- رسائل عبدالرحمن منيف وفيصل دراج

الرسالة الاولى:
من فيصل درّاج لعبد الرحمن منيف
الصديق العزيز: دمت سالماً
ويكون عليّ أن أبدأ بما يجب أن أبدأ به وهو الاعتذار عن التأخر في الكتابة، في انتظار اللحظة الموافقة . ويمكن للرحلة ، أن تأخذ حتى الآن ، صفات ثلاثا . الصفة الأولى هي الشعور بالإرهاق الشديد في الأيام الأولى ، ثم يتبع الصفة الأولى أخرى ، حيث يشعر الإنسان ببعض الراحة وخروج الفكر من غرفة ضيقة إلى فضاء أرحب . وعند الشعور بالراحة المنتظرة يأتي الفكر ليشرح أسباب الإرهاق الشديد الذي يحمله صاحبه ، وبدون الوصول إلى نتائج مرضية، يتسلل الإرهاق من جديد في انتظار وصول الصفة الرابعة التي لم تصل بعد .
ولعل هذه الرحلة لم يكن فيها ما يريح تماماً في الأسبوع الأول ، فقد ذهبت إلى بيت صديقي الراحل وبقيت في دوسلدورف أسبوعاً ، والتقيت في اليومين الأولين أصدقاء الراحل ، وهم عاملون في الأدب والثقافة من بلدان مختلفة : ايطاليا ، الباكستان ، مالي ، تركيا ، ألمانيا … وكان الحديث الأساسي عن موضوع : الشفهي والمكتوب ، وهو الموضوع الذي اهتم به الصديق . وقد أثار دهشتي تحويل اللقاء إلى نقاش أكاديمي جاف ، الأمر الذي دفعني إلى الحديث عن الصفات الشخصية والذاتية لذاك الإنسان
وكتبه هناك وصور وأوراق ورسائل وملاحظات ، كأنه تركها في الأمس . . وكان علي أن أعيش مناخاً مليئاً بالظلال بالصور والأطياف ، فالرجل لم يكن غائباً أبداً . وقد شعرت بألفة الموت ، بعدم بعده ، باقترابه من حدود كنت أظن أنها بعيدة . الموت للآخرين، أما نحن فما زلنا صغاراً، أو أن الموت لا يأتي إلا لمن هو غريب عنا . و الآن يدخل الموت قاعة الروح طليقاً ، يأتي إلى أصدقائنا ويأخذهم بعيداً تاركاً أطياف حوارات سلفت ، وشظايا أحلام مشتركة وأصداء ضحكات جلجلت يوماً في ليلة مسكونة بالأنس والشراب والأمل المطلق السراح والتأمل المغتبط .
وللصباحات مذاق باردة ، والكتب المهجورة تترك في القلب لوعة ،والنهر يتابع تدفقه فوق جسر مترف البناء ، ومقهى قديم جاوز عمره الثمانية قرون يزهو بمناضد من حجر . . .. ولعل الإنسان إلى كيس الذكريات أقرب ، إذ يجلس الإنسان على ذاته ويده تعبث بصور سبقت . ما جاء ذهب وما سيجيء يذهب . ويسأل الإنسان عن خواء المعنى في عبث الزمن . والمنضدة الحجرية هناك ، عمرها ثمانية قرون ملساء وناعمة ، عذراء تبدو . كم من إنسان اتكأ عليها سعيداً وذهب . ويمكن أن تقول لي أن الحرف أكثر خلوداً من الحجر ، وأن الإنسان قد صنع الحرف والمنضدة ، وأن الأساسي ليس رثاء في رثاء الأيام الماضية ، بل ضرورة سيطرة الإنسان على اللحظة . من يسيطر على اللحظة يسيطر على التاريخ . يقول العقل ما يشاء ، ويكون صائباً في قوله ، ولكن صورة شاردة قد تعبر القلب فتشطره إلى شطرين . ما لنا والحزن ، ونحن لسنا من أتباعه فلننتقل يا صاحبي إلى الصفة الثانية من أسبوعي الألماني.
السمة الأبرز هي تأمل الإعلام الألماني في تعامله مع قضايا العالم العربي . عنصرية مطلقة ، نفاق وبهتان وكذب وصناعة متقنة للعقول المريضة ، وكره للعرب واحتقار للإسلام ، وولع بالإستهلاك وتزوير الحقائق واستقالة للعقل وصناعة الجنس عظيمة والإعلام سيد الأذهان وانحطاط كوني شامل ، أعتقد ، يجتاح العالم من أوله إلى نهايته ، فالعالم الذي تحكمه قوة واحدة ، تتلاشى فيه الحركة ، ويسود الصمت ، وأحادية القول والقرار تعني الموت .
مع ذلك فالرحلات صفات حسنة ، أولها تلك المسافة التي يأخذها الإنسان عن حياته اليومية،إذ يرى الأشياء أكثر وضوحاً ، وينظر إلى دائرة حياته يعرف مساحتها ومناطق الضياء والظلال والعتمة فيها . وإذا كان يعرف معنى النور والظلمة فإنه يجد جهداً ثقيلاً في تفسير معنى الظلال : من أين تأتي ؟ وإذا كان الظل يحيل إلى وجود ويتجاوزه فما هو هذا الوجود ، ولماذا تختلط الأشياء بالظلال ، هل حياتنا ظل أم وجود تصدر عنه الظلال ؟
وأشعر بالكهولة باردة تجتاحني . من أين جاء هذا الكم الهائل من الذكريات! كيف نفتح نافذة في هذا الجدار الأصم . وكيف تستعيد الروح إشراقها . من أين يأتي الشجن ؟ وكل جميل لا يستظهر جماله كاملاً إلا إذا انقضى ، وعن هذا الجميل الذي تسرب ولم يُر إلا بعد حين يصدر الشجن .
وتبدو الرحلة ، في النهاية ، رحلة في الذات . بماذا كان يفكر الإنسان في هذا المكان عندما مر به قبل سنوات ؟ وبماذا سيفكر إن التقى به مرة أخرى ؟ ونسير في هذا القارب ، أو معه ، حتى نصل إلى الضفة الموعودة التي لاظلال فيها .
وصداقتي مع كل محبتي
فيصل
1/7/1989

