تنطوي محاولة تحديد نسق مفاهيمي حول الجماعات الادبية والفنية في العراق على معاناة وان كانت في الوقت نفسه لا تخلو من متعة. ان تأسيس مثل هذه الجماعات منذ منتصف القرن العشرين لدى الفنانين التشكيليين اولا، ثم ما تبعها من تشكيلات ادبية في الادب لاحقا من خلال انموذجها الطليعي المعروف لدى "جماعة كركوك" تحفزنا حقا في اعادة النظر حول هذه الجماعات ضمن قراءة نقدية شبه استرجاعية لتجليات الثقافة الحديثة في العراق وما يتبعها من بلورة وتجديد في الفكر الوطني المعاصر.
تأتي المعاناة من ان الجماعات المذكورة حتى وان صاغت بياناتها التأسيسية الاولى كانت تتحرك ببراءة فطرية حول التحديث الملزم لمشهدنا الثقافي العام، من دون شيء من التفاصيل حول رسم حدودها ومضامينها وآلياتها بما يوضح طبيعة الاشكالية التي تستوجبها والسياق الذي تكتسب فيه المعنى المراد ان تؤديه. اما المتعة، فتأتي من الحيوية والميل الابداعي لهذه الجماعات فهي لا تكف عن طرح التساؤلات على انفسها من دون اجابات يقينية تجعلها تنتقد الرأي الآخر بحدة لا تخلو من الاستفزاز.
وعلى الرغم من انني قد قرأت العديد من هذه البيانات في وقت سابق، واطلعت على مؤسسيها ورموزها ومضامينها خصوصا في ما يتعلق بجماعة "الرواد" في الفن التشكيلي بقيادة الفنان فائق حسن، وجماعة "بغداد للفن الحديث" بشواغل الفنان جواد سليم، او جماعة "الفنانين الانطباعيين" بانهماكات الفنان حافظ الدروبي، الا ان ما استوقفني حقا ذلك التجمع الشهير الذي عرف بـ "جماعة كركوك" الادبية في ستينيات القرن الماضي، في الشعر والقصة تحديداً، وفي ما تنطوي تجربتها على حكايات وانتاج في غمرة عملها الاشكالي المعقد داخل بغداد، كأي مركز عربي صارم في استقطاب او لفظ هذه الجماعة او تلك في ما يعرف بـ "الجوانية والبرانية" او "المركز" و"الهامش" او ضمن عرف مخاتل عن ارادة او اعمى عن غفلة في سنوات لم تستكمل فيها بعد تضاريس الحداثة والتحديث في ادبنا وفننا العراقي. إذ لي شخصيا رأي او شهادة حقيقية حول هذه الجماعة، كما عرفت بعض افرادها او قرأت لهم وعنهم منذ اكثر من اربعة عقود زمنية خلت.
في ستينيات القرن الماضي ربما عام 1966 تحديدا عرفت الشاعر والمترجم جان دمو في مدينتي الاولى الناصرية. وكان الفنان المسرحي الراحل عزيز عبد الصاحب اول من عرفني اليه وحببني به. كان دمو في ذلك الوقت جنديا غير منضبط في خدمته الالزامية بثكنة هذه المدينة ذات القلاع التي لا مثيل لها في محاكم التفتيش الاسبانية ولا في حياة كهنة معابد روما. كان منطويا على نفسه خجولا ويرتدي "اسماله" المدنية في المقاهي وحانة نادي الموظفين. والمثير انه في ظل تعتعته الخمرية يصبح انبساطيا ومتطفلا على الموائد، مدعيا بانه اشرف الخلائق طرا، واعظمها منجزا في ادب العراق. لا لسبب معروف او منجز معلن، الا بادعائه بانه من "جماعة كركوك" التي لا نعرف شيئا عنها في ذلك الوقت. وكان لا يفتأ او يردد بانه في صدد كتابة رواية عن "البدو" معللا هذا المشروع، بأن شيوخ الناصرية او سادة قبائلها، هم من البدو القادمين من صحراء نجد والحجاز، إذ لا علاقة البتة بين سكان المدينة الشرفاء الظرفاء المتمدنين وبين حاخاماتها او رجال اكليروسها المكللين بالعقال ولبس النعال او بلبس عباءة طويلة الاذيال، ولا رياش فريدة تعبر عن وجاهتهم، وهم يسكنون بما يدعى بـ "سوق الشيوخ" القريب من صحراء الربع الخالي.
