غاليري 68 وجيل الستينياتتتحول بعض المشاريع مع مرور الزمن إلي نوع من الأساطير، شعبية كانت، أو ثقافية، أو سياسية، أو فكرية، وكلما تقادم الزمن، ازدادت أسطرة تلك المشاريع، أو الظواهر، أو الشخصيات، خاصة أن كل قديم تصيبه لمسة قداسة ما، تفضي إلي التناول المريب، دون الخوض في مناقشة التفاصيل، خاصة أن أصابع الشياطين، كما أصابع الآلهة تكمن دوما في التفاصيل الدقيقة، ولأنه مع مرور الأزمنة، تختفي التفاصيل الدقيقة، ولاتبقى سوي الهالة، وما علي الباحث الجاد إلا أن يغوص عميقا، حتى يكتشف أصالة ورسوخ هذه الظاهرة، من عدمها..
***
ومن هذه المشاريع المهمة، والجليلة، والتي تستأهل المناقشة الجادة والعميقة، مشروع (جاليري 68)، هذه المجلة التي جاءت كتعبير عن مرحلة جديدة، وأفق تقدمي واضح، و (جاليري 68) الذي يبدو من عنوانها، أنها نشأت في عام 1968 هذا العام الذي يتسم بنهوض شبابي عالمي في الفكر والأدب والثقافة والسينما والسياسة لم تكن منفصلة عن هذا الحراك العالمي، وإذ بدت آنذاك أنها مشروع إقليمي محض، وصورته المخيلة الثقافية فيما بعد، أنه مشروع المترجم والباحث والناشط اللامع الشاب آنذاك إبراهيم منصور، الذي رحل عنا منذ عامين، وكان بالفعل أهم الناشطين، وأكثر المثقفين حبا لتأكيد وترسيخ ظاهرة الجيل، فاقترح، أن يقام معرض جماعي للفنانين التشكيليين الطليعيين، وسعي نحو تخصيص بعض العائد من بيع اللوحات في هذا المعرض لإنشاء مشروع ثقافي كبير، وقد جاءت (جاليري 68) من فضاء هذه المبادرة، بعد التحريض الذي قام به (منصور) لعدد من الأدباء والمثقفين الكبار منهم نجيب محفوظ للنهوض بهذا المشروع، الذي كان يعبر عن ذائقة مختلفة، وحس ثقافي وفني مغاير، وان لم يكن منبت الصلة عن الحراك الذي كان يجري في عقد الستينيات كله، ولا أغامر عندما أقول انه يبدأ من منتصف الستينيات، وحدوث هذا التقارب شبه الموضوعي بين بعض توجهات مثقفين وكتاب مرموقين، كانوا يعملون في أروقة السلطة، وقد مهدوا للأصوات التي ظهرت في (جاليري 68) في مجلاتهم، وبين الراعين ل (68)، ومن هذه المجلات (الطليعة) و(المجلة ) و(الكاتب)، و(الفكر المعاصر)، فضلا عن أن هزيمة 67 فجرت غضبا عارما، وسخطا ملحوظا، سمح لهذه الأصوات أن تجهر بما كان ممنوعا ومحرما من قبل، لذلك كانت (جاليري 68 ) ثمرة لحراك طويل، لكسر الحلقة الحديدية التي كانت تلف علي أعناق وحناجر الكتاب والفنانين والمثقفين، وجاء العدد الأول من المجلة في (مايو 68) وتصدرت المجلة أسماء عديدة، أحمد مرسي كرئيس للتحرير، وحسن سليمان مشرفا فنيا، ثم هيئة تحرير تتكون من (إبراهيم منصور) وادوار الخراط، وسيد حجاب، وغالب هلسا، ويسري خميس، ثم سكرتارية تحرير مكونة من (إبراهيم عبدالعاطي وسعيد عبدالوهاب)، ثم مدير التحرير القاص جميل عطية إبراهيم وتم التعديل والتبديل والحذف والتعديل في الوظائف والمهام، تعبيرا صراعات وصدامات بين اتجاهات، استطاعت أن تأتلف نسبيا لفترة وجيزة، ولم يصمد هذا التوحد أو الائتلاف إلا قليلا، أمام قوة الصراع الضاري الذي كان يدور في المجلة، وحولها، وفي كافة الأروقة الثقافية الحرة، التي تفتقت فيما بعد عن ظواهر ومشاريع ومطبوعات أخري، أشهرها جمعية كتاب الغد، ومطبوعات كتاب الطليعة ..
