تداعيات خبِرتها فى طفولتى حين كنا نسكن مطلع الأربعينيات فى بيتنا، 9 شارع العباسية ذى الطابقين والشقق الخمس، وكنا العائلة المسلمة الوحيدة فباقى الشقق تسكنها أربع عائلات يهودية واحدة منها أرضية منفردة فى مدخل العمارة يسكنها «فليكس» المخمور الذى يضرب زوجته «إلن» كل يوم وإذا حاول متطوع أن ينقذها يخرج مطواة ويقف بملابسه الداخلية مهددا: «أنا حماية فرنساوى!»، فى سلوك يسىء إلى واحدة من عمارات العباسية المحترمة التى يملكها تاجر السجاد الإيرانى مهدى رفيع مشكى.
كان اليهود بمذهبيهم: «الربانى» و«القرائى» كثافة عالية فى حى العباسية والسكاكينى والظاهر المتاخمين له، نراهم مواطنين مصريين لكنهم كانوا يفضلون التحوصل، لا يشترون ولا يتعاملون إلا مع الجزار والبقال والخردواتى والكواء حتى الإسكافى اليهودى، يفضلون أن يكونوا «خواجات» ومهما كان الود منا مبذولا كان الحرص منهم باديا. إذا استشعروا ضعفهم ابتسموا بتلطف، وإذا أحسوا القوة تعجرفوا، لذا كانت سياسة أمى معهم هى «اعرف صاحبك والزم»، لا يرون منا إلا حسن المعاشرة مع الاستغناء، يستعيرون أشياءنا ولا نستعير، وإن كنا نطالب باستعادة المستعار الذى غالبا ما كانوا يتعمدون نسيانه!
يطلبون خدماتنا مغرب الجمعة ليلة السبت لإطفاء وإشعال نور الكهرباء والنار ولمس النقود.. إلخ، فكلها محرم عندهم القيام بها حتى ليلة الأحد، نحترم عقيدتهم فى تسامح حثنا عليه ديننا رغم ما نلحظه من تعصب دفين، كل خادم ينادونه محمد مهما كان اسمه وكل خادمة فاطمة مهما كان اسمها. بيننا وبينهم تعامل هادئ فى إطار حقوق الجيران التى تحترمها أمى أشد الاحترام فالنبى أوصى على سابع جار!
لكن تلك الجيرة الطيبة لم تمنعنا من أن نرى المسافة الفاصلة بين تقاليدنا وتقاليدهم: كانوا أول من رأيتهم يلعب الورق بالفلوس ويشرب الخمر، رأيت من خلالهم كيف تفعل الخمر بالإنسان من صخب وشج رأس وقسم بوليس يخرج منه فليكس دائما حرا لأنه «حماية فرنساوى»! ناهيك عن حفلات «الدانس» - أى الرقص الأفرنجى - نتأذى لكن شعارنا «كل واحد حر فى بيته». ارتبطت الخمر وكل هذه الممارسات «الألافرانك» فى ذهنى باليهود، حتى إننى، فيما بعد، عندما كنت أرى مسلمين يشربون الخمر فى حفلات استقبال دبلوماسية أو صحفية كنت أراهم صورة تؤلمنى من جيراننا اليهود.
حين تصاعدت نذر «حرب فلسطين»، مع وباء الكوليرا (1947/1948)، لم يخطر ببالنا للحظة واحدة أن يهود مصر، جيراننا، يمكن أن ينحازوا لأعدائنا لأن أعداءنا لابد أنهم، بالمنطق والضرورة، أعداؤهم، لكن الصدمة تجلت حين كتبنا، أنا وأختى فاطمة، «فلسطين للعرب» على جدران سلم البيت وإذا بيد تشطب «للعرب» وتكتب «لليهود»، وعرفنا أنها راشيل حفيدة الحاخام التى كانت فى مثل عمرنا، بين العاشرة وفوقها.