طريف ولوذعي جان دمو، وفظ وعذب في الوقت نفسه حينما تعرفت عليه مجدداً في بغداد اثناء انتقالي اليها في مطلع 1972. لقد تأكد لي وبما لا يقبل الشك، انه عنصر فاعل ومؤثر في جماعة كركوك الشهيرة، بعد ان تعرفت علي محيي الدين زنكنة من خلال فرقة مسرح اليوم الاهلية، ثم لقائي الوحيد بجليل القيسي وزوجته الراحلة الارمنية الشفيفة في حدائق اتحاد الادباء، وكان كلا الاثنين يؤكدان لي ان دمو ظل مخلصا لجماعتهم القديمة في كركوك، بالانتماء لا الابداع، وبالاتباع لا بالتفرد، وان جماعة كركوك قد لا تشكل اليوم محوراً مهما من الابداع الثقافي الراهن – وقتذاك- في العراق.
لم اتعرف على الاديب فاضل العزاوي الا في عام 1975 ولمرة واحدة فقط في اروقة مجلة "الف باء" حينما وقع لي إمضاءً سريعاً بصرف مكافأتي النقدية عن قصة قصيرة نشرتها في المجلة المذكورة قبل اسابيع معدودات. كان معي وقتذاك الاستاذ القاص الراحل موفق خضر المسؤول عن باب القصة في هذه المجلة. وللامانة بدا لي الاخير اكثر كياسة وحصافة - وهو الاديب البعثي الشريف كما تنادى به اقراني وثلتي "الحمراء" في ذلك الوقت – من "العزاوي" الصاخب المحتدم الملتاع بحكم مسؤوليته المعروفة كسكرتير تحرير للمجلة.
ومع ذلك، فان انطباعاتي حول هذا الاديب، بعد مرور سنين طويلة من هذا التعارف ما زالت تؤكد بانه شاعر ستيني محتدم، وذا موسوعية وعقلية ومعرفية قلما تجدها لدى اقرانه من الجيل الستيني، ولكنه للأسف يقامر ويسوغ وحتى يخطئ في تقييم ابناء جماعته في كركوك، ضمن معركته المعروفة مع الشاعر سامي مهدي، الذي لا يقل ابداعا وحضورا في زمنه الزمردي السابق، وكأن جيل الستينيات لا يعرف الا باسميهما المتضادين المتنابزين، او كأن مشهدنا العراقي خال من اي ابداع آخر. وهذا ما احاول توصيفه باختصار شديد.
يذكر فاضل العزاوي في كتابه المثير "الروح الحية" انه مع الشاعر مؤيد الراوي قد تعارفا معا في العام 1955 مشكلين نواة اولى في تأسيس جماعة كركوك منذ دراستهما الاولية في المتوسطة الغربية في كركوك. ويعترف بأنه مع الراوي قد ساهما معا في تشكيل هذه الجماعة تباعاً، خصوصا بعد تعرفهما على يوسف الحيدري وانور الغساني وقحطان الهرمزي، وهم من طلبة دوام المدرسة المسائية وقتذاك. وكان الثلاثة قد اعتقلوا لبضعة ايام قبل ذلك لتسلمهم منشورات شيوعية من شخص وشى بهم.