***

الرسالة الثانية:
من فيصل درّاج لعبد الرحمن منيف
وهناك ما يؤرق الوعي منذ بدأت أقرأ عبدالله النديم وأتأمل فكره وصفحاته . فلقد كان ذلك المصري الشجاع مولعاً بالعمل الوطني، وكان يجمع كل العناصر الممكنة ليسخّرها ويّذكّر به تذكيراً بلا انقطاع. وفي حقيقة الأمر أنه كان يركن إلى الدين ركوناً ثنائي المعنى ، فالدين عنصر تحريض ، هذا لن نتوقف أمامه ، حتى لو كان التحريض إيجابي الهدف . لكن ما أقف أمامه طويلاً منذ بضعة أسابيع هو : الدفاع عن الدين كعنصر مسيطر في الهوية الوطنية . فلايمكن تحديد الهوية الوطنية العربية بدون إشارة صغيرة أو كبيرة إلى الدين ، كما أن هذا الدين ، وفي إطار الهوية ، لا يتحدد كجملة فرائض وواجبات وقواعد للعبادات ، بل يتحدد كعنصر ثقافي تاريخي . ولهذا يمكن التمييز في الدين الهوية الثقافية من قواعد العبادات كالصلاة وما شابه .
السؤال هو : كيف يمكن استعمال العنصر الديني كعنصر ثقافي لا بد منه في تعريف الهوية الوطنية – الثقافية ؟ وكيف يمكن القيام بذلك في فترة حرجة ، تكاد تقول بصوت لا يحتاج إلى ترجمة : إن الرجوع إلى الدين أو إلى بعض منه تعبير عن سقوط الأيديولوجيات المادية ، والوافدة .
وحقيقة الأمر أنني غير مشغول بالدين أو العبادة ، ولا هاجس دينياً عندي ، ولا رهان على جنة أو جهنم ، لكنني أشعر أن العمل النظري في فهم الثقافة الوطنية يفرض علي ّ التوقف طويلاً أمام دور الدين في الحياة الإجتماعية الراهنة ، فالعودة إلى الحجاب ومشتقاته ، في الزمن الذي نعيش ، لا يعبر عن جهل فقط ، بل هي بمعنى ما ،احتجاج على سلطات محلية بلا هوية أو تبدد الهوية ، وشكل من الدفاع عن الذات أمام وسائل إعلام تقذف علينا ، بشكل غير عقلاني ، بكل صور الحضارة الاستهلاكية الغربية . بل إن العودة إلى الدين والزي الديني ، هي بمعنى ، ستر للفقر والحاجة في مجتمع تتكشف فيه الفروق الطبقية صارخة .
السؤال هو : كيف لنا أن نشير إلى كل هذا في خطاب وطني – علماني ، بدون أن نظهر أننا نساير الموجة السوداء والمرتفعة ، وبدون أن نأخذ قناع التائبين بعد معركة خاسرة ؟ علماً أنني أعلم العلم كله أن التراجع عن المضمون الديمقراطي العقلاني ، الذي نأخذ به ، إلى فقدان الوجه فقداناً كاملاً، ويدرجنا في خانة الكتاب ، التقليديين ، الذين يبحثون عن المنفعة الذاتية أولاً، ويحوّلون الكتابة إلى مصدر رزق بطر لا أكثر .
ويبدو لي أيضاً أن ما يسمى الحركات الدينية المتطرفة ، التي تدعو إلى العنف أو تأخذ به ، هي الحركات السياسية القائمة الأكثر صدقاً. بل يمكن لي أن أقول : إن هذه الحركات ، رغم تعاليمها اللاعقلانية، تمتلك مضموناً ديمقراطياً . إنها تثور على وضع فاسد اتكاء على هوية ثقافية رومانسية ، أي إنه علينا أن نميز في هذه الحركات بين شكل رجعي ، إن لم يكن فاشياً ، ومضمون جماهيري ديمقراطي ، فهي ترفض ما يجب رفضه ، بدون أن تعرف طريق الرفض الصحيح.
وبما أنني من الذين لايفصلون بين الكتابة والسياسة ، وأنت بذلك عليم ، ومن الذين لا يفصلون بين السطور والفاعلية ، فإن سؤال وضع الدين في السياسة الكتابية يؤرقني كثيراً . وأعتقد أن البحث عن سياسة ثقافية وطنية يصطدم بالمسألة الدينية، وبضرورة البحث عن شكل موائم لإدراج الدين في هذه السياسة، وذلك من أجل التصدي للشكل التضليلي، ومن أجل الوصول إلى لغة أسهل ، تساعد في الاقتراب من القارىء. وبهذا المعنى ، فإن الحوار على الدين ضروري لاعتبارات برغماتية ونظرية ، فمن يعمل في حقل عليه أن يعرف أسماء النبات وعلى الصياد أن يعرف مفردات الصيد وأدواته ، وإلا بدا مهرّجاً أكثر منه صياداً .
مع صداقتي – فيصل
دمشق – 12 أيلول 1989