استمرت الغارات وكل مولود يهودى يولد يسمونه «فيكتور» و«فيكتوريا»، (أى منتصر وانتصار). سافرت أسرة الحاخام كلها ليلا ومن قبلها هرب لازار إلى ما صرنا نسميه «إسرائيل المزعومة»، ذلك النتوء الشاذ لكيان صهيونى إرهابى عنصرى اعتمدت عصاباته المجرمة القتل والتفجير وبقر بطون الحوامل وتقطيع اللحم الفلسطينى بلا توقف تمهيدا لاقتلاعنا شيئا فشيئا ليتمكن تعصبهم المتخلف، ولنأكل الحصرم بتسامحنا المتحضر!
كان اليهود بمذهبيهم: «الربانى» و«القرائى» كثافة عالية فى حى العباسية والسكاكينى والظاهر المتاخمين له، نراهم مواطنين مصريين لكنهم كانوا يفضلون التحوصل، لا يشترون ولا يتعاملون إلا مع الجزار والبقال والخردواتى والكواء حتى الإسكافى اليهودى، يفضلون أن يكونوا «خواجات» ومهما كان الود منا مبذولا كان الحرص منهم باديا. إذا استشعروا ضعفهم ابتسموا بتلطف، وإذا أحسوا القوة تعجرفوا، لذا كانت سياسة أمى معهم هى «اعرف صاحبك والزم»، لا يرون منا إلا حسن المعاشرة مع الاستغناء، يستعيرون أشياءنا ولا نستعير، وإن كنا نطالب باستعادة المستعار الذى غالبا ما كانوا يتعمدون نسيانه!
يطلبون خدماتنا مغرب الجمعة ليلة السبت لإطفاء وإشعال نور الكهرباء والنار ولمس النقود.. إلخ، فكلها محرم عندهم القيام بها حتى ليلة الأحد، نحترم عقيدتهم فى تسامح حثنا عليه ديننا رغم ما نلحظه من تعصب دفين، كل خادم ينادونه محمد مهما كان اسمه وكل خادمة فاطمة مهما كان اسمها. بيننا وبينهم تعامل هادئ فى إطار حقوق الجيران التى تحترمها أمى أشد الاحترام فالنبى أوصى على سابع جار!
لكن تلك الجيرة الطيبة لم تمنعنا من أن نرى المسافة الفاصلة بين تقاليدنا وتقاليدهم: كانوا أول من رأيتهم يلعب الورق بالفلوس ويشرب الخمر، رأيت من خلالهم كيف تفعل الخمر بالإنسان من صخب وشج رأس وقسم بوليس يخرج منه فليكس دائما حرا لأنه «حماية فرنساوى»! ناهيك عن حفلات «الدانس» - أى الرقص الأفرنجى - نتأذى لكن شعارنا «كل واحد حر فى بيته». ارتبطت الخمر وكل هذه الممارسات «الألافرانك» فى ذهنى باليهود، حتى إننى، فيما بعد، عندما كنت أرى مسلمين يشربون الخمر فى حفلات استقبال دبلوماسية أو صحفية كنت أراهم صورة تؤلمنى من جيراننا اليهود.
حين تصاعدت نذر «حرب فلسطين»، مع وباء الكوليرا (1947/1948)، لم يخطر ببالنا للحظة واحدة أن يهود مصر، جيراننا، يمكن أن ينحازوا لأعدائنا لأن أعداءنا لابد أنهم، بالمنطق والضرورة، أعداؤهم، لكن الصدمة تجلت حين كتبنا، أنا وأختى فاطمة، «فلسطين للعرب» على جدران سلم البيت وإذا بيد تشطب «للعرب» وتكتب «لليهود»، وعرفنا أنها راشيل حفيدة الحاخام التى كانت فى مثل عمرنا، بين العاشرة وفوقها.
استمرت الغارات وكل مولود يهودى يولد يسمونه «فيكتور» و«فيكتوريا»، (أى منتصر وانتصار). سافرت أسرة الحاخام كلها ليلا ومن قبلها هرب لازار إلى ما صرنا نسميه «إسرائيل المزعومة»، ذلك النتوء الشاذ لكيان صهيونى إرهابى عنصرى اعتمدت عصاباته المجرمة القتل والتفجير وبقر بطون الحوامل وتقطيع اللحم الفلسطينى بلا توقف تمهيدا لاقتلاعنا شيئا فشيئا ليتمكن تعصبهم المتخلف، ولنأكل الحصرم بتسامحنا المتحضر!