برلين مساء الإثنين 27/12/1976
أخي محمد صالح
أعيش لحظة عميقة، الورقة مطروحة أمامي منذ آن لا تبرق في آفاقي بارقة، لا أظفر بشئ، بكلمة أفتتح بها خطابي إليك، فإن الأمر لدى كأمن في كلمات مفاتيح، ما أن أستأنف واحدة وأصفها في مستهل الصفحة حتى تنزل على قلبي شآبيب الكلام، لكن اللحظة عميقة، لقد شبعت في السقف تحديقا وفي الخواطر تقليبا، تنهدت كثيرا ولا يفتح الله على بشيء، قلت إذن فلنكتب عن اللحظات الغبيات العواقر.
وعاقر كلمة جارحة، فأنا أنشئت في قرية تقدس الولادة، وكان لي قريبات وغير قريبات، وفيهن العواقر، وكم رأيت على وجههن الألم، وكم شاهدت الأسفار إلى مشاهد الشيوخ ومنازل الكاتبين، ورأيت كيف اصطنعت الاحجبة ومزجت العقاقير وطبخت الجواهر وركبت الفوائد..وظلت كلمة عاقر كلمة قبيحة جارحة.. يا أخي كم هي ثقيلة على النفس تلك اللحظات العواقيم العواقر.
يكون الشوق إذن إلى شروق تلك "الكلمة" في آفاق النفس تصحو الأعضاء على هذا الصبح ناشطة على مدارج الفعل، راقية إلى ذروة الفرح حيث الكلام كشفا ولقاء الصديق في كل مرة خلقا. في البدء إذن تكون "الكلمة" هكذا في مستهل العهد القديم، ثم يكون العالم التوراتي منبثق من هذة الكلمة.
كان محمد النبي مقداما جسورا، وكان يمتلك ناصية البيان، وكان إذا أعيته هذه الكلمة "المفتاح" لم يتلعثم ولم يحجم إنما القى الحروف المتتابعات الغوامض: ألم، حم، كهيعص.. ثم يتدفق القول من عاديات ضبحا، موريات قدحا، واسطات جمعا.
وأنا لما عجزت قلت فلأكتب عن البلادة وعن الاستعصاء، وحتى هذا ما وسعني أن أحيط به، لأنه يستأذيني أن أعرف ما المطلوب لأدرك حجم هذا الاستعصاء، والسؤال من أنت لي؟ ومن أنا لك؟ واللغة بقدر ما تكون في بعض الأحيان عجزا تكون في آخر إعجازا، حسبها أن تكون سؤالا كهذا في كلمات قليلات صيغ، وما أحسبها في أي عدد من الكلمات بقادرة على أن تحير جوابا.
استحضرت اللحظات جميعها ما وسعني التذكر، والكلمات كلها، ولقد ثبت لدى أنيي آذيتك كثيرا، ولقد ثبت لدى أنك تملك قدرة خارقة على الصمت، وأنك بصمتك هذا أهنتني كثيرا.
تقول في خطابك هذا "ولأنه مع البعد تختفي التفاصيل الصغيرة فإن الكتابة الأدبية بشكل منظم ربما ساعدتنا جميعا على الوقوف على مثل هذة التفصيلات" وتقول إنك ستحاول أن ترسل لي مجموعة من القصائد الجديدة لك، وأحاول أن أتذكر شعرك، ليس في يدي نص، أتذكر قصيدة المماليك وتلك التي فيها شئ من كوبري الجامعة، ثم قصيدة صغيرة أخرى بعيدة وغامضة ذكراها في رأسي تماما، أتذكر هذا الشعر وأجده فيما أعلم من أكثر الكلام حفولا بالصمت.. ليس على فقط تمارس كبرياءك.. بل على هذا العالم.
أتكون رغبتي في دفعك إلى منطقة الكلام كانت احيانا خشنة حتى الإيذاء؟ ربما وهنا لا يكون الإيذاء مستهدفا لذاته بل هو إذن بحث غليل عن إجابة ضائعة، وربما يكون العالم الذي يسمعنا ياأخي لا زال يبحث في شعرك عن إجابة.. إنني أنتظر قصائدك فأعجل بإرسالها. لكننا يجمهنا أيا ما كان الأمر هذا الشعر على ما فيه من صمت بل بما فيه من صمت، فإنه يرتله ترتيلا، يوثق أركانه، ينسج خيوطه الملحاحة حول كل أشياء القصيدة يجعل من القمر ليمونه، والشجر تدهن بالأبيض كشاهد قبر، يملاء القصيدة بالوحشية يجعلها إدانة تشعر القارئ بالمذلة.. إن كنت قد أحسنت التذكر.
يجمعنا هذا الشعر إذن، وربما هو يوحدنا، من حيث أنه رؤية أخرى لمأساتنا التي لا مثيل لها، وأنا قد نذرت بضع سنين من حياتي لأقرأ كل كتبناه جميعا وأن أجد سبيلا لفهمه ووضعه في سياق تاريخ الثقافة في بلدنا، وأتصور أنك من الذين يدركون عملي هذا يحسون به.
