نزارا في الماضي، ونهلت عند كل وداع نهلة من الموت، حتى كان الفراق الاخير فاتى على النزر القليل مما كان قد بقي. نشأت ونزار منذ زمن الصبا في ظل اخيه جواد. والذي يعيش في ظل العملاق يبقى ابدا صغيرا الا نزارا. بدأت تجربتنا – وهل استطيع ان اقول: الادبية ام الفنية؟ – وكلانا في مستهل العقد الثاني من العمر بتقليد جواد، اذ حررنا – نزار وانا – سنة 1937 مجلة تكتب بخط اليد وبنسخة واحدة، وجعلنا اسمها “الامل”. وكان جواد سبقنا باصدار مجلة مماثلة بعنوان “جواد”، وهذه بدورها كانت محاكاة لمجلة اخيه “سعاد”.
وكانت كل تلك “المجلات” محاولات عائلية جمعت نتاج الاقارب والاصدقاء في محاولات للخلق والابداع رسما وكتابة، مع شيء من التسلية والفكاهة. صدر عددان من “الامل”، وكان نزار صاحبها ورسامها وكنت رئيس تحريرها. وفي هذا الامر الاخير الكثير من التجاوز اذ ان نزارا كان يخط كل حرف فيها، وما كان نصيبي الا اعداد المواد التي “تنشر”. واغلب صور المجلة كان من بواكير نزار ومما جاد به علينا جواد او سعاد. وبعد صدور عددين من “الامل” قررنا – ولا اذكر استجابة لاقتراح من – تغيير اسم المجلة الى “الصبا” اذ كان هذا ادق وصفا لمرحلة العمر التي كنا نجتازها انذاك. وصدر عدد واحد من “الصبا” قبل ان افارق نزارا للمرة الاولى، واستمرت غيبتي وانقطاع “الصبا” الى اوائل سنة 1939 عندما عدت الى بغداد واستأنفنا اصدارها من حيث انقطعت. وكان اخراج “الصبا” كاخراج “الامل” نتاج يدي نزار حتى بتصحيفها وتغليفها. اما موادها فكانت نتاج العديد من الاقارب والاصدقاء: الرسوم والكاريكاتير لجواد، (عندما عاد الى بغداد من بعثته في فرنسا صيف 1939، ومن بعثته الى ايطاليا صيف 1940،) وسعاد ونزيهة وعيسى حنا ونزار طبعا، والكتابة قصص ومقالات لي ولنزار وعدد من الاصدقاء اذكر منهم نجدة فتحي صفوة وخلدون ساطع الحصري وحتى بعض اساتذتنا في مدرسة المتوسطة الغربية انذاك.
ونالت “الصبا” بنسختها الوحيدة من كل عدد الذيوع واتسعت حلقة قرائها، اذ كان كل صديق يتلقف العدد الجديد منها ليحيله الى صديق اخر بعد الفراغ منه. وحفزت “الصبا” عددا من الاصدقاء الى محاكتها، فاصدر الصديق محمد خالد مثلا بضعة اعداد من مجلة مماثلة نسيت اسمها، وشاركنا نزار وانا في اعداد بعض موادها. كما ان اصدقاء اخرين، اكبر منا قليلا في السن، استهلوا دراستهم في الكلية الطبية في اوائل الاربعينات باصدار مجلة استهلوا دراستهم في الكلية الطبية في اوائل الاربعينات باصدار مجلة اخرى كانت منبرا لبواكير في الرسم الكتابة. وكان نزار يسارع كلما تم اصدار مجموعة كافية من اعداد “الصبا” الى تجليدها في مجلد ثم واحد، حتى اكتملت منها بنهاية سنة 1941 و1942 – لا اذكر – اربعة مجلدات. وبالرغم من انقطاع “الصبا” عن الصدرو بعد ذلك، بقيت ايدي الاصدقاء الاصدقاء تتداول مجلداتها ايدي اصدقاء ومعارف جدد حتى اختفت تلك المجلدات عند احدهم.