***
جاء التصدير أو البيان الأول في العدد الأول بقلم الفنان والشاعر السكندري أحمد مرسي، وهو رفيق عمر ادوار الخراط، مما يدل علي أن الخراط ومرسي كانا عمودي المجلة، حيث كان نصيبهما في النشر أكثر من أي كاتب أخر، ثم أن استمرارهما أيضا كان دليلا علي أنهما السقف المحافظ والواقي لاستمرار صدور المجلة، وبالأحرى تمويلها ...
والتصدير الذي كتبه أحمد مرسي جاء مبهما، ولايعبر إلا عن هذا التوحد التام مع التوجه العام.. يقول التصدير: (يعيش الوطن العربي هذه الأيام، تجربة مخاض عظيمة وأليمة، ذلك لأن النكسة العسكرية التي حلت بأمتنا لم تكن نهاية في حد ذاتها بل كانت الثمن الفادح للوقوف علي الحقيقة عارية، وهذه الحقيقة هي الأرض الصلدة التي نقف عليها بأقدامنا اليوم، في انتظار لحظة الميلاد المجيد، وبصدور العدد الأول من مجلة 68 في ظل الأحداث التاريخية والمصيرية التي تشهدها البلاد، لايسع المجلة إلا أن تقطع علي نفسها عهدا بأن يكون لها شرف وضع لبنة متواضعة في صرح الوطن الاشتراكي الديمقراطي الحر الجديد).. وبالطبع فإن الجملة الأخيرة جملة مطاطة وشديدة العمومية، فضلا عن أنها جملة وهمية، خاصة أن ما أعقبها شدد علي: (أن مجلة 68 ليست مجلة سياسية)، وهذا التشديد لازم المجلة طوال صدورهما، وكان مرسي والخراط يحرصان أساسا علي أن تنأي المجلة عن أية صراعات سياسية، حتى أنه في العدد الأخير، والذي صدر في فبراير 1971، كتب ادوار الخراط تحت عنوان (لماذا 68؟ ولماذا يجب أن تستمر؟ وجهة نظر شخصية جدا .. ).
كتب يقول: (نحن جماعة لايربطنا إلا أننا نريد أن نكون أوفياء لحقيقتنا، وحقيقتنا في الفن، شيء لا أحد يمكن أن يحدد علي وجه التحقيق، هي بنت المغامرة، والبحث).. ثم يصل إلي أن يقول: (أخطر مزلق أن تتردي فيه 68 أن تضع لنفسها 'بيانا'، وأن تتخذ موقفا لنفسها، وأن تصدر عن عقيدة).. ويردف: (أتمني ل 68 أن تكون ساحة مفتوحة، رحبة الهواء، ومتلاطمة، وأن تنأي بنفسها عن 'الالتزام ' المتزمت بالعقائد والأيديولوجيات).. أظن بهذه المقتطفات أن أدوار الخراط كان هو المسئول الذي يحاول أن يقي المجلة من بطش الدولة من ناحية، ومن ناحية أخري كان يريد أن ينأي بالمجلة عن الصراع السياسي الذي كان دائرا علي أشده في تلك الفترة، للدرجة التي جعلته يكتب تنويها خاصا في المقدمة التحريرية للعدد الخاص عن القصة القصيرة، هذا التنويه يتعلق بالدراستين اللتين كتبهما الأستاذان إبراهيم فتحي وغالب هلسا، وكأن هيئة التحرير تتبرأ من هاتين الدراستين، وتؤكد علي أن المسئولية في هاتين الدراستين لاتقع إلا عاتقهما (وحدهما)!!