رجائى عطية - العقاد ومدرسة الديوان (2)

تنفك تلك الدهشة، وإن بقى المبرر ضعيفًا غير مقبول، حين نعلم أن خصومة شديدة كانت قد شجرت بين المازنى وشكرى على أثر ما نشره شكرى فى مجلة «المقتطف» عــن «انتحال المعانى الشعرية»، حيث تضمن المقال اتهام المازنى بسرقة عدة معانٍ بل قصـائـد من الشـعر الإنجليـزى المنشـور فـى المجموعـة الرائعـة المعروفـة باسـم «الذخيرة الذهبية» (Golden treasury) الأمر الذى أثار المازنى ثورة عنيفـة جعلته يصل فى الخصومة إلى حد اتهام شكرى بالجنون، وكان هذا سبب ولا أقول مبرر وصفه بـ «صنم الألاعيب» فى المقالات التى نشرها عنه فى الجزء الأول من كتاب الديوان.

أجل بذلك يزول العجب وتنفك الدهشة!

ولكن ذلك لا يزيل سحابة شجرت بين كبيرين، بلغ من حد الخصومة فيها أن يخرج المازنى فى مقالاته العنيفة ضد شكرى، عن أبسط مبادئ الموضوعية والإنصاف!

تقول الصفحات المطوية، أن المازنى شعر بندم شديد على ما كاله لصديقه وصاحب الأفضال فى قسوة بالغة.

بيد أن المازنى لم يقف عند حد الندم والأسف، وإنما امتشق قلمه لا ليقر فقط بخطئه، وإنما ليعطى عبد الرحمن شكرى حقه الواجب ودينه الذى فى رقبته.

كتب المازنى يقول فى مقال نشره بجريدة السياسة فى الخامس من أبريل سنة 1930: «وقل من يذكر الآن شكرى حين يذكر الأدب ويعد الأدباء، ولكنه على هذا رجل لا تخالجنى ذرة من الشك، فى أن الزمن لابد منصفه، وإن كان عصر قد أخمله. ولقد تغير زمن كان فيه شكرى هو محور النزاع بين القديم والجديد. ذلك أنه كان فى طليعة المجددين إذا لم يكن هو الطليعة والسابق إلى هذا الفضل ؛ فقد ظهر الجزء الأول من ديوانه سنة 1907 إذا كانت الذاكرة لم تخنى (والصحيح أنه نشر عام 1909)، وكنا يومئذ طالبين فى مدرسة المعلمين العليا، ولكنى لم أكن يومئذ إلاَّ مبتدئًا، على حين كان هو قد انتهى إلى مذهب معين فى الأدب، ورأىٍ حاسمٍ فيما ينبغى أن يكون عليه. ومن اللؤم الذى أتجافى بنفسى عنه أن أنكر أنه أول من أخذ بيدى وسدَّد خطاى، ودلنى على المحجة الواضحة، وأننى لولا عونه المستمر لكان الأرجح أن أظل أتخبط أعوامًا أخرى ولكان من المحتمل جدًّا أن أضل طريق الهدى».

ولم يكتف المازنى بإبداء ذلك الندم والإقرار لشكرى بالريادة والفضل عليه، فعاد يكتب بجريدة السياسة ذاتها بعدد 12 أبريل سنة 1930، إقرارًا ثانياً بالغ الوضوح. قال فيه: «وقد احتمل شكرى وحده فى أول الأمر وعكة المعركة بين القديم والجديد، (يقصد معركة الديوان ذاتها)، ثم استأنف يقول: «وشكرى رجل حساس رقيق الشعور سريع التأثر، وهو بطبعه أمْيل إلى اليأس، فشق عليه أن يظل يدأب وليس من يعنى به، وأن يقضى خير عمره ويرفع صوته بأعمق ما تضطرب به النفس الملهمة الحساسة، وليس من يستمع إليه أو يعيره لفتة!».

كان شكرى عظيمًا حينما لم تعقه صداقته والمازنى، من أن يبدى رأيًا اعتقده فى بعض قصائد المازنى!

وكان المازنى عظيمًا فى رجوعه إلى الحق، وإبداء أسفه علانية، والإقرار الواضح الجلى بريادة شكرى وأفضاله الشخصية عليه، وأنه فى مقدمة وعلى رأس مدرسة أو معركة الديوان، التى تصدت للقديم وأبانت مثالبه، وقدمت الجديد، الذى لا خلاف على أنه بغض النظر عن عنف التناول كان ذا أثرٍ على الحركة الأدبية وعلى الشعر، بل وتظهر آثاره فى شعر أحمد شوقى أمير الشعراء نفسه.

