مدرسة الديوان :
تكونت مدرسة الديوان إثر صلات شخصية وفكرية قامت بين أفراد هذه المدرسة وهم : عباس محمود العقاد ، وعبد الرحمن شكري ، وإبراهيم المازني ، وقد تعارف شكري والمازني في مطلع عام 1906 م عندما كانا يدرسان في كلية دار المعلمين العليا ، واستمرت هذه الصلة بعد رحيل شكري إلى انجلترا ، ثم تعرف المازني على العقاد من خلال العمل الصحفي للمازني ونشر العقاد لمقالاته الأدبية ، أما علاقة العقاد بشكري فيرجع الفضل فيها إلى المازني نفسه الذي تحدث لصديقه شكري عن العقاد ومكانته الأدبية ونشاطاته الفكرية مما دفع شكري إلى ترجمة هذا الإعجاب برسالة خطية للعقاد أرسلها من انجلترا دون سابق معرقه ، وثم اللقاء الشخصي بينهما في صيف عام 1913 م .
وهكذا تمت اللقاءات وثم التوحد الفكري بين الأدباء الثلاثة وتمكنت هذه الجماعة من الإسهام الواضح في دفع عجلة الأدب الحديث نحو التطور والتجديد . 1
الخيال والصورة :
عرف كولوردج الخيال مفرقا بينه وبين الوهم بأنه " إما أولى أو ثانوي ، فالخيال الأول هو القوة الحيوية أو الأولوية التي تجعل الإدراك الإنساني ممكنا ، وهو تكرار في العقل المتناهي لعملية الخلق الخالدة في الأنا المطلق . أما الخيال الثانوي فهو صدى للخيال الأولى ، غير أنه يوجد مع الإرادة الواعية ، وهو يشبه الخيال الأولى في نوع الوظيفة التي يؤديها ، ولكنه يختلف عنه في الدرجة ، وفي طريقة نشاطه ، إنه يذيب ويتلاشى ويحطم لكي يخلق من جديد ، وحينما لا تتسنى له هذه العملية فإنه على الأقل يسعى إلى إيجاد الوحدة ، وإلى تحويل الواقع إلى مثالي إنه في جوهرة حيوي ، بينما الموضوعات التي يعمل بها ( باعتبارها موضوعات ) في جوهرها ثابتة لا حياة فيها " 2 .
" والوهم نقيض ذلك لأن ميدانه محدود وثابت ، وهو ليس إلا ضربا من الذاكرة تحرر من قيود الزمان والمكان ، وامتزج وتشكل بالظاهرة التجريبية للإرادة التي نعبر عنها بلفظ ( الاختيار ) ، ونسبة الوهم الذاكرة في أنه تعين عليه أن يحصل على مادته كلها جاهزة وفق قانون تداعي المعاني " 3 .
ـــــــــــــــ
1 ـ حركة النقد الحديث والمعاصر ص 56 للدكتور : إبراهيم الحاوي .
2 ـ قضايا النقد الأدبي ص 69 د . محمد زكي العشماوي .
3 ـ قضايا النقد الأدبي ص 70 د . محمد زكي العشماوي .
ويقسم كولوردج الخيال إلى نوعين : أولي ، وثانوي
الخيال الأولي هو القوة الحيوية الأولية التي تجعل الإدراك الإنساني ممكنا ، وهو إدراك يقتصر فيه الشاعر على الصفات التي تهمه فقط من الشيء المدرك .
غير أن الصورة في الخيال الثانوي أو الشعري تستحوذ على اهتمامنا ـ كما يذكر محمد البرازي ـ أكثر من مجرد الإدراك ، لأنها لا تتعلم ، والصورة في الخيال الشعري تستلزم أن يكون موضوعها غائبا على عكس الإدراك الذي يفترض وجود موضوعه حاضرا . 1
ويدرك المتتبع لتعريف كولوردج لمفهوم الخيال وتقسبمه إلى أولي وثانوي ومدى الفرق بينهما أن الصورة في الخيال الثانوي تفترض عدم وجود الشيء ، وإذا كان الفن يتخذ موضوعه أو مادته من الطبيعة ، " فإنه يعطينا هذه الطبيعة بعد أن يفترض أنها غير موجودة ، أو موجودة خارج نطاق إدراكه الحسي ، وهذه إحدى الفروق الأساسية بين الخيال الأولي والخيال الثانوي ". 2
وقد فرق كولوردج بين الخيال والوهم ، فينما يجمع التوهم بين جزيئات باردة جامدة منفصلة الواحدة منها عن الأخرى جمعا تعسفيا ، ويصبح عمل التوهم عندئذ ضربا من النشاط الذي يعتمد على العقل مجردا عن حالة الفنان العاطفية ، نجد الخيال يعمل على تحقيق علامة جوهرية بين الإنسان والطبيعة ، بأن يقوم بعملية اتحاد تام بين الشاعر والطبيعة أو بين الشاعر والحياة من حوله ، ولن يتم هذا الاتحاد إلا بتوافر العاطفة التي تهز الشاعر هزا .
وهكذا انطلقت مدرسة الديوان من خلال المنظور السابق لنظرية الخيال وعلاقته بالصورة الشعرية ، وبدأت بشن هجومها على المدرسة التقليدية التي أساسها البارودي وتربع على عرشها أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ، " فانتقد أصحاب هذه المدرسة منهج المدرسة التقليدية نقدا تفصيليا عنيفا حتى إذا تمت عملية الهدم هذه أخذوا في بسط أرائهم البناءة في الأدب والشعر " 3.
تعريف الصورة :
عرف النقاد الغربيون الصورة الشعرية بتعريفات كثيرة أهمها أن الصورة تعني ترادف أشكال البيان من تشبيه واستعارة وكناية ورمز ، وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالجانب الحسي ، إلا أن كولوردج جمع مفهوم الصورة فقال : " قد تكون منظرا أو نسخة من المحسوس ، وقد تكون فكرة أو أي حدث ذهني يشمل شيئا ما ، وقد يكون شكلا من أشكال البيان ، أو وحدة ثنائية تتضمن موازنة " 4 .
ــــــــــــ
1 ـ في النقد الأدبي الحديث ص 74 .
2 ـ قضايا النقد الأدبي ص 74 د . محمد زكي العشماوي .
