مصطفى عبد الرحمن إبراهيم - المدارس النقدية في العصر الأموي واتجاهاتها

إن المدارس النقدية في العصر الأموي ثلاث مدارس وهي: مدرسة الحجاز، ومدرسة الشام، ومدرسة العراق، وإليك الحديث عن كل مدرسة واتجاهها وأعلامها.

أولاً – مدرسة الحجاز:

وهي مدرسة الغزل وكان النقد فيها مطبوعاً بطابع الذوق الفني والرقة، والروح الإنسانية (1)، تبعاً لأدب هذه البيئة الذي شاع فيه ما شاع فيها من رقة وخفة وظرف، وتذوق رفيع للجمال وأساليب القول (2).

يقول الأستاذ أحمد أمين وهو بصدد حديثه عن الحجاز في العصر الأموي: أنه نشأ فيه أدب رقيق يتفق وروح العصر، فيه دعابة وفيه وصف للنساء صريح، وفيه قصص لأحداث الشعراء مع النساء .... هذا الأدب الجديد في هذه البيئة اللاهية استتبع كذلك رقياً في النقد يدل على رقي في الذوق (3). والنقد في هذه المدرسة غالبا ما اتجه الى المعاني التي وعاها النص، والتي كان الناقد يعرضها على ذوقه الحضري، فيقبل منها ما يراه موائما لهذا الذوق، وما هو أليق لعاطفة الحب وأنسب لفن الغزل.

وقد اشتهر نقد أصحاب هذه المدرسة بنقد الذواقين تارة وبنقد الشعراء تارة أخرى، والمراد بالذواقين جماعة النقاد الذين اشتهروا بتذوق الشعر وتدارسه وتقويمه وإبداء رأي فيه وإن لم ينظموه ويتفرغوا له، والمراد بنقد الشعراء جماعة النقاد الذين نقدوا الشعر وهم شعراء وصدر نقدهم عن تجربة شعورية، وجمع نقدهم بين النظرية والتطبيق.

ومن أشهر النقاد الذواقين في هذه المدرسة ابن أبي عتيق.

أما عن ابن أبي عتيق فقد كان له تميز ظاهر بين نقاد العصر الأموي، فإذا ما كانت الكثرة الغالبة منهم تنقد الشعر حين تتاح لهم فرصة نقده فقد كان ابن أبي عتيق يخلق هذه الفرصة ويعطي الشعر ونقده نفسه ووقعته ما قد يتيح لقائل أن يقول: إنه جعل ذلك شغله، وتكلم فيه بما يصلح أن يكون أسسا وأصولا ومقاييس في نقد الأدب (4).

فمثلا نراه يقدم عمرو بن أبي ربيعة، ويؤثر شعره، ويفضله على غيره من شعراء مذهبه الغزلي، ويقول "لشعر ابن أبي ربيعة نوطة بالقلب، وعلوق بالنفس ودرك للحاجة، وليست لشعر غيره. وما عصى الله جل ذكره بشعر أكثر مما عصى بشعر عمرو بن أبي ربيعة. فخذ عني ما أصف لك: أشعر الناس من دق معناه، ولطف مدخله، وسهل مخرجه، ومتن حشوه، وتعطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن حاجته (5).

فهذا لون من الملاحظات النقدية والمقاييس الأدبية التي رآها وعرضها ابن أبي عتيق للشعر الجيد والشاعر البارع، وهي مقاييس هامة، تكشف عن تطور الوعي النقدي وتقدمه، وقد صار لها شأنها في مجال النقد، وكانت درجة أرقى عليها النقد الأدبي في طريق الموضوعية، والأسس العلمية.

وأهم الأصول النقدية التي ينبغي مراعاتها في صناعة الشعر ونقده في كلام ابن عتيق السابق هي:

- أثر الشعر في النفوس وتأثيره في القلوب وعلوقه بها وإدراك الحاجة به.

- الشعر الجيد ما أثر في نفس سامعيه حتى يحسوا بما أحس به صاحبه.

- الشاعر المجيد هو من ينقل مشاعره الى غيره نقلاً أميناً عن طريق افتتانه في تصوير عواطفه وتفننه في إبداع تجربته.

- مخالفة شعر ابن أبي ربيعة لمبادئ الدين والخلق لم تقلل من جماله الفني باعتباره شعراً تجمعت فيه خصائص الشعر الجيد – فيما رآه .