لهذا أفكر بك لأن تشترك معي قليلا في العمل، ولقد أرسلت مع حسني عددا من الأسئلة لتوجه إلى عدد من الكتاب وأسألك أن تقوم بهذا وأن تحتال حتى تصل على أوفى إجابة من كل واحد منهم على النسق الذي سيوضحه لك حسني وأن تكتب الإجابات جميعها على الآلة الكاتبة في ورق من نوع وقطع واحد وأن يوقع كل كاتب على إجابته.
لقد فوضت حسني أن يعطيك خمسين جنيها، فقد يكلفك الأمر أن تسافر في حالة عفيفي مطر، عندئذ سافر بالدرجة الثانية ونم في فندق مريح جدا وخذ لنفسك أجرا عن اليوم بما أنفقته ثلاثة جنيهات، وإذا جالست واحد منهم على مقهى فأنفق على الجلسة بسخاء وخذ لنفسك جنيهين على المساء الذي تقضيه في هذا العمل ـ ثم أكتب كل شيء على الآلة الكاتبة وأعط الكاتب أجره المعتاد، وإذا احتجت أكثر من الخمسين جنيها اكتب لي أرسل لك فورا وإذا تبقى منها شيء فهو لك، سلم لي على محمد يوسف، وقل له يضع قصيدة من قصائده في خطاب ويرسله لي سيكلفه هذا قروشا وسوف يسعدني سعادة لا حدود لها.
سلم على روميش، لقد كانت ليلتي الأولى في برلين أرقه، كانت الوسادة محشوة ريشا، لم أتعود على هذا وغثيت نفسي، وكأن الفراش نظيفا بشكل غير إنساني والغرفة مقبضه أحسست بالخوف أخرجت مجموعة روميش قرأت "الليل الرحم" امتلأت غرفتي أنسا فنمت إلى هذا الأخ الكريم كل تحياتي ومحبتي. سلامي إلى سمسمه لو كانت ما تزال تذكر أخاها. أحيانا أتصورها قادمة على طفلة عليها جلباب كستور ترفع ذيله وتخرج من جيبها علبة سجائر وتعطيها لي صامتة، هذة الأخت الحبيبة. ولقد اححت عليكم أن ترسلوا صورة لعبد الحكيم، وكنت قد أزمعت ألا أشير إلى هذا مرة أخرى، لكنني الآن أفعل، أرجو ألا تجعلوني أعود إلى الصمت مرة أخرى. سلم لي على الناس في منية شنتنا عياشى، أكون شاكرا لو ذكرتني عندهم وأن تحمل لهم مودتي.
والسلام عليكم
عبد الحكيم
أخي محمد صالح
أعيش لحظة عميقة، الورقة مطروحة أمامي منذ آن لا تبرق في آفاقي بارقة، لا أظفر بشئ، بكلمة أفتتح بها خطابي إليك، فإن الأمر لدى كأمن في كلمات مفاتيح، ما أن أستأنف واحدة وأصفها في مستهل الصفحة حتى تنزل على قلبي شآبيب الكلام، لكن اللحظة عميقة، لقد شبعت في السقف تحديقا وفي الخواطر تقليبا، تنهدت كثيرا ولا يفتح الله على بشيء، قلت إذن فلنكتب عن اللحظات الغبيات العواقر.
وعاقر كلمة جارحة، فأنا أنشئت في قرية تقدس الولادة، وكان لي قريبات وغير قريبات، وفيهن العواقر، وكم رأيت على وجههن الألم، وكم شاهدت الأسفار إلى مشاهد الشيوخ ومنازل الكاتبين، ورأيت كيف اصطنعت الاحجبة ومزجت العقاقير وطبخت الجواهر وركبت الفوائد..وظلت كلمة عاقر كلمة قبيحة جارحة.. يا أخي كم هي ثقيلة على النفس تلك اللحظات العواقيم العواقر.
يكون الشوق إذن إلى شروق تلك "الكلمة" في آفاق النفس تصحو الأعضاء على هذا الصبح ناشطة على مدارج الفعل، راقية إلى ذروة الفرح حيث الكلام كشفا ولقاء الصديق في كل مرة خلقا. في البدء إذن تكون "الكلمة" هكذا في مستهل العهد القديم، ثم يكون العالم التوراتي منبثق من هذة الكلمة.
كان محمد النبي مقداما جسورا، وكان يمتلك ناصية البيان، وكان إذا أعيته هذه الكلمة "المفتاح" لم يتلعثم ولم يحجم إنما القى الحروف المتتابعات الغوامض: ألم، حم، كهيعص.. ثم يتدفق القول من عاديات ضبحا، موريات قدحا، واسطات جمعا.
وأنا لما عجزت قلت فلأكتب عن البلادة وعن الاستعصاء، وحتى هذا ما وسعني أن أحيط به، لأنه يستأذيني أن أعرف ما المطلوب لأدرك حجم هذا الاستعصاء، والسؤال من أنت لي؟ ومن أنا لك؟ واللغة بقدر ما تكون في بعض الأحيان عجزا تكون في آخر إعجازا، حسبها أن تكون سؤالا كهذا في كلمات قليلات صيغ، وما أحسبها في أي عدد من الكلمات بقادرة على أن تحير جوابا.
