نص المحاضرة
لم تكن الصالونات الأدبية في الماضي وقفا على الرجال فحسب بل إن المرأة العربية في مختلف بلاد العرب شاركت في هذه الصالونات التي سعى إليها الشعراء والأدباء ورجال الفكر وكانت بذلك سباقة إلى تأسيس الصالونات الأدبية. فقد كان لعمرة في مكة صالون يتردد إليه الشعراء لإنشاد ما كانوا ينظمونه من الشعر وفي العصر الأموي كثرت الصالونات الأدبية، كصالون سكينة بنت الحسين في الحجاز وصالون عائشة بنت طلحة وصالون جميلة وغيرهن، وكانت المرأة في هذه الصالونات تجالس الرجال وتناقشهم في القضايا الفكرية والأدبية دون أن تتخلى عن عفتها ورصانتها ووقارها. وأشاد الأصفهاني في كتابه الأغاني باستقامة سكينة بنت الحسين وحشمتها وبعد نظرها وصواب آرائها.
وفي العصر العباسي أشتهر صالون فضل العبيدية حيث كان بيتها في بغداد ملتقى الأدباء والشعراء.
كما كانت المرأة في مصر والعراق والأندلس إبان القرن الخامس عشر الميلادي تدخل مجالس الأدب وتناظر الأدباء ويناظرونها، وكانت عائشة الباعونية تنظم الشعر وتلتقي الأدباء وتساجلهم في مجالسها الأدبية.
وفي الأندلس شاركت المرأة الرجال في تأسيس الصالونات الأدبية وكان هناك صالون حفصة الركونية في غرناطة الذي جمع عدداً كبيراً من الأدباء والأديبات، وصالون الشاعرة ولادة بنت المستكفي في قرطبة التي هام بها ابن زيدون. ومن الصالونات الأدبية في الأندلس صالون عائشة القرطبية ونزهون الغرناطية التي تعد من ألمع أديبات الأندلس وكان الأدباء والشعراء يجتمعون في صالونها، وصالون سارة الحلبية التي قدمت من حلب واشتهرت بشعرها الجيد وجالست الأدباء وكبار القوم وحظيت بلقاء الشاعر ابن سلمون فأنشدها قصيدة وأنشدته قصيدة من شعرها.
لم يذكر التاريخ بعد صالون سكينة بنت الحسين وصالون ولادة بنت المستكفي وغيرهما أي خبر لصالون امرأة عربية، حيث توقفت هذه الظاهرة الحضارية الجريئة بسبب انكماش المرأة وتقوقعها خلال عصر الانحدار والعصور التركية المظلمة وظل الأمر كذلك حتى بداية عصر النهضة الحديثة حيث خرجت المرأة العربية من عزلتها الخانقة واختلطت بالرجال فكان هناك صالون الشاعرة مريانا مراش في حلب ومي زيادة ونازلي فاضل ولبيبة هاشم وهدى شعراوي وأماني فريد في القاهرة والكسندر الخوري في الاسكندرية، وماري عجمي وزهراء العابد وثريا الحافظ وكوليت خوري وحنان نجمة وابتسام صمادي وجورجيت عطية في دمشق، وحبوبة حداد في بيروت، وانصاف الأعور معضاد في عالي، وصبيحة الشيخ داوود في بغداد وغيرها.
صالون مريانا مراش:
كانت مريانا مراش أول أديبة سورية ظهرت في ميدان الشعر والأدب وكتبت في الشعر وكان ظهور امرأة تكتب في الصحف وتنظم الشعر وتلتقي الأدباء في منزلها في تلك الفترة المظلمة في عام 1919 كان أمرا له دلالته ولعل صالونها الأدبي كان الوحيد في الشرق العربي قبل أن يكون صالون مي زيادة في وادي النيل ولعل سفرها إلى أوروبة واطلاعها على معالم الحضارة الغربية ومشاهدتها الكثير من أمثاله عند السيدات الغربيات كمدام ديستايل ومدام دينواي ومدام دي سوفنييه هو الذي شجعها على إقامة هذا الصالون الذي سبقت فيه غيرها بالرغم من ضيق الحياة الاجتماعية إبان الحكم التركي.
كان رواد صالونها نخبة من أدباء حلب يومذاك كجبرائيل الدلال وكامل غزي ورزق لله حسون وغيرهم يلتقون فيه على موعد ليتناشدوا الأشعار ويتناقشوا في الأدب أما مريانا فقد كانت تحيط الجميع بجو من الألفة والمودة والرعاية حتى يخرجوا من عندها راضين يلهجون بلطفها وحسن معشرها وطيب لقياها، ومسحورين بالأنغام الجميلة التي كانت تعزفها على البيانو.
وعندما أسرف الأتراك في التضييق على أحرار الفكر والضغط على حملة الأقلام بحجة أتهم يشكلون خطرا عليهم اضطر هؤلاء إلى مغادرة البلاد تاركين وراءهم الأهل والأحباب فأقفل الصالون من رواده وكان جبريل الدلال ممن فروا إلى باريس وأخذ يراسل ابن أخته قسطاكي الحمصي ويصف له الحرية القصوى التي يتمتع بها الفرنسيون.
صالون مي زيادة
ننتقل إلى صالون أشهر من أن يعرف وهو صالون مي زيادة التي ولدت عام 1886في قرية شحتور في لبنان وتوفيت في مصر عام 1941 لكن صالون مي زيادة يبقى في الطليعة فقد كانت هذه الأديبة تمتاز بصباحة الوجه وحلاوة الحديث وتحيطه بالثقافتين العربية والأجنبية إحاطة تامة وقد ظل صالونها مجمع الأدباء ورجال الفكر والسياسة ربع قرن حيث يجري الحديث عن كتاب ظهر في باريس وعن نجم من نجوم الأدب في لندن أو عن الأحوال الاجتماعية في ألمانية وكانت مي تشترك في الحديث و تديره بذهن يقظ وذكاء ولباقة نادرة فهي فتاة تحب الحياة الاجتماعية وتتذوق معطيات الحضارة لكنها ظلت مع ذلك تعيش في بيئة محافظة تكتب بتحفظ تكثر من الأحزام على الإقدام ولذلك تفوقت أحاديثها على مؤلفاتها كما يقول سلامة موسى " إعتادت مي أن تستقبل كل يوم ثلاثاء نخبة من الفنانين والمفكرين في صالونها الكائن في الطابق العلوي من أحد مباني مدينة الأهرام في شارع مظلوم باشا في القاهرة فيتباحثون في فكرهم ويتبادلون الرأي وكأن ارتبطت بهم صلة عائلية وثيقة وكانت تتولى هي الحديث وتوزعه بين الحضور وتقدم لهم شراب الورد اللذيذ ففرضت على الجميع احترامها.
