عزيزي أنطونيوني
يُميز نيتشه، في مصنفته للنماذج الفردية (تيبولوجي)، بين نوعين من الأفراد: القس والفنان. نحن لدينا اليوم من القساوسة ما يفيض عن الحاجةِ: من جميع الأديان، وحتى خارج الدين؛ لكن من الفنانين؟... بودي، عزيزي أنطونيوني، أن تعيرني للحظة بعض ملامح عملك، لكي أتمكن من تثبيت القوى الثلاث أو، إذا شئت، الفضائل الثلاث التي تشكل، من وجهة نظري، شخصية الفنان. سأقوم بعدّها حالاً: اليقظة، الحكمة، وما هو أكثرها مفارقة، الضعف.
يمكن للفنان، على عكس القس، الاندهاش والإعجاب بالعالم، كذلك يمكن لنظرته أن تكون نقدية، لكنه لا يتمتع بخاصية الفرد الإتهامي: لا يعرف الفنان الضغينة. ولأنك فنان، فإن عملك يفتح نفسه أمام ما هو حداثوي. هناك الكثير من الأفراد الذين يتعاملون مع الحداثوي باعتباره بيرق معركة ضد العالم القديم، وقيمه الفاسدة؛ لكن، عندك، وعلى عكس ذلك، يَكمن الحداثوي في صعوبة فاعلة للحاق بتغييرات العصر، ليس على صعيد التاريخ العام بضخامته وحسب، بل وأيضاً عبر ذلك التاريخ الصغير والذي يشكل فيه وجود كل واحد منا معياراً. بمثل هذه الطريقة، تتابعَ عملك، الذي شرع في اليوم الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، لحظة بعد لحظة، ووفقاً ليقظة مزدوجة حيال العالم المعاصر وحيالك أنت بالذات؛ لقد كان كل واحد من أفلامك، وحسب المقياس الذي تضعه، تجربة تاريخية، أي الانتهاء من مشكلة قديمة أو صياغة لسؤال جديد. وهذا معناه بأنك عشت وعالجت تاريخ الأعوام الثلاثين الأخيرة بدقة، لا كمادة انعكاس فنية أو التزام إيديولوجي، ولكن كجوهر تمكنت، من عمل إلى آخر، من التقاط نقطة جذبه الأساسية (مغناطيسيته).
إنك تتعامل مع المادة والشكل باعتبارهما، هما أيضاً، تاريخيين؛ فالمآسي هي، كما قلت أنت، سيكولوجية وتشكيلية في آن. أما المجتمعي، السردي، والعصابي، فما هي سوى مستويات، أو متوافقات، مثلما يُقال في الألسنية، لعالم كلّي يشكل مادة لجميع الفنانين: هناك تعاقب، وليس تراتبية، في المصالح. بدقيق العبارة، لا يتطور الفنان، على عكس
المفكر، بل يكنس، كآلة شديدة الحساسية، التركة الجديدة التي يضعها أمامه تاريخـــه الفردي: عملك ليس انعكاساً جامداً، بل تموجاً تَمرُ عبره، بتوازن مع منحدر نظرتك ومتطلبات العصر، أشكال ما هو اجتماعي، أو انفعالي، وكذلك المستجدات الشكلية (على صعيد الشكل)، انطلاقاً من الصياغة السردية وحتى استخدام اللون. إن انشغالك بالمرحلة يختلف عن انشغال المؤرخ، السياسي والأخلاقـــي، فهو انشغال ذلك الشخص المثالي الذي يحاول رؤية العالم الجديد انطلاقاً مـــن مجموعة نقاط محددة، لأنه يحب هذا العالم ويرغب في أن يكون جزءً منه. فيقظــة الفنان، والتي هي يقظتك، حبّية، يقظة الرغبة.
ما أسميه حكمة الفنان لا علاقة له بفضيلة عتيقة، وأقل من ذلك بخطاب ركيك، بل، على العكس من هذا، بتلك المعرفة الأخلاقية، وحس التمييز الشديد الذي يبعده تماماً عن الخلط ما بين الحقيقة والمعنى. أية جرائم لم ترتكبها الإنسانية باسم الحقيقة! ومع ذلك، لم تكن هذه الحقيقة شيئاً آخر غير المعنى. أية حروب وقمع، أي رعب وإبادة أجناس، حتى ينتصر المعنى! أما الفنان، فيعرف بأن معنى أي شيء لا يشكل حقيقته؛ تلك المعرفة حكمةً، وبمقدور المرء القول بأنها حكمة جنونية، ما دامت تبعده عن الطائفة، وعن قطيع المُتعصبين والمتهورين.