3 ـ دراسات في النقد الأدبي المعاصر ص 105 محمد زكي العشماوي .
4 ـ في النقد الحديث ص 69 د . نصرت عبد الرحمن .
أهمية الصورة الشعرية :
يشير الشاعر الإنجليزي س . داى . لويس إلى أن بمقدور دراسة الصورة الشعرية أن تلقي من الضوء على الشعر ما لا تلقيه دراسة أي جانب أخر من عناصره ، وأن هدفه الرئيس ، وأعظم خاصية لفنه هو الصورة الجديدة المؤثرة .
ويؤكد على أهمية الصورة وخطرها فيقول : " إن الغرابة والجرأة والخصب في الصورة هي نقطة القوة والشيطان المسيطر في الشعر المعاصر ، ومثل كل الشياطين فإنها عرضة للإفلات من سيطرتنا ... ولها قوة غامضة وتأثير خفي " . 1
وقد اهتم الشعراء والنقاد على حد سواء بالصورة الشعرية ، وكانت دائما موضع الاعتبار في الحكم على الشاعر " حتى ولم ينص عليها في الدراسات النقدية العربية ، وأن المفاضلة بين الشعراء لا تقوم إلا على أساس منها " . 2
ورغم أهمية الصورة الشعرية فإن أي قصيدة ليست مجرد صور ، إنها على أحسن الفروض صور في سياق ، صور ذات علاقة ، ليس ببعضها وحسب ، وإنما علاقة بسائر مكونات القصيدة ، " وهذا يعني أن دراسة الصورة بمعزل عن دراسة البناء الشعري تعتبر تعبيرا عن رؤية جزئية ، فمهما كانت عميقة أو محيطة فإنها ستظل ناقصة من جهة ما ، فالصورة وإن تكن لها شخصيتها وكيانها الخاص الذي يحدده المصطلح البلاغي ، فإنها تبقى صورة من تكوين شامل " . 3
مدرسة الديوان والرومانسية الغربية :
وقد تأثر أدباء مدرسة الديوان بالرومانية الغربية لإجادتهم اللغة الإنجليزية التي أفادتهم كثيرا في دراسة الشعر الإنجليزي وخاصة شعر كل من بايرون وشيلي وستيورات مل ، ووردز وترت وغيرهم ، وقد اعترف العقاد وزميلاه لما للثقافة الغربية من أثر في استجابتهم للاتجاهات الشعرية والنقدية الغربية ، وأثر هذه الاتجاه عليهم الأمر الذي فتح أمامهم المعنى الجديد للشعر ، غير أن العقاد " بنفي أن يكون تأثرهم بهؤلاء نابعا من التقليد الأعمى لهم وإنما كان فقط لتشابه في المزاج واتجاه العصر كله ، ولم يكن تشابه التقليد والفناء " 4 .
ــــــــــــ
1 ـ الصورة والبناء الشعري ص 11 ـ 12 د. محمد حسن عبد الله .
2 ـ الصورة والبناء الشعري ص 17 د . محمد حسن عبد الله .
3 ـ الصورة والبناء الشعري ص 19 ، د . محمد حسن عبد الله
4 ـ شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص 192 .
مظاهر تأثر مدرسة الديوان بالرومانسية الإنجليزية :
إن المتتبع لمدرسة الديوان ومن خلال دراسة نقادها لشعر أتباع المدرسة التقليدية يلحظ التالي :
1 ـ مهاجمتهم الشعراء عصرهم كشوقي وحافظ وغيرهما باعتبار أن أشعارهم ضربا من التقليد والتقيد بأغلال الماضي في الفكر والأسلوب والموضوعات .
2 ـ المظهر الأخر من تأثرهم بالرومانسية الإنجليزية يتمثل في تحديد جوهر الشعر ، والذي هو انعكاس لما في النفس من مشاعر وأحاسيس ، وأنه يصدر عن الطبع الذي لا تكلف فيه .
3 ـ تأثرهم بالرومانسية الإنجليزية من حيث تحديد وظيفة الشعر وأهدافه ، إذ إن للشعر غايات وأهداف كثيرة سواء عند الرومانسية أو غيرهم من المدارس الأخرى ، فالرابط بين المدرسة الرومانسية والمدرسة الكلاسيكية يكمن في هذا الإطار ، " فالرومانسيون يرون أن من أهداف الشعر الكشف عن مظاهر الجمال في الوجود الإنساني ، بل من أهدافه الكشف عن الحقيقة في أعمق صورها وأتمها " 1 .
4 ـ وإلى الجانب الكشف عن مظاهر الجمال ينبغي مراعاة المتعة للقارئ التي يلمسها من معاني الشعر وصوره .
بدايات حركة النقد عند مدرسة الديوان :
ترجع أوليات حركة النقد عند مدرسة الديوان وعلى رأسها عبد الرحمن شكري وزميلة العقاد والمازني ، بعد أن أصدر شكري ديوانه الأول عام 1901 م ، وقد تبلورت رؤيتهم النقدية في الربع الأول من القرن العشرين ، وقامت هذه الرؤية النقدية ولا سيما عند شكري على اعتبار أن وظيفة الشعر الأساسية هي التعبير عن وجدان الشاعر ، لأن الشعر في جوهرة عاطفة ، وقد هاجم شعراء مدرسة الديوان الذين تبنوا مذهب التجديد في الشعر شعر المناسبات الذي كان سائداً حينئذ في المدرسة الكلاسيكية أو التقليدية يقول " وبعض القراء يهذي بذكر الشعر الاجتماعي ، ويعني شعر الحوادث اليومية مثل افتتاح خزان أو بناء مدرسة ... فإذا ترفع الشاعر عن هذه الحوادث اليومية قالوا ، ماله ؟ هل نضب ذهنه ؟ أوجفت عاطفته ؟ " 2 .
وقد يبني أحد رواد هذه المدرسة وهو عبد الرحمن شكري مذهب الاستبطان الذاتي ، وهو مذهب يجمع بين التأمل الفكري والإحساس العاطفي الحار ، وكان لزميليه أن بأخذ كل منها بأحد المذهبين الذين يناسبانه .
