ضهور الشوير 1/7/1949
عزيزتي احسان
هذه ثاني رسالة أبعث بها اليك، وكانت الاولى من بيروت، وتاريخها أمس، وكتبتها لغرض طمأنتكم على راحتي، لا للتعبير عن مشاعري، ووصف مشاهداتي خلال الرحلة التي طالت ثلاثاًً وعشرين ساعة. وسأبدأ القصة من أولها، راجية ألا اثرثر طويلاً على عادتي في الرسائل!
عندما تحركت بنا سيارة "تيرن" من بغداد، ورأيتكم ترفعون أيديكم مودعين، شعرت بغصة في اعماقي لم تفارقني حتى بلغنا الفلوجة بسيارتنا المريحة، ثم وصلنا الرمادي، وانبسطت في طريقنا بحيرة الحبانية بمائها الازرق الجميل، بعد ذلك بساعة تعشينا، وهبط الليل العميق، وأشرق الهلال الطفل وراح يرمقنا بعينيه البريئتين، الا ان سلوك الهلال لم يكن على نحو ما اعتدنا في بغداد، فحين أطلت من النافذة أحدق في القفار قفز قلبي قفزتين ورسم علامة تعجب كبيرة في الهواء.
رأيت الهلال، على البعد، ساقطاً فوق الأرض!! ألا تصدقين؟! كان منظراً عجيباً نبّهت الزميلات اليه، فحدثت ضجة في السيارة وقالت: "أراكسي بدروسيان" انها خائفة من هذا المنظر الغريب فلا بد ان شيئا قد حدث في السماء فأسقط القمر على الارض على اننا خسرنا المنظر بسرعة، فنحن في الصحراء نرى الافق البعيد دون عائق، ولذلك بدأ الهلال وكأنه ساقط على الارض.
لغنا الرطبة في منتصف الليل، وهي آخر نقطة عراقية قبل حدود سوريا فهبطنا وشربنا الشاي في كازينو هناك، وبعد ان ارتحلنا غادرنا المكان بالسيارة ودخلنا الصحراء برمالها ورياحها وجدبها وغبارها، فأغلقنا النوافذ اغلاقاً تاماً، ولبسنا المعاطف الصوفية وبقينا نرتجف فاستعملنا البطانيات، فالتفت كل واحد منا بها ثم نام الكل ما عدا أختك التي وجدت في فكرة عبورها الصحراء أول مرة شيئاً يستأهل السهر وخفقان القلب من شدة الحماس.. بادية الشام هذه الارض الماحلة الجدباء التي تنعدم فيها الحياة ويحكمها الصمت والنسيان، كانت السيارة تسير وانا في سورة من الشعر. وكان هناك بيت واحد من الشعر يتردد في ذهني:
طالت بنا الصحراء حتى خلتها أبد الأبيد
ولا أدري من بعث هذا البيت من مدفن الذكريات؟ المهم ان قائله هو الشاعر علي الجارم الذي كان قد عبر هذه الصحراء مثلي بسيارة "نيرن" بدليل قوله:
وسفينتي "نيرن" بها ما في فؤادي من وقود
ثم استولى علي النعاس، فأغلقت عيني ونحن في الرابعة صباحاً، ولما استيقظت في الصباح، رأيت الصحراء من جديد، وفي التاسعة اصبحنا نسير الى جانب سلسلة جبال جرداء ادركنا منها اننا نسير على تربة سورية، وبها انتهت الصحراء، ثم لاحت لنا "ابو الشامات" اول نقطة بعد الحدود السورية، وهبطنا هناك وسألنا عن الساعة فعلمنا انها الثامنة صباحاً وهكذا عشنا هذه الساعة مرتين! ولما تم تأشير جوازاتنا عدنا الى السيارة، فانبسط امامنا طريق شاعري اخضر تمتد على يمينه سلسلة طويلة جداً من الجبال. سوريا!! يا لها من جنة ساحرة، لقد امتلأت روحي برقتها وعذوبتها، الطريق من ابي الشامات الى دمشق يطول ساعة واحدة ولكنها ساعة تنفلت في دقائق بحساب الشعور، والذي يعبر هذه الساعة، يهرب من افعوان الزمن. ومررنا بعدة مدن صغيرة ثم بلغنا دمشق. دمشق باختصار جنة على الارض، تقوم المدينة بين جبال شاهقة تحف بها من جهتين وتمنحها مياهها الباردة. وشوارع دمشق لا تنبسط دائما ترتفع وتنحدر، وانت تسيرين في شارع، وترفعين راسك فترين فوقك على مسافة امتار شارعا آخر تسير فيه عشرات السيارات وهي مع ذلك مدينة كبيرة بعماراتها الحديثة العالية وببنوكها وشركاتها ودوائرها الحكومية، وهذا كله شيء لا نراه في شمالنا الحبيب الذي ما زالت طبيعته فطرية دونما تنظيم. لا شك ان يد الانسان تصنع المعجزات، ودمشق خير دليل على ذلك، فهذه المدينة قد مستها عصا ساحر رفيع الذوق فحولتها الى هذه الروعة. باختصار دمشق فردوس شاعري الجمال.