سأثني ان نزارا تهاون في اعارة مجلدات “الصبا” لمن ثبت انه لا يستحقها، وسأثني اكثر انه قعد عن المطالبة بتلك المجلدات. الا ان نزار لم يحزن وقد عجبت لذلك ولم اجد لقلة اكتراثه سببا. كنا في الواقع قد شببنا عن طوق “الصبا” قبل ذلك بمدة – كما قلت – وبلغنا مرحلة تحتم علينا معها نشدان افاق ارحب من نسخة واحدة من مجلة تكتب باليد. وكان نزار – على العهد به – اسبقنا في استكشاف تلك الافاق. وكان في تلك الفترة – او اواخر الحرب العالمية – تجاوز نتاجه الرسم الى الكتابة. وقد راعني منه ذلك – بادئ الامر – اذ كنت ارى عدته للكتابة ادنى من عدته للرسم، الا ان حماس نزار لم يكن يعرف قيدا، وحسب نزار ان اندفاعه لم يفتر وان عزيمته لم تهن لا في انتاجه في الرسم ولا في محاولاته في الكتابة. يثبط من همة نزار مثلا انه لم ينل من “التكتيك” في الرسم ما ناله جواد – ربما لانه لم يدرس الرسم دراسة اكاديمية مدة كافية – فاستمر يرسم بالرغم من تركيزه في تلك الفترة – حتى اوائل الخمسينات – على الكتابة. وكان هناك فريق بين الاثنين: نتاج جواد – رسما ونحتا – كان صقل صناع، على ما يبدو عليه من السهل الممتنع، تعززه ثقافة تتمثل ما تحتاج وتلفظ ما لايجدي، في حين كان نتاج نزار – كتابة ورسما – نبضات حماس ودفعات الهام. لجواد تكامل الصنعة مع عمق الابداع ولنزار اندفاع العاطفة، وكانت عاطفة نزار غزيرة دافقة جياشة يحس بها كل من عاشر نزار وتعرف عليه حتى لمدة ساعات.
كانت تلك المرحلة ايضا بالنسبة لنا مرحلة محاولة الاطلاع على الاداب العالمية باللغة الاجنبية، وكانت اللغة الانكليزية اقرب الينا مثالا. وقد ساعد على ذلك اضطرار جواد الى البقاء في العراق بقية سنوات الحرب العالمية الثانية، حيث “استعرنا”، من مكتبته الكثير مما كنا نحاول قراءته مدفوعين بما كنا سمعناه او قراناه عن هذا الكاتب او ذاك، او عن هذه القصة والرواية او تلك. ودلالة اخرى القنوط والياس من النجاح في مجاراة العمالقة – وربما كان هذا ذريعة غير واعية للقعود والتقاعس! – ما مع نزار فالامر احيانا كان ينتهي بان يحاول ترجمة ما اعجبه من قراءاته!.
استمرت هذه الفترة الى غاية سنة 1946 وكنت انشر محاولاتي في الكتابة – ولم تكن القصة من بينها انذاك – في مجلة والفكر الحديث” التي انصرف الصديق جميل حمودي الى اصدارها بدأب عجيب على رغم من زيادة الكلفة وقلة الموارد. وكانت تلك الفترة من تاريخنا عسيرة، من جهة: ظروف الحرب العالمية الثانية واعقابها، ومخصبة من جهة اخرى: التعرف على الاداب العالمية عن طريق مجلة “الكاتب المصري” ومنشوراتها بالاضافة الى ما كنت قرأناه من منشورات “لجنة التاليف والترجمة والنشر” المصرية من جهة، ومن جهة اخرى منشورات جريدة “المكشوف” اللبنانية ومن بعدها مجلة “الاديب”.