لقد اتسع هذا الصالون الفريد من نوعه في الشرق العربي لمذاهب القول وأشتات الفكر وفنون الأدب فكان مكانا للحديث بكل لسان وكل علم وملتقى لجميع الطوائف والأديان دون استثناء فكم من مناقشة حادة جرت بين الشاعر إسماعيل صبري والمطران يوسف دوريان وشبلي شميل الدارويني نسبة إلى دارون الذي كان يمتطي صهوة كرسي الخيزران كالقائد العام في صميم المعركة، فافترقوا متآخين بالرغم من تباين معتقداتهم وميولهم في الدين والعلم والفكر وكانت مي تضفي على هذه المجالس من ذكائها المتوقد وأنوثتها الدافئة مما جعل رواد صالونها يستعجلون يوم انعقاده ليعيشوا أحلى الأوقات وأسعدها كما يقول الشاعر إسماعيل صبري:
روحي على بعض دور الحي حائمة كظامئ الطير تواقا إلى الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غدا أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
كما عبر الشاعر خليل مطران عن هذا الحنين إلى الصالون حين قال في حفلة تأبينها:
أقفل البيت أين ناديك يا مي إليه الوفود يختلفون
سطوة المشرقين نبلا وفضلا في ذراك الرحيب يعتمرون
كان يختلف إلى هذه الندوة بشكل خاص كل من أحمد زكي باشا شيخ العروبة وولي الدين يكن وطه حسين وأنطون الجميل و وداوود بركات وأحمد شوقي وإسماعيل صبري وأحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق وخليل مطران وعباس محمود العقاد ومنصور فهمي وشبلي شميل وحافظ إبراهيم ورشيد رضا ومصطفى صادق الرافعي ويعقوب صروف وسلام موسى وإيمن خير ومحمد حسين المنصفي والخطاط نجيب الهواويني وإبراهيم عبد القادر المازني وبركات بركات وغيرهم.
وبالرغم من اختلاف هؤلاء الأدباء في آراءهم وتوجهاتهم الأدبية والفكرية فإنهم اتفقوا جميعا على فهم مي وإعجابهم بها وبمكانتها الأدبية. كان بينهم المؤمنون والملحدون والأذكياء وأنصاف الأذكياء والملتفتون إلى الماضي والمتجهون إلى المستقبل والمجددون والمقلدون وأصحاب الثقافة الأجنبية وحدها وأصحاب الثقافة العربية وحدها والجامعون بين أكثر من ثقافة يهاجم بعضهم بعضا بعنف ويتراشقون التهم والكلمات النابية أحيانا، لكنهم إذا ما تكلموا عن مي نسوا معاركهم وخلافاتهم وأجمعوا على تقديرها فقد كان رواد الصالون يحسون لمي عاطفة اختلفت ملامحها أهي عاطفة حب أبوي أم هي عاطفة حب عذري.
وقد وصف طه حسين صالونها وجلساته التاريخية فقال:
كان صالونا ديمقراطيا أو قل أنه كان مفتوحا لو ردوا عنه الذين لم يبلغوا المقام الممتاز في الحياة المصرية، أذكر أنني اتصلت بصالون مي بعد أن نوقشت رسالتي في أبي العلاء وشهدت مي هذه المناقشة وشهدت فيما يظهر بعد الحفلات التي أقامها لي الزملاء حينئذ وطلبت من أستاذها وأستاذي لطفي السيد أن يظهرني في صالونها، وكذلك عرفتها في هذا الصالون وترددت عليها أيام الثلاثاء إلى أن سافرت إلى أوروبة وقد رجعت إلى مصر بعد سنة فأقمت فيها أشهرا ولقيت ميا أيام الثلاثاء كما كنت ألقاها قبل السفر.
وكان الذين يختلفون إلى هذا الصالون متفاوتين تفاوتا شديدا فكان منهم المصريون والسوريون والأوربيون على اختلاف شعوبهم وكان منهم الرجال والنساء وكانوا يتحدثون بكل شيء وبلغات مختلفة كالعربية والفرنسية والإنكليزية خاصة وربما استمعوا لقصيدة تنشد أو لمقالة تقرأ أو قطعة موسيقية تعزف أو أغنية تنفذ إلى القلوب. ويفول طه حسين وقد أتيح لي أن أكون من خاصة مي بفضل الأستاذ لطفي السيد فكنت أتأخر في الصالون حتى ينصرف الزائرون في ذلك الوقت كانت مي تفرغ لنا حرة سمحة فنسمع من حديثها وعزفها وغناءها ولن أنسى صوتها حين كانت تغنينا أغنية لبنانية مشهورة هي أغنية يا حنينة.
وكانت تغنينا في لغات مختلفة وبالهجات العربية المختلفة أيضا.
استطاعت مي أن تفتن أعلام عصرها رغم أنها كانت عادية الجمال رصينة التصرف، ممن أحبوها مصطفى صادق الرافعي وولي الدين يكن واسماعيل صبري وعباس محمود العقاد ومصطفى عبد الرازق وجبران خليل جبران وغيرهم والسبب في ذلك يعود إلى أنها كانت نادرة الذكاء واسعة الإطلاع، قوية الجاذبية لبقة وأنيقة، لا يجالسها أديب أو شاعر حتى يعجب بها ويظن أنها تحبه فهي تتكلم بسهولة ولغة صحيحة ويرى من يصغي إليها أنه مأخوذ يتلك النغمة الآتية من الأعماق تحمل آيات البيان إلى الآذان والأذهان. كان يقول الدكتور نقولا فياض.
وقد تنتقل من الحديث باللغة العربية إلى غيرها لإلمامها بالكثير من اللغات فضلا عما تعرفه من الفنون الجميلة والتصوير والموسيقى ولا تعرف مجالسها الملل ويخرج الجالس من عندها كأنه خارج من وليمة تذوق فيها أشهى الطيبات.
كان لصالون مي من الأثر ما كان لصالون سكينة بنت الحسين من أثر في توجيه الذوق الأدبي، وكما لفتت سكينة أنظار الناس وإعجابهم وجعلت نساء يقلدنها في تسريحة شعرها، لفتت مي أنظار أبناء جيلها وكانت الكثير من الفتيات يحاولن تقليدها في إرسال شعرها وراء ظهرها بعناية.