، بل أن هيئة التحرير، تؤمن بآراء وأحكام تتعلق بوضعية القصة القصيرة المصرية ومستقبلها قد تتعارض تعارضا بينا وأراء الناقدين إبراهيم فتحي وغالبا هلسا وأحكامهما!! وقد نوهت هيئة التحرير في هذا العدد بالأزمة المالية، الطاحنة التي تمر بها المجلة، كما تؤكد المقدمة علي: (أن هذه المجموعة من القصص تريد أن تقول أن القصة القصيرة في مصر لم تمت، بل لعلها تولد، وتولد للمرة الأولي، بعد إرهاصات مخاض طويل،.. وهذا الرأي الأخير لايفلت بالطبع من محاولة نفي أي جهود سابقة في القصة القصيرة، خاصة يوسف إدريس، الذي لم يكن له أي تمثيل في المجلة منذ صدورها الأول، حتى إغلاقها الأخير، رغم أن (جاليري 68) اهتمت بفن القصة القصيرة بامتياز، وأصدرت هذا العدد الخاص بالقصة القصيرة، وان كانت معظم قصصه ومواده منشورة من قبل في مجلات أخري، مثل (المجلة) و(الهلال) و(صباح الخير ) ، والأهم أنها أعدت ملفا رائعا وشديد الأهمية عن الكاتب الشاب اللامع آنذاك إبراهيم أصلان، وقلما نجد مثل هذه المبادرة تحدث في تاريخنا الأدبي، أن يراهن مشروع علي (أديب) ما.. وقد كان، فظل إبراهيم أصلان مخلصا لهذه المبادرة، وأمينا لهذا الرهان حتى الآن، وأصبح أهم كاتب قصة قصيرة في مصر، بل في عالمنا العربي ...
***
ورغم هذا الصراع الواضح بين هيئة التحرير، وبين المحررين بشكل عام، حيث أن المجلة لم تكن ملكا لأحد، ولم تستطع السلطة عبر ممثليها أن تهيمن عليها، رغم هذه الصراعات استطاعت أن ترسخ أسماء وكتابات وتوجهات طليعية، وان كان الحراك النقدي محتدما علي أشده.. ولم تنج أيضا 68 من آفة الاستبعاد لأسماء أخري كانت تعمل في الساحة، ولكن ذلك كان واضحا ومعلنا.. فيحتفي إبراهيم فتحي بالقصة القصيرة، قائلا: (هذا الإنتاج يحفل بأعمال لم تسقط في ابتذال البضاعة الفنية، ففي مصر تيار خصب لايقتصر علي القاهرة والإسكندرية بل يمتد ليشمل الأقاليم القريبة والنائية).. وكذلك 'غالب هلسا، ونجد صبري حافظ في العدد التالي يكتب دراسة تحت عنوان (الأقصوصة المصرية الحديثة)، يحتفي بهذا الفن، ويؤصل ويؤرخ له مشيدا بيوسف الشاروني، والذي يعتقد حافظ أنه هو الأب الشرعي لهذا النوع من الكتابة لا في مصر وحدها، بل في الأقصوصة العربية بأسرها، وذلك من تأثير مجموعته الأقصوصة الأولي (العشاق الخمسة)، وتوقف تأثير يوسف الشاروني، لأسباب هذا الفهم الساذج: (للفن والحياة معا، والذي سماه دعاة اليسار القادمين إلي الأدب عن طريق السياسة 'الواقعية الاشتراكية'، والذي أله الكتابات الفسحة والسطحية لعبدالرحمن الخميسي وعبدالرحمن الشرقاوي، ومحمد صدقي وغيرهم، والذي ساهم، وهذا هو الأنكى والأمر، في خلق فاصل عميق ساهم في تأخير حركة البعث والتجديد التي تعيشها الأقصوصة اليوم عن موعد عشر سنوات .
الأقصوصة
قدمت (جاليري 68) أسماء، ربما لم تستمر، في ذات الحقل، أو انقطعت تماما الكاتب اللامع إبراهيم بعدالعاطي، وعرفنا خليل كلفت شاعرا وقاصا وناقدا، وعرفنا أيضا يضم عطية شاعرا.. وكتب غالي شكري مقاله الشهير (ودعنا زدانوف إلي الأبد).. يرد فيه علي رؤوف نظمي الذي علق كتاب شكري (شعرنا الحديث إلي أي ).. وكان رؤوف نظمي ناقدا ماركسيا ميكانيكيا يصلح أن يكون ستالينسيا بامتياز ...