لكن، لا يتمتع الفنانون جميعهم بهذه الحكمة: فبعضهم يجعل المعنى جامداً. إن عملية الإرهاب هذه لها اسم عام ألا وهو الواقعية. كذلك عندما تقول (في مقابلة مع غودار): “أشعر بحاجتي للتعبير عن الواقع عبر مفردات لا تكون بالكامل واقعية”، فإنك تشهد بهذا على شعور صحيح فيما يتعلق بالمعنى: أنت لا تفرضه، لكنك لا تلغيه كذلك. إن جدلية كهذه تمنح أفلامك (سأستخدم من جديد هذه المفردة) رهافة كبيرة : يكمن فنك في تركك الطريق مفتوحاً أمام المعنى، وهو طريق غامض، بحكم تدقيقك. بهذا تنجز بدقة مهمة الفنان الذي يتطلع إليه عصرنا: لا عقائدي ولا مجرد عن المعنى.
وهكذا يتردد، عبر أفلامك القصيرة الأولى عن زبالي مدينة روما أو صناعة الحرير في منطقة “تورفيسكوزا”، وصفك النقدي للاستلاب الاجتماعي، لكن دون أن ينمحي، بل يميل نحو شعور أكثر تأثيراً، ومباشرة، نحو ولصالح الأجسام العاملة. أما فيلم “الكريدو” (الاعتقاذ)، فمعناه الأقوى هو، إذا كان بمقدور المرء قول ذلك، لا يقينية المعنى: فضياع ذلك الرجل الذي لا يستطيع إثبات هويته في أي مكان وكذلك غموض الاستنتاج الأخير (انتحار أو مجرد حادث) يجعلان المشاهد يشك بمعنى الرسالة. أن هروب المعنى هذا، والذي لا يعني اندثاره، قد أتاح لك هز الجذور السيكولوجية للواقعية: في “ديزرتو روسو” (الصحراء الحمراء)، لم تعد الأزمة أزمة عواطف، كذلك هو الأمر في فيلم “الكسوف”، ذلك لأن العواطف كانت ماثلة (البطلة تحب حقاً زوجها): كل شيء ينعقد ويُسبب ألماً في منطقة ثانوية حيث تكون الانفعالات –ضيق الانفعالات- لكي يفلت من هيكل المعنى والذي هو رمز الانفعالات. وفي النهاية –لكي لا أطيل- تنقل أفلامك الأخيرة أزمة المعنى تلك وتضعها في قلب هوية الوقائع (فيلم “انفجار”)، وفي قلب الأفراد (فيلم “المهنة: مخبر”). ففي العمق، هناك نقد، متواصل مؤلم وضروري، لتلك العلامة القوية للمعنى، والتي يُطلق عليها اسم المصير.
ذلك التردد – لكني أحبذ قول ذلك بدقة أكبر: إغْماء المعنى هذا، السائر على مسالك تَقَنية، سينمائية محضة (الديكور، الخطط، المونتاج) والتي لا يرجع لي تحليلها، لأني لا أتمتع بكفاءة القيام بذلك، غير أني هنا، لكي أبين كيف أن عملك، وفي ما هو أبعد من السينما، يمس جميع الفنانين المعاصرين: إنك تعمل حتى يصبح معنى ما يقوله الفرد، ما يحكيه، ما يراه ويشعر به مُرهفاً. فتلك الرهافة والتأكد من أن المعنى لن يتوقف بفظاظة عند الشيء الذي يُقال، بل يذهب دائماً إلى ما ورائه، بحكم افتتانه بما هو خارج-المعنى؛ تلك الرهافة هي، كما أعتقد، ما يفتن كل فنان. فموضوع الفنان لا ينحصر بهذه التقنية أو تلك، بل بتلك الظاهرة الغريبة: التموج. فالموضوع المُمثل يتموج، على حساب العقيدة. أفكر بما قاله الرسام براك: “تنتهي اللوحة