***

الرسالة الثالثة:
من فيصل درّاج لعبد الرحمن منيف
أيها الصديق الكريم :
لنبدأ بمفهوم ملتبس ، والبطولة في زمن الهزيمة ، هي المفهوم الأكثر التباساً. بعض الأسئلة أشبه ببعض رغبات الطفولة ، لا يتحقق ولا يغادر حيز الذاكرة . لقد حاولت منذ سنين ، أن أكتب شيئاً عن معنى البطل والبطولة ، وكانت المحاولة تكبو ، لأن الإجابة المحتملة أضيق بكثير من وجوه السؤال المتعددة .
ولست أدري لماذا أكتب أسعى إلى تدمير مفهوم البطل وإلى الإكتفاء بمفهوم البطولة . وكان البرهان الذي أتكىء عليه يجد بعض عناصره المطلوبة ، كان يقول : إن تأكيد مفهوم البطل يستدعي تأكيد مفهوم محتاج البطل ، فالإيجاب المطلق يستدعي السلب المطلق ، والبطل القادر يستدعي التابع العاجز .
لكني أرى أو لا أزال ، ان صورة البطل والمخلّص تتطابقان، والمخلّص فكرة دينية أولاً . إن النبي توسط بين الأرض والسماء ، وكياناً يقسم العالم إلى مراتب ، فإن البطل توسطاً بين الحالم العاجز وحلمه ، وكلما زاد العجز ترامت صورة البطل . لكأن العاجز لا يخلق بطله إلا إذا أفقر ذاته ، أي أن الإعتراف بالبطل هو اعتراف بالمجتمع الفقير الذي خلق البطل . يستعيد مفهوم المرتبة . الذي يتكىء عليه خالق البطل ، جملة المفاهيم المسيطرة في المجتمعات التي تبشر بثنائية السيطرة والخضوع . ويمكن لمفهوم المرتبة . أن يحتضن الإستبداد ، كما اللاهوت ، لأن الوسيط البشري ، بين العاجز وحلمه ، يلبس صورة قدرته ، فلا يحقق الرغبة إلا بقدر ما يأمر بالإذعان. والبطل، في هذا التصور ، لايمارس العسف ، إنما يمارس تميزه المحايث له، لأن وجوده ضرورة ، فهو لا يمارس البطولة إلا بسبب عجز غيره عن ممارستها.
وكنت أشعر ، عن حق ربما أو عن قلق ، أن هذا التبرير النظري لن يصمد ، ربما أمام تربية مسيطرة ، أخذت ولاتزال ، بمفهوم البطل ، وروجت له ، حتى غدا بداهة ، فالتاريخ المدرسي ، كما الشعبي ، هو تاريخ أبطال ، سواء كان البطل المفترض مزيجاً من الحقيقة والتلفيق ، أو كان حلماً صافياً صاغته ذاكرة إنسان لم يعرف الانتصار أبداً. وكان يمكن لذلك التبرير النظري أن يهتز أمام أسئلة يومية بسيطة، كان يسأل شاب عن معنى جمال عبد الناصر . أو سليمان الخاطر أو ناجي العلي ، أو ابراهيم هنانو ، أو فرج الحلو . . .
وكان عليّ ، بعد حين ، وبحثاً عن وضوح أكثر ، أن أميّز بين البطولة والشجاعة ، وان أقررّ أن البطولة تتضمن الشجاعة ، لكن الشجاعة لاتعني البطولة بالضرورة . لكن هذا الوضوح المفترض لا يغير من وضع السؤال كثيراً ، إذ ينطلق السؤال التالي : من هو المرجع الذي يقررّ معنى البطولة والشجاعة ؟ وهل البطولة مقولة موضوعية ؟ ولماذا يبدو البعض أبطالاً في حقبة معينة ثم ترفع عنهم هالة البطولة بعد زمن ؟ ستالين مثلاً . ولي أن أسأل : ماذا تبقى من جمال عبدالناصر؟ وما هو الأثر الموضوعي الناتج عن عملية انتحارية يقوم بها شاب جميل في جنوب لبنان أو الأراضي المحتلة ؟ وما العلاقة أحياناً بين الشجاعة والإنتحار؟ أيهما أرقى إتقان البطولة أم إتقان السياسة؟ ومن يذكر ملايين الأبطال الذين قضوا من أجل حلم جميل فقامت على جماجمهم قصوراً فاسدة ؟ لاأسعى من وراء هذه الأسئلة إلى وضوح أو غموض ، لأني لم أغادر دائرة الارتباك أصلاً
وكنت أزعم ، في زمن مضى ، أن البطل هو القائد الذي يعتمد على الجماهير من أجل إنجاز تحويل اجتماعي – تاريخي محدد، يمكن تلمس آثاره في أكثر من مستوى . وعندما أردت التخلي عن مفهوم البطل والاكتفاء بمفهوم البطولة قلت : إن ذلك البطل المفترض لا وجود له إلا كمجاز لقوة اجتماعية تتجاوزه ، أي أن البطولة الحقيقية تقوم في الجماعة التي أنتجت البطل من حيث هو مجاز لها لاأكثر . وقد تبين لي ، فيما بعد ، ان هذا التعريف سريع الفساد والبلل، فهو يأخذ بالانتصار كمعيار للبطولة ، أي أنه يقع في تصور نفعي وبراغماتي لمعنى البطولة . وقد أسأل هنا : كيف نصنّف جيفارا ، البطل المتوّحد ، الذي ذهب من أجل قضية عادلة ، ولم يلتق بالجماعة الإنسانية ، التي كان يتوجّه إليها ولا تتوجّه إليه ؟ وإن كانت الآثار المادية هي معيار البطولة فماذا يبقى من عبد الناصر في زمن كامب ديفيد ؟ وهل عرقل استشهاد سليمان خاطر مسيرة السياسة القائمة ؟ هل فعل سليمان خاطر شجاعة أم بطولة في زمن الانهيار الحزين؟ ومن سيذكر هذا الفقير النبيل بعد عقود ؟ وهل لقب البطولة لا يليق بالمهزوم ؟
إن كان اختزال الأسئلة يعطي العقل غبطة ، فإن تكثيرها يرمي عليه بالحرمان . فكلما تكاثرت الأسئلة تساقطت عن العقل قناعاته ، ليقف عارياً إلا من الشك والإجابات المتساقطة. وللعقل مكره، وإليه يعود بحثاً عن قناع ، أو بحثاً عما يجعل العقل عقلاً ، ومكر العقل يجعل العقل يعتقد أنه أصاب بعض الإجابة ، والبعض الغائب تستعيده الحكمة القادمة .
يبدو لي أن الطرح السابق يشكو من ضباب التجريد ، أي من طرح مفهوم البطل بدون تحديد زمني ، كما لو كان المفهوم يحمل دلالة واحدة في أزمنة متعددة .وأميل إلى الاعتقاد بأن المفهوم هذا نسبي ، كما غيره من المفاهيم . إن كان غياب الرشوة ظاهرة عارية ، في بعض الأزمنة ، ، لاتستثير المديح ، فإن رفض الرشوة ، أو بعضها ، فضيلة خارقة في أزمنة أخرى . لا يختلف معنى الرشوة بل يختلف معنى الزمن، وفي اختلاف معنى الزمن يختلف معنى البطولة . إن كانت البطولة هي الانتصار ألا يمكن اعتبار «السمسار» بطلاً في بعض الأزمنة ؟ وقد نسأل بمرارة أيضاً: أين ذهب «البطل الإيجابي» ولماذا ذهب؟ ألا تعتبر هذه هزيمة « البطل الإيجابي» عن إنتصار «البطل السلبي» ولكن كيف يستقيم السلب والبطولة ؟ يبدو ان المفهوم يختلف باختلاف الزمان وباختلاف الوضع الإجتماعي للسائل والمسؤول.
إن عدنا للسؤال من جديد نقول: إن التعميم تجهيل، والكلي لاوجود له، فمفهوم البطل يفترض مفهوم السياق التاريخي .
وما دمنا نبحث عن سياق ، عن وضع تاريخي مشخص ، نقرأ فيه معنى البطل والبطولة ، فليكن واقعنا الراهن هو ذاك السياق . ربما نختلف في عدد العناصر التي تصوغ هذا الانحطاط الكبير، لكننا نعترف، بلا اختلاف ، أن الانحطاط هو سيد السياق وحاكمه الكبير. زمن لاينبني إلا إذا هدم المبادىء والمثل والبديهيات . فالوطن سلعة ، والشعب ملكية خاصة ، والدستور منفي ، والعقل لا وجود له إلا في شكله اللاعقلاني، والكرامة الوطنية شيء قريب من الأحجية . ..
ما هو شكل البطل في سياق يعدم ويبدد ويهدم القيم الأخلاقية والمعنوية والوطنية ؟ إن شكل البطولة في زمن الانحطاط هو الدفاع عن القيم والمعايير والمبادىء التي تناهض الإنحطاط ، أي الدفاع عن حس المسؤولية والكرامة الوطنية والصدق والعدالة والديمقراطية والعقل والحرية والجمال . تتكشف البطولة . في هذا التصور ، دفاعاً عن نسق محدد من القيم والمعايير ، نسق له جذور وقديم . إن كان الظالم يحمل في ذاته الخبرة الظلامية التي سبقته بلا نقصان ، فإن المناهض للظلم لا يحسن المقاومة إن لم يستوعب خبرة من سبقه في محاربة الظلام .
إن رصاصات سليمان خاطر العادلة لاتسترجع وطناً، ولاتهزم عدواً ، لكنها تدافع عن نسق من المبادىء والمعايير . ويمكن لي أن أقول بشكل متلعثم : لم يمارس سليمان خاطر البطولة بل دافع عن معنى البطولة، إنه مناضل وطني لا بطلاً ، لأن البطل الفرد لاوجود له .
يسبغ التصور التقليدي صفة البطل على فرد حقق فعلاً نوعياً. واسأل هنا : من هو الفرد النوعي الذي يستطيع لوحده أن يبني أو يحصّن أو يسوّر نسقاً من المعايير الأخلاقية والوطنية ؟ هذا العمل لايقوم به فرد أو أفراد بل جماعات بشرية ، أي أن البطولة التاريخية أكبر من مفهوم البطل الفرد لأنها أثر لمجموع لا يُرى الأفراد فيه إلا في حالات قليلة وملتبسة . من بنى المدن ، ومن هزم الصليبيين ، ومن يزرع الصحراء ويحمل الحجارة في وجه الإسرائيلي المدجج بالسلاح؟ من يستطيع أن يذكر أسماء الجنود المصريين الذين استشهدوا في اليمن ؟
إن كانت البطولة ، ومن وجهة نظر الحالم بعالم أفضل ، هي الدفاع عن نسق المعايير الإيجابية والعادلة ، الا يعني ذلك أن البطولة هي : الدفاع عن الحقيقة .
تبدو الأمور الآن ، أكثر وضوحاً، ولكن تصبح أكثر حزناً وتفجّعاً . الحقيقة نسبية، تعلو وتنهار ، ترى ولاترى ، لاتنبني إلا لتنهدم ، ولا تنتصر إلا لتنهزم . كم من الحركات السياسية العادلة ارتفعت وانهزمت إلى حدود الإندثار ؟ وما الذي يسمح لكاتب سوفييتي أن يدافع عن إسرائيل؟ ومن يتحرك للدفاع عن نلسون مانديلا ؟ لقد كان في انتصار ثورة أكتوبر ، يوماً، انتصاراً للحقيقة ، فإلى أين وصلت الحقيقة الآن؟ ومن هم الذين ماتوا من أجل انتصارها ومن هم الذين «يعيدون بناءها» اليوم ؟
إن كانت البطولة الدفاع عن الحقيقة ، فإن الدفاع عن البطولة هو الدفاع عن الحلم ، عن حق الإنسان في الأحلام ، عن البشر الحالمين بعالم أفضل يموتون من أجله ولايصلون إليه.
لا يحتاج المنتصر إلى البطولة ، فمن يحتاج إليها هو المهزوم . وربما أقول : إن تاريخ البطولة هو تاريخ الذين هزموا في زمانهم ، أو بعد حين . لا يكتب التاريخ بشكل حقيقي إليها إذا كتب من وجهة نظر المهزومين ، الذين قاتلوا بصمت ، وانسحبوا ، او ماتوا بصمت ، والمهزوم يُنسى ، وكاتب البطولة هوذاك الذي يبحث عن المنسي ليحفظه .
وأنزع إلى القول : إن البطولة هي الدفاع عن القضايا المهزومة ،
وإذا التمست بعض التفاؤل منك أيها الصديق ، أقول : البطولة هي الدفاع العادل عن حل عادل للقضايا العادلة ، والعدالة حلم تفتش عنه البطولة .
إن التباس مفهوم البطولة يجعلني أقترب أكثر إلى مفهوم أبسط وأوضح هو : المقاومة . فالمقاومة تنزع إلى التحديد ، والبطولة تضيق بكل تحديد .
فيصل دراج
حوالي منتصف كانون أول 1986