* / جاليري 68) تكاد تكون هي الثمرة العظمي لجيل الستينات، لدرجة أن الخراط يذهب إلي إطلاق جيل (68) علي جيل الستينيات .
أخبار الأدب
2 يوليو 2006
***
ومن هذه المشاريع المهمة، والجليلة، والتي تستأهل المناقشة الجادة والعميقة، مشروع (جاليري 68)، هذه المجلة التي جاءت كتعبير عن مرحلة جديدة، وأفق تقدمي واضح، و (جاليري 68) الذي يبدو من عنوانها، أنها نشأت في عام 1968 هذا العام الذي يتسم بنهوض شبابي عالمي في الفكر والأدب والثقافة والسينما والسياسة لم تكن منفصلة عن هذا الحراك العالمي، وإذ بدت آنذاك أنها مشروع إقليمي محض، وصورته المخيلة الثقافية فيما بعد، أنه مشروع المترجم والباحث والناشط اللامع الشاب آنذاك إبراهيم منصور، الذي رحل عنا منذ عامين، وكان بالفعل أهم الناشطين، وأكثر المثقفين حبا لتأكيد وترسيخ ظاهرة الجيل، فاقترح، أن يقام معرض جماعي للفنانين التشكيليين الطليعيين، وسعي نحو تخصيص بعض العائد من بيع اللوحات في هذا المعرض لإنشاء مشروع ثقافي كبير، وقد جاءت (جاليري 68) من فضاء هذه المبادرة، بعد التحريض الذي قام به (منصور) لعدد من الأدباء والمثقفين الكبار منهم نجيب محفوظ للنهوض بهذا المشروع، الذي كان يعبر عن ذائقة مختلفة، وحس ثقافي وفني مغاير، وان لم يكن منبت الصلة عن الحراك الذي كان يجري في عقد الستينيات كله، ولا أغامر عندما أقول انه يبدأ من منتصف الستينيات، وحدوث هذا التقارب شبه الموضوعي بين بعض توجهات مثقفين وكتاب مرموقين، كانوا يعملون في أروقة السلطة، وقد مهدوا للأصوات التي ظهرت في (جاليري 68) في مجلاتهم، وبين الراعين ل (68)، ومن هذه المجلات (الطليعة) و(المجلة ) و(الكاتب)، و(الفكر المعاصر)، فضلا عن أن هزيمة 67 فجرت غضبا عارما، وسخطا ملحوظا، سمح لهذه الأصوات أن تجهر بما كان ممنوعا ومحرما من قبل، لذلك كانت (جاليري 68 ) ثمرة لحراك طويل، لكسر الحلقة الحديدية التي كانت تلف علي أعناق وحناجر الكتاب والفنانين والمثقفين، وجاء العدد الأول من المجلة في (مايو 68) وتصدرت المجلة أسماء عديدة، أحمد مرسي كرئيس للتحرير، وحسن سليمان مشرفا فنيا، ثم هيئة تحرير تتكون من (إبراهيم منصور) وادوار الخراط، وسيد حجاب، وغالب هلسا، ويسري خميس، ثم سكرتارية تحرير مكونة من (إبراهيم عبدالعاطي وسعيد عبدالوهاب)، ثم مدير التحرير القاص جميل عطية إبراهيم وتم التعديل والتبديل والحذف والتعديل في الوظائف والمهام، تعبيرا صراعات وصدامات بين اتجاهات، استطاعت أن تأتلف نسبيا لفترة وجيزة، ولم يصمد هذا التوحد أو الائتلاف إلا قليلا، أمام قوة الصراع الضاري الذي كان يدور في المجلة، وحولها، وفي كافة الأروقة الثقافية الحرة، التي تفتقت فيما بعد عن ظواهر ومشاريع ومطبوعات أخري، أشهرها جمعية كتاب الغد، ومطبوعات كتاب الطليعة ..