صالون نازلي فاضل:
نازلي فاضل هي ابنة الأمير مصطفى فاضل شقيق الخديوي اسماعيل، أسست صالونها الذي كان يتردد إليه كبار الساسة وقادة الفكر في مصر أمثال الشيخ محمد عبدو والشيخ عبد الكريم سلمان وسعد زغلول وقاسم أمين ومحمد المويلحي وحسن عاصم وابراهيم اللاذقاني وحسن عبد الرازق وولي الدين يكن. وكانت الأحاديث التي تدور فيه معظمها عن السياسة ووسائل الإصلاح الاجتماعي والسياسي والديني في الوطن وقضايا الساعة ويقال إن أفكار قاسم أمين الإصلاحية حول وضع المرأة التي أوردها في كتابيه (تحرير المرأة والمرأة الجديدة) تبلورت في هذا الصالون حيث وجد كل عون وتشجيع ولا سيما من نازلي صاحبة الصالون. وعلى الرغم من ذلك فقد كان هذا الصالون ضيقا مغلقا لا يصل إليه إلا الذين ارتفعت بهم حياتهم الاجتماعية إلى مقام ممتاز ولم تكن الحياة الأدبية الخالصة تشغل الذين كانوا يترددون إليه. كان صالون نازلي لخاصة الخاصة من السياسيين أو قل صالونا اجتماعيا فرنسيا. لم تكتفي نازلي فاضل بصالونها بالقاهرة الذي سبقت فيه صالون مي زيادة بل أسست صالونا آخر في تونس حيث كان زوجها سفيرا لتركيا هناك، وجمع هذا الصالون رجال السياسة والفكر في تلك الأيام وبعد وفاة زوجها تزوجت عام 1899 خليل بو حازم التونسي الذي كان يصغرها بعشرين عاما واستأنفت نشاط صالونها الأدبي الذي كان يحضره من تونس البشير صفر وسالم بوحاجب وعلي بوشوشة وصالح البكوش والفاضل بن عاشور وعبد الجليل الزاوش وغيرهم.
صالون لبيبة هاشم:
لم يشتهر صالون لبيبة هاشم في القاهرة على نطاق واسع كشهرة صالون مي وكل ما نعرف عنه إنها كانت تستقبل فيه كلا من الشيخ علي يوسف وأحمد لطفي السيد وصديقتها الشاعرة وردة ناصيف اليازجي أخت الشيخ إبراهيم اليازجي الذي كان له الفضل في تعليم لبيبة اللغة العربية وأصول الخط الفارسي الجميل، ولعلها كانت تستقبل فيه أيضا كتاب مجلتها فتاة الشرق التي أنشأتها في القاهرة عام 1906 ولا ندري إذا ما كانت قد استأنفت استقبال الأدباء والكتاب في الفترة القضيرة التي عاشتها في دمشق بين عامي 1919 و1920 فقد كلفتها حكومة الملك فيصل الأول بوظيفة التفتيش في وزارة المعارف في سورية وهو منصب رفيع لم يسبق لامرأة عربية أن تقلدت مثله، ولما سقطت حكومة الملك فيصل إثر تهديد القوات الفرنسية الغازية بقيادة الجنرال غورو ودخوله دمشق عنوة غادرت لبيبة هاشم إلى تشيلي حيث استأنفت إصدار مجلتها هناك لكنها لم تلبث أن عادت إلى مصر في السنة التالية.
صالون السيدة هدى شعراوي:
كانت السيدة هدى شعراوي وجيهة مصرية ثرية تقدمت المظاهرات النسائية عام 1919 وحضرت المؤتمرات النسائية العربية والدولية لتدافع عن حقوق المرأة ولما توفي زوجها ترك لها ثروة ضخمة فأنفقت قسما منها على أعمال البر وتأسيس الجمعيات وتعليم الفتيات الفقيرات وإلقاء المحاضرات فقد دعت الأنسة كليمان سنة 1909 وسنة 1914 لإلقاء المحاضرات في صالونها على جماعات النساء المصريات، وكانت تستقبل في هذا الصالون الشرقي الأنيق الذي يعيد منظره ذكرى القصور البغدادية والأندلسية نخبة من المفكرين والسياسيين وتضفي على الحضور فيضا من أنسها وأريحيتها. تقول السيدة وداد سكاكيني إنها دعيت إلى صالونها ذات عشية فشهدت من صنوف رواده من كانوا ألمع رجال المجتمع المصري ونساءه كأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد وأحمد حسنين باشا والدكتور محمد حسين هيكل وغيرهم.
صالون ماري عجمي في دمشق:
عندما انحل عقد الرابطة الأدبية التي تاسست عام 1921 في دمشق التي أسسها الشاعر خليل مردم بك وتوقفت المجلة الناطقة باسمها، استأنف أعضاء الرابطة الأدبية لقاءاتهم في منزل الأنسة ماري عجمي في حي باب توما ووكان منزلا دمشقيا واسعا وعريقا يلتقي فيه كل من الشعراء والأدباء كخليل مردم بيك رئيس الرابطة وأحمد شاكر كرمي وأخيه أبو سلمى وفخري البارودي ومحمد الشريف وشفيق جبري وغيرهم.
حيث كان يطول الحوار والنقاش حول قضايا النقد والأدب ولم يكن الحديث عنيفا لأن ماري كانت تطبع المجلس بطابع النكتة والمرح.
صالون السيدة فضيلة فتال
تأسس صالون السيدة فضيلة فتال الأدبي في شهر كانون الأول عام 1988 ليكون ندوة شهرية مفتوحة يرتادها أهل الفكر والفن والثقافة والتربية وغيرهم من الشخصيات اللبنانية والعربية بغية خلق مناخ فكري ملاءم منفتح على جميع التيارات والاتجاهات والطوائف وتعزيز دور السلام والعدل في لبنان على أسس واضحة من الثقافة والفكر لأن الثقافة هي التي ينبغي أن تسود وهي وحدها التي تصنع التغيير والإصلاح وتغرس الوحدة الوطنية فمن خلالها يتقدم الوطن والمجتمع.
كان حلم تأسيس صالون أدبي يراود السيدة فضيلة فتال منذ أن كانت في الرابعة عشرة من العمر، وكانت وهي طالبة على مقاعد الدراسة تقرأ الكثير عن صالون مي زيادة وعن الصالونات الأدبية في فرنسا، وحين ترسخ الحلم في نفسها ترجمته إلى واقع وأفردت له مكانا واسعا في منزلها الفخم الأنيق وساعدها فيه كل من الشاعرة ناديا نصار رحمها الله والأستاذين يوسف مارون ونضال أبو حلقة كما تعاونت فيه مع عدد من الأدباء والكتاب السوريين بحكم قرب مدينة طرابلس من سورية.
يعقد الصالون ندواته وجلساته ومحضاراته مساء السبت الأول من كل شهر عدا شهري تموز وآب وشهر رمضان وتدور حول العلم والدين والأدب والفكر والسياسة والفلسفة والشعر والفن والبيئة والصحة والحياة والمرأة وغيرها. وبعد المحاضرة تدور المناقشات الموضوعية بروح رياضية هادئة ومتزنة.