- أبان الناقد في الجزء الأخير من النص عن المقاييس الفنية التي يحتكم إليها عند المفاضلة بين الشعراء وهي فيما رأى:

دقة المعنى، ورقة اللفظ، ولطفه، وسهولة المخرج بمعنى: حسن التخلص في الانتقال من غرض الى غرض ومتانة الحشو أي: ترابط النص وتماسك أجزائه. وهذه المقاييس النقدية لا يستهان بها في مثل ذلك العصر (6).

فالرؤية النقدية للشعر عند أبي عتيق فن مبعثه ومنبته الذوق غايته التكيف مع العمل الفني وإدراك معطياته الحضارية والجمالية، وهي فن المتعة والتذوق والتأثير، وهذا أسمى ما وصل إليه النقد الحديث.

وبهذا يكون قول ابن أبي عتيق قد شمل العمل الفني من جوانبه حيث ألمح إلى الجانب النفسي في شقه الأول، وأدرك الجوانب الحيوية للعمل في شقه روي أنه اجتمع بالمدينة راوية جرير وراوية نصيب وراوية كثير وراوية جميل وراوية الأحوص، فادعى كل منهم أن صاحبه أشعر .

ومن النقاد الشعراء الذين جمعوا بين قول الشعر وتذوقه كثير وهو من أصحاب الغزل العفيف في بدو الحجاز اجتمع بعمر بن أبي ربيعة شاعر مكة الحضري، من أصحاب الغزل المادي الصريح، ووجه إليه النقد على قوله:

قالت لها أختها تعاتبها = لا تفسدن الطواف في عمر
قومي تصدي له لأبصره = ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها: قم غمزته فأبى = ثم اسبطرت (7) تشدفني أثري

يوجه كثير النقد لعمر بن أبي ربيعة على هذه الأبيات قائلاً:

(أهكذا يقال للمرأة؟ إنما توصف بأنها مطلوبة ممتنعة)(8).

وذوق كثير الذي تربى على الشعر العربي، وعلى الغزل العربي، وعرف ما تستحسنه العرب في المرأة وما تستقبحه، وما ينبغي أن توصف به الحرة هو الذي حمله على هذا النقد، ما يزال ذوق العربي حتى عصرنا الحاضر تستحسن أن توصف المرأة بالحياة والإباء والخجل والامتناع، ولا يستسيغ أن تكون المرأة طالبة تغازل الرجل وتنشط في التصدي له، أما هو فيأبى ويجري أمامها (9).

وكثير فيما عابه على عمر بن أبي ربيعة يعتمد على ذوق العربي الذي يأبى أن تصور المرأة إلا متسمة بالحياة والتمتع وما إلى ذلك من صفات المثالية.

ثانياً مدرسة الشام:

وهي مدرسة المدح، وحوله قامت حركة نقدية في قصور الخلفاء وأنديتهم، كتلك التي قامت في الحجاز حول الغزل.

والنقد هنا كما في الحجاز يعتمد على الذوق الفطري المصقول بطول النظر في الشعر، واستيعاب نماذجه، وتمثل طرائق العرب في التعبير والتصوير (10).

والنقد في هذه المدرسة غالباً ما اتجه الى تقييم الحركة الشعرية على ضوء اقترابها وابتعادها عن القيم الفنية الموروثة وبخاصة في شعر المدح (11)

وبهذا كان النقد ينحو منحى اتباعياً تأثرياً، حيث جنح النقاد في كثير من نظراتهم النقدية أو لمحاتهم الذوقية التي أبدوها، إلى مدى ما ظفر به البيت أو الأبيات من اتباع للنماذج القديمة من حيث إصابة المعنى ودقة الوصف والتعبير عن الغرض(12).

وكان الخلفاء أنفسهم هم عمد هذه المدرسة وكان عبد الملك بن مروان على رأس خلفاء بني أمية في مجال النقد والمناقشة، وكان صاحب ذوق أدبي راق يقصده الشعراء بمدحهم فيدقق في معاني شعرهم بذوقه اللطيف وحسه الرهيف، الذي كان ينفذ الى أعماق النص يكشف عن جماله أو يبين رداءته.

