عبدالله حمودي - كرنفال في المغرب العربي حول كتاب «الضحية وأقنعتها».. ت: محمد أسليـم

من سوء حظ الإثنوغرافيين المتمسكين دوما بإنتاج خطاب حول المجتمع الذي يلاحظونه أنهم لا يعثرون دوما على خطاب يكونه هذا المجتمع عن نفسه ويرفقه بشرحه (ص. 24). ويعد الكتاب الذي نشره مؤخرا الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي نموذجا متميزا على قدرة ثقافة من الثقافات على صياغة خطاب في منتهى الجلاء عن نفسها وتقديمه لمن أراد الإنصات إليها.

في إحدى القرى الأمازيغية المغربية اسمها إيمين تاسانت، لكن أيضا في العديد من مناطق المغرب العربي، يتم تخليد احتفال سنوي ذي مظهرين متناقضين في الظاهر: يوم عيد الأضحى يذبح القرويون أضحيتهم مثلما يفعل مسلمو العالم بأسره في هذا اليوم، لكن ما أن يحل الزوال حتى ينطلق تقنع (mascarade) جامح سغير لمدة عدة أيام جميع القواعد السائدة والمعتادة. أي صلة تربط عيد الأضحى بالتقنع؟ ! يقوم مشروع الكتاب على إظهار كيف أن هذين المظهرين المتناقضين ظاهريا إنما هما متلاحمان في العمق تحت علامة التناقض الوجداني (l’ambivalence).

يبدأ هذا التناقض من تاريخ الاحتفال نفسه؛ ففيما يندرج العيد الإسلامي في التقويم القمري ويتنقل في السنة الشمسية يتأصل التقنع في إيقاع شمسي، وبالضبط في وقت نضج الذرة، وهذا طبيعي لأنه يستدعي الخصوبة الطبيعية. إلا أنه بالتحامه مع العيد الأضحى سيجد نفسه قد انتقل إلى التقويم القمري.

يصف الكتاب الاحتفال بالعيد الأضحى بعناية متناهية، التحاق جماعة المصلين بالمصلى، إلقاء خطبة العيد، إقامة الصلاة، ثم قفول الجماعة إلى القرية وأخيرا ذبح الأضحية في كل منزل. كما لم يفت الكتاب تسجيل، وبعناية كبيرة أيضا، خصوصيات العادة الأمازيغية وكذا عدة نقط متعالقة مع التفسير الذي سيسوقه لاحقا. غير أن الأمر هنا لا يتعلق سوى بالجانب الكوني في ممارسة إسلامية. أما الموضوع المركزي في الكتاب، فهو أساسا مزاوجة هذه الممارسة بتقنع، هذه المزاوجة التي ستتخذ كمواد أولية فراء الحيوانات التي تمت التضحية بها في الصباح.

كم هي كثيرة حقا الممارسة التي ستلي احتفال العيد، والتي أعاد المؤلف بناءها بعناية موظفا أداتين دفعة واحدة: الملاحظة المباشرة، ثم شهادات الإثنوغرافيين القدماء (مولييراس، دوتيه، لاووست، ووسترماك) الذين لم تفتهم ملاحظة هذه الممارسة وتفسيرها، كما سنعود على ذلك بعد قليل. لنحاو لالآن أن نلخص الخطوط الكبرى لهذا التقنع الذي ستحرَمُ الأجيال المقبلة دون شك من الاستمتاع بمشاهدته.

أودع المؤلف وصفه للتقنع ف يأربع «علب» ليفي ستروسية (نسبة إلى ليفي ستروس). تتضمن العلبة الأولى التي، تحمل اسم «تحركات في الكواليس»، وقائع الاستعداد للاحتفال التي تجري في ملحقة المسجد، حيث يتم تعيين شخصيات التقنع الأساسية وتنكيرها. ويعد بلماون، وهو شبه حيوان فاحش ذو قائمتين، الشخصية الرئيسية. يتنكر بفراء الحيوانات المنحورة في الصباح، ويتقمصه عادة رجل من القرية: «يتجرد من جميع ملابسه باستثناء السروال القصير، ثم يرتيرتدي الفراء مباشرة على لحمه دون أن تغسَلَ أو تنظف، تخاط عليه أولا الفراء التي ستشكل سرواله.