تقول السيدة فضيلة عن صالونها الأدبي: إنه ملتقى فكري حضاري أو منبر حر أسعى من وراءه إلى تحقيق بعض الأهداف من خلال انتقاء بعض الأشخاص ليحاضروا فيه، حتى نقول ما نريد ونناقش ما نقول ليكون ذلك نقطة تواصل وارتقاء وقد حققنا بعض أهدافه ألا وهي الانفتاح التام وهذا ما كنا نفتقر إليه في لبنان، على جميع التيارات الفكرية والدينية والسياسية والثقافية وعلى الصالونات الأدبية الأخرى كصالون الشاعرة إنصاف الأعور معضاد ووصالون الدكتور جورج طربيه في منطقة جبل لبنان والصالون الجوال في منطقة البترون بالإضافة إلى اتصالاتنا المفتوحة مع البيت الثقافي في زغرتة، لسنا متقوقعين ضمن معينة فالصالون مثلا دعم ريمون أنطون وفرقته مسايا التي تقدم الأعمال الفنية الراقصة ونحن مستعدون للوقوف إلى جانب أي عمل فني راق.
أما اختيار المحاضرات فيأتي بعد درس دقيق للمحاضر واتجاهه الفكري وتوجه الدعوات للحضور عن طريق وسائل الإعلام وتغطي وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة نشاط الصالون على أكمل وجه، ويقوم مستشار الصالون الثقافي بتدوين كل ما يجري فيه من مناقشات ومداخلات وتعقيبات ويسجلها في دفتر خاص ثم يزود بها جريدة النهار أو جريدة الأنوار، وسوف يصدر الصالون كل ما ألقي فيه من محاضرات خلال السنوات الماضية في عدة مجلدات.
استهل صالون فضيلة نشاطه الأدبي في كانون الأول عام 1988 بمحاضرة للأستاذ أنطوان شدياق عنوانها (المرأة الرائدة ودورها في الحياة الأدبية) تحدث فيها عن أهمية الصالونات الأدبية وأهدافها وأبرز من أقاموها وعن السيدة فضيلة فتال وماري هاسكل التي لعبت دورا هاما في حياة جبران خليل جبران ودعا في محاضرته إلى تخصيص جائزة مالية قدرها خمسون ألف ليرة لبنانية لأفضل بحث عن ماري هاسكل، وهكذا انطلقت فكرة الجائزة من صالون فضيلة فتال الأدبي وارطبت به وهي تعطى سنويا للفائز الأول من المتبارين لطلاب البكالوريا اللبنانية القسم الثاني في الثانويات الرسمية والخاصة في لبنان الشمالي. وتأسست لجنة تضم كبار رجال التربية والتعليم والأدب والققضاء في لبنان، ثم توالت المحاضرات والندوات وقد بلغت حتى الآن أكثر من سبعين محاضرة وندوة أذكر منها (المرأة بين التغيير والتطور) للدكتورة آمال كبارة شعراني، (المثقفون والتغيير) للدكتور حسن دندشي، (الصالونات الأدبية في فرنسا) للدكتور محمد زيادة، (العلمنة) للدكتورة صفية سعادة، (حرية الإبداع للدكتور علي عقلة، (المرأة والحرية) للدكتور مصطفى الرافعي، (الموارنة والحضارة العربية) للدكتور سليم الضاهر، (الزواج المدني في الإسلام) للدكتورة منى حداد يكن، (النشاطات الاجتماعية في لبنان) للسيدة منى لهراوي، (فلسفة العبث) للدكتورة كلوديا أبي نادر، (من هم المسلمون العلويون) للشيخ أسد عاصي، (مستقبل عملية السلام في الشرق الأوسط) للدكتور جورج ديب، الحركات الأصولية ورواد الإصلاح للدكتور مصطفى الرافعي. وهناك محاضرات لإسكندر لوقا وغيره ولي أنا أيضا.
هذا ولصالونها رواد دائمون يتراوح عددهم بين 50و120 يقصدونه من سائر أنحاء لبنان.
صالون الشاعرة ابتسام صمادي:
تأسس هذا الصالون في دمشق عام 1997 ويعقد يوم الثلاثاء الأول من كل شهر في منزل الشاعرة، ولما كثر عدد رواده انتقلت به إلى خيمة الصنوبر في أتستراد المزة ثم إلى قاعة كبيرة في بناء برج الصالحية لتستطيع أن تستوعب رواده الذين يتراوح عددهم بين 50 إلى 125 شخصا من مختلف الفعاليات الأدبية والفكرية والثقافية في دمشق والمحافظات الأخرى إضافة إلى الضيوف من الأقطار العربية الشقيقة.
أقام صالون الشاعرة ابتسام صمادي العديد من الندوات الفكرية والأدبية منها (وضع المرأة بين عبد الناصر والسادات) للدكتورة غادة تلحمي، (الدولة الفلسطينية) لعلي فياض، (الأدب الحديث والشعر الحديث) للدكتور علوي هاشمي من جامعة البحرين، (دور المرأة في التشريع) لحنان نجمة، (النص التاريخي في الرواية) لنبيل سليمان، بالإضافة إلى عدد من الأمسيات الشعرية والثقافية، ويقام على هامش كل ندوة معرض فني تشكيلي لأحد الفنانين أو الفنانات وعزف على آلة موسيقية ويلقى ضيوف الصالون كل حفاوة وتكريم وترحيب من الشاعرة ابتسام صاحبة الصالون التي غالبا ما تختدم ندواتها بمختارات من شعرها الجميل.
صالون الأنسة جورجيت عطية:
أقامت الأنسة جورجيت عطية صالونها الأدبي في منزلها بحي القصور في دمشق بعد عودتها من باريس، ونيلها شهادة الدكتوراة في التاريخ ويعقد يوم الإثنين من كل شهر، حيث يتم فيه مناقشة الكتب الصادرة حديثا إما عن دار النشر التي تحمل اسمها أو عن دور أخرى. ومن الكتب التي نوقشت في الصالون كتاب (الجنس في الإسلام).
كما استضافت في صالونها السيدة سلمى الحفار الكزبري رحمها الله التي تحدثت عن الجهود المشكورة التي بذلتها على مدى السنوات الماضية لإحياء ذكرى الأديبة الرائدة مي زيادة وإعادة نشر أرائها وجمع رسائلها وعن المهرجان الذي أقيم في مسقط رأس والدها في لبنان وتسمية شارع ومدرسة باسمها في قرية شحتور.
كما استضافت الشاعرة العراقية لميا عباس عمارة والأديبة السعودية زينب الحفني.
إذا في دمشق اليوم أربعة صالونات ادبية لا تتعارض في مواعيد انعقادها؟، ويتوزع جمهور المثقفين على هذه الصالونات بكثرة دون تحيز أو تعصب لصالون دون الآخر فهي تتلاءم في أهدافها وتعمل كلها من أجل خدمة الأدب والفكر والفن وتدل على ما بلغته المرأة العربية السورية من نضج ووعي ورقي وتطور واطلاع الأمر الذي نفتقده في باقي المدن السورية الأخرى التي آمل أن تحذو حذو دمشق وتسير على منوالها.