وقد تميز المذهب النقدي الجديد الذي دعا إلية شكري وزميليه العقاد والمازني بالاتي :
1 ـ أن الشاعر العبقري هو الذي يفكر كل فكر وأن يحس كل إحساس .
2 ـ الخيال هو كل ما يتخيله الشاعر من وصف جوانب الحياة وشرح عواطف النفس وحالاتها .
ـــــــــــــ
1 ـ في نقد الشعر محمود الربيعي ص 117 .
2 – النقد والنقاد المعاصرون ص 54 د . محمد مندور .
3 ـ التشبيه لا يراد لذاته ، و إنما يراد لشرح عاطفة ، أو توضيح حالة أو بيان حقيقية .
4 – أجلّ العواطف الشعرية ما قيل في تحليل عواطف النفس ، ووصف حركتها ، كما يشرّح الطبيب الجسم .
5 ـ الشعر هو ما أشعرك وجعلك تحس عواطف النفس إحساسا شديدا ، لا ما كان لغزا منطقيا أو خيالا مجنحا ، فالمعاني الشعرية هي خواطر المرء وآراؤه وتجاربه وأحوال نفسه وعبارات عواطفه .
6 ـ مراعاة وحدة القصيدة سواء أكانت وحدة فنية أو وحدة عضوية ، فينبغي على الشاعر أن يميز بين جوانب موضوع القصيدة وما يستلزمه كل جانب من الخيال والتفكير .
الخيال والوهم عند عبدا لرحمن شكري :
لقد حرص شكري على أن يميز بين الخيال والوهم وهو تميز يعترف به العقاد بأن شكري كان رائدة ، بل يضعه في ذلك في مستوى كبار الأدباء والمفكرين العالميين ، فالخيال والوهم عند شكري يفترقان كثيرا ولا يتلبسان كما هو الحال في أراء بعض النقاد ومختلطان في إبداعات فحول الشعراء .
فالخيال عند الأدباء والشعراء المرموقين كان دائما وسيلة لإدراك الحقائق التي يعجز عن إدراكها الحسن المباشر أو المنطق ، بينما الوهم هروب من الواقع ومن الحقائق . يقول شكري " إن التخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء والحقائق ، ويشترط في هذا النوع أن يعبر عن الحق ، والتوهم هو أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود ، وهذا النوع الثاني يغرى به الشعراء الصغار ، ولم يسلم منه الشعراء الكبار " . 1
وقد تبني العقاد في مذهبة النقدي ما عرف عنه بالأصالة الفردية ، وهي المبدأ العام الذي تجده خلف دعوة التجديد في الشعر التي قادها في النصف الأول من القرن العشرين هو وصاحبيه شكري والمازني ، وهي الدعوة التي طالبت بأن يكون الشعر تعبيرا عن الوجدان ، الفردي للشاعر ، وقد تطور هذا الوجدان الفردي فيما بعد إلى وجدان اجتماعي مع المحافظة على الطابع الوجداني .
ومن الأسس التي قام عليها مذهب العقاد النقدي الحرية التي يقصد بها معنى الجمال في الحياة والفن ، حيث على أساسها تنبني وحدة الفكرة في الحياة والفن يقول العقاد :
" وقد أحببت أن أبنين هنا ما أردته بوحدة الفكر والحياة في الفن فأقول أولا ، إن الحرية في رأيي هي العنصر الذي لا يخلو منه جمال في عالم الحياة أو في عالم الفنون " 2 .
ولكن العقاد تنبه إلى تقيد الحرية إن صح التعبير وفرق بينها وبين الغموض فيقول : " وخلاصة الرأي أننا نحب الحرية حين نحب الجمال ، وأننا أحرار حين نعشق من قلوب سليمة صافية ، فلا سلطان علينا لغير
ـــــــــــــ
1 ـ النقد والنقاد المعاصرين ص 61 ، محمد مندور . 1
2 ـ النقد والنقاد المعاصرين ص 86 ، محمد مندور ص .
الحرية التي نهيم بها ولا قيود في أيدينا غير قيودها ولا عجب فحتى الحرية لها قيود " 1 .
وقد طالب العقاد من خلال منهجه النقدي ولا سيما الموجة إلى أحمد شوقي بمجموعة من الأسس والقواعد النقدية ، منها الفردية والمنهج النفسي الذي تبناه في مذهبه النقدي وخاصة الوحدة العضوية للقصيدة ، وما يتعلق بمقاييس المعاني مما تحدث فيه النقاد العرب القدماء كالإحالة التي تعني المبالغة في المعاني مبالغة مسرفة . يقول العقاد عنها : " أما الإحالة فهي فساد في المعنى وهي ضروب : فمنها الاعتساف والشطط ، وفيها المبالغة ومخالفة الحقائق ، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول ، أو قلة جدواه وخلو مغزاه " 2 .
ومن تلك المقاييس أيضا مما اتخذه العقاد أساسا لمنهجه النقدي ما يعرف بالتقليد وهو من المقاييس النقدية القديمة التي عرفها النقاد العرب وأسرفوا في نقدها حتى جعلوها نوعا من السرقات الأدبية ، وآخر تلك المقاييس التي اتبعها العقاد في نقده لشعر شوقي ومدرسة التقليد هو نظرتهم إلى التشبه ووظيفته الشعرية ، وهي تلك النظرة التي نقلت التشبيه من مجال الحواس الخارجية إلى داخل النفس البشرية فيقول مندور : " إذ رأيناهم يعني ـ العقاد وزميليه ـ يطالبون بأن يكون الهدف من التشبيه هو نقل الأثر النفسي للمشبه من وجدان الشاعر إلى وجدان القارئ ، وبذلك فتحوا الباب أمام التعبير الرمزي " 3 .
