شريف صالح - كوخ ست الحسن.. قصة

رأيتها من بعيد وهي ترش المياه على التراب الجاف أمام الكوخ المطل على النيل. كان الكوخ مصنوعاً من أعواد الغاب ولحاء الأشجار ومطلياً بطبقة جافة من الطين والتبن. أمامه باحة مسورة تظللها نباتات ست الحسن التي تسلقت الجدران وكست الكوخ كله بأزهارها البنفسجية الصغيرة ولمحت بين الأزهار طائر أبي الحناء بصدره المحمر يقف ساكنًا.. وبالقرب منه خلية نحل وكانت هناك نحلة تطن وتدور في الهواء.

خمنت أن الفتاة وحدها في الكوخ.

كنت أسير متعباً، أتصبب عرقاً. قلت لها:

“اسقيني”

توقفت عن الكنس ونظرت إلي.

تركت مقشة النخل من يدها ثم غابت في الداخل. كان هناك ريش ناعم كثير متناثر في أرضية الكوخ وكان صوت محمد قنديل يغني “سماح يا أهل السماح.. لوم الهوى جارح”. والريش الناعم يتطاير خفيفًا على إيقاع الأغنية.

ظلال أشجار الصفصاف بامتداد النهر والنسيم ورائحة التراب المبلول وغناء محمد قنديل.. كل هذا جعلني أشعر كأنني أقف على باب جنة الله.. أي جنة أجمل من هنا؟ وددت لو أنام إلى الأبد أمام الكوخ!

عادت الفتاة وفي يدها إبريق فضي مبلل. ناولتني الإبريق فشربت وتركت الماء يبلل فمي وصدري، وحين رفعت رأسي كي أشكرها رأيتها تبتسم وتتأملني بعينين خضراوين.

مضيتُ في طريقي مسافة لا أتذكرها بمحاذاة النيل الذي كان يجري هادئًا وكأنه لا يجري.. ثم وجدتني أعدو عائدًا نحو الكوخ، ورأتني الفتاة من الكوة المفتوحة قادمًا نحوها.. فابتسمت.

ـ “توقعت عودتك”

كان الباب مواربًا فدخلت. وقفتْ أمامي، لا يبدو عليها الخوف أو الضيق من دخولي دون استئذان. ابتسامتها اتسعت أكثر.

ـ “اسقيني”

مدت يدها ببساطة في قعر الزير وملأت الإبريق ثم فكته من السلسلة المعدنية.

ارتويت وتركت ما تبقى من الماء يفيض على جسدي.

ـ “اسقيني ثانية”

تناولت مني الإبريق وملأته لي أكثر من مرة، حتى كاد وجهها يلامس وجهي ورأيت ذلك الزغب الأشقر الخفيف على حواف شفتيها. استدارت مبتعدة وهي تفك المنديل عن شعرها الذهبي الغزير. التفتت وسألتني:

ـ “أليس معك حقيبة؟”

قبل أن أجيب ناولتني الإبريق مرة أخرى وأشارت إليّ أن أسقي نبتة “ست الحسن” هناك.. سرتُ حسبما أشارت وقطعت مسافة ليست طويلة ولا قصيرة إلى أن ظهرت لي درجات سلالم خرسانية.. كأنها مدخل بيت مهجور من زمن بعيد.. ومن ثقب بين تلك الدرجات الخرسانية تمددت نبتة صغيرة لا تزيد عن ثلاثة أشبار. كان ورقها الأخضر الذي يشبه ورق الملوخية ذابلًا ومغبرًا، فرحت أصب الماء أحممها وأغسل أعوادها الغضة.

لا أدري كم مرة كنت أعود إلى الفتاة فتملأ الكوز بابتسامة خفيفة. كنت أمضي إلى النبتة وأعاود رش المياه من أعلى.. ومن أسفل.. في المرة الأولى انتبهت إلى صوت أسمهان تغني في الراديو الصغير: “نادي وردك ياخولي.. اوعى يجرحك شوكه واسهر عليه”.. وفي المرة الثانية كان عبد الوهاب يغني وقبل أن أنتبه إلى الأغنية خفضت الفتاة صوت الراديو وقالت لي: لو أزهرت النبتة.. يمكننا أن نبني كوخًا جديدًا هناك”.

وكلما خرجت ليلًا كانت تترك لي شمعة صغيرة على مدخل الكوخ كي لا أضل الطريق أثناء عودتي.. واصلت ري النبتة مرات ومرات إلى أن قالت لي إنها متعبة ولم تعد تقوى على ملء الإبريق لي.

كانت مستلقية على السرير. ثم التفتت نحوي وسألتني وهي تسعل:

“هل أزهرت النبتة؟”

“مازلت أرويها”

سعلت ثم اعتدلت في فراشها وهي تحدق فيّ:

“شعرك شاب كثيرًا منذ رأيتك أول مرة!”

تطلعت من كوة الكوخ.. إلى الخارج.. فرأيت نفسي شابًا قادمًا من بعيد.

القصة من مجموعة دفتر النائم




التفاعلات: عبد الرحيم سليلي
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...