في تلك المرحلة ايضا كنا نواصل دراستنا العالية الرتيبة – القانون – ونعمل في نفس الوقت في وظائف واعمال متعددة وفي جهات مختلة ساعدتنا – ليس على كسب الرزق كما كان واقع الامر بل – على الحصول على المال – ولو النزر اليسير منه – الذي وقر لنا شيئا من الاستقلال عن العائلة والانغمار فيما حسبناه انذاك بوهيمية تارة وثورة سلبية على واقع لا ترتضيه تارة اخرى. وفي تلك المرحلة ايضا بدأت فترة “الوقت الضائع”، الصفة التي اطلقها نزار بورحه المعهودة في الفكاهة على تلك المرحلة معبرا فيها – في آن – عن ثورة بوهيمية وعن واقع كنا نحاول ان نهرب منه، ولكن الى اين؟ وكيف؟
كان ذلك في سنة 1947، وهي المرحلة التي توثقت فيها علاقتنا ببلند الحيدري وعن طريقه بعدد من كسبنا من الاصدقاء. وفي الواقع ان انتمائي الى جماعة “الوقت الضائع” انذاك كان هامشيا الى حد ما ونتيجة الرابطة التي كانت تربطني بنزار في الوقت الذي كنت ارى فيه بالجماعة “رومانسية” توهمت انني كنت قد جاوزتها. ومع كل ذلك “كنا سوا” نذرع ارصفة شوارع بغداد من مقهى النعمان في الاعظمية الى مقهى “الدفاع” حتى مقاهي شارع ابي نواس – مرورا بحلويات “الدار البيضاء” وبالمقهى السويسري والمقهى البرازيلي في شارع الرشيد. ولقد تحررت اكثر صفحات “الفكر الحديث” و”الوقت الضائع” في ذينك المقهيين وفي المطابع اكثر مما تحررت في المكاتب او البيوت؟
كانت جماعة “الوقت الضائع” مجموعة من الشباب الناشئين اكثر مما كانت “مدرسة” وكانت تجمع – بالاضافة الى ما كانت تضم من اولئك الشباب – اخرين لا تربطهم رابطة فكرية بل مجرد صداقة او زمالة الدراسة الثانوية ثم الدراسة الجماعية.
ولم يتجاوز ما ربط بين اعضائها مجرد محاولات الكتابة ونشدان التغيير عن الذات. ومع ذلك بقيت الجماعة متميزة عمن كان يدور في فلكها من اصدقاء ومريدين، الى درجة انها سعت في تلك المرحلة الى تأليف “جمعية” حاولت ان تحصل على الموافقة الرسمية من دون ان يكون لها “منهاج” يحدد هويتها واهدافها. وكانت لنا زيارات الى “الدوائر الرسمية” التي لا بد من اخذ موافقتها قبل منح “الاجازة” باي نشاط ثقافي او فكري انذاك. وقد فتر حماسنا لذلك المسعى منذ ظهرت بوادر “الفضول الرسمي” للتثبت من حقيقة “اهداف الجماعة” ولم نكن نحن انفسنا نعرف – عن وعي – ما هي. وزاد في ذلك سفر بعض اعضاء جماعة الوقت الضائع في صيف 1948 في بعثات دراسية في الخارج وانصراف البعض الاخر الى هموم الدراسة او كسب العيش. ومع ذلك لم يفتر حماس نزار المعهود الذي كان دائما يكسب المؤيدين لمجرد اخلاصه وصفاته واندفاعه. ومن هنا جاءت فكرة مقهى “ساحة عنتر” التي اطلق عليها ولخياليتها” – مقهى “واق واق”.
وحتى هذه المرحلة – على قصرها – ما كانت مدرسة فكرية اكثر مما كانت تعبيرا فريدا عن التفاف جماعة حول نزار يندفعون معه في حماسه الجارف الفياض. وكانت المقهى عجيبة غريبة استحقت في حينه لغرابة فكرتها الاسم “النكتة” الذي اطلقه نزار – او احد الاصدقاء عليها.