عن موقع
nesasysy.wordpress.com
لم تكن الصالونات الأدبية في الماضي وقفا على الرجال فحسب بل إن المرأة العربية في مختلف بلاد العرب شاركت في هذه الصالونات التي سعى إليها الشعراء والأدباء ورجال الفكر وكانت بذلك سباقة إلى تأسيس الصالونات الأدبية. فقد كان لعمرة في مكة صالون يتردد إليه الشعراء لإنشاد ما كانوا ينظمونه من الشعر وفي العصر الأموي كثرت الصالونات الأدبية، كصالون سكينة بنت الحسين في الحجاز وصالون عائشة بنت طلحة وصالون جميلة وغيرهن، وكانت المرأة في هذه الصالونات تجالس الرجال وتناقشهم في القضايا الفكرية والأدبية دون أن تتخلى عن عفتها ورصانتها ووقارها. وأشاد الأصفهاني في كتابه الأغاني باستقامة سكينة بنت الحسين وحشمتها وبعد نظرها وصواب آرائها.
وفي العصر العباسي أشتهر صالون فضل العبيدية حيث كان بيتها في بغداد ملتقى الأدباء والشعراء.
كما كانت المرأة في مصر والعراق والأندلس إبان القرن الخامس عشر الميلادي تدخل مجالس الأدب وتناظر الأدباء ويناظرونها، وكانت عائشة الباعونية تنظم الشعر وتلتقي الأدباء وتساجلهم في مجالسها الأدبية.
وفي الأندلس شاركت المرأة الرجال في تأسيس الصالونات الأدبية وكان هناك صالون حفصة الركونية في غرناطة الذي جمع عدداً كبيراً من الأدباء والأديبات، وصالون الشاعرة ولادة بنت المستكفي في قرطبة التي هام بها ابن زيدون. ومن الصالونات الأدبية في الأندلس صالون عائشة القرطبية ونزهون الغرناطية التي تعد من ألمع أديبات الأندلس وكان الأدباء والشعراء يجتمعون في صالونها، وصالون سارة الحلبية التي قدمت من حلب واشتهرت بشعرها الجيد وجالست الأدباء وكبار القوم وحظيت بلقاء الشاعر ابن سلمون فأنشدها قصيدة وأنشدته قصيدة من شعرها.
لم يذكر التاريخ بعد صالون سكينة بنت الحسين وصالون ولادة بنت المستكفي وغيرهما أي خبر لصالون امرأة عربية، حيث توقفت هذه الظاهرة الحضارية الجريئة بسبب انكماش المرأة وتقوقعها خلال عصر الانحدار والعصور التركية المظلمة وظل الأمر كذلك حتى بداية عصر النهضة الحديثة حيث خرجت المرأة العربية من عزلتها الخانقة واختلطت بالرجال فكان هناك صالون الشاعرة مريانا مراش في حلب ومي زيادة ونازلي فاضل ولبيبة هاشم وهدى شعراوي وأماني فريد في القاهرة والكسندر الخوري في الاسكندرية، وماري عجمي وزهراء العابد وثريا الحافظ وكوليت خوري وحنان نجمة وابتسام صمادي وجورجيت عطية في دمشق، وحبوبة حداد في بيروت، وانصاف الأعور معضاد في عالي، وصبيحة الشيخ داوود في بغداد وغيرها.
صالون مريانا مراش:
كانت مريانا مراش أول أديبة سورية ظهرت في ميدان الشعر والأدب وكتبت في الشعر وكان ظهور امرأة تكتب في الصحف وتنظم الشعر وتلتقي الأدباء في منزلها في تلك الفترة المظلمة في عام 1919 كان أمرا له دلالته ولعل صالونها الأدبي كان الوحيد في الشرق العربي قبل أن يكون صالون مي زيادة في وادي النيل ولعل سفرها إلى أوروبة واطلاعها على معالم الحضارة الغربية ومشاهدتها الكثير من أمثاله عند السيدات الغربيات كمدام ديستايل ومدام دينواي ومدام دي سوفنييه هو الذي شجعها على إقامة هذا الصالون الذي سبقت فيه غيرها بالرغم من ضيق الحياة الاجتماعية إبان الحكم التركي.
كان رواد صالونها نخبة من أدباء حلب يومذاك كجبرائيل الدلال وكامل غزي ورزق لله حسون وغيرهم يلتقون فيه على موعد ليتناشدوا الأشعار ويتناقشوا في الأدب أما مريانا فقد كانت تحيط الجميع بجو من الألفة والمودة والرعاية حتى يخرجوا من عندها راضين يلهجون بلطفها وحسن معشرها وطيب لقياها، ومسحورين بالأنغام الجميلة التي كانت تعزفها على البيانو.
وعندما أسرف الأتراك في التضييق على أحرار الفكر والضغط على حملة الأقلام بحجة أتهم يشكلون خطرا عليهم اضطر هؤلاء إلى مغادرة البلاد تاركين وراءهم الأهل والأحباب فأقفل الصالون من رواده وكان جبريل الدلال ممن فروا إلى باريس وأخذ يراسل ابن أخته قسطاكي الحمصي ويصف له الحرية القصوى التي يتمتع بها الفرنسيون.
صالون مي زيادة
ننتقل إلى صالون أشهر من أن يعرف وهو صالون مي زيادة التي ولدت عام 1886في قرية شحتور في لبنان وتوفيت في مصر عام 1941 لكن صالون مي زيادة يبقى في الطليعة فقد كانت هذه الأديبة تمتاز بصباحة الوجه وحلاوة الحديث وتحيطه بالثقافتين العربية والأجنبية إحاطة تامة وقد ظل صالونها مجمع الأدباء ورجال الفكر والسياسة ربع قرن حيث يجري الحديث عن كتاب ظهر في باريس وعن نجم من نجوم الأدب في لندن أو عن الأحوال الاجتماعية في ألمانية وكانت مي تشترك في الحديث و تديره بذهن يقظ وذكاء ولباقة نادرة فهي فتاة تحب الحياة الاجتماعية وتتذوق معطيات الحضارة لكنها ظلت مع ذلك تعيش في بيئة محافظة تكتب بتحفظ تكثر من الأحزام على الإقدام ولذلك تفوقت أحاديثها على مؤلفاتها كما يقول سلامة موسى " إعتادت مي أن تستقبل كل يوم ثلاثاء نخبة من الفنانين والمفكرين في صالونها الكائن في الطابق العلوي من أحد مباني مدينة الأهرام في شارع مظلوم باشا في القاهرة فيتباحثون في فكرهم ويتبادلون الرأي وكأن ارتبطت بهم صلة عائلية وثيقة وكانت تتولى هي الحديث وتوزعه بين الحضور وتقدم لهم شراب الورد اللذيذ ففرضت على الجميع احترامها.
