أخي البشير، صباح النور
أخبرني حسن في التليفون بوفاة السيدة بنت عمّتي عويشة. أخفيت دمعي في ظلمة الفراش تلك الليلة، وتذكرت كيف تغدق عليّ اللّوز المجمّر. في صغري كنت أسترق السمن اللذيذ والقدّيد من جرّة مطبخها في ذراع التمّار، وأعاونها على حمل الصوف ونقل المنسج.
وجدت نسخة من مسرحية «بيارق اللّه» عند باحثة تعيش في دار تونس، أرسلتها لها فيفيان بالطيب، ورأيت محمد الرفرافي صدفة في الحيّ اللاتيني: رجل لطيف من الأخيار، وأشعاره في بساطة جاك بريفير.
زرت «الأوبرا»: سقفها مزدان بالعرائس في أردية الربيع والملائكة الراقصات في حلقة كالإكليل الملون بريشة مارك شاغال، واقتنيت من مكتبتها الموسيقية أشرطة كاسات فيها سنونات برامز المتأثرة بالعود الشرقي.
عثرت على نصوص صوفية لإبراهيم ابن أدهم، تباع في دكّان عربي عتيق مجاور للمسجد الكبير، واتصلت بشربل داغر، وهو صحافي لبناني في مجلة «كلّ العرب»، بعد موعد مرّ دون لقاء، سهوت في المترو، وخلفت محطة ساحة الكونكورد المكان المقرر، فضاع الوقت. من الغد تعارفنا. وفي الواقع حسونة المصباحي أمدّني في العاصمة بعنوانه مع ظرف محاورات وجرائد، استلمها. من ناحيتي أهديته زربية صغيرة أعطتني إياها رضيّة، فدعاني الى غداء في مطعم شامي بالشانزليزي، ثم أخذني معه إلى بيت جورج شحّادة: وجه نحيف مثل طبيب متقاعد بعكّازة ومعطف فاخر على كتفيه وهو أمام الباب!
كما حدثتك سابقا، أقيم في منزل السيد جاك بولنجي مع زوجته جيزال وابنه الذي يجيء من حين إلى آخر بالورد. ذات يوم اصطحبتهم بالسيارة الى قدّاس الأحد في كاتدرائية نوتردام، لكني بقيت وحدي الآن، لأنهم غادروا الى مصحّة الاستشفاء بالمياه والمسّاج وهي عادتهم السنوية. هذا رقم الهاتف والعنوان بالكامل (...). أحيانا تزورني ابنتهم مع زوجها المهذّب لتفقد الكلب أورال بالأغذية والأدوية، التقطت لنا صورة جماعية معه.
هل تدري أنني اشتريت حقيبة مملوءة بالكتب: أنطولوجيا الشعر الصيني ولوحات الانطباعيين وقصائد إليوت بالفرنسية... إزرا باوند لم أجد ديوانه بل دراساته النقدية وبعض المجموعات المهداة إليك من طرف أدباء عرب هنا وهناك.
أحلم أن أقرأ «إنشاد للملكة الجليلة» في كراس فاخر الطبع، هل وصلتك البطاقة البريدية الى المركب الثقافي؟
أمّي قبّلها عنّي، والسلام.
القيروان في 27-11-1988
***
صديقي محمد،
تحياتي ومحبتي
وصلني آخر عدد من «الثقافة الجديدة»: وجدتها ذات رأي، تتضارب والمطارحات التي لا حكمة فيها. أشكرك ولك أن تسل عمّا شئت من الإصدارات هنا. آمل أن تكون استلمت مجموعة الصغير أولاد أحمد: أرسلتها بريدا مضمون الوصول. أكاد أفرغ من بدائع محمد الخمّار الكنّوني في مجمل أشعاره ذاكرة لأرواح أندلسية تحرسنا، وشيء من حزن الأبد.
هل تعرف الفتى الوسيم رضا الجلالي؟
في مقهى لونيفار كنا تحدثنا بإخلاص عن «الاضطهاد والفرح»، كتابك الموقّع بغضب السحب، وهي تتطاير مثل فراء الفنك. وبالمناسبة يحيّيك وهو شاعر ملهم، في قلبه حب الاستماع الى مزموم النسوة حاملات أغمار السنابل، وضراعات عمّال الجسور في الوهاد. ولكن أخشى أن يشدّ على بطنه حجرا من الجوع، أو يهلك على مقعد بستان من شدة النشوة المريرة والسّعي سدى. في أقرب وقت أرسل إليك سفرا صغيرا لي هو قيد الطبع. انتظرني عند صخور الأطلسي، ولا تملّ من أخيك وحافظ ودّك.
مدينة تونس، 18-6-2005).
