كانت بداية رهيبة… طفل في السادسة من عمره، لم يسبق له أن خط حرفا أو نبس بكلمة فرنسية، مجبر أن يساير تلامذة قسم الشهادة الابتدائية قراءة وكتابة وتعبيرا، وإلا كان عقابه الجلد والركل والرفس وكل أشكال التعذيب البدني والنفسي … لم يكن جلادي سوى أبي رحمه الله وغفر له وأدخله فسيح جنانه. كان نظام الدراسة يخضع لنظام شبه عسكري، كل صباح نردد النشيد العسكري مع تحية العلم، ثم نلج حجرة الدرس مثنى مثنى، وأيادينا اليمنى موضوعة على أكتاف بعضنا… وكانت الدروس تتوزع بين القراءة والتعبير الكتابي والحساب باللغة الفرنسية دون غيرها… استعصى علي الفهم، فكنت أكتفي بالتفرج على ما يجري مثل أبله… أنظر يمنة ويسرة حسب تحركات الأستاذ محاولا التقاط بعض كلمات، لعلها تشفع لي لدى الوالد وقت الاختبار. حينما يطلب من التلاميذ كتابة الملخص، وهو نص من بضع أسطر كتبت بخط أنيق أناقة صاحبها، أحاول أن أعيد رسم الكلمات على كراستي. لم تكن أناملي تسعفني على رسمها جيدا، بل لم أكن قادرا على الكتابة على السطر دون انحراف أو اعوجاج. مهما حاولت لم تتعد كتابتي خربشات غير مقروءة على صفحات متسخة أغرق الحبر جوانبها، ومزقها رأس ريشة حادة لم أكن أحسن الإمساك بمقبضها. أخشى ما كنت أخشاه ولوج أبي المفاجئ لحجرة الدرس ومراقبته « لإنجازاتي». فكم من مرة كانت زيارته للمدرسة لحظة عصيبة علي، ونذر شؤم للأسرة، لاسيما أمي، تلك المرأة الجميلة المغلوبة على أمرها. حصل مرة أن زار المدرسة قبل انتهاء الحصة بقليل، كان التلاميذ ينقلون أنشودة فرنسية انتهى الأستاذ للتو من شرح مضمونها. ما أن ولج سي المهدي حجرة الدرس، بقامته المهيبة وخطواته الجبارة، حتى انتابني رعب شديد، وشعرت بدمائي تتجمد في عروقي، ونبضات قلبي يلفها الاضطراب، وقلت لنفسي: يا له من يوم أسود. سار أبي بين الصفوف في اتجاهي، كلما خطا خطوة ازداد اضطرابي، وتملكني الخوف، وعجزت أناملي عن محاولة رسم ما كتب على السبورة التي ازداد سوادها سوادا. حين وقف على رأسي يرقب خربشاتي تهيأت لتلقي الضربات … وما هي إلا رمشة عين حتى انهال علي صفعات وركلات مرفقة بسباب ألفناه منذ الصغر… بينما ساد الفصل صمت رهيب وانتاب الأطفال ذعر كبير…حاول الأستاذ حاتمي تخليصي من قبضة أبي، فهرولت إلى كوخنا والدمع يغمر وجهي المفجوع . استقبلتني أمي في أسى وصمت، وأدخلتني الكشينة ( المطبخ) في محاولة يائسة لصرف أبي عني. لم ينصرف … هاجمني بسياط جلدي، مقسما بالله أن يسحق كل من حاول إنقاذي… لم تكن أمي لتجرأ على ذلك، فتجمدت وسط فناء الكوخ ، وهي تشير خلسة لعمتي فضيلة بالتدخل… وكم كان أبي يتلذذ بتدخلات النساء لا سيما الجميلات منهن، وبتوسلاتهن. لم تنفع توسلات عمتي، فكانت مأدبة ذلك اليوم فاخرة حقا، ما زالت آثار همجيتها مرسومة في مؤخرة رأسي الذي نزف دما، وفي نفسي الجريحة التي طالها القهر الأبوي، وفي لا وعيي بلا ريب… لم يوقف المجزرة سوى مجيء عمي عبد السلام، ذاك الرجل الطيب، الذي أصر أن يبقيني إلى جانبه ذلك اليوم، بعد أن قدم لي الإسعافات الأولية.