***

الرسالة الرابعة:
من فيصل درّاج لعبد الرحمن منيف
الصديق عبد الرحمن :
وفي العالم ما يملأ النفس كدراً ومرارة وإهانة للعقل.
فلم يكن للعقل مهما جره الشطط ، أن يتصور ، قبل سنين قليلة ، أن هذا العالم سيركن إلى السلعة الأميركية . ويمكن للإنسان أن يقول إنها هزيمة معسكر أمام معسكر آخر ، لكن هذا القول يصبح كامل القتامة حين نعرف أن الإمبراطورية الأكثر فساداً في تاريخ البشرية هي الطرف المنتصر . وعندها تبدو كلمة : الانحطاط الكوني شرعية ، بدون زيادة أو نقصان
ويتحدث السوفييت بطلاقة وراحة ضمير عن الانتقال من وضع العدو إلى وضع الشريك . ولكن ماذا يجني الشريف حين يدخل عالم الشراكة خاسراً ، ماهي المثل والمبادىء التي يأخذ بها حين يكون الشريك فاسداً ؟ إن دور البيت الأبيض العالمي هو اصطياد المقاتلين عن الاستقلال والحرية ، فإن الشريك السوفييتي المزعوم ، لن يأخذ فتاته من الشراكة إلا إن كان سمساراً لحاكم الظلام.
لعل المأساوي المرذول في زمن البيروسترويكا المزعومة هو مقايضة حقوق الشعوب بصفقات رخيصة من القمح، وإلا فلماذا يتحدث البيت الأبيض عن ضرورة دخول كوبا إلى البيروسترويكا ؟ وكيف يتم تنصيب إنسان مشبوه على رأس الحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية ؟ إن البيروسترويكا لا تدفع الشعوب إلى عالم من الحرية والديمقراطية بل تقوم باستثمار النزوع الشعبي إلى الديمقراطية لتدمير وتقزيم هذا النزوع ، فلا يعقل أن تتحرك شعوب أوربا الشرقية ، بمثل السرعة , لو لم يكن هذا التحرك قد صنع وزوّر وصيغ في صفقات لاأخلاقية يمارس فيها الإتحاد السوفييتي سياسة : شوفينية الدولة العظمى , بعد أن يزهو بشعار البيت الأوربي ، الذي هو صياغة مخففة لما يسمى بـ: المركزية الأوربية , التي تتضمن احتقار إنسان العالم الثالث .
وأصل هنا إلى وظيفة الكاتب الوطني في الظرف الراهن . يتمثل دور الكاتب الوطني في التمييز بين المتناقضات ، في إقامة الحد الفاصل بين الإنسان المضطهد والآخر الذي يمارس عليه الاضطهاد . وكنا في زمن مضى واندثر نميز بين معسكرين ,ويقول بعضنا الشعر في مدح الساحة الحمراء , ونصل الآن إلى زمن , نكاد أن نوحد فيه بين الأبيض والأحمر .
ونرفع أقلامنا للحديث عن عالم أول وعن عالم ثالث ، بعد أن ذهب العالم الثاني إلى حقيبة سمسرة القضايا الكبيرة وتجار الوهم والشعارات الفارغة ، ويكون علينا أن نتحدث بلغة جديدة وأن نعوّد القارىء الوطني على لغة جديدة . ويكون علينا ، ياصاحبي ، أن نفتح النار على جيش من الجثث التي يمنعها موتها عن الانفتاح على الحياة، ويكون علينا ياصاحبي أن نتابع لغة تبدأ بماركس ولينين وغرامشي عابرة فرج الحلو وشهدي عطية ومهدي عامل ورئيف خوري ، أي لايكون علينا إلا الاقتراب أكثر فأكثر إلى أحلام الإنسان المقهور ، الذي اعتقد ، أو الذي كنا نسعى إلى إقناعه ، بأن الاشتراكية هي الحل والمرجع والمآل.
إن كان رسول الله قد تحدث عن زمن يكون فيه المؤمن كالقابض على جمرة من نار ، فإن الدفاع عن نبل الكتابة ، هذا الزمن ، يرمي إلى أصابعنا بجمرة مماثلة . كيف ندافع عن فكر في طور هزيمته؟ لكن الأسى يتخفف بماء العقل والإرادة ، عندما نعلم أن المثقف الشيوعي الحقيقي ، لم يكن مولعاً في يومِ من الأيام . بجمالية دولة أو بديع نظرية ، إنما كان يبدأ بإنسان يحلم برغيف ومدرسة ، ويتطلع إلى يوم يقول فيه قوله ولا يعدّ أصابعه.
ومهما خلط الإنسان حزنه بماء ذهبي يطفو ما يكدر العين ويقلق العقل ويغمّس القلب بماء مالح : كيف تهزم الأفكار النبيلة أمام سلعة لا نبل فيها ؟ ولماذا يبدو بوش قيصراً وغرامشي صفحة في كتاب مهجور؟ هل المثقف المتمرد يدافع عن حلم أو حقيقة ؟ وإذا كان المثقف الثوري مدافعاً عن عالم لن يأتي ، فما الفرق بينه وبين الشيخ العتيد؟ ولعلي أصل هنا إلى نقطة تؤرقني منذ زمن : كيف يمكن تحقيق وحدة فعلية بين المثقفين الثوريين والشعب؟ وهل امتياز القراءة والكتابة يقيم بين الكاتب والشعب حاجزاً وحجاباً ؟ وإذا كان المثقف الحالم يحقق أفكاره بـ«أجساد» غيره، فكيف يحقق حلمه إن لم يجد الجسد الضروري؟ وهل يمكن اعتبار المثقفين الثوريين مجرد « نخبة حالمة» ؟
يبدو أن الزمان التاريخي ينبذنا أكثر فأكثر من لجّة السياسة إلى شواطىء الأخلاق، فالدفاع عن الثورة ، في زمن إنحسار شروطها، ضرورة أخلاقية ، والدفاع عن مستقبل أفضل ضرورة أخلاقية ، والتمسك بشعار الإشتراكية والعدل ضرورة أخلاقية . . . إذ لا يمكن للإنسان إلا إذا اقتنع بإمكانية عالم أفضل ، بإمكانية تراجع الشر أمام مواقع الخير .
وفي شروط هذا العالم المعقّد يصبح الدفاع عن البطولة –كما أشرنا- قيمة تحريضية. وأقدّم هنا بعض الأفكار الجديدة، ربما، التي يمكن أن أصوغها بالشكل التالي:
– البطولة هي الدفاع عن القيم الإنسانية الإيجابية.
– حين تنتهي الشروط الفعلية لممارسة البطولة الفردية ، بالمعنى التقليدي ، تستعيد الكتابة كما الناس ، البطولة ككيان رمزي ، يذكرُ بشيء كان موجوداً، بشيء ابتعد وتصونه الذاكرة. ولعل هذا ما يبرر الصياغة الفنية لـ «متعب الهذال» بطل غابت شروطه فترمّز وابتعد عن الواقع ، أي أنّ غياب شروطه يعطي البطل قيمة فنية موضوعية
– في الشروط البسيطة التقليدية يتطوّر البطل في إطار المتوقّع : الولادة- المواجهة الإنتصار . أما في الشروط المعقدة ، وهي شروط نعيشها الآن، فإن المتوقع لا مكان له. ولهذا يكون دور الكاتب كتابة الشروط المعقدة ، وإظهار تعقدها ، مما يجعل البطل لامكان له, ويجعل الشخصيات ، بمعنى ما ، «ثانوية الدلالة» بالنسبة إلى الشروط التي تعيشها. يبدو لي ، أن أحد وجوه الحداثة «مدن الملح» تتمثّل في تسييد الوضع التاريخي وتهميش الشخصيات الروائية . أي في طرح إشكالية جديدة للبطولة ، في معانيها كلها ، إذ يطغى نثر الحياة اليومية على أي بعدٍ آخر ، فلا مكان للشعر ، أو البلاغة ، أو الإيديولوجيا الطافية ، فهذه الإيديولوجيا لا تقوم في الشخصيات أو الحوار أو اللغة بقدر ما تقوم في البنية الروائية التي تحتجب وراء الشخصيات واللغة…….هل لنا أن نتحدث عن رواية المهزوم ، أو بشكل أدق عن علم جمال المضطهدين ؟ يبدو أن هذا المنظور إذا وجد ، لايرسم شخصية المقهور ، بقدر ما يرسم ، ويحددّ، ويؤكد شخصية الظالم ، لأن الأول يأخذ من المكان بعضه، تاركاً للآخر ساحة واسعة .
دويّ يجتاح الأذن وهواء بارد يجرح المفاصل ورائحة فاسدة تزنّر المناخ، فلقد أصبح من الصعب الحديث عن الظالم بصيغة المفرد أو المثنى أو الجمع الواضح . وعلى المظلوم أن يبحث عن ساعدين إضافيين ، لأن عليه أن يطلق النار على الجهات الأربعة .
فيصل