عندما تمّحي الفكرة”. أفكر بماتيس يرسم شجرة زيتون، وهو في سريره، ثم ينهض، بعد مضي وقت، ليشاهد الفراغات بين الأغصان، ومن ثم يكتشف بأنه قد أفلت بفضل هذه الرؤية من الصورة الاعتيادية للموضوع المرسوم، من كليشيه “شجرة الزيتون”. وهكذا اكتشف ماتيس مبدأ الفن الشرقي، الذي يميل دائماً إلى رسم الفراغ، أو بالأحرى يرغب بالقبض على مادة الرسم في تلك اللحظة النادرة التي تسقط فيها هويتها المكتنزة ضمن مجال جديد، إلا وهو مجال الفجوة. كذلك فإن فنك، بمعنى ما، هو فن للفجوة. (على هذا الصعيد، يقدم فيلم “المغامرة” الدليل الناصع)، إذن، وبمعنى ما ثانية، يتمتع فنك بعلاقة بالشرق. لأن فيلمك عن الصين هو الذي أعطاني رغبة السفر إلى هناك؛ وإذا كان الفيلم قد رُفضَ وقتياً من قبل أولئك الذين كان عليهم أن يفهموا بأن جماله الحبي يتفوق على كل دعاية، فذلك لأنه حُكم عليه من منظور السلطة، وليس من المنظور الذي تشترطه الحقيقة. ليس للفنان من سلطة، لكنه يتمتع بعلاقة ما بالحقيقة؛ فعمله، المجازي دائماً إذا ما كان فناناً عظيماً، يلتقطه جانبياً؛ لأن عالمه هو العالم اللامباشر للحقيقة.
لماذا تكون حدة المعنى هذه حاسمة؟ بالدقة لأن المعنى، إذا ما جمُدَ وتم فرضه، حينما يخرج عن تلك الحدة، يتحول إلى آلة، رهان على السلطة. أن تدقيق المعنى هذا، إذن، هو فاعلية سياسية ثانية، مثل أي جهد آخر يهدف إلى تفتيت، إلى خلق اضطراب، وإلى تفكيك إيهام (فنطازم) المعنى. بيد أن ذلك لا يمر دون خطر. أما الفضيلة الثالثة للفنان (أستخدم مفردة فضيلة بمعناها اللاتيني)، فهي الضعف : لا يمكن للفنان أبداً أن يكون متقيناً بأنه سيعيش، ويعمل: افتراض بسيط ولكنه جدي: اندثاره شيء ممكن.
إن ضعف الفنان الأول هو الآتي : أنه جزء من عالم يتغير، لكنه يتغير هو أيضاً؛ ذلك ما يبدو تافهاً، لكنه بالنسبة للفنان شيء مدوخ؛ فهو لا يعرف إذا ما كان العمل الذي يعرضه متولداً عن تغير العالم، أو عن تغيره الذاتي. لقد كنت أنت دائماً واعياً، كما يبدو، بنسبية العصر هذه، وذلك عندما تقول، مثلاً، في أحدى المقابلات، ما يلي: “إذا كانت الأشياء التي نتحدث عنها هي ليست تلك التي كنا نتحدث عنها ما بعد الحرب مباشرة، فذلك في الواقع لأن العالم من حولنا قد تغيير، ولكننا نحن أنفسنا أيضاً تغيرنا. لقد تغيرت مطالباتنا، كلماتنا، وموضوعاتنا”. إن الضعف هنا هو ذلك الشكالوجودي الذي يقبض على الفنان كلما تقدم بالعمر وكلما تقدم عمله... عسير ذلك الشك،ومؤلم حتى، فالفنان لا يعرف أبداً إذا كان ما يريد قوله هو شهادة حق عن العالمالذي قد تغير، أو مجرد انعكاس أناني لحنينه أو رغبته: رحالة إنشتايني (نسبة إلى إنشتاين) فهو لا يعرف إذا ما كان القطار هو الذي يتحرك أم الزمكان، إذا ما كان شاهداًأو إنسان رغبة.