الجبال في سوريا ولبنان عموما شاهقة الى حد مخيف وهي تختلف عن جبالنا في الموصل، الا ان جبال حاج عمران مثلها في العلوّ لكنها أي الحاج عمران أغزر مياهاً واخصب تربة واكثر فاكهة من جبال سوريا ولبنان، ومع ذلك فلبنان أجمل من شمال العراق، اذ يخيم الاهمال على جبالنا، مما يجعل الارتياح الكلي اليها مستحيلاً.
بلغنا دمشق في الحادية عشرة، وبقينا فيها نصف ساعة استبدلنا خلالها السيارة باخرى من سيارات الشركة تلائم الجبال، ومنذ غادرنا الشام ابتدأت في حياتي فترة رائعة، دمعت خلالها عيناي تاثراً بالجمال الآلهي الذي تفيض به هذه اليوتوبيا التي تقوم في الجبال.
وفي بلدة (دُمّر) بعد دمشق رأيت اشجار القوع بكثرة وسألت عنها فقيل لي انها اشجار "الحور" ويظهر ان هذا هو اسمها هنا، المهم انني تاثرت تأثراً شديداً، وحييتها كما أحيي صديقة قديمة.
وفي جبل (ميسلون) رأيت عين ماء ضحلة اضحكني اهتمام السكان بها. نحن في شمال العراق نسير ست ساعات كاملة بالسيارة على حافة وادٍ تنحدر اليه شلالات مدوية من كل جبل نمرّ به، ولا احد يهتم بها، في حين يقيمون هنا فوق شيء، اسميه عين ماء تجوزاً، مقهى، ويبيعون الماء بالنقود، فيا لنا شعباً كسولاً لا تطربه مغنية الحيّ!!
اخيراً هبطنا الى سهل البقاع الساحر. هنا يعجز القلم عن الوصف. نحن الان في لبنان لا سوريا، وقد أشرت جوازاتنا في مخفر شرطة الحدود. طريق سهل البقاع تحف به اشجار الصنوبر والحور، وفهمت لماذا سمي "سهل البقاع" فهو اولاً سهل واسع جداً ومنبسط، يقوم بين سلسلتين من الجبال الشاهقة، ثم هو ذو بقاع تختلف كل بقعة منها بلونها وتربتها عن الاخرى، وتوجد فيه عدة مصايف اهمها "شتورة" بمفاهيمها الشاعرية، وبيوتها الصخرية ذات السقوف الحمراء، وبساتينها الخضراء، ويخترق سهل البقاع طريق ربما كان اجمل طريق شاهدته طيلة حياتي، بعد ذلك بدأنا نرتقي جبل (دار البيضا) الشاهق، فلاح لنا سهل البقاع اشبه بمدينة صغيرة. وبعد مصايف صغيرة اخرى رحنا نسير على مسافة وادٍ هائل العمق، اعمق مرات عديدة من وادي الموت تحت "العمادية"، وفي اعماق الوادي تقوم بلدة (برُمّانة). كم تمنيت ان تكونوا معي لتستمعوا بكل هذا الجمال.
ثم وصلنا (صُوفَر) المصيف الذي تتدرج بناياته الفخمة الحديثة فوق الجبال، ولاح لنا البحر من بعيد محفوفاً بالغيوم والضباب لبعده عنا، بعد ذلك بلغنا (بحمدون) وأظنه اكبر مصايف لبنان ومن أجملها، أشدها ازدحاماً بناياته الحديثة ذات الطبقات العديدة وفنادقه وحوانيته التجارية الخ، بعد ذلك وصلنا "عَاليَه" وهي مصيف كبير، شديد الازدحام ، وكل هذه المصايف فراديس ساحرة، والجبال فيها شاهقة بشكل مخيف وخطر، أنت قد رأيت جبال العراق وعشت فيها الا ان لبنان اروع من العراق عشرين مرة! وجمال الجبال هنا ينتمي الى صنف آخر غير جمال جبالنا في الشمال.