***
جاء التصدير أو البيان الأول في العدد الأول بقلم الفنان والشاعر السكندري أحمد مرسي، وهو رفيق عمر ادوار الخراط، مما يدل علي أن الخراط ومرسي كانا عمودي المجلة، حيث كان نصيبهما في النشر أكثر من أي كاتب أخر، ثم أن استمرارهما أيضا كان دليلا علي أنهما السقف المحافظ والواقي لاستمرار صدور المجلة، وبالأحرى تمويلها ...
والتصدير الذي كتبه أحمد مرسي جاء مبهما، ولايعبر إلا عن هذا التوحد التام مع التوجه العام.. يقول التصدير: (يعيش الوطن العربي هذه الأيام، تجربة مخاض عظيمة وأليمة، ذلك لأن النكسة العسكرية التي حلت بأمتنا لم تكن نهاية في حد ذاتها بل كانت الثمن الفادح للوقوف علي الحقيقة عارية، وهذه الحقيقة هي الأرض الصلدة التي نقف عليها بأقدامنا اليوم، في انتظار لحظة الميلاد المجيد، وبصدور العدد الأول من مجلة 68 في ظل الأحداث التاريخية والمصيرية التي تشهدها البلاد، لايسع المجلة إلا أن تقطع علي نفسها عهدا بأن يكون لها شرف وضع لبنة متواضعة في صرح الوطن الاشتراكي الديمقراطي الحر الجديد).. وبالطبع فإن الجملة الأخيرة جملة مطاطة وشديدة العمومية، فضلا عن أنها جملة وهمية، خاصة أن ما أعقبها شدد علي: (أن مجلة 68 ليست مجلة سياسية)، وهذا التشديد لازم المجلة طوال صدورهما، وكان مرسي والخراط يحرصان أساسا علي أن تنأي المجلة عن أية صراعات سياسية، حتى أنه في العدد الأخير، والذي صدر في فبراير 1971، كتب ادوار الخراط تحت عنوان (لماذا 68؟ ولماذا يجب أن تستمر؟ وجهة نظر شخصية جدا .. ).
كتب يقول: (نحن جماعة لايربطنا إلا أننا نريد أن نكون أوفياء لحقيقتنا، وحقيقتنا في الفن، شيء لا أحد يمكن أن يحدد علي وجه التحقيق، هي بنت المغامرة، والبحث).. ثم يصل إلي أن يقول: (أخطر مزلق أن تتردي فيه 68 أن تضع لنفسها 'بيانا'، وأن تتخذ موقفا لنفسها، وأن تصدر عن عقيدة).. ويردف: (أتمني ل 68 أن تكون ساحة مفتوحة، رحبة الهواء، ومتلاطمة، وأن تنأي بنفسها عن 'الالتزام ' المتزمت بالعقائد والأيديولوجيات).. أظن بهذه المقتطفات أن أدوار الخراط كان هو المسئول الذي يحاول أن يقي المجلة من بطش الدولة من ناحية، ومن ناحية أخري كان يريد أن ينأي بالمجلة عن الصراع السياسي الذي كان دائرا علي أشده في تلك الفترة، للدرجة التي جعلته يكتب تنويها خاصا في المقدمة التحريرية للعدد الخاص عن القصة القصيرة، هذا التنويه يتعلق بالدراستين اللتين كتبهما الأستاذان إبراهيم فتحي وغالب هلسا، وكأن هيئة التحرير تتبرأ من هاتين الدراستين، وتؤكد علي أن المسئولية في هاتين الدراستين لاتقع إلا عاتقهما (وحدهما)!!، بل أن هيئة التحرير، تؤمن بآراء وأحكام تتعلق بوضعية القصة القصيرة المصرية ومستقبلها قد تتعارض تعارضا بينا وأراء الناقدين إبراهيم فتحي وغالبا هلسا وأحكامهما!! وقد نوهت هيئة التحرير في هذا العدد بالأزمة المالية، الطاحنة التي تمر بها المجلة، كما تؤكد المقدمة علي: (أن هذه المجموعة من القصص تريد أن تقول أن القصة القصيرة في مصر لم تمت، بل لعلها تولد، وتولد للمرة الأولي، بعد إرهاصات مخاض طويل،.. وهذا الرأي الأخير لايفلت بالطبع من محاولة نفي أي جهود سابقة في القصة القصيرة، خاصة يوسف إدريس، الذي لم يكن له أي تمثيل في المجلة منذ صدورها الأول، حتى إغلاقها الأخير، رغم أن (جاليري 68) اهتمت بفن القصة القصيرة بامتياز، وأصدرت هذا العدد الخاص بالقصة القصيرة، وان كانت معظم قصصه ومواده منشورة من قبل في مجلات أخري، مثل (المجلة) و(الهلال) و(صباح الخير ) ، والأهم أنها أعدت ملفا رائعا وشديد الأهمية عن الكاتب الشاب اللامع آنذاك إبراهيم أصلان، وقلما نجد مثل هذه المبادرة تحدث في تاريخنا الأدبي، أن يراهن مشروع علي (أديب) ما.. وقد كان، فظل إبراهيم أصلان مخلصا لهذه المبادرة، وأمينا لهذا الرهان حتى الآن، وأصبح أهم كاتب قصة قصيرة في مصر، بل في عالمنا العربي ...