دافع آخر للضعف: ما يشكل مفارقة، عند الفنان، هو صلابة وإصرار نظرته. فالسلطة، مهما كانت، لا تنظر أبداً، لأنها عنف؛ وإذا ما نظرت للحظة أكبر (لحظةبالزيادة)، فأنها ستفقد جوهر سلطتها. أما الفنان، فهو يتوقف وينظر طويلاً، كذلك يمكنني التخيل بأنك اخترت أن تكون سينمائياً لأن الكاميرا هي عين مرغمة، بحكموضعيتها التقنية، على النظر. ما تضيفه أنت لتلك الوضعية، المشتركة بين جميعالسينمائيين، هو أنك تنظر للأشياء بجذرية، حتى استنفادها بالكامل. أولاً، تنظر إلى مالم يطلب منك وفقاً للتقليد السياسي (الفلاحين الصينيين) أو حسب التقليد السردي
(الزمن الميت لمغامرة). من ناحية ثانية، بطلك المفضل هو ذلك الذي ينظر(مصور أو مراسل). وذلك ما يشكل خطراً، لأن النظر أكثر مما هو مسموح به(ألحُ على هذه الحدة) يُزعج جميع الأنظمة القائمة، على اختلافها، لأن زمنالنظرة ذاته تتحكم فيه، بطبيعة الحال، الرقابة الاجتماعية: من هنا مصدر الطبيعةالفضائحية لبعض الصور الفوتوغرافية وبعض الأفلام، حينما يفلت العمل من تلكالرقابة: ليس أكثرها فحشاً أو قتاليةً، لكن ببساطة أكثرها “معروضيةً”.
لذا فالفنان مهدد، ليس من قبل السلطة القائمة وحسب –فسرد قصة تعذيب الفنانين المراقَبين من قبل الدولة، على مدى التاريخ، قد تكون من الطول الذييبعث على اليأس-، بل وأيضاً من قبل العاطفة الجمعية، الممكنة دائماً، إذ يستطيعالمجتمع أن يعيش بدون فن: إن فاعلية الفنان مُريبة لأنها تزعج راحة وأمن المعاني القائمة، وكذلك لأنها باهظة الثمن ومجانية في آن، ولأن المجتمع الجديدالباحث عن نفسه، عبر أنظمة شديدة الاختلاف، لم يحسم بعد أمر ما ينبغي عليهالتفكير فيه، أي ما كان يُفترض التفكير فيه بخصوص البذخ. أن قدرنا غير مؤكد،وعدم التأكد هذا ليس علاقة بسيطة ترتبط بالحلول السياسية التي يمكننا تخيلها فيحالة تململ العالم؛ أنها تعتمد على هذا التاريخ الهائل، الذي يتحكم بطريقة بالكاد مفهومة، ليس بحاجاتنا، ولكن برغباتنا.
عزيزي أنطونيوني،
لقد حاولت أن أُبين عبر لغتي الثقافية الأسباب التي تجعل منك، في ما هو أبعد من السينما، واحداً من فناني عصرنا. أن هذا الإطراء ليس بالشيء البسيط، كما تعلم: أن يكون المرء فناناً اليوم، فهذا يعني أنه يجد نفسه في موقف لم يعد يرتكز على ذلك الاعتقاد الجميل الذي يخصه بوظيفة عظمى، قدسية أو اجتماعية؛ أنه ما عاد يقتصر على أخذ مكانة بهدوء في البانتيون (مجمع الأرباب عند القدماء) البرجوازي لمنارات الإنسانية؛ أنه واجب المرء، في كل لحظة من لحظات عمله، في مواجهة أشباح الذاتية الحداثوية في نفسه، ما دام أنه قد كف أن يكون قساً، وما دام الضنى الإيديولوجي، وسوء الوعي الاجتماعي، والجاذبية والنفور من الفن السهل، واضطراب المسؤولية، والتدقيق المتواصل الذي يشرخ الفنان ما بين العزلة وغريزة التجمع قائمةً. لهذا يجب عليك اليوم استغلال هذه اللحظة الهادئة، المُتناغمة، التصالحية، ما دام هناك جماعة بكاملها تتفق على اعترافها، إعجابها، وحبها لعملك. ذلك لأن العمل الشاق سيبدأ غداً من جديد.