ثم يلصق وراءه جيبا خصيتي الحيوان وقضيبه، بحيث يتدليان فوق عجيزته. وبعد ذلك، يُخاط على أعلى جسمه فرون آخران يغطيان نصفه العلوي ويتصلان بالسروال على امتداد القامة. كما تغطى ذراعاه ويداه أيضا. ويشد إلى يده اليمنى عنزا بواسطة حبل متين ووسط صدر بلماون يتدلى نهد واحد ضخم... (ص. 112-113). أما رأسه، فهو رأس أضحية ذات قرنين. ونظرا للطبيعة الفاحشة لهذه الشخصية، فإنها ستشدد طوال مراحل التقنع على تعرية الأوصاف الجنسية. أما باقي الشخصيات، فتتكون من أربعة يهود، ضمنهم حبر واحد، يحملون أقنعة مشنقية ويرتدون بذلات متجانسة، ثم عبد الواحد. وستشكل هذه الشخصيات حرَس بلماون.

أما العلبة الثانية، ويسميها المؤلف «تطواف»، فتتضمن تسكعا احتفاليا في طرقات القرية، حيث تضاعف الشخصيات مناوشاتا وإثاراتها الجنسية للمارة عن طريق الكلمات والحركات. وبذلك يضطر الجميع إلى الدخول في اللعبة. يلج موكب بلماون المنازل (مجال النساء) التي يكون الرجال قد غادروها قسرا بهذه المناسبة، ثم يتعاطى فيها لإثارات كلامية (على شاكلة: «اسفري يابنة العاهرة»، «أترغبين في أن أضاجعك؟ !» (ص. 119)، ويستلم من النساء هبات طعامية كمقابل. وفوق سطوح المنازل تحاكى مشاهد الجماع...

وتوازي المرحلة المركزية في العلبة الثالثة، المسماة «الأشكال والايام»، بين عرض الإعداد للحرث (تحديد سكة المحراث) وعرض كاريكاتور لزواج بلماون – امرأة حيث يتم الاحتفال بالخصوبة في سخرية. تنشد متتالية تتخللها اللازمة: «اللهم اجعل العام جيدا». أما العلبة الرابعة، وتحمل اسم «المجلة»، فهي تحاكي الوقائع المحلية التي شكلت أحدوثة سكان القرية في السنة المنصرمة.

لا يمكن استنفاد مختلف جوانب كتاب كهذا في مجرد عرض. ومن المؤكد أن مؤلفه قد وجهه إلى زملائه الأنثروبولوجيين قبل كل شيء، وقراءته من قبل قارئ عادي تعد مجازفة، إذ قد ينال همة قراءته فتور، بل وحتى تيه وسط الجهاز المعرفي الذي يعرضه المؤلف (لكن هذا هو ما سيبتهج له أهل المهنة). من ذلك، لكي ندخل في صلب الموضوع، هذا العناد لدى المؤلف في نقض تحليلات سابقيه للعادة التي يصفها. فهؤلاء، سواء تعلق الأمر بدوتيه أو لاووست أو ووسترماك، يميلون إلى التمييز داخل هذه الممارسة بين تقليدين متعارضين: تقليد إسلامي أورتذكسي ممثلا في الأضحية وبقية أو مخلفة (survivance) تقليد وثني سابق عن الإسلام، يرجع إلى عبادات طبيعية، عبادات الخصوبة تحديدا. هكذا، فبعدما يؤدي هؤلاء البربر الطيبون م تستوجبه إحدى قواعد الإسلام، ينصرفون إلى إحياء شياطينهم القديمة، شياطين الجاهلية، الذين لازالت فعاليتهم في الطبيعة على الأقل مضمونة، معتقدين أنه من المسموح لهم بذلك. ضد هذا المنظور، يحتج عبد الله حمودي بقوة، ومن هذا المكان بالضبط يشيد مشروعه البنيوي الكبير. ووجهة نظره هي أن التقنع والأضحية يشكلان جزءا من كل واحد، وبذلك يجب تناولهما مجتمعين. أما طبيعتهما المتناقضة، فهي بالعكس مدعاة للتأمل والتفكير. إنها تدل على التعارض الوجداني الذي يميز كبريات الظواهر الإنسانية، كما تدل على أن ما هو مطروح في الممارستين معا هو مشاكل أساسية. وهن اتكمن خصوبة التحليل وطابعه التجديدي.