الصورة الشعرية ووحدة القصيدة :
لم تكن الصورة الشعرية بدعا في عالم الشعر والمذاهب النقدية المعاصرة ، سواء عند مدرسة الديوان أو المدارس الأخرى المجددة ، كالمدرسة الرومانسية والواقعية والرمزية ، فهي موجودة منذ عرف الشعر ، بل إن الشعر قائم عليها ، ولكن استخدامها يختلف من شاعر لأخر كما أنها في الشعر القديم تختلف عنه في الشعر الحديث ، وهي أكبر عون على تقدير الوحدة الشعرية أو على كشف المعاني القيمة التي ترمز إليها القصيدة . ومع رجوع الصورة في الشعر القديم كما هي موجودة في الشعر الحديث " إلا أنها في الشعر الحديث أكثر تتابعا ، ولكن الشاعر ينفر من استخدامها في البرهان والإثبات ، ويعمل دائما على أن تكون صوره جديدة وناقلة للتأثير ومترابطة في مجموعها بحيث يكوّن منها صورا كبرى . على أن صعوبة ما يحاوله الشاعر الحديث توقعه في الاضطراب فتجيء صورة محشودة أو مجتلبة فيخل بالترابط الذي يريده ، وتعجز قصيدته عن تحقيق ما يريد لها من غاية لأنها أغرقت في التوجه نحو تلك الغاية " 4 .
ـــــــــــــــ
1 ـ محمد مندور نفس المرجع ص 86 .
2 ـ محمد مندور مرجع سابق ص 109 .
3 ـ موجع سابق ص 112 .
4 ـ فن الشعر ص 232 د . أحسان عباس .
وقد عمد نقاد مدرسة الديوان إلى استخدام الصورة غير المتكلفة ، والمنسجمة مع بعضها البعض ، وأن تكون صورا جديدة مبتكرة ، ولا يعني جدة الصورة التقاؤها في ذهن الشاعر بما يلتقي به مما حوله من مظاهر الحضارة الجديدة ، وإنما تعني ما تعكسه الصورة من تعبير عن نفسية الشاعر وكأنها تشبه الصور التي تتراءى في الأحلام ، هذا من جانب ، ومن جانب أخر أن يكون غرض الصورة مجتمعة قد تعين على كشف معنى أعمق من المعنى الظاهري للقصيدة ، ذلك لأن الصورة وهي تحوي جميع الأشكال المجازية ، إنما تكون من عمل القوة الخالقة التي هي منبع روح الشعر .
ومن خلال الرؤية السابقة للصورة في الشعر الحديث نجد أنها تحمل فلسفة جمالية مختلفة عنه في الشعر القديم ، فأبرز ما فيها ( الحيوية ) ، ذلك لأنها تتكون تكونا عضويا ، وليست مجرد حشد مرصوص من العناصر الجامدة ، " ثم إن الصورة حديثا تتخذ أداة تعبيرية ولا يلتفت إليها في ذاتها ، فالقارئ لا يقف عند مجرد معناها ، بل إن هذا المعنى يثير فيه معنى آخر هو ما يسمى ( معنى المعنى ) ، أي أن الشاعر أصبح يعبر بالصورة الكاملة عن المعنى ، كما كان تعبر باللفظة ، وكما كانت اللفظة أداة تعبيرية فقد أصبحت الصورة ذاتها هي الأداة ، إلى جانب ما تقوم به الصورة من نقل المشاهد الحية ، وتلخيص الخبرة والتجربة
الإنسانية " 1 .
حملات النقد ضد أنصار المدرسة التقليدية :
لقد تمحورت حملات النقد التي شنها العقاد والمازني على أنصار التقليدية حول الأتي :
1 ـ البناء التقليدي للقصيدة العربية الذي كان يتحدث عن موضوعات الحياة في إطار الأغراض الشعرية القديمة : كالغزل والمدح والوصف والهجاء والعتاب .
2 ـ شعر المناسبات الذي لم يكن يصدر فيه الشاعر عن تجربة حية ، ولم يكن يستجيب لما يجيش في الصدر من خواطر ، بقدر ما كان ينشغل بالصنعة والزخرف والجلبة الخطابية .
3 ـ على أن أبرز ما اهتمت به جماعة مدرسة الديوان في نقدها للمدرسة التقليدية هو قضية الوحدة العضوية أو الفنية في القصيدة ، لأن من يدعو إلى الوحدة العضوية للقصيدة لابد أن يدعو بالضرورة إلى نبذ البناء التقليدي للقصيدة القديمة ، وإلى ضرورة توافر التجربة الشعورية التي يستجيب فيها الشاعر لموقف عاطفي واحد . 2
ــــــــــــــ
1 ـ الأدب وفنونه ص 144 د . يوسف عز الدين .
2 ـ بتصرف عن كتاب دراسة في النقد الأدبي المعاصر ص 106 د . محمد زكي العشماوي .
المراجع
1 – دراسات في النقد الأدبي المعاصر د . محمد زكي العشماوي دار النهضة العربية - بيروت ط 1 ، 1406 هـ - 1986 م
2 – قضايا النقد الأدبي د . محمد زكي العشماوي دار النهضة العربية - بيروت ط 1 ، 1404 هـ - 1984 م
3 – النقد والنقاد المعاصرين د . محمد مندور دار النهضة مصر ط 1 ،1981 م
4- الأدب وفنونه د . عز الدين إسماعيل دار الفكر العربي ط 1 ، 1978 م
5 – فن الشعر د . إحسان عباس
دار الثقافة - بيروت - بدون طبعة وتاريخ
6 – نظرية المعنى في النقد العربي د . مصطفى ناصف دار الأندلس ط 1 ، 1401 هـ - 1981 م
7- في النقد الحديث د . نصرت عبد الرحمن مكتبة الأقصى - عمان ط 1 ، 1979 م - 1399 هـ
8 – الصورة والبناء الشعري د . محمد حسن عبد الله دار المعارف – القاهرة بدون طبعة وتاريخ
9 – في النقد الأدبي الحديث . محمد الساكير البرازي مكتبة الرسالة الحديثة - الأردن ط 1 ، 1407 هـ - 1986 م
10 – حركة النقد الحديث والمعاصر د . إبراهيم الحاوي مؤسسة الرسالة - بيروت ط 1 ، 1404 هـ - 1984 م
الدكتور : مسعد محمد زياد
المشرف والمطور التربوي
بمدارس دار المعرفة الأهلية بجدة
والأستاذ المشارك بجامعة سبأ فرع السعودية
والمشرف على مشاكل التعليم بالمنتدى العربي الموحد
والمستشار التربوي لمنتديات الحصن النفسي والثقافي
والمستشار العام لمنتديات ملتقى الواحة الثقافية
عضو تجمع الأدباء والكتاب الفلسطينيين
تكونت مدرسة الديوان إثر صلات شخصية وفكرية قامت بين أفراد هذه المدرسة وهم : عباس محمود العقاد ، وعبد الرحمن شكري ، وإبراهيم المازني ، وقد تعارف شكري والمازني في مطلع عام 1906 م عندما كانا يدرسان في كلية دار المعلمين العليا ، واستمرت هذه الصلة بعد رحيل شكري إلى انجلترا ، ثم تعرف المازني على العقاد من خلال العمل الصحفي للمازني ونشر العقاد لمقالاته الأدبية ، أما علاقة العقاد بشكري فيرجع الفضل فيها إلى المازني نفسه الذي تحدث لصديقه شكري عن العقاد ومكانته الأدبية ونشاطاته الفكرية مما دفع شكري إلى ترجمة هذا الإعجاب برسالة خطية للعقاد أرسلها من انجلترا دون سابق معرقه ، وثم اللقاء الشخصي بينهما في صيف عام 1913 م .