* ترجمة: حسين عجة
1. رسالة وجهها الناقد والسيميائي الفرنسي رولان بارت إلى المخرج الإيطالي ميكل أنجيلو أنطونيوني (الذي ارتحل قبل أيام عن عالمنا) بمناسبة فوزه سنة 1979 بجائزة “أركيجينازيو الذهبية” الممنوحة من قبل مدينة بولونيا الإيطالية. وقد نُشرت الرسالة في عدد مارس 1980 من مجلة “دفاتر السينما” الفرنسية الذائعة الصيت…
يُميز نيتشه، في مصنفته للنماذج الفردية (تيبولوجي)، بين نوعين من الأفراد: القس والفنان. نحن لدينا اليوم من القساوسة ما يفيض عن الحاجةِ: من جميع الأديان، وحتى خارج الدين؛ لكن من الفنانين؟... بودي، عزيزي أنطونيوني، أن تعيرني للحظة بعض ملامح عملك، لكي أتمكن من تثبيت القوى الثلاث أو، إذا شئت، الفضائل الثلاث التي تشكل، من وجهة نظري، شخصية الفنان. سأقوم بعدّها حالاً: اليقظة، الحكمة، وما هو أكثرها مفارقة، الضعف.
يمكن للفنان، على عكس القس، الاندهاش والإعجاب بالعالم، كذلك يمكن لنظرته أن تكون نقدية، لكنه لا يتمتع بخاصية الفرد الإتهامي: لا يعرف الفنان الضغينة. ولأنك فنان، فإن عملك يفتح نفسه أمام ما هو حداثوي. هناك الكثير من الأفراد الذين يتعاملون مع الحداثوي باعتباره بيرق معركة ضد العالم القديم، وقيمه الفاسدة؛ لكن، عندك، وعلى عكس ذلك، يَكمن الحداثوي في صعوبة فاعلة للحاق بتغييرات العصر، ليس على صعيد التاريخ العام بضخامته وحسب، بل وأيضاً عبر ذلك التاريخ الصغير والذي يشكل فيه وجود كل واحد منا معياراً. بمثل هذه الطريقة، تتابعَ عملك، الذي شرع في اليوم الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، لحظة بعد لحظة، ووفقاً ليقظة مزدوجة حيال العالم المعاصر وحيالك أنت بالذات؛ لقد كان كل واحد من أفلامك، وحسب المقياس الذي تضعه، تجربة تاريخية، أي الانتهاء من مشكلة قديمة أو صياغة لسؤال جديد. وهذا معناه بأنك عشت وعالجت تاريخ الأعوام الثلاثين الأخيرة بدقة، لا كمادة انعكاس فنية أو التزام إيديولوجي، ولكن كجوهر تمكنت، من عمل إلى آخر، من التقاط نقطة جذبه الأساسية (مغناطيسيته).
إنك تتعامل مع المادة والشكل باعتبارهما، هما أيضاً، تاريخيين؛ فالمآسي هي، كما قلت أنت، سيكولوجية وتشكيلية في آن. أما المجتمعي، السردي، والعصابي، فما هي سوى مستويات، أو متوافقات، مثلما يُقال في الألسنية، لعالم كلّي يشكل مادة لجميع الفنانين: هناك تعاقب، وليس تراتبية، في المصالح. بدقيق العبارة، لا يتطور الفنان، على عكس
المفكر، بل يكنس، كآلة شديدة الحساسية، التركة الجديدة التي يضعها أمامه تاريخـــه الفردي: عملك ليس انعكاساً جامداً، بل تموجاً تَمرُ عبره، بتوازن مع منحدر نظرتك ومتطلبات العصر، أشكال ما هو اجتماعي، أو انفعالي، وكذلك المستجدات الشكلية (على صعيد الشكل)، انطلاقاً من الصياغة السردية وحتى استخدام اللون. إن انشغالك بالمرحلة يختلف عن انشغال المؤرخ، السياسي والأخلاقـــي، فهو انشغال ذلك الشخص المثالي الذي يحاول رؤية العالم الجديد انطلاقاً مـــن مجموعة نقاط محددة، لأنه يحب هذا العالم ويرغب في أن يكون جزءً منه. فيقظــة الفنان، والتي هي يقظتك، حبّية، يقظة الرغبة.
ما أسميه حكمة الفنان لا علاقة له بفضيلة عتيقة، وأقل من ذلك بخطاب ركيك، بل، على العكس من هذا، بتلك المعرفة الأخلاقية، وحس التمييز الشديد الذي يبعده تماماً عن الخلط ما بين الحقيقة والمعنى. أية جرائم لم ترتكبها الإنسانية باسم الحقيقة! ومع ذلك، لم تكن هذه الحقيقة شيئاً آخر غير المعنى. أية حروب وقمع، أي رعب وإبادة أجناس، حتى ينتصر المعنى! أما الفنان، فيعرف بأن معنى أي شيء لا يشكل حقيقته؛ تلك المعرفة حكمةً، وبمقدور المرء القول بأنها حكمة جنونية، ما دامت تبعده عن الطائفة، وعن قطيع المُتعصبين والمتهورين.