لقد اتسع هذا الصالون الفريد من نوعه في الشرق العربي لمذاهب القول وأشتات الفكر وفنون الأدب فكان مكانا للحديث بكل لسان وكل علم وملتقى لجميع الطوائف والأديان دون استثناء فكم من مناقشة حادة جرت بين الشاعر إسماعيل صبري والمطران يوسف دوريان وشبلي شميل الدارويني نسبة إلى دارون الذي كان يمتطي صهوة كرسي الخيزران كالقائد العام في صميم المعركة، فافترقوا متآخين بالرغم من تباين معتقداتهم وميولهم في الدين والعلم والفكر وكانت مي تضفي على هذه المجالس من ذكائها المتوقد وأنوثتها الدافئة مما جعل رواد صالونها يستعجلون يوم انعقاده ليعيشوا أحلى الأوقات وأسعدها كما يقول الشاعر إسماعيل صبري:
روحي على بعض دور الحي حائمة كظامئ الطير تواقا إلى الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غدا أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
كما عبر الشاعر خليل مطران عن هذا الحنين إلى الصالون حين قال في حفلة تأبينها:
أقفل البيت أين ناديك يا مي إليه الوفود يختلفون
سطوة المشرقين نبلا وفضلا في ذراك الرحيب يعتمرون
كان يختلف إلى هذه الندوة بشكل خاص كل من أحمد زكي باشا شيخ العروبة وولي الدين يكن وطه حسين وأنطون الجميل و وداوود بركات وأحمد شوقي وإسماعيل صبري وأحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق وخليل مطران وعباس محمود العقاد ومنصور فهمي وشبلي شميل وحافظ إبراهيم ورشيد رضا ومصطفى صادق الرافعي ويعقوب صروف وسلام موسى وإيمن خير ومحمد حسين المنصفي والخطاط نجيب الهواويني وإبراهيم عبد القادر المازني وبركات بركات وغيرهم.
وبالرغم من اختلاف هؤلاء الأدباء في آراءهم وتوجهاتهم الأدبية والفكرية فإنهم اتفقوا جميعا على فهم مي وإعجابهم بها وبمكانتها الأدبية. كان بينهم المؤمنون والملحدون والأذكياء وأنصاف الأذكياء والملتفتون إلى الماضي والمتجهون إلى المستقبل والمجددون والمقلدون وأصحاب الثقافة الأجنبية وحدها وأصحاب الثقافة العربية وحدها والجامعون بين أكثر من ثقافة يهاجم بعضهم بعضا بعنف ويتراشقون التهم والكلمات النابية أحيانا، لكنهم إذا ما تكلموا عن مي نسوا معاركهم وخلافاتهم وأجمعوا على تقديرها فقد كان رواد الصالون يحسون لمي عاطفة اختلفت ملامحها أهي عاطفة حب أبوي أم هي عاطفة حب عذري.
وقد وصف طه حسين صالونها وجلساته التاريخية فقال:
كان صالونا ديمقراطيا أو قل أنه كان مفتوحا لو ردوا عنه الذين لم يبلغوا المقام الممتاز في الحياة المصرية، أذكر أنني اتصلت بصالون مي بعد أن نوقشت رسالتي في أبي العلاء وشهدت مي هذه المناقشة وشهدت فيما يظهر بعد الحفلات التي أقامها لي الزملاء حينئذ وطلبت من أستاذها وأستاذي لطفي السيد أن يظهرني في صالونها، وكذلك عرفتها في هذا الصالون وترددت عليها أيام الثلاثاء إلى أن سافرت إلى أوروبة وقد رجعت إلى مصر بعد سنة فأقمت فيها أشهرا ولقيت ميا أيام الثلاثاء كما كنت ألقاها قبل السفر.
وكان الذين يختلفون إلى هذا الصالون متفاوتين تفاوتا شديدا فكان منهم المصريون والسوريون والأوربيون على اختلاف شعوبهم وكان منهم الرجال والنساء وكانوا يتحدثون بكل شيء وبلغات مختلفة كالعربية والفرنسية والإنكليزية خاصة وربما استمعوا لقصيدة تنشد أو لمقالة تقرأ أو قطعة موسيقية تعزف أو أغنية تنفذ إلى القلوب. ويفول طه حسين وقد أتيح لي أن أكون من خاصة مي بفضل الأستاذ لطفي السيد فكنت أتأخر في الصالون حتى ينصرف الزائرون في ذلك الوقت كانت مي تفرغ لنا حرة سمحة فنسمع من حديثها وعزفها وغناءها ولن أنسى صوتها حين كانت تغنينا أغنية لبنانية مشهورة هي أغنية يا حنينة.
وكانت تغنينا في لغات مختلفة وبالهجات العربية المختلفة أيضا.
استطاعت مي أن تفتن أعلام عصرها رغم أنها كانت عادية الجمال رصينة التصرف، ممن أحبوها مصطفى صادق الرافعي وولي الدين يكن واسماعيل صبري وعباس محمود العقاد ومصطفى عبد الرازق وجبران خليل جبران وغيرهم والسبب في ذلك يعود إلى أنها كانت نادرة الذكاء واسعة الإطلاع، قوية الجاذبية لبقة وأنيقة، لا يجالسها أديب أو شاعر حتى يعجب بها ويظن أنها تحبه فهي تتكلم بسهولة ولغة صحيحة ويرى من يصغي إليها أنه مأخوذ يتلك النغمة الآتية من الأعماق تحمل آيات البيان إلى الآذان والأذهان. كان يقول الدكتور نقولا فياض.
وقد تنتقل من الحديث باللغة العربية إلى غيرها لإلمامها بالكثير من اللغات فضلا عما تعرفه من الفنون الجميلة والتصوير والموسيقى ولا تعرف مجالسها الملل ويخرج الجالس من عندها كأنه خارج من وليمة تذوق فيها أشهى الطيبات.
كان لصالون مي من الأثر ما كان لصالون سكينة بنت الحسين من أثر في توجيه الذوق الأدبي، وكما لفتت سكينة أنظار الناس وإعجابهم وجعلت نساء يقلدنها في تسريحة شعرها، لفتت مي أنظار أبناء جيلها وكانت الكثير من الفتيات يحاولن تقليدها في إرسال شعرها وراء ظهرها بعناية.