صبيحة الغد ولجت حجرة الدرس مكسور الخاطر، محطم النفس… غير قادر على النظر في عيون الأقران… بعضهم وبعضهن حنوا وحنت لحالي… وكانت في عيونهن وعيونهم الحزينة علامات المواساة ؛ في حين كانت نظرات آخرين طافحة بالشماتة والتهكم، لو قدرت حينها على فقء تلك العيون لما ترددت. أحسست في قسمات محيا الأستاذ الحاتمي أسى وشفقة. تأكدت من صدق مشاعره عندما أقبل يمسح بيده على رأسي وهو يتمتم: لا حول ولا قوة إلا بالله. ناولني الأستاذ دفترا جديدا وخصني منذئذ بدروس تعلم كتابة الحروف وقراءتها. هكذا كانت بداية تعلمي أبجدية اللغة الفرنسية … وما أن انقضى شهر يوليوز الحزين حتى كنت حافظا لها كتابة وقراءة… أغلقت المدرسة أبوابها، واختار أبي أن نقضي ما تبقى من فصل الصيف بغرس علي ، تلك القرية الجبلية النائية، حيث الطبيعة الخلابة والبساتين الغناء والحنان الوارف الظلال ، حيث جدتي وبابا سيدي اللذان استقبلاني بالقبلات الدافئة والعناق الحار، وبكل ما ادخرته جدتي من عسل بري وسمن وبيض بلدي وديكة سمان … أيام جميلة استعدت فيها حريتي، فصاحبت الرعاة إلى البراري والأحراش، وسبحت في غدير الوادي، وقطفت من كل الثمار، ولهوت ما شئت، وكيفما شئت، في الدمن والروابي،؛واستمتعت بركوب حماري الأشهب حين العودة من الحقول عند الهجير، ورافقت بابا سيدي إلى كل المواسم حيث «العيطة الجبلية» على إيقاع «التبوريدة» وأهازيج الغانيات. عاودت شعوري بالفرح واستعدت معنى الحياة… أيام خلتها ثواني مرت كالسراب لنعود إلى وزان عند مطلع السنة الدراسية، وفي نفس الطفل شيء من «غرس علي» وغابة الرياحين.
هبت عل وزان ريح غربية باردة، وجالت في سمائها غيوم انفلتت من أهدابها بضع قطرات، وبدت البساتين أمواجا شاحبة ألوانها. تمر الأيام على نفس المنوال، أب يغادر المنزل صباحا ليلتحق راجلا بالثكنة الواقعة على أمتار معدودة، وأم تتدبر شؤون البيت، وتتكفل بالأطفال الذين يقضون سواد وقتهم في اللعب بفناء الدار أو غير بعيد عنها إن استغفلوا الأم وخرجوا. لم تكن ألعاب الذكور تتجاوز البلي والكرة واصطياد الطيور، بينما انحصرت ألعاب الإناث من بنات الجيران، في لعبة الحبل و»قيقش» و»غميضةً»، وأحيانا لعبة العروس. بألعابنا البسيطة وغير المكلفة، كنا نتسلى ونعاند الرتابة والقنوط الذي يلف أكواخا معزولة تحرس الباب الشرقي للمدينة. يوم الأحد كان يوما استثنائيا في كل شيء : نقصد خلاله ملعب كرة القدم المعشوشب، صحبة حارس الفريق العسكري، الذي كان يحملنا معه، أنا وأخي عبد النبي، على متن سيارة عسكرية من نوع جيب، لنشاهد مباراة في كرة القدم، ثم يعيدنا إلى كوخنا عند العشي، تغمرنا الفرحة وتعلو شفاهنا الابتسامة. إن لم تكن هناك تظاهرة رياضية، كنا نخرج في نزهة جماعية إلى ضواحي المدينة صحبة أسرة عمي عبد السلام في الغالب، ورفقة أسر أخرى تنحدر من قبائل جبالة.
