صقر المحمود - حبيبتي لمى

صباح الخير
‏ أعلم أن خديك احمّرا مثل حبّتي رمّان في منتصف الخريف، عندما طالعتك رسالتي ، و أخذتك شهقة كأني باغتك، و تسارع قلبك لدرجة تجعلني أخاف عليك
‏و أن هذا بات يحدث بصورة أشد عصفا، بعدما سافرتُ، فصار غروري يستيقظ له، و يمنعني من النوم قبل أن أتلقى دهشتك، و تلفني تنهيدتك، فتبث الحرارة في زوايا غرفتي الباردة.
‏أنت بارعة في الإيحاء إليّ بما تريدين، أسمع أمنياتك و خوفك ، و فرحك ، و حزنك ، و تفاجئني أسئلتك عن أدق التفاصيل، كما لو كنت قبالتك
‏حتى عندما قلت لك:
‏_ إنني أحتفل الآن برأس السنة . . . ثلج أثينا أصبح دافئا تحت قدمي كندف القطن، بتأثير قلقك عليّ.
‏ أجبتني بحنان مرتاب:
‏_ انتبه لصحتك، و لا تتعرض للبرد.
‏كنت تعلمين بطريقة ما، لا أستطيع تفسيرها أنني أرتجف من الحمى . . . . . .
‏لا أدري لم عادت صور رحيلي تتكرر في أحلامي، منذ أيام، و بات لها طعم آخر، أشد مرارة، و لأكون دقيقا أصبحت مرارتها لا تطاق.
‏ و ما زالت نظرة عينيك، التي حاولت عبثا ثنيي عن هذا القرار تؤرقني .
‏لكنني كنت مدفوعا بجنون حبك، الذي يلقي علي يوميا حكمة مفادها:
‏_ لمى تستحق حياة أفضل، هي جديرة بأن تلفّ لها الدنيا بورقة فضية، و شريط أحمر، وتقدمها لها.
‏عندما وصفتِ لي بيت صديقتك الصغير كعش، يضم طائرين بلغا منتهى السعادة، قلت لك:
‏_ تستحقين غابة، أبني لك على كل شجرة فيها عشا.
‏فأجبتني بلا تردد:
‏_ لكنني أريده بيتا صغيرا، أينما تجولتُ فيه أراك
‏فعجبتُ من أمانيك البسيطة، و قلت لنفسي: ما زالت حالمة لم تفهم الدنيا، لقد أخذها الحب بعيدا في أزقة الخيال.
لمى، سأدلي لك باعتراف:
إنني اليوم نادم على استخفافي بشاعريتك المفرطة، و لا أفهم كيف أتيح لقلبي أن يجمع بين حبي الهائج العطش، مع هذه القسوة .
نعم لمى الحبيبة، كيف استطعت أن أعيش ما مضى من عمري مؤمنا بأن الرجل يجب أن يعد للمليون قبل أن يبوح بما يجول في خاطره، و يقر بهزيمته أمام رقة حبيبته؟
حتى عندما طلبت مني أن أشتري عصفورين ليؤنسا غربتي، و يكونا توأمين لنا، أطعتك ساخرا من فكرتك البلهاء، متأففا من هذين الجارين المزعجين الذين اقتحما عزلتي، و قلبا نهاري الوادع إلى حفلة صاخبة.
لقد كنت ألفّ القفص برداء كل ليلة كما أوصيتني، هازئا من سذاجة النساء، و صغر عقولهن، و أضحك من نفسي كيف جاريت فكرتك الطفولية.
و في ساعات الظهيرة، أجلس على سريري، و أرقبهما بملل يرتبان عشهما، و أستهزئ من العصفور يبدو ضعيفا، مهزوما أمام حبيبته متعلقا بها، لا يكفي وجودها معه في هذا الحيز الضئيل لإشباع نهمه، فيلازمها أينما وقفت.
كنت أنظر إليه محتقرا ضعفه، و استمتاعه بتمنعها، و تعاليها، و أضحك بعلو صوتي من وقوفه على القصبة يفتخر بكونه مملوكا لها . . . . . . . . .