ومن صور نقده ما رواه صاحب الموشح من أن الراعي النميري أنشده قصيدته التي منها قوله:

أ خليفة الرحمان إنا معشر = حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا = حق الزكاة منزلا تنزيلا

فقال عبد الملك " ليس هذا شرح إسلام وقراءة آية"(13).

ويفيد هذا التعليق أن عبد الملك لم يقبل من الشعر ما كان تقديراً لمسائل دينية أو خلقية فليس هذا وظيفة الشعر، وإنما هو: شعور وإحساس يعبر عنهما في بيان جميل ونغم بديع وتصوير مفتن، أما ما قاله الراعي فليس شعراً، لأنه لا عاطفة فيه ولا شعور وإنما هو تقرير لحقائق يعرفها العامة.

- ومنها أن كثير أنشده مادحاً قوله:

على ابن أبي العاصي دلاص حصينة = أجاد السدى سردها وأذالها
يئود ضعيف القوم حمل قتيرها = ويستنضلع القرم الأشم احتمالها(14).

فقال عبد الملك: قول الأعشى لقيس بن معد يكرب أحب الي من قولك، إذ يقول:

وإذا تجيء كتيبة ملمومة = شهباء يخشى الزائدون نهالها
كنت المقدمة غير لابس جنة = بالسيف تضرب معلما ابطالها(15)

فقال: يا أمير المؤمنين: وصف الأعشى صاحبه بالطيش والخرق والتغرير، ووصفتك بالحزم والعزم، فأرضاه. (16)

ومن الواضح أن كثيراً وصف عبد الملك بن مروان بأنه يحتاط لنفسه في الحرب بدليل أنه يلبس درعا حصينة محكمة الصنع يثقل حملها على الضعيف، والاحتياط من صفات ذوي الحزم والعزم والعقل وبعد النظر.

غير أن عبد الملك بن مروان –ولابد أنه لحزمه وعزمه وبعد نظره كان يدخل المعركة محتاطا لها- لا يرضى بهذا الوصف الذي يطابق واقعه، وإنما يريد من الشاعر أن يبالغ في شجاعته فيصوره محاربا باسلاً يتقدم جنوده، ويتحدى أعداءه، غير حذر ولا محتاط إذ لا يرتدي درع الوقاية، ولا يتخفى عن القوم بل يعلمهم بمكانه ويمض يجندل الأبطال من أعدائه(17).

- ومنها ما أورده صاحب الأمالي من أن كثير عزة دخل على عبد الملك بن مروان فقال له، أأنت كثير عزة؟ فقال: نعم، قال أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: يا أمير المؤمنين، كل عند محله رحب الفناء، شامخ البناء، عالي السناء، ثم أنشأ يقول:

ترى الرجل النحيف فتزدريه = وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير إذا تراه = فيخلف ظنك الرجل الطرير
بغاث الطير أطولها رقاباً = ولم تطل البزاة ولا الصقور
خشاش الطير أكثرها فراخا = وأم الصقر مقلات نزور
ضعاف الأسد أكثرها زئيراً = وأصرمها اللواتي لا تزير... الخ

فقال عبد الملك: " لله دره، ما أفصح لسانه، وأضبط جنانه، وأطول عنانه، والله إني لأظنه كما وصف نفسه" (18).

وإعجاب عبد الملك بأبيات كثير مرده الى فصاحة الشاعر في تصوير معانيه وصدقه في وصف هذه المعاني وصفاً قوامه ترتيب الفكر وإجادة التعبير عنه.

- ومنها ما روي أنه كان ذات ليلة في سمره مع أهل بيته وخاصته، فقال لهم: ليقل كل واحد منكم أحسن ما قيل في الشعر، وليفضل من رأى تفضيله فأنشدوه وفضلوا، فقال بعضهم: امرؤ القيس، وقال بعضهم، النابغة، وقال بعضهم: الأعشى، كلما فرغوا قال: أشعر هؤلاء والله عندي الذي يقول: ثم أنشد شعراً لمعن بن أوس من قصيدة التي مطلعها:

وذي رحم قلمت أظفار ضغنه = بحلمي عنه وهو ليس له حلم
يحاول رغمي لا يحاول غيره = وكالموت عندي أن يحل به الرغم
فإن أعف عنه أغض عينا على قدي = وليس له بالصفح عن ذنبه علم
صبرت على ما كان بيني وبينه = وما تستوي حرب الأقارب والسلم... (19) الخ

فهذه النماذج التي سقناها لعبد الملك بن مروان تدل على أنه كان أديبا ناقداً عالماً بما قاله الشعراء في المعاني المتنوعة قديماً وحديثاً، ذا بصر بمسالك الشعراء و طرائفهم في المدح، يعتمد على الذوق في إدراك أسرار الجمال ومعرفة مواطنه، وبهذا كان نقده نقد عليم بالأدب، خبير بأحوال النفوس، قادر على التعمق في فهم الشعر وتذوقه.