ومن المؤكد فيما يقول أستاذنا الدكتور محمد مندور شيخ النقاد أن عبد الرحمن شكرى قد أعطانا جوهر المذهب الشعرى الجديد، والذى دعا إليه فى بيت الشعر الذى وضعه على غلاف أول ديوان أصدره. يقول:

ألا يـا طائــر الفـردو س إن الشــعر وجـــدان

لفت شكرى الأنظار إلى أن وظيفة الشعر الأساسية هى وكما يجب أن تكون التعبير عن الوجدان الذاتى للشاعر، وأنه من السخف أن يظل الأدباء والشعراء مؤمنين بتقسيم الشعر إلى أبواب أو فنون، كالوصف والحكمة والغزل والمدح والهجاء والرثاء وما إليها. فالشعر فى جوهره عاطفة.. يقول شكرى فى مقدمة الجزء الرابع من ديوانـه: «ليس شعر العاطفة بابًا جديدًا من أبواب الشعر كما يظن البعض، ذلك أنه يشمل أى شعر العاطفة كل أبواب الشعر، ذلك أن النفس إذا فاضت بالشعر أخرجت ما تكنه من الصفات والعواطف المختلفة فى القصيدة الواحدة، ومنزلة أقسام الشعر من النفس كمنزلة المعانى من العقل، فليس لكل معنى منها حجرة من العقل منفردة، بل إنها تتزاوج وتتوالد منه. فلا رأى لمن يريد أن يجعل كل عاطفة من عواطف النفس فى قفصٍ وحدها…. وهناك فئة تريد مـن الشاعر أن يكون أكثر شعره تكلفًا للحكمة، فيأتى بأمثالٍ من بطون الكتب وأفواه العامة نصفها حق ونصفها باطل، ثم يصوغها شعرًا من غير أن يكون قد أحس لذعها فى ذهنه ولا شعر بقيمتها».

بذلك وصل شكرى فيما يقول الدكتور مندور إلى الحقيقة الكبرى.. يعنى العاطفة التى يتكون منها جوهر الشعر، والتى بدونها لا يُسمى شعرًا.

والواقع أن عبد الرحمن شكرى قد صدر فى دواوينه السبعة، وفى خواطره النثرية المتعددة التى جمعها فى كتبه الثلاثة «الاعترافات» و«الصحائف» و«التمرات» وفى مقالاته المتناثرة صدر عن مذهب جمالى موحد هو مذهب التأمل أو مذهب «الاستبطان الذاتى»، ثم يبقى أنه جمع فى مقدمته للجزء الخامس من ديوانه، تحت عنوان «فى الشعر ومذاهبه» جمع جوهر المذهب الشعرى النقدى الجديد الذى دعا إليه ورافقه فيه صديقاه العقاد والمازنى.

● ● ●

ولم يكن ما تقدم هو كل الغبار الواجب إزالته قبل تناول هذا الموضوع المهم، فالدكتور محمد مندور الملقب بشيخ النقاد، كان من أهم من تعرضوا لتناول مدرسة الديوان ودور الأستاذ العقاد فيها، فى النقد بصفة عامة، وبالذات فى كتابه الضافى. «النقد والنقاد المعاصرون»، وليس من حسن الفطن تجاهل ما يكتبه الدكتور مندور فى النقد والنقاد، فهو نسيج وحده فى هذا الميدان، بيد أن المعروف أن هناك خلافات كثيرة كانت قد شجرت بينه وبين الأستاذ العقاد قبل كتابته الفصل الخاص به وبمدرسة الديوان فى أواخر خمسينيات القرن الماضى. فهل تأثر الدكتور مندور أو تأثرت موضوعيته بهذه الخلافات؟

زاد حرصى على الاستيثاق، حين لفت نظرى أثناء تصفح كتاب الدكتور مندور، أنه كان فى الأصل مقالات متفرقة، ولا بأس فى ذلك، ولكن اللافت للنظر أنه رتب الفصول بادئًا بعد الشيخ حسين المرصفى، بميخائيل نعيمة وكتابه «الغربال» ثم عبد الرحمن شكرى، قبل أن يتناول دور الأستاذ العقاد، مع أن كتاب الديوان أسبق صدورًا بعامين من صدور كتاب «الغربال»، وهذا فى ذاته يستوجب البدء بالديوان وكاتبيه قبل الغربال وكاتبه، وفضلاً عن أن هذا الترتيب المعكوس غير مبرر، فإنه أدى بالمؤلف إلى أن يحيل فيما يتناوله من نظرات صائبة للأستاذ العقاد فى تجديد الشعر فى كتاب الديوان، على ما ذكره سلفًا عن كتاب الغربال ومؤلفه، وهذه الإحالة إلى ما صدر لاحقًا بعد كتاب الديوان تخالف المنطق وطبائع الأمور، لا سيما والأستاذ العقاد هو الذى كتب للأستاذ ميخائيل نعيمة مقدمة كتاب الغربال، مما لا تستقيم معه هذه الخطة فى عرض الكتاب، الأمر الذى اقتضى مزيدًا من التمحيص والإمعان فى الكتاب قبل الاعتماد عليه فيما نحن بصدده عن دور الأستاذ العقاد فى مدرسة الديوان، وفى تجديد الشعر بوجه عام.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...