ثم لا يفتأ العزاوي ان يذكرنا بتعارف الجميع في ذلك العام ايضا بجليل القيسي الذي كان قد قصد امريكا ليدرس التمثيل فاضطر للعمل كعامل مصعد في احد الفنادق لمدة تسعة شهور، ثم استبد به الحنين الى الوطن فعاد الى كركوك متخليا عن حلمه في ان يصبح نجما في هوليوود. ثم انضم اليهم زهدي الداودي القادم من طوزخورماتو ليدرس في دار المعلمين الابتدائية.
في تلك الايام - وكما جاء في "الروح الحية" للعزاوي – تم التعارف على رئيس الطائفة السريانية الاب الشاعر يوسف سعيد والشاعر التركماني عبد اللطيف بندر اوغلو، ثم اتسعت حلقة هذه الجماعة لتضم اثنين من الممثلين هما عصمت الهرمزي "شقيق قحطان العزاوي" وعلي حسين السعيدي، اضافة الى علي شكري البياتي الموسيقي الملقب بـ علي بتهوفن.
محطات كثيرة ومنعطفات طريفة يتوقف فيها الشاعر فاضل العزاوي في روحه الحية مع ابناء جلدته الكركوكيين، باستذكارات وشواهد وقصص متنوعة تصل احيانا الى الخفي والمستور بين افراد هذه الجماعة، او المعلن والمسكوت عنه في تاريخ المدينة، منها انضام العزاوي والراوي والقيسي والغساني الى الحزب الشيوعي العراقي ضمن تنظيم واحد كان يقوده ابن مدينة كركوك احسان الصالحي الذي اعدمه انقلابيو 8 شباط 1963 وعلقوا جثته امام بيته.
وفي غمرة هذه المحطات والمنعطفات التي اوردها العزاوي حول جماعته الكركوكلية المذكورة التي يخلع عليها صفة "اصدقاء السوء" في كتابه المذكور، نجد انه يبخل في اضفاء الاديب والمؤلف المسرحي محيي الدين زنكنه المولود في كركوك اولا والمهاجر الى بعقوبة لاحقا بحكم وظيفته التعليمية، ضمن تشكيل اسماء هذه الجماعة. ولكنه ينتبه في فقرات لاحقة بأن محيي وجليل القيسي هما مفخرة جماعته في كتابة النصوص المسرحية التي وصلت اصداؤها وعنفوانها الى الكثير من المسارح العربية والدولية.
ثم يصدمنا العزاوي حقا حول طروحاته السياسية والثقافية والفكرية بعد خروجه من سجن الحلة عام 1965، وتحوله المعلن الى مفاهيم اليسار الجديد، ضمن الشعارات المتمركسة وقتذاك للامريكي هربرت ماركوز والافريقي فرانز فانون كخيار اخير في تجربته النضالية السابقة. ويصدمنا بقوة اكثر حينما يتحدث عن ثلاثة شعراء من ابناء كركوك بزراية وعدم اهتمام حينما تعرف عليهم في العام 1958، كأنهم من الخوارج عن زمرته "اصدقاء السوء" وهم تحديدا سركون بولص وجان دمو وصلاح فائق.
وتتكرر ذات الاشكالية والفكاهة حول جماعة كركوك حينما يتصدى الشاعر سامي مهدي برأي المعايش والمتعرف عليهم في كتابه "الموجة الصاخبة" في طبعته الاولى عام 1993 معتبرا ان صلات هذه الجماعة ببعضهم البعض كانت صلات قوية، ولكنهم سرعان ما تفرقوا وطغى الجفاف على العلاقة بينهم، واصبحت علاقاتهم بغيرهم اقوى من علاقات بعضهم ببعض. وانهم لم يكونوا على وئام ولا كانت بينهم وحدة في المواقف، وكان كل منهم يمارس دوره الادبي بمعزل عن الآخرين، ولذا لا يصح في رأيه اعتبارهم "جماعة ادبية" بأي درجة من الدرجات.