عبد السلام الرجواني
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 01 - 06 - 2017
صبيحة الغد ولجت حجرة الدرس مكسور الخاطر، محطم النفس… غير قادر على النظر في عيون الأقران… بعضهم وبعضهن حنوا وحنت لحالي… وكانت في عيونهن وعيونهم الحزينة علامات المواساة ؛ في حين كانت نظرات آخرين طافحة بالشماتة والتهكم، لو قدرت حينها على فقء تلك العيون لما ترددت. أحسست في قسمات محيا الأستاذ الحاتمي أسى وشفقة. تأكدت من صدق مشاعره عندما أقبل يمسح بيده على رأسي وهو يتمتم: لا حول ولا قوة إلا بالله. ناولني الأستاذ دفترا جديدا وخصني منذئذ بدروس تعلم كتابة الحروف وقراءتها. هكذا كانت بداية تعلمي أبجدية اللغة الفرنسية … وما أن انقضى شهر يوليوز الحزين حتى كنت حافظا لها كتابة وقراءة… أغلقت المدرسة أبوابها، واختار أبي أن نقضي ما تبقى من فصل الصيف بغرس علي ، تلك القرية الجبلية النائية، حيث الطبيعة الخلابة والبساتين الغناء والحنان الوارف الظلال ، حيث جدتي وبابا سيدي اللذان استقبلاني بالقبلات الدافئة والعناق الحار، وبكل ما ادخرته جدتي من عسل بري وسمن وبيض بلدي وديكة سمان … أيام جميلة استعدت فيها حريتي، فصاحبت الرعاة إلى البراري والأحراش، وسبحت في غدير الوادي، وقطفت من كل الثمار، ولهوت ما شئت، وكيفما شئت، في الدمن والروابي،؛واستمتعت بركوب حماري الأشهب حين العودة من الحقول عند الهجير، ورافقت بابا سيدي إلى كل المواسم حيث «العيطة الجبلية» على إيقاع «التبوريدة» وأهازيج الغانيات. عاودت شعوري بالفرح واستعدت معنى الحياة… أيام خلتها ثواني مرت كالسراب لنعود إلى وزان عند مطلع السنة الدراسية، وفي نفس الطفل شيء من «غرس علي» وغابة الرياحين.
هبت عل وزان ريح غربية باردة، وجالت في سمائها غيوم انفلتت من أهدابها بضع قطرات، وبدت البساتين أمواجا شاحبة ألوانها. تمر الأيام على نفس المنوال، أب يغادر المنزل صباحا ليلتحق راجلا بالثكنة الواقعة على أمتار معدودة، وأم تتدبر شؤون البيت، وتتكفل بالأطفال الذين يقضون سواد وقتهم في اللعب بفناء الدار أو غير بعيد عنها إن استغفلوا الأم وخرجوا. لم تكن ألعاب الذكور تتجاوز البلي والكرة واصطياد الطيور، بينما انحصرت ألعاب الإناث من بنات الجيران، في لعبة الحبل و»قيقش» و»غميضةً»، وأحيانا لعبة العروس. بألعابنا البسيطة وغير المكلفة، كنا نتسلى ونعاند الرتابة والقنوط الذي يلف أكواخا معزولة تحرس الباب الشرقي للمدينة. يوم الأحد كان يوما استثنائيا في كل شيء : نقصد خلاله ملعب كرة القدم المعشوشب، صحبة حارس الفريق العسكري، الذي كان يحملنا معه، أنا وأخي عبد النبي، على متن سيارة عسكرية من نوع جيب، لنشاهد مباراة في كرة القدم، ثم يعيدنا إلى كوخنا عند العشي، تغمرنا الفرحة وتعلو شفاهنا الابتسامة. إن لم تكن هناك تظاهرة رياضية، كنا نخرج في نزهة جماعية إلى ضواحي المدينة صحبة أسرة عمي عبد السلام في الغالب، ورفقة أسر أخرى تنحدر من قبائل جبالة.
عبد السلام الرجواني
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 01 - 06 - 2017