استحضرت اللحظات جميعها ما وسعني التذكر، والكلمات كلها، ولقد ثبت لدى أنيي آذيتك كثيرا، ولقد ثبت لدى أنك تملك قدرة خارقة على الصمت، وأنك بصمتك هذا أهنتني كثيرا.
تقول في خطابك هذا "ولأنه مع البعد تختفي التفاصيل الصغيرة فإن الكتابة الأدبية بشكل منظم ربما ساعدتنا جميعا على الوقوف على مثل هذة التفصيلات" وتقول إنك ستحاول أن ترسل لي مجموعة من القصائد الجديدة لك، وأحاول أن أتذكر شعرك، ليس في يدي نص، أتذكر قصيدة المماليك وتلك التي فيها شئ من كوبري الجامعة، ثم قصيدة صغيرة أخرى بعيدة وغامضة ذكراها في رأسي تماما، أتذكر هذا الشعر وأجده فيما أعلم من أكثر الكلام حفولا بالصمت.. ليس على فقط تمارس كبرياءك.. بل على هذا العالم.
أتكون رغبتي في دفعك إلى منطقة الكلام كانت احيانا خشنة حتى الإيذاء؟ ربما وهنا لا يكون الإيذاء مستهدفا لذاته بل هو إذن بحث غليل عن إجابة ضائعة، وربما يكون العالم الذي يسمعنا ياأخي لا زال يبحث في شعرك عن إجابة.. إنني أنتظر قصائدك فأعجل بإرسالها. لكننا يجمهنا أيا ما كان الأمر هذا الشعر على ما فيه من صمت بل بما فيه من صمت، فإنه يرتله ترتيلا، يوثق أركانه، ينسج خيوطه الملحاحة حول كل أشياء القصيدة يجعل من القمر ليمونه، والشجر تدهن بالأبيض كشاهد قبر، يملاء القصيدة بالوحشية يجعلها إدانة تشعر القارئ بالمذلة.. إن كنت قد أحسنت التذكر.
يجمعنا هذا الشعر إذن، وربما هو يوحدنا، من حيث أنه رؤية أخرى لمأساتنا التي لا مثيل لها، وأنا قد نذرت بضع سنين من حياتي لأقرأ كل كتبناه جميعا وأن أجد سبيلا لفهمه ووضعه في سياق تاريخ الثقافة في بلدنا، وأتصور أنك من الذين يدركون عملي هذا يحسون به.
لهذا أفكر بك لأن تشترك معي قليلا في العمل، ولقد أرسلت مع حسني عددا من الأسئلة لتوجه إلى عدد من الكتاب وأسألك أن تقوم بهذا وأن تحتال حتى تصل على أوفى إجابة من كل واحد منهم على النسق الذي سيوضحه لك حسني وأن تكتب الإجابات جميعها على الآلة الكاتبة في ورق من نوع وقطع واحد وأن يوقع كل كاتب على إجابته.
لقد فوضت حسني أن يعطيك خمسين جنيها، فقد يكلفك الأمر أن تسافر في حالة عفيفي مطر، عندئذ سافر بالدرجة الثانية ونم في فندق مريح جدا وخذ لنفسك أجرا عن اليوم بما أنفقته ثلاثة جنيهات، وإذا جالست واحد منهم على مقهى فأنفق على الجلسة بسخاء وخذ لنفسك جنيهين على المساء الذي تقضيه في هذا العمل ـ ثم أكتب كل شيء على الآلة الكاتبة وأعط الكاتب أجره المعتاد، وإذا احتجت أكثر من الخمسين جنيها اكتب لي أرسل لك فورا وإذا تبقى منها شيء فهو لك، سلم لي على محمد يوسف، وقل له يضع قصيدة من قصائده في خطاب ويرسله لي سيكلفه هذا قروشا وسوف يسعدني سعادة لا حدود لها.
سلم على روميش، لقد كانت ليلتي الأولى في برلين أرقه، كانت الوسادة محشوة ريشا، لم أتعود على هذا وغثيت نفسي، وكأن الفراش نظيفا بشكل غير إنساني والغرفة مقبضه أحسست بالخوف أخرجت مجموعة روميش قرأت "الليل الرحم" امتلأت غرفتي أنسا فنمت إلى هذا الأخ الكريم كل تحياتي ومحبتي. سلامي إلى سمسمه لو كانت ما تزال تذكر أخاها. أحيانا أتصورها قادمة على طفلة عليها جلباب كستور ترفع ذيله وتخرج من جيبها علبة سجائر وتعطيها لي صامتة، هذة الأخت الحبيبة. ولقد اححت عليكم أن ترسلوا صورة لعبد الحكيم، وكنت قد أزمعت ألا أشير إلى هذا مرة أخرى، لكنني الآن أفعل، أرجو ألا تجعلوني أعود إلى الصمت مرة أخرى. سلم لي على الناس في منية شنتنا عياشى، أكون شاكرا لو ذكرتني عندهم وأن تحمل لهم مودتي.
والسلام عليكم
عبد الحكيم