لكن، لا يتمتع الفنانون جميعهم بهذه الحكمة: فبعضهم يجعل المعنى جامداً. إن عملية الإرهاب هذه لها اسم عام ألا وهو الواقعية. كذلك عندما تقول (في مقابلة مع غودار): “أشعر بحاجتي للتعبير عن الواقع عبر مفردات لا تكون بالكامل واقعية”، فإنك تشهد بهذا على شعور صحيح فيما يتعلق بالمعنى: أنت لا تفرضه، لكنك لا تلغيه كذلك. إن جدلية كهذه تمنح أفلامك (سأستخدم من جديد هذه المفردة) رهافة كبيرة : يكمن فنك في تركك الطريق مفتوحاً أمام المعنى، وهو طريق غامض، بحكم تدقيقك. بهذا تنجز بدقة مهمة الفنان الذي يتطلع إليه عصرنا: لا عقائدي ولا مجرد عن المعنى.
وهكذا يتردد، عبر أفلامك القصيرة الأولى عن زبالي مدينة روما أو صناعة الحرير في منطقة “تورفيسكوزا”، وصفك النقدي للاستلاب الاجتماعي، لكن دون أن ينمحي، بل يميل نحو شعور أكثر تأثيراً، ومباشرة، نحو ولصالح الأجسام العاملة. أما فيلم “الكريدو” (الاعتقاذ)، فمعناه الأقوى هو، إذا كان بمقدور المرء قول ذلك، لا يقينية المعنى: فضياع ذلك الرجل الذي لا يستطيع إثبات هويته في أي مكان وكذلك غموض الاستنتاج الأخير (انتحار أو مجرد حادث) يجعلان المشاهد يشك بمعنى الرسالة. أن هروب المعنى هذا، والذي لا يعني اندثاره، قد أتاح لك هز الجذور السيكولوجية للواقعية: في “ديزرتو روسو” (الصحراء الحمراء)، لم تعد الأزمة أزمة عواطف، كذلك هو الأمر في فيلم “الكسوف”، ذلك لأن العواطف كانت ماثلة (البطلة تحب حقاً زوجها): كل شيء ينعقد ويُسبب ألماً في منطقة ثانوية حيث تكون الانفعالات –ضيق الانفعالات- لكي يفلت من هيكل المعنى والذي هو رمز الانفعالات. وفي النهاية –لكي لا أطيل- تنقل أفلامك الأخيرة أزمة المعنى تلك وتضعها في قلب هوية الوقائع (فيلم “انفجار”)، وفي قلب الأفراد (فيلم “المهنة: مخبر”). ففي العمق، هناك نقد، متواصل مؤلم وضروري، لتلك العلامة القوية للمعنى، والتي يُطلق عليها اسم المصير.
ذلك التردد – لكني أحبذ قول ذلك بدقة أكبر: إغْماء المعنى هذا، السائر على مسالك تَقَنية، سينمائية محضة (الديكور، الخطط، المونتاج) والتي لا يرجع لي تحليلها، لأني لا أتمتع بكفاءة القيام بذلك، غير أني هنا، لكي أبين كيف أن عملك، وفي ما هو أبعد من السينما، يمس جميع الفنانين المعاصرين: إنك تعمل حتى يصبح معنى ما يقوله الفرد، ما يحكيه، ما يراه ويشعر به مُرهفاً. فتلك الرهافة والتأكد من أن المعنى لن يتوقف بفظاظة عند الشيء الذي يُقال، بل يذهب دائماً إلى ما ورائه، بحكم افتتانه بما هو خارج-المعنى؛ تلك الرهافة هي، كما أعتقد، ما يفتن كل فنان. فموضوع الفنان لا ينحصر بهذه التقنية أو تلك، بل بتلك الظاهرة الغريبة: التموج. فالموضوع المُمثل يتموج، على حساب العقيدة. أفكر بما قاله الرسام براك: “تنتهي اللوحة