رسالة من بدر شاكر السياب الى صالح جواد الطعمة

7-5-1947

أخي العزيز صالح جواد الطعمة.
أكتب اليك وأنا في أشد حالات المرض وأقساها، ولكنني أحس أن للوحشة وطأة أثقل من وطأة المرض. لقد انتظرت. طويلا، أن توافيني رسالة منك. لقد قلت انك ستبدأ بالكتابة.. ولكنك معذور، وإني لأكاد أحزر السبب الذي جعلك تنسي أو تتناسي أن هناك انسانا مستوحدا تخفف رسالتك بعض أحزانه، انه الربيع، ليس الأزاهير وحدها هي التي تتفتح في الربيع ولكنها القلوب والأرواح. ولعل الربيع الخليع قد مد أنامله الرخصة الي قلبك يدغدغه ويوقظه الي الحب أو لعل اقتراب الامتحان هو الذي صرفك عن كل شيء سوي الدرس والاجتهاد.
أما أنا فلا أحس للربيع وجودا -0 هو الربيع.. ولكن عند أهليه ولست من أهل الربيع. نعم ان الريف تكسوه حلل من سندس، كما يقولون، وصحيح أن مزارع النخيل وغاباته مزدانة بالصفراء والزرقاء من الأزاهير، وإن أشجار الرمان موقرة بالجلنار - ولكنني في شتاء حزين، لا أزال أتمثله في خيالي: المطر ينهمر، وقطرات منه تتساقط علي زجاج النافذة، وتسيل في بطء وكآبة!! ولماذا أرهقك وأرهق نفسي بهذه الصورة المفجعة؟
لاشك في انك تتذكر انني كلفتك بأن تخبر الآنسة لميعة أن تعيد اليَّ كتابا كانت قد استعارته مني، هو ديوان الشاعر الانجليزي روبرت بروك، ولست أدري: هل صدر ديوان الآنسة نازك الملائكة شظايا ورماد الي الأسواق أم لا؟ وماذا جد في عالم الشعر والأدب خلال هذه المدة؟ وبهذه المناسبة ماذا عن أساطير ؟ ومتي يتفضل جناب علي الخاقاني بطبعه، أرجو - فيما بعد طبعاً - أن تأخذوا الديوان منه وترسلوه اليَّ في البريد المسجل، فإني أراه رجلاً مماطلاً!
مضي أكثر من أسبوع، منذ أن خططت السطور الاولي من هذه الرسالة، وهأنذا أعود الي الكتابة مرة ثانية بعد فترة من المرض الملح، والشفاء الكاذب - وقد انتكست الآن، بعد أن ذهبت جهود الأطباء هباء، وذهب معها ما أملك من دراهم قليلة وأصبحت انتظر ما يأتي به الغد من جديد والداء يزداد عنفا وشدة! ولكني مطمئن الي شيء واحد: هو إنني لن أموت في القريب العاجل، لأن في الموت راحة، وقد قدر لي ألا أري راحة، وأن أجتاز محنا كثيرة غير هذه المحنة.
لعلك تفهم أحاسيسي ومشاعري في هذه الفترة، اذا عرفت القصائد التي أولعت بها أكثر من سواها وقرأتها مراراً حتي كدت أحفظها - والحفظ شيء بغيض لدي لأنه مجرد القصيدة من روعتها - أعجبتني قصيدة للشاعر الانجليزي جون ماسفيلد عنوانها ToC.L.M. وهي موجهة الي أمه المتوفاة، أترجم المقطع الأول منها ثم ألخص لك مضمون المقاطع الأخري.
في الرحم المظلم، حيث وجدت أول مرة، جعلتني حياة أمي بشرا سويا، وكان جمالها يغذي أرضي القاحلة ويرويها خلال أشهر الحمل التسعة الطوال: فلم أك قادراً علي أن أري، أو أتحرك إلا بموت بعض منها .
ثم يدرك الشاعر أن أمه - وهي في قبرها المظلم العميق - لا تستطيع أن تبصر هذه الحياة التي وهبت واعطت، أفي الخير توجه أم في الشر والخراب؟ وهي لا تستطيع كذلك أن تطرق الأبواب المتربة باحثة سائلة لتري أن ذكراها قد طمست في الأذهان، ولو كان ممكنا أن القبر يفتح أبوابه، ما استطاعت أن تعرف ابنها الصغير. لقد ترعرع وأصبح رجلاً كبيراً - وقد يلتقيان في الشارع فتمر الي جانبه ثم تواصل سيرها، كما تمر بشخص غريب - ما لم يجعلها (وجه روحي) تري ما انطبع فيه من احساس بالشكر لها جزاء لبرها العميم .. ثم يسائل نفسه: بأي شيء وفي دين هذه المرة عنده، وما الذي صنع جزاء لهذه المرأة الحبيبة المتوفاة؟ أن الرجال لا يزالون يطأون حقوق النساء بالأقدام، وان بعضا منهم مايزال يدعي ويتبجح ببطولاته أمام النساء، وأن البعض الآخر يكاد يفرق الكون في شهواته؟ فما الذي صنع هو جزاء لتلك المرأة العظيمة؟ أيها القبر - لتبق موصداً لئلا أخجل! .
سلامي للجميع، اذا اتسع لديك المجال فلتجب، وإلا فأرجيء الإجابة عن هذه الرسالة الي ما بعد الامتحان، ودم لأخيك المخلص.
بدر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...