***

الرسالة الخامسة:
من فيصل درّاج لعبد الرحمن منيف
الصديق العزيز دمت سالماً
سأكتب هنا تتمة للرسالة السابقة، والتي أعتقد أن ما جاء فيها حول مساواة الضحية بالجلاد يتسم بشكلية واضحة ، أو بشيء من التجريد الفلسفي ، الذي يستجيب للعقل المرتاح أكثر مما يعكس عذاب الإنسان المضطهد .
حين تحتمل الضحية العذاب فإنها تفعل ذلك اعتماداً على جملة من القيم الروحية والأخلاقية ، بل تعتقد أن تحمل الذاتية للعذاب تضحية من أجل خير المجموع أو امتثال لنسق من القيم الإيجابية المتوارثة وبالتالي فإن مواجهة الجلاد إخلاص لمثال أو لمجموعة من المثل . ومهما كان مبرر الصمود والتضحية ، ونبل الهدف والغاية ، فإن المضطهد يعيش حرمان اللحظة ويعيش تدمر مشاريعه الذاتية بدءاً بدفء العائلة وصولاً إلى نظافة القميص وتحقيق نجاح ذاتي . إن مفهوم الضحية ( أو الإنسان المقاوم ) محاط أبداً بشيء ماساوي ، فالمأساة جزء داخلي في الفعل المقاوم ، ويقوم أساس هذا المأساوي في نفي الذاتي من أجل الجماعي ، وفي تدمر الفرد من أجل قضية، وفي موت شخص محدد الأسم من أجل قضية يمكن أن تكون غير قابلة للتحقيق .
أما بالنسبة للجلاد فالأمر يختلف . إذا كان المقاوم يبدأ بالمستقبل ، بزمن لن يراه ولن يصل إليه ولن يعرف حقيقته فإن الجلاد يثبت كل الأزمنة في الحاضر ، لأن حاضره هو الزمن الوحيد الذي يسمح له بممارسة دوره كجلاد . ولذلك يعشق الجلاد الحاضر واللحظة وتنفتح الضحية دائماً على المستقبل ، المدينة الفاضلة ، اليوتوبيا . وهناك فرق آخر : كل إنسان يستند على آلية معينة من أجل تحقيق توازنه في شرط محدد . الضحية (أو الإنسان المقاوم ) يستند على الآتي المجرد، الذهني، النفسي . . .. أما الجلاد فيهرع في توازنه إلى الحسي . فيكون عشق الملذات الحسية شرطاً لتوازن المستبد، بل أت الذهاب في الشهوات الحيوانية كلها شرط لتوازن القامع . وقد تختلط الأمور ، أو تأخذ منطقاً معيناً : يفضي القمع إلى عبادة اللذة عند القامع ثم يصبح الدفاع عن استمرار اللذة أساساً جديداً للقمع . وبهذا المعنى فإن الجلاد يغترب عن الطبيعة الإنسانية السوية ، يتشوّه في آلية ممارسة للقمع ، ويجمع بشكل لاانفكاك فيه بين شهوة تدمير الآخر ( المناقض) وشهوة امتلاك الشهوات التي يمكن لها أن تدفعه إلى التدمير الذاتي ومع أن التدمير يمكن أن يوحد الجلاد- الضحية ، فإن التدمير الصادر عن عبودية الذات يختلف شكلاً ومضموناً عن التدمير الآتي من الجوع والعذاب وتكسير الأعضاء.
أمر آخر أود أن أشير إليه وأعتبره بالغ الأهمية : هو الغرق في الحركة والسلوك من الطرفين. ينزع الإنسان المقاوم إلى الحرية ويكون حراً في لغته وحركاته وشكل سيره، بل أن بحثه عن الحرية يدفع به إلى تكسير العرف والعادات واللغة ، وغالباً ما يتجلى هذا في السخرية، والسخرية في جوهرها تشويه لصورة الأمور المألوفة . .. . أما القامع وجماعته وحاشيته وبطانته فإنها تميل إلى التماثل السكوني : تماثل في الحركة والإيماء والمشية وصياغة العبارة ، وغالباً ما تسعى حاشية المستبد إلى تقليد ومحاكاة المستبد لأنه البدء الأول الذي يحدد معنى الكلام وشكله وشكل حلاقة الرأس وتهذيب الشاربين بل أن الأمر يصبح مضحكاً ( أي تشويهاً للواقع ) عندما يجد جماعات من المخبرين تلبس اللباس ذاته ، وتدخن السجائر ذاتها ، وترتاد المواقع ، وتتماثل في ذوقها اللوني و. . . وهذا الأمر منطقي تماماً فالحرية تستدعي التعدد والإختلاف وازدهار الشخصية الفردية وتعيّن الأنا حيث هي مختلفة عن أنا أخرى ، اما الاستبداد فيعشق التناظر ، فيتساوى الجميع ويغيب الإختلاف فالكل متساوٍ والمختلف واحد وحيد هو المستبد الأول.
هذه ملاحظاتي الأساسية وتصوراتي عن الموضوع وآمل ان ألتقط جواباً ، إن كان في ذلك فائدة لمعشر المسلمين .
والله من وراء القصد ، وقصدنا رضاكم ، رضي الله عنكم وعنا الرضا كله .
فيصل