صالون نازلي فاضل:
نازلي فاضل هي ابنة الأمير مصطفى فاضل شقيق الخديوي اسماعيل، أسست صالونها الذي كان يتردد إليه كبار الساسة وقادة الفكر في مصر أمثال الشيخ محمد عبدو والشيخ عبد الكريم سلمان وسعد زغلول وقاسم أمين ومحمد المويلحي وحسن عاصم وابراهيم اللاذقاني وحسن عبد الرازق وولي الدين يكن. وكانت الأحاديث التي تدور فيه معظمها عن السياسة ووسائل الإصلاح الاجتماعي والسياسي والديني في الوطن وقضايا الساعة ويقال إن أفكار قاسم أمين الإصلاحية حول وضع المرأة التي أوردها في كتابيه (تحرير المرأة والمرأة الجديدة) تبلورت في هذا الصالون حيث وجد كل عون وتشجيع ولا سيما من نازلي صاحبة الصالون. وعلى الرغم من ذلك فقد كان هذا الصالون ضيقا مغلقا لا يصل إليه إلا الذين ارتفعت بهم حياتهم الاجتماعية إلى مقام ممتاز ولم تكن الحياة الأدبية الخالصة تشغل الذين كانوا يترددون إليه. كان صالون نازلي لخاصة الخاصة من السياسيين أو قل صالونا اجتماعيا فرنسيا. لم تكتفي نازلي فاضل بصالونها بالقاهرة الذي سبقت فيه صالون مي زيادة بل أسست صالونا آخر في تونس حيث كان زوجها سفيرا لتركيا هناك، وجمع هذا الصالون رجال السياسة والفكر في تلك الأيام وبعد وفاة زوجها تزوجت عام 1899 خليل بو حازم التونسي الذي كان يصغرها بعشرين عاما واستأنفت نشاط صالونها الأدبي الذي كان يحضره من تونس البشير صفر وسالم بوحاجب وعلي بوشوشة وصالح البكوش والفاضل بن عاشور وعبد الجليل الزاوش وغيرهم.
صالون لبيبة هاشم:
لم يشتهر صالون لبيبة هاشم في القاهرة على نطاق واسع كشهرة صالون مي وكل ما نعرف عنه إنها كانت تستقبل فيه كلا من الشيخ علي يوسف وأحمد لطفي السيد وصديقتها الشاعرة وردة ناصيف اليازجي أخت الشيخ إبراهيم اليازجي الذي كان له الفضل في تعليم لبيبة اللغة العربية وأصول الخط الفارسي الجميل، ولعلها كانت تستقبل فيه أيضا كتاب مجلتها فتاة الشرق التي أنشأتها في القاهرة عام 1906 ولا ندري إذا ما كانت قد استأنفت استقبال الأدباء والكتاب في الفترة القضيرة التي عاشتها في دمشق بين عامي 1919 و1920 فقد كلفتها حكومة الملك فيصل الأول بوظيفة التفتيش في وزارة المعارف في سورية وهو منصب رفيع لم يسبق لامرأة عربية أن تقلدت مثله، ولما سقطت حكومة الملك فيصل إثر تهديد القوات الفرنسية الغازية بقيادة الجنرال غورو ودخوله دمشق عنوة غادرت لبيبة هاشم إلى تشيلي حيث استأنفت إصدار مجلتها هناك لكنها لم تلبث أن عادت إلى مصر في السنة التالية.
صالون السيدة هدى شعراوي:
كانت السيدة هدى شعراوي وجيهة مصرية ثرية تقدمت المظاهرات النسائية عام 1919 وحضرت المؤتمرات النسائية العربية والدولية لتدافع عن حقوق المرأة ولما توفي زوجها ترك لها ثروة ضخمة فأنفقت قسما منها على أعمال البر وتأسيس الجمعيات وتعليم الفتيات الفقيرات وإلقاء المحاضرات فقد دعت الأنسة كليمان سنة 1909 وسنة 1914 لإلقاء المحاضرات في صالونها على جماعات النساء المصريات، وكانت تستقبل في هذا الصالون الشرقي الأنيق الذي يعيد منظره ذكرى القصور البغدادية والأندلسية نخبة من المفكرين والسياسيين وتضفي على الحضور فيضا من أنسها وأريحيتها. تقول السيدة وداد سكاكيني إنها دعيت إلى صالونها ذات عشية فشهدت من صنوف رواده من كانوا ألمع رجال المجتمع المصري ونساءه كأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد وأحمد حسنين باشا والدكتور محمد حسين هيكل وغيرهم.
صالون ماري عجمي في دمشق:
عندما انحل عقد الرابطة الأدبية التي تاسست عام 1921 في دمشق التي أسسها الشاعر خليل مردم بك وتوقفت المجلة الناطقة باسمها، استأنف أعضاء الرابطة الأدبية لقاءاتهم في منزل الأنسة ماري عجمي في حي باب توما ووكان منزلا دمشقيا واسعا وعريقا يلتقي فيه كل من الشعراء والأدباء كخليل مردم بيك رئيس الرابطة وأحمد شاكر كرمي وأخيه أبو سلمى وفخري البارودي ومحمد الشريف وشفيق جبري وغيرهم.
حيث كان يطول الحوار والنقاش حول قضايا النقد والأدب ولم يكن الحديث عنيفا لأن ماري كانت تطبع المجلس بطابع النكتة والمرح.
صالون السيدة فضيلة فتال
تأسس صالون السيدة فضيلة فتال الأدبي في شهر كانون الأول عام 1988 ليكون ندوة شهرية مفتوحة يرتادها أهل الفكر والفن والثقافة والتربية وغيرهم من الشخصيات اللبنانية والعربية بغية خلق مناخ فكري ملاءم منفتح على جميع التيارات والاتجاهات والطوائف وتعزيز دور السلام والعدل في لبنان على أسس واضحة من الثقافة والفكر لأن الثقافة هي التي ينبغي أن تسود وهي وحدها التي تصنع التغيير والإصلاح وتغرس الوحدة الوطنية فمن خلالها يتقدم الوطن والمجتمع.
كان حلم تأسيس صالون أدبي يراود السيدة فضيلة فتال منذ أن كانت في الرابعة عشرة من العمر، وكانت وهي طالبة على مقاعد الدراسة تقرأ الكثير عن صالون مي زيادة وعن الصالونات الأدبية في فرنسا، وحين ترسخ الحلم في نفسها ترجمته إلى واقع وأفردت له مكانا واسعا في منزلها الفخم الأنيق وساعدها فيه كل من الشاعرة ناديا نصار رحمها الله والأستاذين يوسف مارون ونضال أبو حلقة كما تعاونت فيه مع عدد من الأدباء والكتاب السوريين بحكم قرب مدينة طرابلس من سورية.
يعقد الصالون ندواته وجلساته ومحضاراته مساء السبت الأول من كل شهر عدا شهري تموز وآب وشهر رمضان وتدور حول العلم والدين والأدب والفكر والسياسة والفلسفة والشعر والفن والبيئة والصحة والحياة والمرأة وغيرها. وبعد المحاضرة تدور المناقشات الموضوعية بروح رياضية هادئة ومتزنة.
تقول السيدة فضيلة عن صالونها الأدبي: إنه ملتقى فكري حضاري أو منبر حر أسعى من وراءه إلى تحقيق بعض الأهداف من خلال انتقاء بعض الأشخاص ليحاضروا فيه، حتى نقول ما نريد ونناقش ما نقول ليكون ذلك نقطة تواصل وارتقاء وقد حققنا بعض أهدافه ألا وهي الانفتاح التام وهذا ما كنا نفتقر إليه في لبنان، على جميع التيارات الفكرية والدينية والسياسية والثقافية وعلى الصالونات الأدبية الأخرى كصالون الشاعرة إنصاف الأعور معضاد ووصالون الدكتور جورج طربيه في منطقة جبل لبنان والصالون الجوال في منطقة البترون بالإضافة إلى اتصالاتنا المفتوحة مع البيت الثقافي في زغرتة، لسنا متقوقعين ضمن معينة فالصالون مثلا دعم ريمون أنطون وفرقته مسايا التي تقدم الأعمال الفنية الراقصة ونحن مستعدون للوقوف إلى جانب أي عمل فني راق.