ولهذا يصعب عليك التخيل اخيراً بدأنا نهبط الى بيروت، ولاحت لنا المدينة القائمة على شاطئ البحر، وهبَّ في وجوهنا هواء ساخن، بعد برودة الجبال. شوارع بيروت ضيقة وليس فيها شارع رئيسي وعماراتها عالية حديثة، والمهم أنني أحببتها إذ لاحت لي مدينة مثقفة تخيم عليها روح العلم.
وعند نزولنا الى بيروت خفق قلبي بحدة عندما رأيت البحر بعد طول حنيني اليه منذ طفولتي.. وقفت بنا السيارة في (الزيتونة) عند شاطئ البحر. وانطلقت وعبرت الشارع ووقفت عند السياج احدق في البحر الازرق الممتد الى ما لا نهاية، ثم نوديت للذهاب الى مقر : (y.w.c.a) في بيروت، وعند الوصول رأيت شيئاً مغرياً وجدت مكتبة كبيرة حافلة بالكتب قرب المقر، واطل عليَّ من نوافذ المكتبة مؤلفات ادبية فرنسية وانجليزية طالما بحثت عنها سدىً في مكتبات بغداد، وكان مقر (جمعية الشابات المسيحيات) يقع في الطابق الخامس من عمارة عالية، وكان علي الصعود اليها مع زميلاتي على الرغم من تعبنا بعد سفرتنا الطويلة التي استمرت ثلاثاً وعشرين ساعة دون استراحة، واستقبلتنا في مقر الجمعية مديرة المكان بلطف قائلة: (كيف حالكن؟ أهله وسهلة بيكن)، وقادتنا الى مغاسل نظيفة، اراحتنا من شعورنا المستمر بأننا مغبرون شُعْثٌ! وما كدنا ندخل غرفة الاستراحة حتى اسرعت الى منضدة عليها اوراق وجلست اكتب اليكم رسالتي الاولى، وحين انتهيت منها خرجت الى الشرفة، فرأيت البحر البديع منبسطاً من ناحية والجبال السامقة الهائلة قائمة من ناحية اخرى، وبيروت بشوارعها وعماراتها تقوم بينهما، ونحن في الطابق الخامس نرى الناس والسيارات من أعلى، يا لها مكاناً ساحراً بيروت هذه. ثم خرجت مع زميلتَّي رمزية وسعاد، لنتفرج على البحر، وانتهينا الى فندق كبير يقع عند البحر كتب عليه بحروف بارزة اسم الراقصة سامية جمال التي تعمل فيه، وقد بحثت عن اسم فريد الاطرش فلم اجده، بعد ذلك مررنا بقبر الجندي المجهول الكائن في الزيتونة على شاطئ البحر، تغطيه الأكاليل وتحفّ به حديقة، واتكأنا الى السياج ورحنا نحدق في البحر، ومرّت بنا سيارة الجمعية والتقطتنا لترتقي بنا الجبل الى المخيم، الان بدأنا نرتفع مغادرين بيروت، وكان امامنا ساعة كي نصل الى "ضهور الشوير" مصيفنا المقصود، ورحنا نصعد الى علو شاهق سيبلغ حين نصل الى "ضهور الشوير" 5600 قدم فوق سطح البحر، وبدأنا نرتقي ونرتقي حتى اصبح البحر يبدو كأنه ضباب وارتفعنا في دروب حلزونية تسير الى اعلى ابداً كانها تنوي ان توصلنا الى السماء. وقد عمق الوادي عمقاً هائلاً لا يستطيع القلم ان يصوره. الآن اصبحنا أعلى من الغيوم كلها، وهي تحتنا تلفع المصايف كلها وتمتد على صورة رائعة، وسألت احدى الزميلات الى اين نصعد؟ انني اموت رعباً، فضحك السائق الماهر وقال: "انتظري لم يزل امامنا صعود" ، واندفعت السيارة من جديد الى اعلى فوق الغيوم، فبلغنا مصيف "بكفيا" الفاتن ببيوته الانيقة وفنادقه الفخمة، وبعد ذلك لم نعد نرى قعر الوادي فلا شيء الا الغيوم والضباب واصبح الجو بارداً رطباً فارتدينا المعاطف بعد حرارة بيروت. اخيراً بلغنا ضهور الشوير لكن السيارة بقيت مندفعة الى الامام الى أعلى، وحين بلغنا أعلى قمة في المصيف ارتقينا في ممّر من اشجار الصنوبر أدى بنا الى خيامنا الكبيرة ووقفت السيارة اخيراً فارتقينا مشياً على الاقدام الى مخيمنا فوق الغيوم، في السماء، واستقر بنا المقام في المخيم في السادسة مساء، فعكفنا حقائبنا، ونعلق ملابسنا، والمخيم منظم جداً ومريح الى حدّ يروقني، فالخيام من النوع الكبير ذي السقف العالي، بحيث نستطيع ان نمشي ونتحرك كما نشاء وفي خيمة كل منا ثماني زميلات منهن اميمة وهند ورمزية وأراكسي وروز الخ والخيمة مجهزة بالكهرباء وفيها دولابان واسعان علقنا فيهما ملابسنا. ومصيف ضهور الشوير أجمل مصايف لبنان، والمناظر الطبيعية التي تنبسط امام الساكن فيه اروع من اية مناظر، فالبحر يبدو من بعيد، وفوقه تضرب الشمس كل مساء، والوديان المحيطة بقمتنا مكسوة باشجار الصنوبر.
وفي الليل يحدق المرء، فيرى الجبال مرصعة بشبه نجوم، هي اضواء المصايف الشاعرية العديدة التي تحيط بجنتنا. في الليل يموت الانسان برداً هنا، وما يكاد الظلام يهبط حتى يصبح الجو رطباً بحيث يكاد كل شيء يبتل ونضطر الى الاختباء داخل الخيمة من شدة البرد مع ارتداء كل ما لدينا من ملابس الشتاء، بل حتى نضطر الى ان نلف اجسامنا بالبطانيات، ونبقى نرتجف. احدى الزميلات قالت انها لو كانت تعلم ان الحياة في ضهور الشوير شتاء دائماً لما حضرت الى لبنان اطلاقاً، وقد استفدت من بطانياتي الاربع واستعملتها جميعاً من اجل الحصول على الدفء وسأطلب الى المخيم تجهيزي ببطانية اخرى، اليوم، وبسبب الرطوبة هو علو المصيف ثم ان الجو هنا غائم في اغلب الاحيان، اننا نعيش في الغيوم تماماً الغيوم يسمونها هنا (الغطيطة).
صباح اليوم استيقظت مصابة بصداع خفيف على اثر السفرة الطويلة، فنصحتني "المراقبة" ان انام حالاً، فجلست في الفراش اكتب اليكم هذه الرسالة الطويلة، وجاءتني المراقبة بمقياس الحرارة فظهر ان حرارتي طبيعية تماماً.
اليوم ذهبت كثير من الزميلات الى بيروت لشراء بعض الحاجيات ولم اذهب انا لانني آثر ان احتفظ بنصائح والدتي ما دمت متعبة، وعليَّ ان ارتاح، بجانبي الآن "اراكسي" تكتب الى اسرتها كما افعل انا. الصداع عندي قد خفَّ، ومنذ دقائق خرجت فسرت على حافة غابة الصنوبر، وفي ريعان الظهيرة، وتحت الشمس لكن الهواء القارس أعادني بانتظام الى قواعدي في الخيمة!
هذه الرسالة جعلتها طويلة لأنها اول رسالة، ولن تكون رسائلي التالية بهذا الطول، فأنا اثري ان اطالع واكتب قصائد ومذكرات. لاحظوا انني لم اكتب حتى الآن يومياتي ولذلك أرجو الاحتفاظ برسائلي حتى أعود.
بدأت بقراءة مسرحية الأشباح لابسن بالانجليزية ارجو تبليغ تحياتي الى امي وأبي وأخوتي جميعاً وسائر الاقارب والاصدقاء.
المخلصة: نازك الملائكة
استدراك: اكتبي اليَّ يا احسان حالاً رسالة طويلة، حدثيني فيها بألف شيء عنكم جميعاً، هل تسلمتم ؟ ديواني (شظايا ورماد) احفظوه كما اتفقنا ولا تطلعوا عليه أحداً، لا تنسي انك (وكيلة أعمالي) كلها في غيابي.