***

الرسالة السادسة:
من فيصل درّاج لعبد الرحمن منيف
أوائل حزيران . 1990. دمشق .
الصديق العزيز : سلاماً
ولعلي لاأميل هذه المرة إلى الدخول مباشرة في عالم الأفكار والتعاريف , فأنا في هذه المرة إلى نفسي أميل ، وإليها أنزع ، وحولها أدور، فالروح متعبة والجهد المتواتر المبذول لايمسح عن جوانبها الصدأ . وأراني أدور حول نفسي منذ سنوات أسأل عن معنى الوجود والحياة ، عن شرعية ذلك الطموح الذي يولد فائراً في فترة من العمر محسوبة ثم يذوق التجربة ويتملى وجوه الحياة المبعثرة ، ليصبح الفائر فاتراً والشديد مجهداً، والحلم الملون كيساً من الذكريات الفاترة.
وما معنى الحياة ياصاحبي إن كان الموت يأتي على غير ميعاد ؟
إن الحق ، كما العدالة ، لاوجود له إلا في الكتب. كم عادل جميل دثّره التراب قبل الآوان؟ وكم من مستبد زنيم مدت له الحياة أيامها ؟ ولماذا هذه الرحلةالخاسرة على أية حال ؟ كم من الأسى يمتد بين زمن كنا نكاثر فيه الكتب والمعلومات من أجل تغيير العالم ، وزمن لاحق هزِأ بالكتب وصاحبها وبكل تلميذ كان يظن في غبطة ذهبت ، أنه ، وقد التحف بكتبه ، سيمنح دفئاٍ لها محدوداً لكل من سربله الصقيع.
ولعل هذا التعب المستمر قد صادر حياتي منذ زمن ، وأعطى عملي شكلاً متناوباً ينوس بين العمل حتى الإجهاد والإستقالة المنفلشة، إذ يتساوى عندي كل شيء ، ويكون الكل هذا ماسخ الطعم وبارد المحتوى. وإذا كان هذا التعب يبدّد الجهد في توتر واستقالة متلازمين ، فإن استمرار الحال والعجز عن ضبطه ضاعف التعب وكاثره فوصل صاحب السطور إلى جدار لا نوافذ فيه ولا أبواب ، ناهيك عن ساقين لاتحسنان القفز.
ومن المتعب إلى درجة الكدر أن ينفق الإنسان أيامه في سعي، لارأس فيه ولا قرار، للعثور على صيغة توازنه وتوازن بين إمكانياته ويومه ، وتقنعه أن حرارة الصبا مرحلة بائدة وقديمة.
وهذا الارتباك المستمر انعكس ، وهذا منطق الأمور، على النظرية قبل أن ينعكس على العمل. مع فارق جوهري ، فآثاره على العمل سلبية ، فالعمل كما أشرنا يرزح تحت سطوة المزاج والتبدّل ، أما النظر فأخذ شكلاً آخر . لم يعد للنظرية عندي من معنى إلا قدرتها على نقد الثقافة والسياسة المسيطرتين ، بل أن نقد المسيطر هو الطريق الملكي إلى النظرية. وبهذا المعنى فلا وجود لنظرية ، من حيث هي جملة المداخلات التي يقوم بها الكاتب ضد السياسة والثقافة في أي ظرف معين . وبما أن الصراع يتبدل ، كما ميزان القوى ، فإن المفاهيم تتبدل وتتغير ، فلا ضامن لحقيقتها إلا صراعها مع ماهو نقيض لها وعنها مختلف .
ويبدو هنا مفهوم المقاومة هو النعت الوحيد للعمل الثقافي . وربما تكون كلمة مقاومة تنزع إلى التحديد السلبي ، أو التحديد عبر السلب . فالثقافة المسيطرة تنزع بسبب حرصها على الثبات إلى السكون والجمود ، إلى التسكين والتجميد ، أما الثقافة المناهضة لها فإنها تتغير كلما تصاعدت المقاومة واغتنت وتطورت المفاهيم . ولهذا لا يكون غريباً أن تكون المادية هي فلسفة الثورة الوحيدة من حيث هي فلسفة جوهرها النفي . وبالمقابل تكون المثالية فلسفة السلطة ، بدون النظر إلى طبيعة السلطة ، لأن كل سلطة تنزع إلى الديمومة ، والثبات ، وبالتالي فإنها فلسفتها لا تقول قول الواقع بل القول الذي تريده
السلطة ، بشكل يصبح فيه دور الفلسفة هو التسويغ والتبرير والتضليل .
وهكذا ، فإننا ، يا صاحبي ، نبحث عن فلسفة جديدة في بحثنا القلق عن وضع جديد يحاصر ، ولو بشكل نسبي ، القلق المستمر الذي نعيش . ويظل الحفاظ على هذه الذاتية المقلقة هدفاً وغاية ، فلا شيء نخسره، والربح الوحيد هو الرفض، ومن يرفض يربح ذاته، لعل التحديد عن طريق السلب هو المنظور الذي يحكم النظر والعمل والممارسة . إن كلمة «لا» هي المفتاح الوحيد الذي يهب السرور ، حتى لو قاد دائماً إلى غرف باردة ورطبة .
مع صداقتي
فيصل