ترى من نصدق؟
وجهتا نظر متباعدتان مختلفتان، من شاعرين ستينيين معروفين بالاشكالية والمشاكسة معاً، وهما يرسمان الجماعة المذكورة على وفق نرجسيتهما الشعرية الواضحة وباستاذية معلنة، وجعل هذه الجماعة كبش فداء لتطلعاتهما الصاخبة الحية لزمن او اشخاص قالوا كلمتهم في خضم مشهد ثقافي عام ما زال ينبض بالمستحدث والجديد، لا بأحكام وقصص الأولين.
تأتي المعاناة من ان الجماعات المذكورة حتى وان صاغت بياناتها التأسيسية الاولى كانت تتحرك ببراءة فطرية حول التحديث الملزم لمشهدنا الثقافي العام، من دون شيء من التفاصيل حول رسم حدودها ومضامينها وآلياتها بما يوضح طبيعة الاشكالية التي تستوجبها والسياق الذي تكتسب فيه المعنى المراد ان تؤديه. اما المتعة، فتأتي من الحيوية والميل الابداعي لهذه الجماعات فهي لا تكف عن طرح التساؤلات على انفسها من دون اجابات يقينية تجعلها تنتقد الرأي الآخر بحدة لا تخلو من الاستفزاز.
وعلى الرغم من انني قد قرأت العديد من هذه البيانات في وقت سابق، واطلعت على مؤسسيها ورموزها ومضامينها خصوصا في ما يتعلق بجماعة "الرواد" في الفن التشكيلي بقيادة الفنان فائق حسن، وجماعة "بغداد للفن الحديث" بشواغل الفنان جواد سليم، او جماعة "الفنانين الانطباعيين" بانهماكات الفنان حافظ الدروبي، الا ان ما استوقفني حقا ذلك التجمع الشهير الذي عرف بـ "جماعة كركوك" الادبية في ستينيات القرن الماضي، في الشعر والقصة تحديداً، وفي ما تنطوي تجربتها على حكايات وانتاج في غمرة عملها الاشكالي المعقد داخل بغداد، كأي مركز عربي صارم في استقطاب او لفظ هذه الجماعة او تلك في ما يعرف بـ "الجوانية والبرانية" او "المركز" و"الهامش" او ضمن عرف مخاتل عن ارادة او اعمى عن غفلة في سنوات لم تستكمل فيها بعد تضاريس الحداثة والتحديث في ادبنا وفننا العراقي. إذ لي شخصيا رأي او شهادة حقيقية حول هذه الجماعة، كما عرفت بعض افرادها او قرأت لهم وعنهم منذ اكثر من اربعة عقود زمنية خلت.
في ستينيات القرن الماضي ربما عام 1966 تحديدا عرفت الشاعر والمترجم جان دمو في مدينتي الاولى الناصرية. وكان الفنان المسرحي الراحل عزيز عبد الصاحب اول من عرفني اليه وحببني به. كان دمو في ذلك الوقت جنديا غير منضبط في خدمته الالزامية بثكنة هذه المدينة ذات القلاع التي لا مثيل لها في محاكم التفتيش الاسبانية ولا في حياة كهنة معابد روما. كان منطويا على نفسه خجولا ويرتدي "اسماله" المدنية في المقاهي وحانة نادي الموظفين. والمثير انه في ظل تعتعته الخمرية يصبح انبساطيا ومتطفلا على الموائد، مدعيا بانه اشرف الخلائق طرا، واعظمها منجزا في ادب العراق. لا لسبب معروف او منجز معلن، الا بادعائه بانه من "جماعة كركوك" التي لا نعرف شيئا عنها في ذلك الوقت. وكان لا يفتأ او يردد بانه في صدد كتابة رواية عن "البدو" معللا هذا المشروع، بأن شيوخ الناصرية او سادة قبائلها، هم من البدو القادمين من صحراء نجد والحجاز، إذ لا علاقة البتة بين سكان المدينة الشرفاء الظرفاء المتمدنين وبين حاخاماتها او رجال اكليروسها المكللين بالعقال ولبس النعال او بلبس عباءة طويلة الاذيال، ولا رياش فريدة تعبر عن وجاهتهم، وهم يسكنون بما يدعى بـ "سوق الشيوخ" القريب من صحراء الربع الخالي.
