رغم احتقار بعض العرب الحرف والحرفيين، فإن كثيراً من الأسر الكريمة لم تبالِ بتسمية وتلقيب أنفسها بالألقاب الحرفية. من هذه الأسر المعروفة جيداً آل «الحداد» و«النجار» و«الصفار» و«الصائغ» و«الملاح» و«الجراح» و«القهوجي» و«الشوربجي» و«القباني»... ونحو ذلك. الحرفة الوحيدة التي لم أسمع بأحد يتسمى بها هي حرفة الخبّاز. وهذا أمر عجيب، فالمفروض فيها أن تكون أشرف الحرف، فهي تتعاطى بنعمة الله وبسيد الطعام وقوت الأنام وأول الإدام. ومع ذلك، لم أسمع بمن لقّب نفسه بـ«الخبّاز»؛ اللهم إلا الأديب والشاعر نصر بن أحمد الخبزارزي، من أهل البصرة. وكانت هذه المدينة قد ازدهرت في القرن الرابع الهجري بالشعراء. وهذا ما يفسر أنه حتى الخبّاز أصبح شاعراً فيها.
وكان نصر بن أحمد هذا خبّازاً بالفعل، كثيراً ما قصده الشعراء والأدباء ليتسامروا في مخبزه. وهل من سمير خير من رائحة الخبز في التنور؟ زاره عدد منهم صبيحة عيد الفطر في دكانه لتهنئته والسلام عليه، وكان قائماً بالخبز عندئذ، فأوقد النار بكمية كبيرة من سعف النخيل، ويظهر أن بعضها كان رطباً فأحدث دخاناً كثيراً، فنهض الجميع من شدة ما أحدثه الدخان، لا سيما أن كان بينهم أبو الحسين بن لنكك؛ من شعراء البصرة أيضاً، وكان أنيقاً في ثيابه البيضاء التي اعتز بها. فقال له نصر الخبزارزي: متى أراك يا أبا الحسين؟ فأجابه قائلاً: متى ما تتسخ ثيابي.
واصل الجمع جولتهم بزيارة شاعر آخر هو أبو أحمد بن المثنى، وما إن استقر بهم المجلس حتى استدعى ابن لنكك دواة وقرطاساً وكتب إلى نصر يقول:
لنصر في فؤادي فرط حب
أنيف به على كل الصحاب
أتيناه فبخّرنا بخوراً
من السعف المدخن بالشهاب
فقمت مبادراً وظننت نصراً
أراد بذلك طردي أو ذهابي
فقال متى أراك أبا حسين؟
فقلت له إذا اتسخت ثيابي
ثم بثّ أبو الحسين بن لنكك الأبيات بيد رسول إلى صاحبه الشاعر الخبّاز، أو بالأحرى الخبّاز الشاعر. فاستوقف الرسولَ وأملى الجواب أمامه وسلمه إياه لعناية صديقه ابن لنكك. وكان بهذه الأبيات من الوزن والقافية نفسيهما:
منحت أبا الحسين صميم ودي
فداعبني بألفاظ عذاب
أتى وثيابه كالشيب لوناً
فعدن له كريعان الشباب
وبغضي للمشيب أعد عندي
سواداً لونه لون الخضاب
ظننت جلوسه عندي لعرس
فجدت له بتمسيك الثياب
فقلت متى أراك أبا حسين؟
فجاوبني إذا اتسخت ثيابي
فإن يكن التقزز فيه فخراً
فلم يكن الوصي أبا تراب
وكانت أبياتاً طريفة وبليغة في اعتذارها وفي تفسيرها بين جمع من الخبّازين والحرفيين.
aawsat.com
وكان نصر بن أحمد هذا خبّازاً بالفعل، كثيراً ما قصده الشعراء والأدباء ليتسامروا في مخبزه. وهل من سمير خير من رائحة الخبز في التنور؟ زاره عدد منهم صبيحة عيد الفطر في دكانه لتهنئته والسلام عليه، وكان قائماً بالخبز عندئذ، فأوقد النار بكمية كبيرة من سعف النخيل، ويظهر أن بعضها كان رطباً فأحدث دخاناً كثيراً، فنهض الجميع من شدة ما أحدثه الدخان، لا سيما أن كان بينهم أبو الحسين بن لنكك؛ من شعراء البصرة أيضاً، وكان أنيقاً في ثيابه البيضاء التي اعتز بها. فقال له نصر الخبزارزي: متى أراك يا أبا الحسين؟ فأجابه قائلاً: متى ما تتسخ ثيابي.
واصل الجمع جولتهم بزيارة شاعر آخر هو أبو أحمد بن المثنى، وما إن استقر بهم المجلس حتى استدعى ابن لنكك دواة وقرطاساً وكتب إلى نصر يقول:
لنصر في فؤادي فرط حب
أنيف به على كل الصحاب
أتيناه فبخّرنا بخوراً
من السعف المدخن بالشهاب
فقمت مبادراً وظننت نصراً
أراد بذلك طردي أو ذهابي
فقال متى أراك أبا حسين؟
فقلت له إذا اتسخت ثيابي
ثم بثّ أبو الحسين بن لنكك الأبيات بيد رسول إلى صاحبه الشاعر الخبّاز، أو بالأحرى الخبّاز الشاعر. فاستوقف الرسولَ وأملى الجواب أمامه وسلمه إياه لعناية صديقه ابن لنكك. وكان بهذه الأبيات من الوزن والقافية نفسيهما:
منحت أبا الحسين صميم ودي
فداعبني بألفاظ عذاب
أتى وثيابه كالشيب لوناً
فعدن له كريعان الشباب
وبغضي للمشيب أعد عندي
سواداً لونه لون الخضاب
ظننت جلوسه عندي لعرس
فجدت له بتمسيك الثياب
فقلت متى أراك أبا حسين؟
فجاوبني إذا اتسخت ثيابي
فإن يكن التقزز فيه فخراً
فلم يكن الوصي أبا تراب
وكانت أبياتاً طريفة وبليغة في اعتذارها وفي تفسيرها بين جمع من الخبّازين والحرفيين.
خالد القشطيني - الحرفيون والشعراء
رغم احتقار بعض العرب الحرف والحرفيين، فإن كثيراً من الأسر الكريمة لم تبالِ بتسمية وتلقيب أنفسها بالألقاب الحرفية. من هذه الأسر المعروفة جيداً آل «الحداد» و«النجار» و«الصفار» و«الصائغ» و«الملاح» و«الجراح» و«القهوجي» و«الشوربجي» و«القباني»... ونحو ذلك.