***
ورغم هذا الصراع الواضح بين هيئة التحرير، وبين المحررين بشكل عام، حيث أن المجلة لم تكن ملكا لأحد، ولم تستطع السلطة عبر ممثليها أن تهيمن عليها، رغم هذه الصراعات استطاعت أن ترسخ أسماء وكتابات وتوجهات طليعية، وان كان الحراك النقدي محتدما علي أشده.. ولم تنج أيضا 68 من آفة الاستبعاد لأسماء أخري كانت تعمل في الساحة، ولكن ذلك كان واضحا ومعلنا.. فيحتفي إبراهيم فتحي بالقصة القصيرة، قائلا: (هذا الإنتاج يحفل بأعمال لم تسقط في ابتذال البضاعة الفنية، ففي مصر تيار خصب لايقتصر علي القاهرة والإسكندرية بل يمتد ليشمل الأقاليم القريبة والنائية).. وكذلك 'غالب هلسا، ونجد صبري حافظ في العدد التالي يكتب دراسة تحت عنوان (الأقصوصة المصرية الحديثة)، يحتفي بهذا الفن، ويؤصل ويؤرخ له مشيدا بيوسف الشاروني، والذي يعتقد حافظ أنه هو الأب الشرعي لهذا النوع من الكتابة لا في مصر وحدها، بل في الأقصوصة العربية بأسرها، وذلك من تأثير مجموعته الأقصوصة الأولي (العشاق الخمسة)، وتوقف تأثير يوسف الشاروني، لأسباب هذا الفهم الساذج: (للفن والحياة معا، والذي سماه دعاة اليسار القادمين إلي الأدب عن طريق السياسة 'الواقعية الاشتراكية'، والذي أله الكتابات الفسحة والسطحية لعبدالرحمن الخميسي وعبدالرحمن الشرقاوي، ومحمد صدقي وغيرهم، والذي ساهم، وهذا هو الأنكى والأمر، في خلق فاصل عميق ساهم في تأخير حركة البعث والتجديد التي تعيشها الأقصوصة اليوم عن موعد عشر سنوات .
الأقصوصة
قدمت (جاليري 68) أسماء، ربما لم تستمر، في ذات الحقل، أو انقطعت تماما الكاتب اللامع إبراهيم بعدالعاطي، وعرفنا خليل كلفت شاعرا وقاصا وناقدا، وعرفنا أيضا يضم عطية شاعرا.. وكتب غالي شكري مقاله الشهير (ودعنا زدانوف إلي الأبد).. يرد فيه علي رؤوف نظمي الذي علق كتاب شكري (شعرنا الحديث إلي أي ).. وكان رؤوف نظمي ناقدا ماركسيا ميكانيكيا يصلح أن يكون ستالينسيا بامتياز ...
* / جاليري 68) تكاد تكون هي الثمرة العظمي لجيل الستينات، لدرجة أن الخراط يذهب إلي إطلاق جيل (68) علي جيل الستينيات .
أخبار الأدب
2 يوليو 2006