وهكذا تمت اللقاءات وثم التوحد الفكري بين الأدباء الثلاثة وتمكنت هذه الجماعة من الإسهام الواضح في دفع عجلة الأدب الحديث نحو التطور والتجديد . 1
الخيال والصورة :
عرف كولوردج الخيال مفرقا بينه وبين الوهم بأنه " إما أولى أو ثانوي ، فالخيال الأول هو القوة الحيوية أو الأولوية التي تجعل الإدراك الإنساني ممكنا ، وهو تكرار في العقل المتناهي لعملية الخلق الخالدة في الأنا المطلق . أما الخيال الثانوي فهو صدى للخيال الأولى ، غير أنه يوجد مع الإرادة الواعية ، وهو يشبه الخيال الأولى في نوع الوظيفة التي يؤديها ، ولكنه يختلف عنه في الدرجة ، وفي طريقة نشاطه ، إنه يذيب ويتلاشى ويحطم لكي يخلق من جديد ، وحينما لا تتسنى له هذه العملية فإنه على الأقل يسعى إلى إيجاد الوحدة ، وإلى تحويل الواقع إلى مثالي إنه في جوهرة حيوي ، بينما الموضوعات التي يعمل بها ( باعتبارها موضوعات ) في جوهرها ثابتة لا حياة فيها " 2 .
" والوهم نقيض ذلك لأن ميدانه محدود وثابت ، وهو ليس إلا ضربا من الذاكرة تحرر من قيود الزمان والمكان ، وامتزج وتشكل بالظاهرة التجريبية للإرادة التي نعبر عنها بلفظ ( الاختيار ) ، ونسبة الوهم الذاكرة في أنه تعين عليه أن يحصل على مادته كلها جاهزة وفق قانون تداعي المعاني " 3 .
ـــــــــــــــ
1 ـ حركة النقد الحديث والمعاصر ص 56 للدكتور : إبراهيم الحاوي .
2 ـ قضايا النقد الأدبي ص 69 د . محمد زكي العشماوي .
3 ـ قضايا النقد الأدبي ص 70 د . محمد زكي العشماوي .
ويقسم كولوردج الخيال إلى نوعين : أولي ، وثانوي
الخيال الأولي هو القوة الحيوية الأولية التي تجعل الإدراك الإنساني ممكنا ، وهو إدراك يقتصر فيه الشاعر على الصفات التي تهمه فقط من الشيء المدرك .
غير أن الصورة في الخيال الثانوي أو الشعري تستحوذ على اهتمامنا ـ كما يذكر محمد البرازي ـ أكثر من مجرد الإدراك ، لأنها لا تتعلم ، والصورة في الخيال الشعري تستلزم أن يكون موضوعها غائبا على عكس الإدراك الذي يفترض وجود موضوعه حاضرا . 1
ويدرك المتتبع لتعريف كولوردج لمفهوم الخيال وتقسبمه إلى أولي وثانوي ومدى الفرق بينهما أن الصورة في الخيال الثانوي تفترض عدم وجود الشيء ، وإذا كان الفن يتخذ موضوعه أو مادته من الطبيعة ، " فإنه يعطينا هذه الطبيعة بعد أن يفترض أنها غير موجودة ، أو موجودة خارج نطاق إدراكه الحسي ، وهذه إحدى الفروق الأساسية بين الخيال الأولي والخيال الثانوي ". 2
وقد فرق كولوردج بين الخيال والوهم ، فينما يجمع التوهم بين جزيئات باردة جامدة منفصلة الواحدة منها عن الأخرى جمعا تعسفيا ، ويصبح عمل التوهم عندئذ ضربا من النشاط الذي يعتمد على العقل مجردا عن حالة الفنان العاطفية ، نجد الخيال يعمل على تحقيق علامة جوهرية بين الإنسان والطبيعة ، بأن يقوم بعملية اتحاد تام بين الشاعر والطبيعة أو بين الشاعر والحياة من حوله ، ولن يتم هذا الاتحاد إلا بتوافر العاطفة التي تهز الشاعر هزا .
وهكذا انطلقت مدرسة الديوان من خلال المنظور السابق لنظرية الخيال وعلاقته بالصورة الشعرية ، وبدأت بشن هجومها على المدرسة التقليدية التي أساسها البارودي وتربع على عرشها أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ، " فانتقد أصحاب هذه المدرسة منهج المدرسة التقليدية نقدا تفصيليا عنيفا حتى إذا تمت عملية الهدم هذه أخذوا في بسط أرائهم البناءة في الأدب والشعر " 3.
تعريف الصورة :
عرف النقاد الغربيون الصورة الشعرية بتعريفات كثيرة أهمها أن الصورة تعني ترادف أشكال البيان من تشبيه واستعارة وكناية ورمز ، وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالجانب الحسي ، إلا أن كولوردج جمع مفهوم الصورة فقال : " قد تكون منظرا أو نسخة من المحسوس ، وقد تكون فكرة أو أي حدث ذهني يشمل شيئا ما ، وقد يكون شكلا من أشكال البيان ، أو وحدة ثنائية تتضمن موازنة " 4 .
ــــــــــــ
1 ـ في النقد الأدبي الحديث ص 74 .
2 ـ قضايا النقد الأدبي ص 74 د . محمد زكي العشماوي .