***

الرسالة السابعة:
من فيصل درّاج لعبد الرحمن منيف

18/10/ 1989
الصديق عبد الرحمن :
يبدو لي أننا مازلنا أمام أبواب السؤال البطولة ، لأن كل سؤال ، لا يلبث ، خلال البحث والمساءلة أن يتشجر إلى أسئلة ، وقد يحجب السؤال الأخير وجه السؤال الأول . وبذلك تكون فضيلة المراسلة ، هذه تكثير السؤال ، قبل أن تصل ، إذا وصلت ، إلى نقله من دائرة الغيوم والضباب إلى أرض لا بلل فيها ولاعثار.
يبدو لي هذا الحوار الذي يدور بين روائي وكاتب، لم يلق بعد وشاحه الجامعي ، كما تقول ، مدخلاً إلى اكتشاف تعقد الأشياء والعلاقات . فما يظهر في فترة غبطة ثقافية عابرة سؤالاً مطواعاً وحنوناً ، لا يلبث أن يستظهر في لحظة الحوار بين صديقين فرساً شموساً ، أو سؤالاً له أنياب وأظافر . لا يكشف الحوار عن معرفة الإنسان إلا بقدر ما يكشف من جهله ، ولعل الثقافة ، في معناها
النبيل، هي اكتشاف مساحة الجهل في الإنسان يحاصرها ، إذا أمكن .
بعد أن قرأت رسالتك الأولى . سألت نفسي من جديد : مالفرق بين البطولة والشجاعة؟ ثم قلت لنفسي ، مالعلاقة بين العقل والشجاعة؟ وهل الشجاعة نسيج من العقل والانفعال أم أنها روح عاقلة خالصة ؟ ثم جرفني التساؤل فقلت لاهياً ؛ ما العلاقة بين المغامرة والبطولة ؟ وإذا كانت المغامرة ، وكل اكتشاف يتضمن قسطاً من المغامرة ، لا تكون جديرة باسمها، إلا إن كان لاستقالة العقل مكاناً فيها، فهل يمكن أن يتعايش العقل والبطولة؟
ومع أنني أعترف على المستوى الوجداني بأن طرد الحسبان أساساً للبطولة ولجمالية الخسران ، فإنني لا أستطيع أن أرى الأمور ، وبسبب الوشاح الجامعي ، ربما ، إلا إن نظمها العقل وانتظمت في نسق عقلاني . يظل السؤال الأساسي : ما هي حدود الحسبان في الفعل البطولي ؟ اترك لك هذا السؤال راضياً ورضيّاً . لتبحث له عن جواب ، أي أنني أهبك قسطاً من القلق وفيراً ، وبذلك تكون الصداقة اقتساماً للملح والحوار والقلق .
بعد تفكير ناقص بالتأكيد ، وبعد قراءة رسالتك أجدني أنجذب من جديد إلى الصيغة القائلة ب: الأشكال التاريخية للبطولة . ومع أنني لم أذهب على قرار السؤال بعد ، فإنني أعتمد على التسرع المشروع
لأقول : إن مفهوم الأشكال التاريخية للبطولة هو المدخل الأفضل لمقاربة سؤال البطولة .
في زمن غير هذا ، كان يمكن الحديث ، وبشيء من اليسر عن الثقافة الشعبية . وكان للبطل مكان واسع في هذه الثقافة ، التي كانت تتحدث عن «الملحمة الشعبية» قبل أن تدمر آلة القمع الشعب ، وقبل أن يجتاج التلفزيون ، وغيره ، العقل الشعبي . حين كانت آلة القمع محدودة الفعل ، كان العقل الشعبي يتحدث عن البطل الشعبي ، الذي يأتي لأن القدر يستدعيه ، والذي يستجيب للدعوة لأن النصر في انتظاره . لا يدور سؤالي هنا عن البطل المفرد ، الذي جعله القمع مستحيلاً ، والذي إذا إذا وجد لا يغير من الأمر شيئاً ، إنما يدور سؤالي حول النقطة التالية : لماذا لم تعد الذاكرة الشعبية قادرة على توليد الأبطال ولماذا نسيت الأبطال الذين أنجبتهم يوماً مثل أبو زيد الهلالي ، الزير سالم وعنترة ، وسيف بن ذي يزن . . . . ؟
ولي أن أسأل أيضاً: لماذا يظهر مفهوم البطولة الفردية والجماعية في زمن مواجهة العدو الخارجي ( الإستعمار ) ولماذا يبدأ بالتراجع إلى حدود الفقدان بعد « هزيمة» الاستعمار ؟ لقد اذدهرت الملاحم الشعبية ، تاريخياً عندنا ، في زمن الحرب الصليبية ، وعادت للظهور في فترة مواجهة الإستعمار الأوربي الحديث . . . هل يعني هذا ، وفي الشروط الراهنة ، أن عصر البطولة قد مضى؟
إذا قبلت .أو قبلنا ، بمفهوم : الأشكال التاريخية للبطولة ، نصل إلى النتيجة التالية : لم ينقض زمن البطولة إنما انتهى شكل البطل الذي كان . يرسل بنا هذا الحكم إلى دائرة الوضوح ، حيث نعرف كما كان وذهب ، ويرسل بنا أيضاً إلى دائرة البحث والاكتشاف : ماهي البطولة التي يسمح بها هذا الزمان ؟ لكن هذا السؤال لن يكون له قيمة إلا بعد وضوح أساسي : هل ما تم التعارف عليه كفعل بطولي كان بطولة
فعلية ؟ هل كان لأبي زيد الهلالي وجود حقيقي ، وهل ما قام به كان بطولة ، أم أنه كان شكلاً من الحلم الشعبي والذي هو أحد مشتقات الوعي الديني ؟
أصل هنا إلى سؤال فلسفي –جمالي ؛ هل يمكن للكاتب الوطني أن يصوغ بطلاً – حلماً ، يرضي العاطفة ولا يرضي العقل ، أم أن عليه أن يبحث عن منظور آخر للبطولة ؟ وهل متعب الهذّال « في مدن الملح بطل شعري أم أنه بطل نثري؟ أسأل هنا وأتلمس الجواب ولا أصل إليه . فلأرسل إليك هبة جديدة من الملح والصداقة والقلق .
يمكن أن أقول : يمارس الكاتب البطولة حين يكتب عن البطولة ، ويدعو إليها ، من حيث هي قيمة إنسانية إيجابية . لكنني لاأميل إلى هذا القول كثيراً ، لأنني أظن ، وبعض الظن فضيلة ، أن القول
بمفهوم : الأشكال التاريخية للبطولة يقضي بالبحث عن بطل جديد ، وعن جمالية في الكتابة جديدة تتعامل مع بطل جديد . ربما نرجع ، هنا ، من جديد ، إلى إنسان اليوم الذي يطحنه بؤس وعثار وقمع . . . .
لقد كانت البطولة في الجاهلية تتمثل في ثنائية الحرب والحب ، حيث البطل منتصر والسيف تقطر منه الدماء. .الحبيبة تنتظر من أباد الأعداء وشتّت فلولهم. أما البطل في أدب العصور الوسطى الأوربي ، فكان يضيف إلى الحب والحرب والولاء للملك ، وكان بطل الإسلام يدفع راية الرسالة . . . نلمح هنا بطل المجتمع هذا موزع في إرادات صغيرة ومتناثرة ومشتتة ومسحوقة . . .
وهذا ربما أتفق معك ، أو ربما نتفق معاً ، فنقول : لا بطولة خارج السياق التاريخي ، السياق الذي نعيش فيه يأمرنا بالبحث عن البطولات الصغيرة الأم التي تسهر ليلاً لخدمة ابنها الجامعي ، والعامل الذي يشتري لقمة الخبز بكدح ثقيل ، والصحفي الذي يعيش تعب النهار كله لأنه يرفض التزوير والكاتب الحزين الذي أدمن احتضان الحقيقة . . .
البطولة هي مقاومة السلبي . أما إذا عدت على الفلسفة . . . وإليها أعود ، فأقول : البطولة هي الدفاع عن الأشكال . للصدق شكل واتساق، وللأمانة شكل ، وللطالب المجتهد شكلٌ ، وللجندي المخلص شكلٌ. . .وأزمنة الفساد والإنحطاط تحارب الأشكال ، لأنها ترى في السديم حليفاً.
وهكذا ضعنا ياصاحبي في شجرية السؤال من جديد . ربما تسعفني رسالتك القادمة إلى نظم ماانتثر .
مع صداقتي
فيصل