ضهور الشوير 4/7/1949
***
ضهور الشوير4 -7 - 1949
عزيزتي سها
اكتب اليك من قمتي الفاتنة في ضهور الشوير تحف بي اشجار الصنوبر، وعلى مقربة ترتفع الجبال المكللة بالجليد وتسبح فوقها الغيوم السحرية.
إن الحياة هنا هي في حد ذاتها تهذيب للنفس، وربما لذَّ لك يا عزيزتي ان احدثك عن نوعية الحياة التي نحياها هنا، فوق قمة أعلى جبل مسكون في لبنان حيث تنصرم أياي في اسلوب حلو يغلب عليه السلام والجمال والبساطة، واليكِ برنامج حياتنا في المخيم.
نستيقظ في السادسة والنصف فجراً، فنلبس ثياباً صوفية ومعطفاً ونهرع لغسل أوجهنا في المغاسل.
وفي السابعة نجتمع حول العلم اللبناني الذي يتوسط المخيم فنقدم له التحية على ان اعضاء المخيم ينتمون إلى شعوب مختلفة كالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن وانجلترا وأميركا وبولندا، فنحن نكاد نكون عصبة أمم، ولذلك يغلب أن نتكلم الانجليزية في اجتماعاتنا، ثم ساعة الفطور في خيمة مكشوفة تشرف على البحر والجبال المجاورة، وفي الثامنة توزع علينا أعمال المخيم مثل التنظيف وغسل الصحون وجلب الحطب والمساعدة في الطبخ، وملء اوعية الماء للشرب وسوى هذا من الأعمال البسيطة التي نقوم بها ضاحكات وهكذا يبقى المخيم نظيفاً مريحاً، وقبيل التاسعة تبدأ الصلاة المسيحية، وتقرأ علينا فصول من الكتاب المقدس، بعد ذلك، تلقى علينا محاضرتان تستمر كل منهما خمسين دقيقة، تتخللها فرصة راحة قصيرة وهذه المحاضرات اجتماعية غالباً، وكانت محاضرة اليوم حول فائدة كتابة المذكرات واليوميات، بالنسبة للشابات والشبان، وتنتهي المحاضرات في الحادية عشرة والنصف. ونتناول الغذاء في
الثانية عشرة والنصف. بعدها نرتاح حتى الثالثة والنصف، اما برنامج ما بعد الظهر فهو اروع ما يمكن ان تتخيلي. ففي الثالثة والنصف تبدأ دروس الموسيقى، والتمثيل، والرقص الريفي، والرسم. وتختار كل منا ما تشاء من هذه الدروس، واخترت انا الموسيقى طبعاً، ولو كانت معنا احسان لاختارت الرسم، فمعنا سيدة قديرة ترشد الزميلات في هذا الباب لاسيما رسم مناظر الطبيعة الحيّة، وقد حفظت حفنة من الاغاني الرقيقة الشاعرية التي تصف الجبال والبحار وتتغنى بالنجوم وتدعو إلى الحب والسلام، وبعضها يثيرني إلى درجة ذرف الدموع.. ثم نخرج للنزهة في مصيف ضهور الشوير الكبير الفخم بشوارعه الجميلة الواسعة ومقاهيه المنظمة وكازينواته وفنادقه، فنمشي طويلاً نرقب الجبال ونجمع اثمار الصنوبر، ونتكلم اللهجة اللبنانية مع اصحاب الحوانيت الكبيرة الفخمة الجميلة، ويزدحم المصيف في يومي العطلة السبت والأحد، كما تزدحم بغداد عصراً، حتى يصعب علينا السير وعبور الشوارع..