أخبرني حسن في التليفون بوفاة السيدة بنت عمّتي عويشة. أخفيت دمعي في ظلمة الفراش تلك الليلة، وتذكرت كيف تغدق عليّ اللّوز المجمّر. في صغري كنت أسترق السمن اللذيذ والقدّيد من جرّة مطبخها في ذراع التمّار، وأعاونها على حمل الصوف ونقل المنسج.
وجدت نسخة من مسرحية «بيارق اللّه» عند باحثة تعيش في دار تونس، أرسلتها لها فيفيان بالطيب، ورأيت محمد الرفرافي صدفة في الحيّ اللاتيني: رجل لطيف من الأخيار، وأشعاره في بساطة جاك بريفير.
زرت «الأوبرا»: سقفها مزدان بالعرائس في أردية الربيع والملائكة الراقصات في حلقة كالإكليل الملون بريشة مارك شاغال، واقتنيت من مكتبتها الموسيقية أشرطة كاسات فيها سنونات برامز المتأثرة بالعود الشرقي.
عثرت على نصوص صوفية لإبراهيم ابن أدهم، تباع في دكّان عربي عتيق مجاور للمسجد الكبير، واتصلت بشربل داغر، وهو صحافي لبناني في مجلة «كلّ العرب»، بعد موعد مرّ دون لقاء، سهوت في المترو، وخلفت محطة ساحة الكونكورد المكان المقرر، فضاع الوقت. من الغد تعارفنا. وفي الواقع حسونة المصباحي أمدّني في العاصمة بعنوانه مع ظرف محاورات وجرائد، استلمها. من ناحيتي أهديته زربية صغيرة أعطتني إياها رضيّة، فدعاني الى غداء في مطعم شامي بالشانزليزي، ثم أخذني معه إلى بيت جورج شحّادة: وجه نحيف مثل طبيب متقاعد بعكّازة ومعطف فاخر على كتفيه وهو أمام الباب!
كما حدثتك سابقا، أقيم في منزل السيد جاك بولنجي مع زوجته جيزال وابنه الذي يجيء من حين إلى آخر بالورد. ذات يوم اصطحبتهم بالسيارة الى قدّاس الأحد في كاتدرائية نوتردام، لكني بقيت وحدي الآن، لأنهم غادروا الى مصحّة الاستشفاء بالمياه والمسّاج وهي عادتهم السنوية. هذا رقم الهاتف والعنوان بالكامل (...). أحيانا تزورني ابنتهم مع زوجها المهذّب لتفقد الكلب أورال بالأغذية والأدوية، التقطت لنا صورة جماعية معه.
هل تدري أنني اشتريت حقيبة مملوءة بالكتب: أنطولوجيا الشعر الصيني ولوحات الانطباعيين وقصائد إليوت بالفرنسية... إزرا باوند لم أجد ديوانه بل دراساته النقدية وبعض المجموعات المهداة إليك من طرف أدباء عرب هنا وهناك.
أحلم أن أقرأ «إنشاد للملكة الجليلة» في كراس فاخر الطبع، هل وصلتك البطاقة البريدية الى المركب الثقافي؟
أمّي قبّلها عنّي، والسلام.
القيروان في 27-11-1988
***
صديقي محمد،
تحياتي ومحبتي
وصلني آخر عدد من «الثقافة الجديدة»: وجدتها ذات رأي، تتضارب والمطارحات التي لا حكمة فيها. أشكرك ولك أن تسل عمّا شئت من الإصدارات هنا. آمل أن تكون استلمت مجموعة الصغير أولاد أحمد: أرسلتها بريدا مضمون الوصول. أكاد أفرغ من بدائع محمد الخمّار الكنّوني في مجمل أشعاره ذاكرة لأرواح أندلسية تحرسنا، وشيء من حزن الأبد.
هل تعرف الفتى الوسيم رضا الجلالي؟
في مقهى لونيفار كنا تحدثنا بإخلاص عن «الاضطهاد والفرح»، كتابك الموقّع بغضب السحب، وهي تتطاير مثل فراء الفنك. وبالمناسبة يحيّيك وهو شاعر ملهم، في قلبه حب الاستماع الى مزموم النسوة حاملات أغمار السنابل، وضراعات عمّال الجسور في الوهاد. ولكن أخشى أن يشدّ على بطنه حجرا من الجوع، أو يهلك على مقعد بستان من شدة النشوة المريرة والسّعي سدى. في أقرب وقت أرسل إليك سفرا صغيرا لي هو قيد الطبع. انتظرني عند صخور الأطلسي، ولا تملّ من أخيك وحافظ ودّك.
مدينة تونس، 18-6-2005).