3 ـ دراسات في النقد الأدبي المعاصر ص 105 محمد زكي العشماوي .
4 ـ في النقد الحديث ص 69 د . نصرت عبد الرحمن .
أهمية الصورة الشعرية :
يشير الشاعر الإنجليزي س . داى . لويس إلى أن بمقدور دراسة الصورة الشعرية أن تلقي من الضوء على الشعر ما لا تلقيه دراسة أي جانب أخر من عناصره ، وأن هدفه الرئيس ، وأعظم خاصية لفنه هو الصورة الجديدة المؤثرة .
ويؤكد على أهمية الصورة وخطرها فيقول : " إن الغرابة والجرأة والخصب في الصورة هي نقطة القوة والشيطان المسيطر في الشعر المعاصر ، ومثل كل الشياطين فإنها عرضة للإفلات من سيطرتنا ... ولها قوة غامضة وتأثير خفي " . 1
وقد اهتم الشعراء والنقاد على حد سواء بالصورة الشعرية ، وكانت دائما موضع الاعتبار في الحكم على الشاعر " حتى ولم ينص عليها في الدراسات النقدية العربية ، وأن المفاضلة بين الشعراء لا تقوم إلا على أساس منها " . 2
ورغم أهمية الصورة الشعرية فإن أي قصيدة ليست مجرد صور ، إنها على أحسن الفروض صور في سياق ، صور ذات علاقة ، ليس ببعضها وحسب ، وإنما علاقة بسائر مكونات القصيدة ، " وهذا يعني أن دراسة الصورة بمعزل عن دراسة البناء الشعري تعتبر تعبيرا عن رؤية جزئية ، فمهما كانت عميقة أو محيطة فإنها ستظل ناقصة من جهة ما ، فالصورة وإن تكن لها شخصيتها وكيانها الخاص الذي يحدده المصطلح البلاغي ، فإنها تبقى صورة من تكوين شامل " . 3
مدرسة الديوان والرومانسية الغربية :
وقد تأثر أدباء مدرسة الديوان بالرومانية الغربية لإجادتهم اللغة الإنجليزية التي أفادتهم كثيرا في دراسة الشعر الإنجليزي وخاصة شعر كل من بايرون وشيلي وستيورات مل ، ووردز وترت وغيرهم ، وقد اعترف العقاد وزميلاه لما للثقافة الغربية من أثر في استجابتهم للاتجاهات الشعرية والنقدية الغربية ، وأثر هذه الاتجاه عليهم الأمر الذي فتح أمامهم المعنى الجديد للشعر ، غير أن العقاد " بنفي أن يكون تأثرهم بهؤلاء نابعا من التقليد الأعمى لهم وإنما كان فقط لتشابه في المزاج واتجاه العصر كله ، ولم يكن تشابه التقليد والفناء " 4 .
ــــــــــــ
1 ـ الصورة والبناء الشعري ص 11 ـ 12 د. محمد حسن عبد الله .
2 ـ الصورة والبناء الشعري ص 17 د . محمد حسن عبد الله .
3 ـ الصورة والبناء الشعري ص 19 ، د . محمد حسن عبد الله
4 ـ شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص 192 .
مظاهر تأثر مدرسة الديوان بالرومانسية الإنجليزية :
إن المتتبع لمدرسة الديوان ومن خلال دراسة نقادها لشعر أتباع المدرسة التقليدية يلحظ التالي :
1 ـ مهاجمتهم الشعراء عصرهم كشوقي وحافظ وغيرهما باعتبار أن أشعارهم ضربا من التقليد والتقيد بأغلال الماضي في الفكر والأسلوب والموضوعات .
2 ـ المظهر الأخر من تأثرهم بالرومانسية الإنجليزية يتمثل في تحديد جوهر الشعر ، والذي هو انعكاس لما في النفس من مشاعر وأحاسيس ، وأنه يصدر عن الطبع الذي لا تكلف فيه .
3 ـ تأثرهم بالرومانسية الإنجليزية من حيث تحديد وظيفة الشعر وأهدافه ، إذ إن للشعر غايات وأهداف كثيرة سواء عند الرومانسية أو غيرهم من المدارس الأخرى ، فالرابط بين المدرسة الرومانسية والمدرسة الكلاسيكية يكمن في هذا الإطار ، " فالرومانسيون يرون أن من أهداف الشعر الكشف عن مظاهر الجمال في الوجود الإنساني ، بل من أهدافه الكشف عن الحقيقة في أعمق صورها وأتمها " 1 .
4 ـ وإلى الجانب الكشف عن مظاهر الجمال ينبغي مراعاة المتعة للقارئ التي يلمسها من معاني الشعر وصوره .
بدايات حركة النقد عند مدرسة الديوان :
ترجع أوليات حركة النقد عند مدرسة الديوان وعلى رأسها عبد الرحمن شكري وزميلة العقاد والمازني ، بعد أن أصدر شكري ديوانه الأول عام 1901 م ، وقد تبلورت رؤيتهم النقدية في الربع الأول من القرن العشرين ، وقامت هذه الرؤية النقدية ولا سيما عند شكري على اعتبار أن وظيفة الشعر الأساسية هي التعبير عن وجدان الشاعر ، لأن الشعر في جوهرة عاطفة ، وقد هاجم شعراء مدرسة الديوان الذين تبنوا مذهب التجديد في الشعر شعر المناسبات الذي كان سائداً حينئذ في المدرسة الكلاسيكية أو التقليدية يقول " وبعض القراء يهذي بذكر الشعر الاجتماعي ، ويعني شعر الحوادث اليومية مثل افتتاح خزان أو بناء مدرسة ... فإذا ترفع الشاعر عن هذه الحوادث اليومية قالوا ، ماله ؟ هل نضب ذهنه ؟ أوجفت عاطفته ؟ " 2 .
وقد يبني أحد رواد هذه المدرسة وهو عبد الرحمن شكري مذهب الاستبطان الذاتي ، وهو مذهب يجمع بين التأمل الفكري والإحساس العاطفي الحار ، وكان لزميليه أن بأخذ كل منها بأحد المذهبين الذين يناسبانه .