و لشدة امتعاضي منه، قدحت في عقلي فكرة شيطانية :
‏_ لم لا أغريهما بالسفر؟ . . . ربما إذا أبصرا الحديقة، و استنشقا هوائها، و تأملا أغصان الشجر تركاني بسلام . . . . . أقسم أنهما أيضا، مستاءان من جارهما دائم العبوس، و من نوبات سعاله في الليل . . . . نعم هذا حل سيرضي الطرفين .
بتحفز شديد فتحت النافذة، و أخرجتهما من القفص فحدث شيء أذهلني، عندما وقعت عيناهما على الفضاء الواسع، و الأشجار المكللة بالثلج :
لقد انتفض العصفور، و صار يحلق في الغرفة، طربا يرتفع حتى يداني السقف، ثم يعود إلى حبيبته
يزقزق لها بأغنية جديدة، يحطّ بجانبها ، يهمس لها فتشيح عنه ، دون أن يمل ّ من المحاولة.
لكنها ظلتْ بلا حراك، و كل حزن تلك الظهيرة بشمسها الباهتة يسكنها.
‏كان يقف في منتصف الإطار، و يلقي من هناك صفيرا مشتاقا ثم يرجع إليها، و هي ترمقه بعين يائسة، و لا تقوى على الحراك . . . . فما كان منه إلا أن حط أمامها للمرة الأخيرة، و المسافة التي تفصل منقاريهما تكفي ليلتقط صورة تبقى في قلبه إلى الأبد
‏ ثم انطلق بأقصى ما يقدر إلى الأشجار، و كذلك فعلتْ لتقطع عليه الطريق، لكنه أعرض عنها، و لمحتُ شيئا من حزنه يتبعه، كان أسرع منها، ربما لأنه أراد للمشهد أن ينتهي، فتجاوزها، و سقطتْ بجانب الجدار تحت النافذة تماما .
‏في تلك اللحظة، لفّتني كل المشاعر الباردة:
‏شعوري بالذنب، و الغربة، و بعدكِ عني .
‏لقد اكتفيت بالجلوس قربها أريد مواساتها !
‏نعم، لمى الحبيبة هل تتخيلنني بهذا الجنون : ذاهلا عن
‏مرضي ، جالسا على الأرض بقرب عصفورة أشاركها
‏حزنها . . . . . . .
‏هكذا مر علينا الوقت بلا كلام، ننتظر شيئا ما لا نعرفه .
‏لا نصدق حدوثه لكننا ننتظره لأننا نتمناه .
‏أنت تفهمينني بالطبع، و تدركين أكثر مني كيف تصبح
‏أمنياتنا المستحيلة مدعاة للحلم
‏و كيف نصنع من ضآلة آمالنا، قوارب نجذف بها بعيدا عن الواقع . . . . . .
‏لكن معجزة حدثت !
‏( صرت أصدق أن المعجزات تحدث حتى في عالم العصافير ) عندما دبّت الحياة في غرفتنا المظلمة فجأة، و صارت تغني بابتهاجٍ ما فهمته، و ترقص في الفضاء أمامي، مستبشرة بشيء ما، خُلق الآن في حدسها
‏تُجاري الجدران، و أمام كل زاوية تتوقف، و تقول لها شيئا .
‏هكذا وزعت البشرى في أرجاء المكان، و أنا أحسبها جُنّتْ . . . . حتى رأيت عاشقنا الضال يعود إلينا، و يغني باعتذار .
‏رقصنا ثلاثتنا، متناسين برد الغروب، محتفلين بانتصار الحب .
‏ أيضا هذه المرة، لم أخجل من مشاركة طائرين فرحتهما . . . . . .
‏من يومها أضحى العصفور العاشق بطلا في نظري
‏و عندما أطاع قلبه، رأيته مرتديا جناحي نسر عظيم .
‏لمى الحبيبة : لقد وعيت الدرس جيدا
‏ و سأكتب الآن شيئا، يعيد وجنتيك كحبتي رمان في منتصف الخريف مرة أخرى:
‏_ سأعود غدا .

صقر المحمود / سوريا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...