ثالثاً : مدرسة العراق

الشعر في هذه المدرسة يشابه الشعر الجاهلي في موضوعه وفحولته وأسلوبه، فالفخر بالأصول والعصبيات والصراع بين الشعراء خلف لنا شعر النقائض والأراجيز، واحتذاء النمط الجاهلي خلف لنا نوعاً من النقد يفاضل بين الشعراء ويوازن بين الأعمال الشعرية، ويميز بين طرائق التعبير على أساس من فحولة الأسلوب... ونمو الحركات السياسية، خلف لنا نوعاً من الشعر الذي يرفض التوجه للأمراء والتمسح بالملوك واستجداء المال بالمدح- كما في الشعر الخارجي- نمت الى جواره حركة نقدية مالت إلى تقييم الشعر على ضوء التزامه بالقيم الدينية والخلقية(20).

ولا ننسى أن بيئة العراق بيئة علمية ثقافية امتزجت فيها الأصول العربية والأصول الأجنبية ولذلك تأثرت هذه المدرسة بالمنهج العلمي الذي اعتمد فيه نقادها غالباً على قواعد النحو وأصول اللغة، ويقيسون الأدب بمقاييسها، ويحاولون أن يخضعوا الشعراء لها.

تلك هي مدرسة اللغويين في العراق التي غلب عليها الطابع اللغوي والنحوي، وإن لم تهمل الجوانب المعنوية والتعبيرية الأخرى.

ولم يكن هؤلاء العلماء النقاد من اللغويين والنحويين، على درجة واحدة في التزام المقياس العلمي، فالحق أن منهم من كان نقده يقوم أساس على الأصول المقررة في اللغة والنحو والعروض، ومنهم من يميل الى الأصول الأدبية الفنية في التعبير والتصوير (21)

وهؤلاء العلماء قد أفادوا النقد الأدبي من جهات ثلاثة:

الأولى: إنه كانت لهم آراؤهم القيمة في نقد الشعر والحكم على الشعراء حكما يستند على بعض الأصول والأسس الموضوعية

والثانية: إنهم جمعوا كل ما قاله الأدباء والنقاد قبلهم في الشعر والشعراء (22).

والثالثة: إنه يعزى الى هؤلاء الفضل في رواية الخصومات التي قامت حول كبار الشعراء –فيما بعد- وذكر الحجج التي كان يوردها أنصار كل شاعر في تفضيله(23).

والنقد في هذه المدرسة قد اتجه اتجاهاً لغوياً، فاتجه إلى اللفظ من وجهته الإعرابية، ومن جهة الأوزان والقوافي، وتعمقوا كذلك فنقدوه من ناحية الصياغة والصناعة والثقافة، ثم زاد التعمق والفهم للشعر والشعراء فكان التذوق والمتعة ولذة الموسيقى والإحساس بألوان من الصياغة منها ما هو رقيق سهل، ومنها ما هو صعب متلو، وعرفوا أنواع المعاني الصائبة الفاسدة.

ومن أشعر نقاد هذه المدرسة: أبو عمرو بن العلاء والحضرمي وعنبسة الفيل، وحماد الراوية، وخلف الأحمر، والأصمعي، وأبو عبيدة والمفضل الضبي وغيرهم مما سنذكرهم أثناء النماذج التالية.

روى صاحب الموشح: أن عيسى بن عمر أخذ على النابغة الذبياني تورطه في قوله:

فبت كأني ساورتني ضئيلة = من الرقش في أنيابها السم ناقع

حيث قال: صحته (ناقعاً) بالنصب على الحال (24).

ومثله تخطئه أبي عمرو بن العلاء ابن قيس الرقيات في بيته:

تبكيكم أسماء معولة وتقول ليلى وارزيئتيه

بقوله: كان ينبغي أن يقول: وارزيتاه، كما تقول: واعماه واخياه (25).

