برلين الغربية صباح الخميس 3/5/1984
عزيزي إدوار الخرّاط
وصلني خطابك صباح اليوم. يوم شمس دافئ آخر. الأشجار الشاهقة في الرحبة التي تطل عليها شرفتنا أورقت بحق. أي كمية هائلة من اللون والنضرة اختزنتها الأرض طول الشتاء. وضعت بعض الحب والماء على السياج حيث يقع الطير. الآن يغرد بلبل، بيني وبينه الزجاج وطيات محزمات الستارة. وقبل ليلتين كان قد مرّ عليّ وأنا ساهر في عملي كممارس مفتش من الشركة. ألماني قصير ضئيل. كنت في خلاء مشجر. قال الرجل إن البلابل هنا تُسمع كأحسن ما تكون، وقال إنها ستغرد بضعة أسابيع فقط، ثم تجد الأزواج إلى بعضها وتقل حرقة الشوق. اتصلت بي زينب من الخارج وسألت ماذا قال إدوار في خطابه. قلت لها قال إن الأشياء القديمة ما زالت كما هي.
ولقد ذكرني خطابك، كنت قد دأبت لسنين طويلة في القاهرة أن أقضى عيد القيامة في المعلقة. أما هذه المعابد الأوروبية فإنني أستمتع بها كما أستمتع بالأوبرا تماماً. موسيقى وثياب وطقوس. ولقد جهدت أن أشرح وجهة نظري لألفريد: إن أمي مسلمة ريفية تقية، هي أكثر مسيحية من أي سيدة أوروبية مسيحية. لكن ألفريد قال: إن المسيحية هي الثالوث والأسرار... وهي في مصر وفي أوروبا سواء... بهذا تركته. على استحياء أرجوك يا إدوار أن تأخذ مجموعة قصص "الأشواق والأسى" من الصديق عبده جبير وأن تعطيها لصنع الله ابراهيم أو رؤوف مسعد بسطا أو ركسان شهدي عطية بنفسها في دكانها 15 ش البرازيل بالزمالك وترجوهم أن ينشروها مثلما نشروا مجموعة محمود الورداني... هل تقوم بذلك من أجلي وفوراً. فإذا كانت دار شهدى غير مستعدة فابحث عن دار أخرى وقل لي... إن هذا الكتاب في درجي منذ عشرين عاماً تقريباً.
لا زال الدفء وروعة ضوء الشمس.. إن ذلك وصلني إلى القاهرة التي هي في ذاكرة أمير وإيزيس صيف فقط.. صيف وحر وتراب ووساخة.. نشتاق لهذا كأنه هو فقط الحياة الحقة وما غيره معصية.
تحياتي وإلى لقاء
***
برلين صباح السبت 15/9/84
عزيزي إدوار
ها نحن في برلين. عربة أجرة تقلنا ومتاعنا إلى بيتنا. الذين قابلونا حيّيناهم باختصار، دخلنا وعلى الفور بدأت حياتنا العادية في مسكننا. كل الأشياء في أماكنها المألوفة، تمتد إليها أيدينا من دون أن ننظر، نروح ونجيء في المسارات القديمة. هكذا يلتحم الوقتان قبل الإجازة وبعدها حتى تسقط هذه في نوع من نسيان متعجب مستغرب. هكذا كان الأمر في القاهرة حيث عدنا لبيتنا وكأننا لم نبارحه أبداً. ضحكت جداً من استئناف عالمين تفرقهما مسافة هائلة. ولم أدر أأفرح بهذا أم أحزن له. أياً ما كان الأمر فقد وجدنا برلين باردة، ووجدنا ديوناً وإن قليلة جداً بالمقارنة للعام الماضي وانتظمنا في أعمالنا وما يحيط بذلك من خوف وحذر ولهفة. إنني أقرب للناس والأشياء في القاهرة.
شيء خاص بيننا أريد أن أتجاسر عليه بالمناقشة، لدي يقين أنك غاضب عليّ. من ناحيتي أنا لست غاضباً عليك، هناك أشياء أنتقدها فيك كفنان، وهناك نظريات لك أختلف معك فيها أشد الخلاف. وثمة منهج لحياتك كمثقف مصري قد أتعشم أن يكون غير ذلك. لكنني لست غاضباً منك، بل إنني أقدرك كإنسان وفنان ومفكر ومثقف تقديراً شديداً. وأذكرك أنني الذي سعى لصداقتك وأصر ويصر عليها. ثم إنك رجل يمكن الكلام معه في كثير من الموضوعات والمحاذير قليلة ومحدودة. لكنني أحس أنك غاضب مني، لذلك فالموازين بيننا غير معتدلة وينبغي الكلام فيها.