في السابعة مساءً نحتفل بانزال العلم ونقدم التحية للشمس الغاربة، وهذه الفعالية شعرية جداً، نجلس كلنا على كراسي منخفضة من الحصير، في حلقة تواجه الشمس الغاربة على البحر، وننشد بضعة اناشيد رقيقة بالانجليزية، أو نجلس صامتين وهو ما أفعله أنا باستمرار. ثم العشاء في السابعة والنصف، وفي الثامنة والنصف يبدأ السمر، وفيه تتلى علينا قصة، أمس سمعنا قصة لموباسان، أو تقوم الزميلات بتمثيل مسرحية قصيرة، وأروع ما في هذه الأماسي ما نسميه هنا "نار المخيم" إذ تطفأ الأنوار الكهربائية جميعاً، ونبقى في ظلام دامس ونحن نجلس في دائرة كبيرة منتظمة تتوسطنا كومة من الحطب والشوك، تحفّ بها أربع فتيات ثم تتقدم أحداهن، وتحيي النار لأنها رمز الطهر، وتتقدم الفتاة الثانية، وتحيي النار لأنها رمز الحب والصداقة، والثالثة لأنها رمز النور، والرابعة لانها رمز الحرارة، بعد ذلك توقد النار ونحن في صمت عميق وخشوع، وننشد نحن بعدها بالانجليزية (اشتعلت النار، نار المخيم تعالوا لننشد معاً في المساء، لنغن ولنكن مرحين" ثم نغني ما نشاء بالعربية والانجليزية واللاتينية أحياناً. في التاسعة والنصف ليلاً تنتهي فعاليات اليوم فنجتمع في حلقة متماسكة وننشد أنشودة شعرية مؤثرة عن "الصداقة القديمة": (أعطني يدك يا أخي وخذ يدي، ولنكن اصدقاء) ثم ننصرف في خيامنا. وفي العاشرة تطفأ الأضواء في كل المخيم، وننام كلنا. لا أكتمك يا صغيرتي المحبوبة انني أحياناً أتبرم بهذه القيود، إلا انني استفيد منها شعرياً، ونفسياً، فقد زايلني الشعور بالذات، وهو الكابوس الذي يطاردني دائماً، إلا ان الفكرة العامة عني بين اللبنانيات انني "صامتة" جداً.
في اليومين الأولين من وصولنا كنت مرتاحة جداً لأن الزميلات لا يعرفن اسمي، ثم تلي اسمي ذات صباح، فتحولت الانظار إليّ وتعالت الهمسات من كل جهة "الشاعرة"، "عاشقة الليل" على ان أياً منهن لم تقرأ شعري!! إلا انني ما اكاد أجلس حتى توجه إليّ الاسئلة، وتنهال عليّ الطلبات: (بحياتك موش تكتبيلنا شي عن المخيم) أو (دخلك عندك شي قصيدة عن الجبال)!!
على ان هذه الشهرة قد افادتني في حدود المخيم، قفد جاءت احدى المرشدات إليّ وسألتني: أأنا مرتاحة؟ ثم زادت وقالت ان من الخير لي أن أعفى من اعمال التنظيف وجمع الحطب فشكرتها. وأخبرتها أنني سأقوم بواجباتي كلها:
في المخيم تعرفت إلى آنسة سورية من حمص اسمها (آنجيل عبود) وكانت قد اصدرت كتاباً في الاسبوع الماضي عنوانه "شهداء" وأمس أمضيت معها عدة ساعات فعرفت انها أحضرت معها إلى المخيم مكتبة صغيرة!! أكثرها مؤلفا أدبية فرنسية منها مؤلفات سارتر، وزولا، وموباسان، وأكثر ما تقرأ القصص القصيرة لأنّ هذا ميدانها. المهم انني سررت لأنني عثرت على فتاة تصرف راتبها كله على الكتب، وفي الليل تلوت عليها قصائدي "صراع" و"كبرياء" و"انا" فأحبت قصيدة كبرياء.