وكان أبو عبدالله الحضرمي النحوي شديد التعقب لشعر الفرزدق فنقده في بيته:

وعض زمان يا بن مروان لم يدع = من الناس إلا مسحتا أو مجلف

بأنه عطف المرفوع وهو "مجلف" على المنصوب (مسحتا)

وهذه النماذج ومثلها كثير في تراب النقاد والعلماء في ذلك العصر، قد انصبت على قواعد الإعراب في الأبيات، حيث عاتب فيها ما خرج على اصول تلك القواعد، التي وضعها العلماء بعد استقرائهم كلام العرب الخلص، وهو نقد نحوي، ويتمثل في تخطئة الشعراء في قواعد الإعراب.

ومما يتصل بنقد العلماء في ذلك العصر تناولهم الشعر من ناحية عناصر الشعر ومن ذلك: ما لاحظه يونس بن يونس بن حبيب من كثرة الإقواء في شعر جرير كقوله:

عرين من عرينة ليس منا = برنت إلى عرينة من عرين
عرفنا جعفرا وبني عبيد = وأنكرنا زعائف آخرين(26)

فالنون " في عرين " مكسورة، وقد كسر من أجلها نون (آخرين) لمناسبة حركة الروي وصحتها الفتح (27).

ولم يتوقف نقد أصحاب هذه المدرسة عند الأصول الفنية التي تتصل بالنحو واللغة والعروض، بل تعداه الى الأصول الفنية التي تتصل بالأدب، ونورد نماذج من نقدهم يتبين من خلالها نظرتهم الى الأصول الفنية.

- ذكر صاحب الموشح بسنده أن الأصمعي قال: قرأت على خلف شعر جرير- فلما بلغت قوله:

ويوم كأبهام القصاة محبب = الى هواه غالب لي باطله
رزقنا به الصيد الغرير ولم تكن = كمن نبله محرومة وحبائله
فيالك يوماً خيره قبل شره = تغيب واشيه وأقصر عاذله

فقال: ويله: وما ينفعه خبر يؤول الى شر؟ قلت له، هكذا قرأته على أبي عمرو، فقال لي: صدقت وكذا قال جرير، وكان قليل التنقيح مشرد الألفاظ وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع، فقلت، فكيف يجب أن تقول؟ قال: الأجود له لو قال: فيالك يوما خيره دون شره، فأورده هكذا، فقد كانت الرواة قديماً تصلح من أشعار القدماء، فقلت: والله لا أرويه بعد هذا إلا هكذا" (28).

فنقد خلف بيت جرير تناول عنصرين من عناصر الشعر هما، المعنى الذي تورط فيه جرير وجانب الصواب فيه، واللفظ الذي لم يحكم جرير صنعته وسبكه وهو نقد فني دقيق(29).

وكان أبو عمرو بن العلاء يقول في شعره ذي الرمة: "إنما شعره نقط عروس: يضمحل عن قليل(30)، وأبعار ظباء: لها مشم في أول شمها (31) ثم تعود الى أرواح البعر (32).

فقد شبه شعر ذي الرمة بنقط العروس الذي يذهب بالغسل، وبأبعار الظباء التي لها رائحة مقبولة من أثر النبت الطيب الذي تأكله، ثم لا تلبث أن تزول أي أن شعره حلو أول ما تسمعه، فإذا كررت إنشاده ضعف، بمعنى أنه غير عميق الأثر في النفس، وإنما هو كالشيء البراق يعطي دفعة واحدة كل ماله من رواء، وقد رأى الأصمعي في شعر ذي الرمة مثل هذا الرأي في قوله" إن شعر ذي الرمة حلو أول ما نسمعه فإذا كثر إنشاده ضعف، ولم يكن له حسن.... إلخ (33).

ومن هنا نرى أن أبا العلاء يهتدي من خلال حديثه عن ذي الرمة إلى أن حلاوة اللفظ وخلابة الصورة لا تكفيان وحدهما في الحكم بالجمال للشعر، بل لابد من أن تكمن فيه عناصر ذاتية يبقى بها جديدا على طول الإنشاد، وبهذا يجمع بين الشكل والمضمون في الصورة الشعرية.