فالحصول على اجازة بفتح مقهى كان اسهل من الحصول على اجازة بتأسيس جمعية ثقافية او اصدار مطبوع او مجلة. فكان ان افتتحت المقهى في مطلع صيف 1948 وتحكم في اختيار موقعها رخص الايجار في تلك المنطقة، اذ لم يكن العمران قد بلغها آنذاك الى درجة يجذب اليها الزبائن من سكانها وسكان اطرافها، ومن كان يستطيع الانتماء الى النادي الرياضي (الاولمبي) الذي كان يقابلها فيالطرف الآخر من الساحة اليه انتمي غير شاعر بوجود المقهى “الفكري” في الطرف الآخر. وكان اختيار ذلك الموقع بالاضافة الى رخص ايجار البناية – دليلا آخر على عدم واقعية اصحابها. فقد كان مستحيلا على ساكن الاعظمية – وحتى رأس الحواش “ان يكلف نفسه السير الى ” ساحة عنتر، ومن كان يسكن “شارع طه” كان بامكانه ان يتمتع بما يوفره النادي الرياضي من جو هاديء بالاضافة الى الفعاليات الرياضية والاجتماعية، ولم يكن اصحاب مقهى “واق واق” من الذين يتعاطونها بحماس! وكنت انا بين بي! اذ حالت ظروفي في تلك السنة الدراسية العصيبة 1947 – 1948 دون حصولي على شهادة الحقوق اول مرحلة فبات علي ان اتهيأ طيلة صيف 1948 لامتحان “الملحق”. وكانت تلك مرحلة حاسمة اضطرتني الى ان استقيل من وظيفتي وان اعزف عن كل امر يشغلني عن التهيؤ للامتحان في نهاية ذلك الصيف. ومع ذلك كان لابد من الترويح عن النفس احيانا، والتمتع بفترة راحة كل مساء قبل استئناف المطالعة! وكان رواد المقهى كل ليلة هم هم: اصحابها – نزار ومريدوه – انا ومن كان يشاركني الشطرنج ثم المطالعة فيما بعد، ثم “الزبون المقيم” مندوب دوائر الامن الذي اصبح بمرور الزمن “من اهل البيت”. وكانت مشكلة هؤلاء “الزبائن” من رواد المقهى مشكلة ما تمناها احد حتى لعدو فقد كان عليهم سبر غور هذه المقهى التي لا يرتادها الا عدد محدود من “الافندية” اغلبهم شركاء فيها ورفع التقارير عنها الى نظام يعاني من انتكاسة منذ مطلع ذلك العام بفشل معاهدة بروتسموث ثم الهزيمة المستورة في حرب فلسطين. ومع اندماج هؤلاء “الرواد” في جو المقهى فان “موضوعيتهم” لم تخنهم بحيث لم يشوهوا حقيقة المقهى، ولم يزيفوا تقاريرهم عنها اذ لم تتعرض السلطات لها ولاصحابها طيلة مدة “نشاطها” صيف 1948، اذ كان الرواد القلائل يشغلون السطح امسيات لا تتجاوز منتصف الليل ينصرفون بعدها الى حال سبيلهم، ليعودوا في الليلة التالية الى نفس المقر. وبحلول الخريف حل خريف المقهى نفسها، اذ تعذر الاستمرار في الجلوس على لاسطح – كما تعذر الجلوس في الداخل اذ ان ذلك كان يستلزم توفير وسائل التدفئة، كانت هذه مكلفة لم تحملها من تحمل خسارة استمرت ثلاثة او اربعة اشهر، فكان ان احتفل بغلق المقهى وتضفية موجوداتها على اعضائها المؤسسين وبلغ حظ بعضهم ان حصل على صندوق من قناني الصودا مثلا بعض الخسارة في النفقات.
الحديث عن نزار – وعن جود – سليم يستغرق صفحات وصفحات. ومهما طال الحديث – او قصر – فانه لا يخرج عن ان يكون سردا للكثير مما اثر به اولئك الراحلين العزيزين الحياة الفكرية والفنية لعراقنا طيلة سنوات عديدة من النتاج الثر الذي الهم الكثير من المريدين والزملاء والاصدقاء.
اما هذه العجالة في الرثاء فقد حق عليها ان تنتهي الان بهذه الكلمات عسى ان تساعد قليلا على تخفيف لوعة الاسى لتعذر رواية نزار قبل رحيله حين كنت قاب قوسين او ادنى منه.



عدنان رؤوف : جماعة الوقت الضائع ومقهى الواق واق سنة 1947 … ذكريات وانطباعات (ملف/2)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...