عاتبتني بشكل سريع وغامض إنني أتكلم عن كتابتك في غير حضورك. وأنا قبل كل شيء دعني أبصق في وجه من نقل هذا لا لأنه كذب، بل لأنه بالضرورة انتقص الحقيقة من أطرافها. والناقص أن كلامي العالي النغمة في نقده كان فصلاً مليئاً بالحب والتقدير. غير أنني أهملت "أصول الجدعنة" ولم أنتظر لتكون حاضراً. إنني لا أفعل هذا عادة ولن أحرص عليه مستقبلاً. إنني إذا امتلأت بفكرة مضيت أتكلم عنها لا أكف. ولا أريد أن تكون صداقتنا إصراً عليّ، بل أريد لها أن تعطيني إزاءك حرية لم تكن لي.
أرسل لك صفحات لتلحقها برجوع الشيخ وتعدم مقابلها. إنني فكرت طويلاً في (إنبعاج البناء) الذي حدثتني عنه، يشغلني، أعتقد أن المسألة أعمق من ذلك. وأتصور أن النقلة من جو حضري عربي إسلامي في الأجزاء الثلاثة الأولى إلى جو فلاحي مصري في الجزء الرابع مفاجئ وحاد حتى ليشكل ليس فقط انبعاجاً في البناء بل أيضاً في المحتوى والمناخ الروحي للعمل. أرجو أن تتحدث مع محمود درويش ليتيح لي أن أغيّر مرة أخرى صفحة أو اثنتين وأرسلهما له على عنوانه في باريس أو نيقوسيا أو غير ذلك.
رجاء أن تكتب أسفل القصة أنها تمت في القاهرة 3/9/84 وأن تكتب أعلاها: (مهداة إلى الأخوة الأصدقاء أعضاء اتحاد الكتاب المغربي شكراً وتحية).
أنت مدين لي برد على خطاب كتبته لك من برلين قبل الإجازة الآن أصبحت مديناً باثنين أنا في انتظارهما.
عبدالحكيم
عزيزي إدوار الخرّاط
وصلني خطابك صباح اليوم. يوم شمس دافئ آخر. الأشجار الشاهقة في الرحبة التي تطل عليها شرفتنا أورقت بحق. أي كمية هائلة من اللون والنضرة اختزنتها الأرض طول الشتاء. وضعت بعض الحب والماء على السياج حيث يقع الطير. الآن يغرد بلبل، بيني وبينه الزجاج وطيات محزمات الستارة. وقبل ليلتين كان قد مرّ عليّ وأنا ساهر في عملي كممارس مفتش من الشركة. ألماني قصير ضئيل. كنت في خلاء مشجر. قال الرجل إن البلابل هنا تُسمع كأحسن ما تكون، وقال إنها ستغرد بضعة أسابيع فقط، ثم تجد الأزواج إلى بعضها وتقل حرقة الشوق. اتصلت بي زينب من الخارج وسألت ماذا قال إدوار في خطابه. قلت لها قال إن الأشياء القديمة ما زالت كما هي.
ولقد ذكرني خطابك، كنت قد دأبت لسنين طويلة في القاهرة أن أقضى عيد القيامة في المعلقة. أما هذه المعابد الأوروبية فإنني أستمتع بها كما أستمتع بالأوبرا تماماً. موسيقى وثياب وطقوس. ولقد جهدت أن أشرح وجهة نظري لألفريد: إن أمي مسلمة ريفية تقية، هي أكثر مسيحية من أي سيدة أوروبية مسيحية. لكن ألفريد قال: إن المسيحية هي الثالوث والأسرار... وهي في مصر وفي أوروبا سواء... بهذا تركته. على استحياء أرجوك يا إدوار أن تأخذ مجموعة قصص "الأشواق والأسى" من الصديق عبده جبير وأن تعطيها لصنع الله ابراهيم أو رؤوف مسعد بسطا أو ركسان شهدي عطية بنفسها في دكانها 15 ش البرازيل بالزمالك وترجوهم أن ينشروها مثلما نشروا مجموعة محمود الورداني... هل تقوم بذلك من أجلي وفوراً. فإذا كانت دار شهدى غير مستعدة فابحث عن دار أخرى وقل لي... إن هذا الكتاب في درجي منذ عشرين عاماً تقريباً.