وذكر أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم، يعارضها ولا يجري مجاريها، والعرب لا تزوى شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية، وكان نصرانيا من عباد الحيرة قد قرأ الكتب (34).

وقال الأصمعي: " كان عدي لا يحسن أن ينعت الخيل، وأخذ عليه قوله في صفة الفرس" فارها متتابعاً" وقال لا يقال للفرس " فاره " إنما يقال له " جواد " وعتيق" الخ.

فعدى في نظر الأصمعي مقصر في وصف الخيل وحاول الأصمعي أن يدلل على نقده بالمثل الذي ذكره من كلام عدي.

وهناك نظرات نقدية كثيرة تتسم بالدقة والعمق أثرت على الأصمعي، ومن أهمها الصلة بين الشعر وبيئته الاجتماعية وذلك حينما نظر في شعر حسان بن ثابت (35)، وأنه في الاسلام أضعاف منه في الجاهلية، لأن الشعر قائم على الاهواء والشر، فإذا دخل في الخير ضعف، وكأن الشعر في رأي الأصمعي صدى للحياة الاجتماعية، فالأصمعي حرص على تدعيم الصلة بين شعر حسان والحياة الاجتماعية في عهديه.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)تاريخ النقد الأدبي والبلاغة د/ محمد زغلول سلام ص85.

2)دراسات في النقد الأدبي د/ حسن جاد ص44.

3)النقد الأدبي 2 / 421 للاستاذ أحمد أمين.

4)في النقد الأدبي عند العرب د/ محمد طاهر درويش ص110.

5)الأغاني 1/51، 52 ط كتاب التحرير.

6)النقد الأدبي د/ محروس منشاوي الجالي ص168، 169.

7)اسبطرت: نشطت.

8)العمدة 2/124.

9)الذوق الأدبي / د عبد الفتاح علي عفيفي ص32.

10)دراسات في النقد الأدبي د/ حسن جاد ص44.

11)عن اللغة والأدب والنقد د/ محمد أحمد العزب ص282 ط دار المعارف.

12)النقد الأدبي د/ محروس منشاوي الجالي ص157.

13)المرشح ص207.

14)دلاص: دروع لينة براقة ملساء، السدى: صانع السداة قرينة اللحمة في نسج الثوب، سردها: نسجها، أذالها: أطال ذيلها وهو مما يستحسن في الدروع، يئود: يثقل ويصعب، قتيرها: مسامير الدرع أو الدرع نفسها، القرم: السيد العظيم، الأشم: المرتفع.

15)شهباء: صافية الحديد، نهال: الرماح المتعطشة للدماء، الجنة: الدرع الواقية، معلما: متحديا اعداءه إذ يعلمهم بمكانه في الحرب.

16)الموشح ص 192.

17)الذوق الأدبي د/ عبد الفتاح علي عفيفي ص36.

18)الأمالي لأبي علي القالي 1/ 46، 47.

19)نفس المرجع 2/102.

20)عن اللغة والأدب والنقد د/ محمد أحمد العزب ص282، وراجع النقد الأدبي لأحمد أمين 424 وما بعدها.

21)دراسات في النقد الأدبي د/ حسن جاد صـ45، وراجع تاريخ النقد الأدبي عند العرب للأستاذ طه أحمد ابراهيم صـ50.

22)النقد الأدبي د/ محروس منشاوي الجالي ص194.

23)الموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي في مواضع متفرقة.

24)الموشح ص42.

25)نفس المرجع ص242.

26)الموشح ص175.

27)راجع: تاريخ النقد العربي ص95 د/ محمد زغلول سلام.

28)الموشح ص165، 166.

29)النقد الأدبي د/ محروس منشاوي الجالي ص200.

30)نقط عروس: ما تنقط به المرأة خدها من السواد تجعله كالخال على خدها، تتحسن بذلك، وهو سريع الزوال، وربما أراد ما تطلى به من الزعفران عند العروس.

31)مشم: يعني رائحة طيبة تشم، وبعر الظباء طيب الرائحة ما دام رطبا لما تأكل من الشيح والقيصوم والنبت الطيب الريح، فإذا جف كان كسائر البعر.

32)طبقات فحول الشعراء 2/551، والموشح ص223، 224.

33)الموشح ص224.

34)الشعر والشعراء 1/236.

35)نفس المرجع والصفحة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...