طريف ولوذعي جان دمو، وفظ وعذب في الوقت نفسه حينما تعرفت عليه مجدداً في بغداد اثناء انتقالي اليها في مطلع 1972. لقد تأكد لي وبما لا يقبل الشك، انه عنصر فاعل ومؤثر في جماعة كركوك الشهيرة، بعد ان تعرفت علي محيي الدين زنكنة من خلال فرقة مسرح اليوم الاهلية، ثم لقائي الوحيد بجليل القيسي وزوجته الراحلة الارمنية الشفيفة في حدائق اتحاد الادباء، وكان كلا الاثنين يؤكدان لي ان دمو ظل مخلصا لجماعتهم القديمة في كركوك، بالانتماء لا الابداع، وبالاتباع لا بالتفرد، وان جماعة كركوك قد لا تشكل اليوم محوراً مهما من الابداع الثقافي الراهن – وقتذاك- في العراق.
لم اتعرف على الاديب فاضل العزاوي الا في عام 1975 ولمرة واحدة فقط في اروقة مجلة "الف باء" حينما وقع لي إمضاءً سريعاً بصرف مكافأتي النقدية عن قصة قصيرة نشرتها في المجلة المذكورة قبل اسابيع معدودات. كان معي وقتذاك الاستاذ القاص الراحل موفق خضر المسؤول عن باب القصة في هذه المجلة. وللامانة بدا لي الاخير اكثر كياسة وحصافة - وهو الاديب البعثي الشريف كما تنادى به اقراني وثلتي "الحمراء" في ذلك الوقت – من "العزاوي" الصاخب المحتدم الملتاع بحكم مسؤوليته المعروفة كسكرتير تحرير للمجلة.
ومع ذلك، فان انطباعاتي حول هذا الاديب، بعد مرور سنين طويلة من هذا التعارف ما زالت تؤكد بانه شاعر ستيني محتدم، وذا موسوعية وعقلية ومعرفية قلما تجدها لدى اقرانه من الجيل الستيني، ولكنه للأسف يقامر ويسوغ وحتى يخطئ في تقييم ابناء جماعته في كركوك، ضمن معركته المعروفة مع الشاعر سامي مهدي، الذي لا يقل ابداعا وحضورا في زمنه الزمردي السابق، وكأن جيل الستينيات لا يعرف الا باسميهما المتضادين المتنابزين، او كأن مشهدنا العراقي خال من اي ابداع آخر. وهذا ما احاول توصيفه باختصار شديد.
يذكر فاضل العزاوي في كتابه المثير "الروح الحية" انه مع الشاعر مؤيد الراوي قد تعارفا معا في العام 1955 مشكلين نواة اولى في تأسيس جماعة كركوك منذ دراستهما الاولية في المتوسطة الغربية في كركوك. ويعترف بأنه مع الراوي قد ساهما معا في تشكيل هذه الجماعة تباعاً، خصوصا بعد تعرفهما على يوسف الحيدري وانور الغساني وقحطان الهرمزي، وهم من طلبة دوام المدرسة المسائية وقتذاك. وكان الثلاثة قد اعتقلوا لبضعة ايام قبل ذلك لتسلمهم منشورات شيوعية من شخص وشى بهم.
ثم لا يفتأ العزاوي ان يذكرنا بتعارف الجميع في ذلك العام ايضا بجليل القيسي الذي كان قد قصد امريكا ليدرس التمثيل فاضطر للعمل كعامل مصعد في احد الفنادق لمدة تسعة شهور، ثم استبد به الحنين الى الوطن فعاد الى كركوك متخليا عن حلمه في ان يصبح نجما في هوليوود. ثم انضم اليهم زهدي الداودي القادم من طوزخورماتو ليدرس في دار المعلمين الابتدائية.