لا زال الدفء وروعة ضوء الشمس.. إن ذلك وصلني إلى القاهرة التي هي في ذاكرة أمير وإيزيس صيف فقط.. صيف وحر وتراب ووساخة.. نشتاق لهذا كأنه هو فقط الحياة الحقة وما غيره معصية.
تحياتي وإلى لقاء
***
برلين صباح السبت 15/9/84
عزيزي إدوار
ها نحن في برلين. عربة أجرة تقلنا ومتاعنا إلى بيتنا. الذين قابلونا حيّيناهم باختصار، دخلنا وعلى الفور بدأت حياتنا العادية في مسكننا. كل الأشياء في أماكنها المألوفة، تمتد إليها أيدينا من دون أن ننظر، نروح ونجيء في المسارات القديمة. هكذا يلتحم الوقتان قبل الإجازة وبعدها حتى تسقط هذه في نوع من نسيان متعجب مستغرب. هكذا كان الأمر في القاهرة حيث عدنا لبيتنا وكأننا لم نبارحه أبداً. ضحكت جداً من استئناف عالمين تفرقهما مسافة هائلة. ولم أدر أأفرح بهذا أم أحزن له. أياً ما كان الأمر فقد وجدنا برلين باردة، ووجدنا ديوناً وإن قليلة جداً بالمقارنة للعام الماضي وانتظمنا في أعمالنا وما يحيط بذلك من خوف وحذر ولهفة. إنني أقرب للناس والأشياء في القاهرة.
شيء خاص بيننا أريد أن أتجاسر عليه بالمناقشة، لدي يقين أنك غاضب عليّ. من ناحيتي أنا لست غاضباً عليك، هناك أشياء أنتقدها فيك كفنان، وهناك نظريات لك أختلف معك فيها أشد الخلاف. وثمة منهج لحياتك كمثقف مصري قد أتعشم أن يكون غير ذلك. لكنني لست غاضباً منك، بل إنني أقدرك كإنسان وفنان ومفكر ومثقف تقديراً شديداً. وأذكرك أنني الذي سعى لصداقتك وأصر ويصر عليها. ثم إنك رجل يمكن الكلام معه في كثير من الموضوعات والمحاذير قليلة ومحدودة. لكنني أحس أنك غاضب مني، لذلك فالموازين بيننا غير معتدلة وينبغي الكلام فيها.
عاتبتني بشكل سريع وغامض إنني أتكلم عن كتابتك في غير حضورك. وأنا قبل كل شيء دعني أبصق في وجه من نقل هذا لا لأنه كذب، بل لأنه بالضرورة انتقص الحقيقة من أطرافها. والناقص أن كلامي العالي النغمة في نقده كان فصلاً مليئاً بالحب والتقدير. غير أنني أهملت "أصول الجدعنة" ولم أنتظر لتكون حاضراً. إنني لا أفعل هذا عادة ولن أحرص عليه مستقبلاً. إنني إذا امتلأت بفكرة مضيت أتكلم عنها لا أكف. ولا أريد أن تكون صداقتنا إصراً عليّ، بل أريد لها أن تعطيني إزاءك حرية لم تكن لي.
أرسل لك صفحات لتلحقها برجوع الشيخ وتعدم مقابلها. إنني فكرت طويلاً في (إنبعاج البناء) الذي حدثتني عنه، يشغلني، أعتقد أن المسألة أعمق من ذلك. وأتصور أن النقلة من جو حضري عربي إسلامي في الأجزاء الثلاثة الأولى إلى جو فلاحي مصري في الجزء الرابع مفاجئ وحاد حتى ليشكل ليس فقط انبعاجاً في البناء بل أيضاً في المحتوى والمناخ الروحي للعمل. أرجو أن تتحدث مع محمود درويش ليتيح لي أن أغيّر مرة أخرى صفحة أو اثنتين وأرسلهما له على عنوانه في باريس أو نيقوسيا أو غير ذلك.
رجاء أن تكتب أسفل القصة أنها تمت في القاهرة 3/9/84 وأن تكتب أعلاها: (مهداة إلى الأخوة الأصدقاء أعضاء اتحاد الكتاب المغربي شكراً وتحية).
أنت مدين لي برد على خطاب كتبته لك من برلين قبل الإجازة الآن أصبحت مديناً باثنين أنا في انتظارهما.
عبدالحكيم