بتناول الأضحية والتقنع مجتمعين يتضح أنهما يطرحان في الواقع مسالة تعايش القاعدة والانتهاك (ص. 9). بناء على ذلك يظهر المؤلف بالملموس كيف أن كلا المصطلحين ليس «واحدا»، وإنما ينطبع هو نفسه بالتعارض الوجداني العام. فالأضحية رسميا هي احتفال إسلامي ذكوري، لكنها تتضمن طقوسا (حشو خليط من الشعير والملح والحناء في فم الكبش قبيل نحره، ثم جمع دمه بعد النحر) تتم بتدخلات أنثوية. والتقنع وإن كان يسخر الرجال والكهول وسط احتدام جنسي لتهييج النساء والشباب، فإنه لا يفلت في كل لحظة من مراقبة أولئك الذين يتحدى مكانتهم ووضعهم الاعتباري.

إنه خطاب يكونه المجتمع عن نفسه، وتمثل بقيمه عن واقعه كما يحاول استخدامه. كيف يضمن إعادة إنتاج النسب مع الإبقاء على النظام الأبوي؟ كيف يفهم تعايش الأضحية عند الرجل والهبة عند المرأة؟ كيف يكون الفرد نفسه وآخرا غيره؟ كيف يستخدم تقويما قمريا وآخر شمسيا؟ كيف يحترم القانون الإلهي مع ضمان حماية الجن؟ إن هذا التوفيق الصعب هو ما تخرجه الأسطورة والشعيرة عبر لغة تتكون من عناصر ملموسة كالشعير والحناء والملح والدم، والتي يحلل المؤلف رمزيتها على نحو عجيب.

وفي حقل الدعابة، كدرجة لسمو الفكر، يزهر هذا التعارض الوجداني، كيف لا يمكن للمرء أن يندهش أمام أحد مشاهد تقنع كهذا؟ ! «في غمرة ابتهاج عام، ووسط صراخ سكان القرية وتشجيعاتهم، يطأ الثور البقرة، وفي اللحظة التي يلجها يأخذ اليهود في قراءة سورة الفاتحة...» (ص. 131). إلا أن هذه الدعابة لم تعد مطلقا ترضي في عين المكان نفسه المسلمين النقائيين ولا الحداثيين... أما في مجتمعاتنا المعاصرة، فإنها أصبحت تبدو يوما عن آخر غائية بشكل تراجيدي، سواء تعلق الأمر فيها بمجتمعات آيات الله المتشددين أو بمجتمعات إداريي اللياقة والأدب.


[*] Abdellah Hammoudi, La victime et ses masques, ed. du Seuil, 1988, 254 p.

* د. عبدالله حمودي
كرنفال في المغرب العربي
حول كتاب «الضحية وأقنعتها»
ترجمة: محمد أسليـم
نشر العرض الحالي بلغته الأصلية في
La quizaine littéraire, n° 534, 16-30 juin 1989
ونشرت ترجمته إلى العربية في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، الأحد 9 يوليوز 1989، العدد: 285.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...