وقد تميز المذهب النقدي الجديد الذي دعا إلية شكري وزميليه العقاد والمازني بالاتي :
1 ـ أن الشاعر العبقري هو الذي يفكر كل فكر وأن يحس كل إحساس .
2 ـ الخيال هو كل ما يتخيله الشاعر من وصف جوانب الحياة وشرح عواطف النفس وحالاتها .
ـــــــــــــ
1 ـ في نقد الشعر محمود الربيعي ص 117 .
2 – النقد والنقاد المعاصرون ص 54 د . محمد مندور .
3 ـ التشبيه لا يراد لذاته ، و إنما يراد لشرح عاطفة ، أو توضيح حالة أو بيان حقيقية .
4 – أجلّ العواطف الشعرية ما قيل في تحليل عواطف النفس ، ووصف حركتها ، كما يشرّح الطبيب الجسم .
5 ـ الشعر هو ما أشعرك وجعلك تحس عواطف النفس إحساسا شديدا ، لا ما كان لغزا منطقيا أو خيالا مجنحا ، فالمعاني الشعرية هي خواطر المرء وآراؤه وتجاربه وأحوال نفسه وعبارات عواطفه .
6 ـ مراعاة وحدة القصيدة سواء أكانت وحدة فنية أو وحدة عضوية ، فينبغي على الشاعر أن يميز بين جوانب موضوع القصيدة وما يستلزمه كل جانب من الخيال والتفكير .
الخيال والوهم عند عبدا لرحمن شكري :
لقد حرص شكري على أن يميز بين الخيال والوهم وهو تميز يعترف به العقاد بأن شكري كان رائدة ، بل يضعه في ذلك في مستوى كبار الأدباء والمفكرين العالميين ، فالخيال والوهم عند شكري يفترقان كثيرا ولا يتلبسان كما هو الحال في أراء بعض النقاد ومختلطان في إبداعات فحول الشعراء .
فالخيال عند الأدباء والشعراء المرموقين كان دائما وسيلة لإدراك الحقائق التي يعجز عن إدراكها الحسن المباشر أو المنطق ، بينما الوهم هروب من الواقع ومن الحقائق . يقول شكري " إن التخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء والحقائق ، ويشترط في هذا النوع أن يعبر عن الحق ، والتوهم هو أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود ، وهذا النوع الثاني يغرى به الشعراء الصغار ، ولم يسلم منه الشعراء الكبار " . 1
وقد تبني العقاد في مذهبة النقدي ما عرف عنه بالأصالة الفردية ، وهي المبدأ العام الذي تجده خلف دعوة التجديد في الشعر التي قادها في النصف الأول من القرن العشرين هو وصاحبيه شكري والمازني ، وهي الدعوة التي طالبت بأن يكون الشعر تعبيرا عن الوجدان ، الفردي للشاعر ، وقد تطور هذا الوجدان الفردي فيما بعد إلى وجدان اجتماعي مع المحافظة على الطابع الوجداني .
ومن الأسس التي قام عليها مذهب العقاد النقدي الحرية التي يقصد بها معنى الجمال في الحياة والفن ، حيث على أساسها تنبني وحدة الفكرة في الحياة والفن يقول العقاد :
" وقد أحببت أن أبنين هنا ما أردته بوحدة الفكر والحياة في الفن فأقول أولا ، إن الحرية في رأيي هي العنصر الذي لا يخلو منه جمال في عالم الحياة أو في عالم الفنون " 2 .
ولكن العقاد تنبه إلى تقيد الحرية إن صح التعبير وفرق بينها وبين الغموض فيقول : " وخلاصة الرأي أننا نحب الحرية حين نحب الجمال ، وأننا أحرار حين نعشق من قلوب سليمة صافية ، فلا سلطان علينا لغير
ـــــــــــــ
1 ـ النقد والنقاد المعاصرين ص 61 ، محمد مندور . 1
2 ـ النقد والنقاد المعاصرين ص 86 ، محمد مندور ص .
الحرية التي نهيم بها ولا قيود في أيدينا غير قيودها ولا عجب فحتى الحرية لها قيود " 1 .
وقد طالب العقاد من خلال منهجه النقدي ولا سيما الموجة إلى أحمد شوقي بمجموعة من الأسس والقواعد النقدية ، منها الفردية والمنهج النفسي الذي تبناه في مذهبه النقدي وخاصة الوحدة العضوية للقصيدة ، وما يتعلق بمقاييس المعاني مما تحدث فيه النقاد العرب القدماء كالإحالة التي تعني المبالغة في المعاني مبالغة مسرفة . يقول العقاد عنها : " أما الإحالة فهي فساد في المعنى وهي ضروب : فمنها الاعتساف والشطط ، وفيها المبالغة ومخالفة الحقائق ، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول ، أو قلة جدواه وخلو مغزاه " 2 .
ومن تلك المقاييس أيضا مما اتخذه العقاد أساسا لمنهجه النقدي ما يعرف بالتقليد وهو من المقاييس النقدية القديمة التي عرفها النقاد العرب وأسرفوا في نقدها حتى جعلوها نوعا من السرقات الأدبية ، وآخر تلك المقاييس التي اتبعها العقاد في نقده لشعر شوقي ومدرسة التقليد هو نظرتهم إلى التشبه ووظيفته الشعرية ، وهي تلك النظرة التي نقلت التشبيه من مجال الحواس الخارجية إلى داخل النفس البشرية فيقول مندور : " إذ رأيناهم يعني ـ العقاد وزميليه ـ يطالبون بأن يكون الهدف من التشبيه هو نقل الأثر النفسي للمشبه من وجدان الشاعر إلى وجدان القارئ ، وبذلك فتحوا الباب أمام التعبير الرمزي " 3 .