في تلك الايام - وكما جاء في "الروح الحية" للعزاوي – تم التعارف على رئيس الطائفة السريانية الاب الشاعر يوسف سعيد والشاعر التركماني عبد اللطيف بندر اوغلو، ثم اتسعت حلقة هذه الجماعة لتضم اثنين من الممثلين هما عصمت الهرمزي "شقيق قحطان العزاوي" وعلي حسين السعيدي، اضافة الى علي شكري البياتي الموسيقي الملقب بـ علي بتهوفن.
محطات كثيرة ومنعطفات طريفة يتوقف فيها الشاعر فاضل العزاوي في روحه الحية مع ابناء جلدته الكركوكيين، باستذكارات وشواهد وقصص متنوعة تصل احيانا الى الخفي والمستور بين افراد هذه الجماعة، او المعلن والمسكوت عنه في تاريخ المدينة، منها انضام العزاوي والراوي والقيسي والغساني الى الحزب الشيوعي العراقي ضمن تنظيم واحد كان يقوده ابن مدينة كركوك احسان الصالحي الذي اعدمه انقلابيو 8 شباط 1963 وعلقوا جثته امام بيته.
وفي غمرة هذه المحطات والمنعطفات التي اوردها العزاوي حول جماعته الكركوكلية المذكورة التي يخلع عليها صفة "اصدقاء السوء" في كتابه المذكور، نجد انه يبخل في اضفاء الاديب والمؤلف المسرحي محيي الدين زنكنه المولود في كركوك اولا والمهاجر الى بعقوبة لاحقا بحكم وظيفته التعليمية، ضمن تشكيل اسماء هذه الجماعة. ولكنه ينتبه في فقرات لاحقة بأن محيي وجليل القيسي هما مفخرة جماعته في كتابة النصوص المسرحية التي وصلت اصداؤها وعنفوانها الى الكثير من المسارح العربية والدولية.
ثم يصدمنا العزاوي حقا حول طروحاته السياسية والثقافية والفكرية بعد خروجه من سجن الحلة عام 1965، وتحوله المعلن الى مفاهيم اليسار الجديد، ضمن الشعارات المتمركسة وقتذاك للامريكي هربرت ماركوز والافريقي فرانز فانون كخيار اخير في تجربته النضالية السابقة. ويصدمنا بقوة اكثر حينما يتحدث عن ثلاثة شعراء من ابناء كركوك بزراية وعدم اهتمام حينما تعرف عليهم في العام 1958، كأنهم من الخوارج عن زمرته "اصدقاء السوء" وهم تحديدا سركون بولص وجان دمو وصلاح فائق.
وتتكرر ذات الاشكالية والفكاهة حول جماعة كركوك حينما يتصدى الشاعر سامي مهدي برأي المعايش والمتعرف عليهم في كتابه "الموجة الصاخبة" في طبعته الاولى عام 1993 معتبرا ان صلات هذه الجماعة ببعضهم البعض كانت صلات قوية، ولكنهم سرعان ما تفرقوا وطغى الجفاف على العلاقة بينهم، واصبحت علاقاتهم بغيرهم اقوى من علاقات بعضهم ببعض. وانهم لم يكونوا على وئام ولا كانت بينهم وحدة في المواقف، وكان كل منهم يمارس دوره الادبي بمعزل عن الآخرين، ولذا لا يصح في رأيه اعتبارهم "جماعة ادبية" بأي درجة من الدرجات.
ترى من نصدق؟
وجهتا نظر متباعدتان مختلفتان، من شاعرين ستينيين معروفين بالاشكالية والمشاكسة معاً، وهما يرسمان الجماعة المذكورة على وفق نرجسيتهما الشعرية الواضحة وباستاذية معلنة، وجعل هذه الجماعة كبش فداء لتطلعاتهما الصاخبة الحية لزمن او اشخاص قالوا كلمتهم في خضم مشهد ثقافي عام ما زال ينبض بالمستحدث والجديد، لا بأحكام وقصص الأولين.