***

الرسالة الثامنة:
من فيصل درّاج لعبد الرحمن منيف
10 تشرين الثاني
الأخ عبد الرحمن :
كنت أريد تأجيل هذه الرسالة حتى عودتي من القاهرة ، فمن يذهب يعود ، لكن شعوراً بالتقصير لازمني فامتثلت إليه وعدلت عن التأجيل .
ومع أن تبادل الرسائل بيننا بدأ إرادوياً ، فإني أرى ان الحوار بدأ يتلمس مساره الموضوعي ، بدأ يطرح أسئلته . وأجمل ما في المسار انعدام اليقين ، أو لنقل: إن أجمل ما فيه أنه يخلخل كل يقين ، ولعل يقيننا الوحيد هو البحث عن اليقين ، أي أن حياتنا بحث لا أكثر .
وما زلنا نبحث عن معنى البطولة ، فإن قبلنا بكلمة قاموسية دقيقة وثقيلة على الأذن قلنا : إننا نتعيّث ، نبحث عن شيء لانراه ، وإن كنّا نشعر به ، فلنمضٍ ياصاحبي في هذا التعيّث إلى ما شاء الله، أو ماشاء هذا العمر . الذي يقصم أحياناً ظهر السائل قبل الأوان.
ويبدو أننا على اتفاق أو شبيهه ، حول: الشكل التاريخي
للبطولة ، وللراهن المسيطر بطولته، وهي الدفاع المكتوب أو الشفهي عن معنى البطولة ، ليس بمعنى الشجاعة اليومية فقط، بل بمعنى الدفاع عن نسق من الأخلاق والقيم .
وكي نفتح نافذة جديدة للسؤال ، قد نسأل : ما هو نقيض البطولة ، فنقول السقوط لا الهزيمة. فقد يكون المهزوم بطلاً حقيقياً ، أما الساقط فهو نقيض لكل بطولة ، سواء تجلت في رفع الصوت ضد تجميل صورة الصهيونية ، كما ذهب إلى ذلك متشائل فلسطيني، أو استعلنت في اعتبار الكتابة حرفة ساذجة أو في تقديس الاستهلاك السفيه.
بهذا المعنى ، وانطلاقاً من الزمان الذي نعيش، وهو زمن يتسم بالسلب والاستلاب، فإن البطل يتعرف بنقيضه، أي يتحددّ سلباً، فيكون ذلك المدافع عن الجمال وللأمانة والاستقامة. . . .ولعل هذا الإطار الموصوم بالسلب ، هو الذي يجعلنا لا نرى الحدود تماماً بين الشجاعة والبطولة : هل الكاتب المدافع عن الإنسان المقموع ، في زمن يسيطر عليه القمع ، بطل أم شجاع ؟ وأتفق معك تماماً فإن الشجاعة نسبية ، وفي أن البطولة نسبية، لكن انحلال القيم يجعل التعايش بين البطولة والشجاعة ممكناً.
في أزمنة الإنحطاط يكثر الحديث عن الشعارات الكبيرة ، قول ساقه بريشت في مكان ما. وبما أن البطولة أو الشجاعة ، رفض للانحطاط في مشتقاته الكثيرة ، فإن بطل زماننا هو المدافع عن «الشعارات الصغيرة» . لايعني هذا الدعوة إلى «التصغير الذاتي»، إنما يدعو إلى الحفاظ على مبادىء الأخلاق والوطنية الأولى، في زمن تنهدم فيه المسلمات. هل الصهيونية ليست عنصرية فعلاً ؟ وهل يمكن التعايش مع الإمبريالية؟ وهل طموح الإنسان هو الإستهلاك على الطريقة الأميركية؟ وهل يمكن اعتبار إسرائيل دولة مثل غيرها من الدول ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتوالد في زمن عقيم فإن أنجب أنجب مسخاً بدءأً بكاتب يطمح إلى تجسير المسافة بين المثقف والأمير»إنتهاء بمسؤول سوفييتي يزور أميريكا ويصفق لها وهو نصف سكران.
تقول في رسالتك : لابدّ من خلق الأبطال، وأرى نفسي متفقاً معك، لكنه اتفاق ملغوم بالحيرة . كيف نفعل ذلك ؟ إنني مع دور الأدب التحريضي على أساس أن لاينتج وهماً . هل الأدب أخلاق أم معرفة ؟ ويجيء الجواب مستقيماً إنه : الأول ، كما الثاني . ولكن كيف؟ يمكن لي أن أطلق جملة عائمة أو قلقة : لا يبحث الأدب عن الحقيقة ، وهي نسبية، إنما يقوم بكشف تناقضات الواقع . حين يكشف الأدب عن صورة الواقع الفعلية فإنه ينتج تحريضاً أساسه المعرفة، ولكن مامعنى المعرفة الأدبية ؟ هذا سؤال له رسائل أخرى.
وتشير في رسالتك ياصديقي إلي: ضرورة الفهم والإدراك والكشف (فهم الآخر) ، وأجد نفسي متفقاً معك أيضاً، لكنه اتفاق كصاحبه الأول مليء بالقلق . لماذا ؟ لايمكن مقاومة الخصم إلا بعد معرفته، ولا يمكن معرفته إلا بعد معرفة الذات ، أي أن المقاومة تستند إلى المعرفة أو تجعلها شرطاً لازماً من شروطها . هنا نصل إلى دور المثقف كطليعة ، أو إلى دور المثقف الوطني . لاأطرح جديداً ، إن ، لا يصبح المثقف فاعلاً إلا في اندراجه في مشروع وطني عام غايته التغيير. والمشروع هذا ، وفي زمن الإنحطاط هذا ، عاثر أو متعثر ، فالأحزاب هياكل ميتة، والشعب قد صمت منذ أن تحوّلت رموش المسؤول إلى بلطة هالكة، فما بالك بالأيدي ؟
إن كان المثقف الوطني يجنح إلى الراحة النسبية في زمن الصمود الشعبي ، فإن تحللّ الأحزاب وضعف الشارع الوطني ، يجعل من وظيفة المثقف الوطني الراهنة وظيفة معقدة ، فهو لا يتصدى للأنظمة فقط بل لأحزاب وقوى تكلست وتفككت واحتفظت برزيلة التعنت والمكابرة. هل أقول أن دور المثقف الوطني الآن هو قيادة الجماهير ، ولكن كيف ؟
دوامة من الرمل والرماد والأسى تسقط في العيون المتعبة ، هل نداوي العين أم نذود عنها القذى ، وكيف يلملم المثقف الأسيان ذاته ليسعف الآخرين في لملمة أوصالهم في زمن القهر والقمع والانحلال ؟
أما أن نخوض المعركة يعني أن نعرف الخصم . إن تعقد الوضع الذي نعيش يجعل المعركة قاسية. شيء من التأخر التاريخي يلف المرافق كلها فتبدو ضبابية أو موشحة بالضباب . إن سمة العصر العربي الراهن هي الخيانة ، والخائن يشكّ بأصابعه وبلسانه وبغطاء السرير. والخيانة تتضمن هشاشة تاريخية وشعباً مقموعاً . ونصل إلى الجلاد !! جلاّد في الثقافة والدين والسياسة والعمران واعتقال الهواء والساحات الفارغة .
لا يقاوم المقموع إلا إذا عرف طبيعة الجلاّد . والجلاد والخائن والمغتصب لا يعرف الكلمة لأن المسدس لغته الوحيدة . يبدو لي أن إظهار خواء الجلاد ودونيته وشعوره بالنقص ضروري لاستنهاض الآخرين ، حتى لو تجاوز التحريض حدوده.
الإخصاء – كما تقول- من يخصي من ؟ يخصي الجلاد الشعب بأجهزته المتكاثرة , والتي حرفتها الوحيدة قهر الشعب وإذلاله. لكنه وبمعنى ما نعثر على العكس ، تخصي الجماهير ، حتى وهي صامتة، هذا الجلاد الذي خصاه التاريخ، فعاش على خصي الآخرين. تخصي الجماهير الجلاد, وهي صامتة، لأنها تجعله قريباً من الوطواط، لا يتحرك إلا ليلاً ، ومحاطاً بحاشية وأجهزة إنذار واستكشاف . إنها تحاصره بقدر مايحاصرها ، وهذا من تناقض الأشياء , فكيف إذا هذه الجماهير نهضت ؟
لكل زمان بطل نموذجي ، وبطل هذا الزمان هو الجلاد ، وبالمعنى الواسع ، من الشيخ التقليدي إلى الصحفي المأجور . وإذا كان الجلاد يستدعي منطقياً الضحية . فإن الضحية بطل لهذا الزمان أيضاً .
ضحايا تتجدّد ويتجدّد الجلادون ، لكن كلمة تجددّ تعني التغيير فكيف تجددّ الضحية وعيها ؟ وفي مكتبة الجلاد كل الكتب التي تلخص تجربة من سبقه ، فكيف نؤسس مكتبة للضحايا؟
فيصل

* * * *








=============================
* أعدت الملف للنشر: ذ. سعاد قوادري منيف / زوجة الروائي الراحل غبد الرحمن منيف لمجلة نزوى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...