عندما تمّحي الفكرة”. أفكر بماتيس يرسم شجرة زيتون، وهو في سريره، ثم ينهض، بعد مضي وقت، ليشاهد الفراغات بين الأغصان، ومن ثم يكتشف بأنه قد أفلت بفضل هذه الرؤية من الصورة الاعتيادية للموضوع المرسوم، من كليشيه “شجرة الزيتون”. وهكذا اكتشف ماتيس مبدأ الفن الشرقي، الذي يميل دائماً إلى رسم الفراغ، أو بالأحرى يرغب بالقبض على مادة الرسم في تلك اللحظة النادرة التي تسقط فيها هويتها المكتنزة ضمن مجال جديد، إلا وهو مجال الفجوة. كذلك فإن فنك، بمعنى ما، هو فن للفجوة. (على هذا الصعيد، يقدم فيلم “المغامرة” الدليل الناصع)، إذن، وبمعنى ما ثانية، يتمتع فنك بعلاقة بالشرق. لأن فيلمك عن الصين هو الذي أعطاني رغبة السفر إلى هناك؛ وإذا كان الفيلم قد رُفضَ وقتياً من قبل أولئك الذين كان عليهم أن يفهموا بأن جماله الحبي يتفوق على كل دعاية، فذلك لأنه حُكم عليه من منظور السلطة، وليس من المنظور الذي تشترطه الحقيقة. ليس للفنان من سلطة، لكنه يتمتع بعلاقة ما بالحقيقة؛ فعمله، المجازي دائماً إذا ما كان فناناً عظيماً، يلتقطه جانبياً؛ لأن عالمه هو العالم اللامباشر للحقيقة.
لماذا تكون حدة المعنى هذه حاسمة؟ بالدقة لأن المعنى، إذا ما جمُدَ وتم فرضه، حينما يخرج عن تلك الحدة، يتحول إلى آلة، رهان على السلطة. أن تدقيق المعنى هذا، إذن، هو فاعلية سياسية ثانية، مثل أي جهد آخر يهدف إلى تفتيت، إلى خلق اضطراب، وإلى تفكيك إيهام (فنطازم) المعنى. بيد أن ذلك لا يمر دون خطر. أما الفضيلة الثالثة للفنان (أستخدم مفردة فضيلة بمعناها اللاتيني)، فهي الضعف : لا يمكن للفنان أبداً أن يكون متقيناً بأنه سيعيش، ويعمل: افتراض بسيط ولكنه جدي: اندثاره شيء ممكن.
إن ضعف الفنان الأول هو الآتي : أنه جزء من عالم يتغير، لكنه يتغير هو أيضاً؛ ذلك ما يبدو تافهاً، لكنه بالنسبة للفنان شيء مدوخ؛ فهو لا يعرف إذا ما كان العمل الذي يعرضه متولداً عن تغير العالم، أو عن تغيره الذاتي. لقد كنت أنت دائماً واعياً، كما يبدو، بنسبية العصر هذه، وذلك عندما تقول، مثلاً، في أحدى المقابلات، ما يلي: “إذا كانت الأشياء التي نتحدث عنها هي ليست تلك التي كنا نتحدث عنها ما بعد الحرب مباشرة، فذلك في الواقع لأن العالم من حولنا قد تغيير، ولكننا نحن أنفسنا أيضاً تغيرنا. لقد تغيرت مطالباتنا، كلماتنا، وموضوعاتنا”. إن الضعف هنا هو ذلك الشكالوجودي الذي يقبض على الفنان كلما تقدم بالعمر وكلما تقدم عمله... عسير ذلك الشك،ومؤلم حتى، فالفنان لا يعرف أبداً إذا كان ما يريد قوله هو شهادة حق عن العالمالذي قد تغير، أو مجرد انعكاس أناني لحنينه أو رغبته: رحالة إنشتايني (نسبة إلى إنشتاين) فهو لا يعرف إذا ما كان القطار هو الذي يتحرك أم الزمكان، إذا ما كان شاهداًأو إنسان رغبة.