الصورة الشعرية ووحدة القصيدة :
لم تكن الصورة الشعرية بدعا في عالم الشعر والمذاهب النقدية المعاصرة ، سواء عند مدرسة الديوان أو المدارس الأخرى المجددة ، كالمدرسة الرومانسية والواقعية والرمزية ، فهي موجودة منذ عرف الشعر ، بل إن الشعر قائم عليها ، ولكن استخدامها يختلف من شاعر لأخر كما أنها في الشعر القديم تختلف عنه في الشعر الحديث ، وهي أكبر عون على تقدير الوحدة الشعرية أو على كشف المعاني القيمة التي ترمز إليها القصيدة . ومع رجوع الصورة في الشعر القديم كما هي موجودة في الشعر الحديث " إلا أنها في الشعر الحديث أكثر تتابعا ، ولكن الشاعر ينفر من استخدامها في البرهان والإثبات ، ويعمل دائما على أن تكون صوره جديدة وناقلة للتأثير ومترابطة في مجموعها بحيث يكوّن منها صورا كبرى . على أن صعوبة ما يحاوله الشاعر الحديث توقعه في الاضطراب فتجيء صورة محشودة أو مجتلبة فيخل بالترابط الذي يريده ، وتعجز قصيدته عن تحقيق ما يريد لها من غاية لأنها أغرقت في التوجه نحو تلك الغاية " 4 .
ـــــــــــــــ
1 ـ محمد مندور نفس المرجع ص 86 .
2 ـ محمد مندور مرجع سابق ص 109 .
3 ـ موجع سابق ص 112 .
4 ـ فن الشعر ص 232 د . أحسان عباس .
وقد عمد نقاد مدرسة الديوان إلى استخدام الصورة غير المتكلفة ، والمنسجمة مع بعضها البعض ، وأن تكون صورا جديدة مبتكرة ، ولا يعني جدة الصورة التقاؤها في ذهن الشاعر بما يلتقي به مما حوله من مظاهر الحضارة الجديدة ، وإنما تعني ما تعكسه الصورة من تعبير عن نفسية الشاعر وكأنها تشبه الصور التي تتراءى في الأحلام ، هذا من جانب ، ومن جانب أخر أن يكون غرض الصورة مجتمعة قد تعين على كشف معنى أعمق من المعنى الظاهري للقصيدة ، ذلك لأن الصورة وهي تحوي جميع الأشكال المجازية ، إنما تكون من عمل القوة الخالقة التي هي منبع روح الشعر .
ومن خلال الرؤية السابقة للصورة في الشعر الحديث نجد أنها تحمل فلسفة جمالية مختلفة عنه في الشعر القديم ، فأبرز ما فيها ( الحيوية ) ، ذلك لأنها تتكون تكونا عضويا ، وليست مجرد حشد مرصوص من العناصر الجامدة ، " ثم إن الصورة حديثا تتخذ أداة تعبيرية ولا يلتفت إليها في ذاتها ، فالقارئ لا يقف عند مجرد معناها ، بل إن هذا المعنى يثير فيه معنى آخر هو ما يسمى ( معنى المعنى ) ، أي أن الشاعر أصبح يعبر بالصورة الكاملة عن المعنى ، كما كان تعبر باللفظة ، وكما كانت اللفظة أداة تعبيرية فقد أصبحت الصورة ذاتها هي الأداة ، إلى جانب ما تقوم به الصورة من نقل المشاهد الحية ، وتلخيص الخبرة والتجربة
الإنسانية " 1 .
حملات النقد ضد أنصار المدرسة التقليدية :
لقد تمحورت حملات النقد التي شنها العقاد والمازني على أنصار التقليدية حول الأتي :
1 ـ البناء التقليدي للقصيدة العربية الذي كان يتحدث عن موضوعات الحياة في إطار الأغراض الشعرية القديمة : كالغزل والمدح والوصف والهجاء والعتاب .
2 ـ شعر المناسبات الذي لم يكن يصدر فيه الشاعر عن تجربة حية ، ولم يكن يستجيب لما يجيش في الصدر من خواطر ، بقدر ما كان ينشغل بالصنعة والزخرف والجلبة الخطابية .
3 ـ على أن أبرز ما اهتمت به جماعة مدرسة الديوان في نقدها للمدرسة التقليدية هو قضية الوحدة العضوية أو الفنية في القصيدة ، لأن من يدعو إلى الوحدة العضوية للقصيدة لابد أن يدعو بالضرورة إلى نبذ البناء التقليدي للقصيدة القديمة ، وإلى ضرورة توافر التجربة الشعورية التي يستجيب فيها الشاعر لموقف عاطفي واحد . 2
ــــــــــــــ
1 ـ الأدب وفنونه ص 144 د . يوسف عز الدين .
2 ـ بتصرف عن كتاب دراسة في النقد الأدبي المعاصر ص 106 د . محمد زكي العشماوي .
المراجع
1 – دراسات في النقد الأدبي المعاصر د . محمد زكي العشماوي دار النهضة العربية - بيروت ط 1 ، 1406 هـ - 1986 م
2 – قضايا النقد الأدبي د . محمد زكي العشماوي دار النهضة العربية - بيروت ط 1 ، 1404 هـ - 1984 م
3 – النقد والنقاد المعاصرين د . محمد مندور دار النهضة مصر ط 1 ،1981 م
4- الأدب وفنونه د . عز الدين إسماعيل دار الفكر العربي ط 1 ، 1978 م
5 – فن الشعر د . إحسان عباس
دار الثقافة - بيروت - بدون طبعة وتاريخ
6 – نظرية المعنى في النقد العربي د . مصطفى ناصف دار الأندلس ط 1 ، 1401 هـ - 1981 م
7- في النقد الحديث د . نصرت عبد الرحمن مكتبة الأقصى - عمان ط 1 ، 1979 م - 1399 هـ
8 – الصورة والبناء الشعري د . محمد حسن عبد الله دار المعارف – القاهرة بدون طبعة وتاريخ
9 – في النقد الأدبي الحديث . محمد الساكير البرازي مكتبة الرسالة الحديثة - الأردن ط 1 ، 1407 هـ - 1986 م
10 – حركة النقد الحديث والمعاصر د . إبراهيم الحاوي مؤسسة الرسالة - بيروت ط 1 ، 1404 هـ - 1984 م
الدكتور : مسعد محمد زياد
المشرف والمطور التربوي
بمدارس دار المعرفة الأهلية بجدة
والأستاذ المشارك بجامعة سبأ فرع السعودية
والمشرف على مشاكل التعليم بالمنتدى العربي الموحد
والمستشار التربوي لمنتديات الحصن النفسي والثقافي
والمستشار العام لمنتديات ملتقى الواحة الثقافية
عضو تجمع الأدباء والكتاب الفلسطينيين