أما اختيار المحاضرات فيأتي بعد درس دقيق للمحاضر واتجاهه الفكري وتوجه الدعوات للحضور عن طريق وسائل الإعلام وتغطي وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة نشاط الصالون على أكمل وجه، ويقوم مستشار الصالون الثقافي بتدوين كل ما يجري فيه من مناقشات ومداخلات وتعقيبات ويسجلها في دفتر خاص ثم يزود بها جريدة النهار أو جريدة الأنوار، وسوف يصدر الصالون كل ما ألقي فيه من محاضرات خلال السنوات الماضية في عدة مجلدات.
استهل صالون فضيلة نشاطه الأدبي في كانون الأول عام 1988 بمحاضرة للأستاذ أنطوان شدياق عنوانها (المرأة الرائدة ودورها في الحياة الأدبية) تحدث فيها عن أهمية الصالونات الأدبية وأهدافها وأبرز من أقاموها وعن السيدة فضيلة فتال وماري هاسكل التي لعبت دورا هاما في حياة جبران خليل جبران ودعا في محاضرته إلى تخصيص جائزة مالية قدرها خمسون ألف ليرة لبنانية لأفضل بحث عن ماري هاسكل، وهكذا انطلقت فكرة الجائزة من صالون فضيلة فتال الأدبي وارطبت به وهي تعطى سنويا للفائز الأول من المتبارين لطلاب البكالوريا اللبنانية القسم الثاني في الثانويات الرسمية والخاصة في لبنان الشمالي. وتأسست لجنة تضم كبار رجال التربية والتعليم والأدب والققضاء في لبنان، ثم توالت المحاضرات والندوات وقد بلغت حتى الآن أكثر من سبعين محاضرة وندوة أذكر منها (المرأة بين التغيير والتطور) للدكتورة آمال كبارة شعراني، (المثقفون والتغيير) للدكتور حسن دندشي، (الصالونات الأدبية في فرنسا) للدكتور محمد زيادة، (العلمنة) للدكتورة صفية سعادة، (حرية الإبداع للدكتور علي عقلة، (المرأة والحرية) للدكتور مصطفى الرافعي، (الموارنة والحضارة العربية) للدكتور سليم الضاهر، (الزواج المدني في الإسلام) للدكتورة منى حداد يكن، (النشاطات الاجتماعية في لبنان) للسيدة منى لهراوي، (فلسفة العبث) للدكتورة كلوديا أبي نادر، (من هم المسلمون العلويون) للشيخ أسد عاصي، (مستقبل عملية السلام في الشرق الأوسط) للدكتور جورج ديب، الحركات الأصولية ورواد الإصلاح للدكتور مصطفى الرافعي. وهناك محاضرات لإسكندر لوقا وغيره ولي أنا أيضا.
هذا ولصالونها رواد دائمون يتراوح عددهم بين 50و120 يقصدونه من سائر أنحاء لبنان.
صالون الشاعرة ابتسام صمادي:
تأسس هذا الصالون في دمشق عام 1997 ويعقد يوم الثلاثاء الأول من كل شهر في منزل الشاعرة، ولما كثر عدد رواده انتقلت به إلى خيمة الصنوبر في أتستراد المزة ثم إلى قاعة كبيرة في بناء برج الصالحية لتستطيع أن تستوعب رواده الذين يتراوح عددهم بين 50 إلى 125 شخصا من مختلف الفعاليات الأدبية والفكرية والثقافية في دمشق والمحافظات الأخرى إضافة إلى الضيوف من الأقطار العربية الشقيقة.
أقام صالون الشاعرة ابتسام صمادي العديد من الندوات الفكرية والأدبية منها (وضع المرأة بين عبد الناصر والسادات) للدكتورة غادة تلحمي، (الدولة الفلسطينية) لعلي فياض، (الأدب الحديث والشعر الحديث) للدكتور علوي هاشمي من جامعة البحرين، (دور المرأة في التشريع) لحنان نجمة، (النص التاريخي في الرواية) لنبيل سليمان، بالإضافة إلى عدد من الأمسيات الشعرية والثقافية، ويقام على هامش كل ندوة معرض فني تشكيلي لأحد الفنانين أو الفنانات وعزف على آلة موسيقية ويلقى ضيوف الصالون كل حفاوة وتكريم وترحيب من الشاعرة ابتسام صاحبة الصالون التي غالبا ما تختدم ندواتها بمختارات من شعرها الجميل.
صالون الأنسة جورجيت عطية:
أقامت الأنسة جورجيت عطية صالونها الأدبي في منزلها بحي القصور في دمشق بعد عودتها من باريس، ونيلها شهادة الدكتوراة في التاريخ ويعقد يوم الإثنين من كل شهر، حيث يتم فيه مناقشة الكتب الصادرة حديثا إما عن دار النشر التي تحمل اسمها أو عن دور أخرى. ومن الكتب التي نوقشت في الصالون كتاب (الجنس في الإسلام).
كما استضافت في صالونها السيدة سلمى الحفار الكزبري رحمها الله التي تحدثت عن الجهود المشكورة التي بذلتها على مدى السنوات الماضية لإحياء ذكرى الأديبة الرائدة مي زيادة وإعادة نشر أرائها وجمع رسائلها وعن المهرجان الذي أقيم في مسقط رأس والدها في لبنان وتسمية شارع ومدرسة باسمها في قرية شحتور.
كما استضافت الشاعرة العراقية لميا عباس عمارة والأديبة السعودية زينب الحفني.
إذا في دمشق اليوم أربعة صالونات ادبية لا تتعارض في مواعيد انعقادها؟، ويتوزع جمهور المثقفين على هذه الصالونات بكثرة دون تحيز أو تعصب لصالون دون الآخر فهي تتلاءم في أهدافها وتعمل كلها من أجل خدمة الأدب والفكر والفن وتدل على ما بلغته المرأة العربية السورية من نضج ووعي ورقي وتطور واطلاع الأمر الذي نفتقده في باقي المدن السورية الأخرى التي آمل أن تحذو حذو دمشق وتسير على منوالها.
عن موقع
الصالونات الأدبية النسائية في محاضرة للباحث عيسى فتوح
ألقى الاستاذ والباحث عيسى فتوح محاضرة في مكتبة الأسد الوطنية بعنوان الصالونات الأدبية النسائية في الوطن العربي. تحدث فيها عن الصالونات الثقافية والفكرية التي قامت وازدهرت على أيدي نساء عربيات ساهمن…