دافع آخر للضعف: ما يشكل مفارقة، عند الفنان، هو صلابة وإصرار نظرته. فالسلطة، مهما كانت، لا تنظر أبداً، لأنها عنف؛ وإذا ما نظرت للحظة أكبر (لحظةبالزيادة)، فأنها ستفقد جوهر سلطتها. أما الفنان، فهو يتوقف وينظر طويلاً، كذلك يمكنني التخيل بأنك اخترت أن تكون سينمائياً لأن الكاميرا هي عين مرغمة، بحكموضعيتها التقنية، على النظر. ما تضيفه أنت لتلك الوضعية، المشتركة بين جميعالسينمائيين، هو أنك تنظر للأشياء بجذرية، حتى استنفادها بالكامل. أولاً، تنظر إلى مالم يطلب منك وفقاً للتقليد السياسي (الفلاحين الصينيين) أو حسب التقليد السردي
(الزمن الميت لمغامرة). من ناحية ثانية، بطلك المفضل هو ذلك الذي ينظر(مصور أو مراسل). وذلك ما يشكل خطراً، لأن النظر أكثر مما هو مسموح به(ألحُ على هذه الحدة) يُزعج جميع الأنظمة القائمة، على اختلافها، لأن زمنالنظرة ذاته تتحكم فيه، بطبيعة الحال، الرقابة الاجتماعية: من هنا مصدر الطبيعةالفضائحية لبعض الصور الفوتوغرافية وبعض الأفلام، حينما يفلت العمل من تلكالرقابة: ليس أكثرها فحشاً أو قتاليةً، لكن ببساطة أكثرها “معروضيةً”.
لذا فالفنان مهدد، ليس من قبل السلطة القائمة وحسب –فسرد قصة تعذيب الفنانين المراقَبين من قبل الدولة، على مدى التاريخ، قد تكون من الطول الذييبعث على اليأس-، بل وأيضاً من قبل العاطفة الجمعية، الممكنة دائماً، إذ يستطيعالمجتمع أن يعيش بدون فن: إن فاعلية الفنان مُريبة لأنها تزعج راحة وأمن المعاني القائمة، وكذلك لأنها باهظة الثمن ومجانية في آن، ولأن المجتمع الجديدالباحث عن نفسه، عبر أنظمة شديدة الاختلاف، لم يحسم بعد أمر ما ينبغي عليهالتفكير فيه، أي ما كان يُفترض التفكير فيه بخصوص البذخ. أن قدرنا غير مؤكد،وعدم التأكد هذا ليس علاقة بسيطة ترتبط بالحلول السياسية التي يمكننا تخيلها فيحالة تململ العالم؛ أنها تعتمد على هذا التاريخ الهائل، الذي يتحكم بطريقة بالكاد مفهومة، ليس بحاجاتنا، ولكن برغباتنا.
عزيزي أنطونيوني،
لقد حاولت أن أُبين عبر لغتي الثقافية الأسباب التي تجعل منك، في ما هو أبعد من السينما، واحداً من فناني عصرنا. أن هذا الإطراء ليس بالشيء البسيط، كما تعلم: أن يكون المرء فناناً اليوم، فهذا يعني أنه يجد نفسه في موقف لم يعد يرتكز على ذلك الاعتقاد الجميل الذي يخصه بوظيفة عظمى، قدسية أو اجتماعية؛ أنه ما عاد يقتصر على أخذ مكانة بهدوء في البانتيون (مجمع الأرباب عند القدماء) البرجوازي لمنارات الإنسانية؛ أنه واجب المرء، في كل لحظة من لحظات عمله، في مواجهة أشباح الذاتية الحداثوية في نفسه، ما دام أنه قد كف أن يكون قساً، وما دام الضنى الإيديولوجي، وسوء الوعي الاجتماعي، والجاذبية والنفور من الفن السهل، واضطراب المسؤولية، والتدقيق المتواصل الذي يشرخ الفنان ما بين العزلة وغريزة التجمع قائمةً. لهذا يجب عليك اليوم استغلال هذه اللحظة الهادئة، المُتناغمة، التصالحية، ما دام هناك جماعة بكاملها تتفق على اعترافها، إعجابها، وحبها لعملك. ذلك لأن العمل الشاق سيبدأ غداً من جديد.
* ترجمة: حسين عجة
1. رسالة وجهها الناقد والسيميائي الفرنسي رولان بارت إلى المخرج الإيطالي ميكل أنجيلو أنطونيوني (الذي ارتحل قبل أيام عن عالمنا) بمناسبة فوزه سنة 1979 بجائزة “أركيجينازيو الذهبية” الممنوحة من قبل مدينة بولونيا الإيطالية. وقد نُشرت الرسالة في عدد مارس 1980 من مجلة “دفاتر السينما” الفرنسية الذائعة الصيت…