زميلاتي العراقيات عموماً في شوق حادّ للعراق، وأمس حاولنا الاستماع إلى محطة الاذاعة العراقية، فلم نعرف مكانها مطلقاً كيف انتم والموسيقى؟ انني هنا في نعيم، فمعنا اسطوانات كلاسيك كثيرة لفاجنر، وتشايكوفسكي، وبرليوز، وكريك، وشوبرت، وماندلسون، وقد استمعنا أمس إلى السمفونية الحزينة" لتشايكوفسكي، "وبحيرة البجع" له ايضاً. ما أعظم فاجنر واعجب العجب عبارة تشايكوفسكي المشهورة (أي دون كيشوت قد كان فاجنر!). هل امضي في حديثي عن المخيم؟
أرجو ألاّ تتخيل احسان ان مخيم الشابات المسيحيات W.C.A. لا كمخيمنا في سرسنك العام الماضي، فهو يكاد يكون بيتاً منتظماً مريحاً، نحن نأكل على موائد طويلة، ونجلس على كراسي جبلية من الخشب والخوص، في خيمة خاصّة تشرف على الوديان والجبال ومن بعيد يبدو لنا البحر، وفي المخيم نادٍ كبير يتوسطه راديو جيد، وجهاز جرامفون كهربائي مجهز بأحدث الاسطوانات الموسيقية الكلاسيك والغنائية والراقصة، وحتى التعليمية التي تتحدث عن مواضيع مثل "الموسيقى في أميركا" او "منشأ موسيقى الجاز" وسوى هذا. وفي النادي مكتبة صغيرة ومنضدة كبيرة للكتابة وهي تحفل بكثير من المجلات والكتب. ويضم النادي ما يقرب من سبعين كرسياً مريحاً. وفي المخيم ممرضتان لهما خيمة خاصة مجهزة بصيدلية صغيرة، فلا تكاد اية واحدة منا تشعر بوعكة حتى تكون احدى الممرضتين عند رأسها. وفي المخيم مخزن صغير لبيع الفاكهة وعلب الطعام والسكائر والدفاتر والجوارب وحتى الكتب! (لاحسان ونزار وسعاد عثرت على الدفاتر الجميلة التي اوصوني بشرائها، وسأحضر معي عدداً كافياً منها).
الضباب هنا أي الغيوم التي نعيش بينها اضطراراً، شيء رائع.. انني اقف مساءً احدق في الجبال فأرى الغيوم تركض حولي حتى تغلق (المراجيح) الأربع في المخيم، وحتى لا نعود نرى شيئاً يبعد عشرين متراً، ما عدا اشجار الصنوبر العنيدة المتحدية، فكل شيء غيرها أبيض كالجليد الذي يغطي الغيوم. وان الرطوبة التي تبلل معطفي وحذائي انما هي ذرات الغيوم لا غير. يا لها غيوماً قاسية، حتى ثيابي داخل الحقيبة لم تنجُ من شراستها.
خلال اليومين القادمين سنذهب إلى بيروت لنشاهد فلماً سينمائياً ونجلس على شاطئ البحر ساعات، وفي يوم السبت سنسافر إلى الأرز حيث نتزحلق على الجليد، ونزور مغارة "تاديشا" ذات الستلاكتايت والستلاكمايت، ثم نزور قرية "بشري مدفن جبران خليل ونرى "اهرون" الساحرة، وسنبيت في الأرز، وهناك سأكتب اليكم رسالة مطولة عن مشاهداتي.. اعتذر عن المضيّ في الكتابة يا سوسو لأن صافرة المخيم تكاد ترنّ معلنةً بدء دروس الموسيقى والرسم والرقص الشعبي على ان هذا البرنامج المعقد سينتهي في الأسبوع القادم، وننال بعده حرية كبيرة. تحياتي إلى كل الصديقات لاسيما فاطمة وسنية بلغي تحياتي القلبية إلى جدتي هواية وأخوالي جميعاً وأعمامي وعمّاتي وخالاتي وابنائهم وبناتهم ولا تنسي أحداً منهم.
فأنا شديدة الشوق إليهم جميعاً، وإليك وإلى اخواتي وإلى اخوي أجمل التحيات.
نازك
***
ضهور الشوير في 10-7-1949
احسان العزيزة
اشواق وأشواق وأشواق تملأ نهاري وليلي أحلاماً بكم، وتخيلاً للحياة التي تعيشونها في العراق العزيز. ها أنا أمسك بالقلم، وقد اعترى كل شيء حولي ذلك الجمود الرتيب الذي تألفه الظهيرة في كل مكان فأشجار الصنوبر ساهمة جامدة، والجبال الجبارة تجثم في برود ولا مبالاة وكأنها تحتضن الظهيرة نفسها، وكل شيء هادئ ساكن سوى ذلك الحيوان النشيط الذي يئزّ طيلة النهار:
انا هنا في المخيم مرتاحة وحياتي منظمة وهي تروقني جداً.
ولا شيء يضايقني إلا ان كل انسان في المخيم يرمقني باستغراب واعجاب لأنني شاعرة!!
يوم الجمعة ذهبنا إلى بيروت صباحاً، وبقينا فيها حتى السادسة مساءًَ، وأظنك سمعت عن حرِّ بيروت ورطوبتها، ذهبنا إلى السوق واشترينا بضعة اشياء، ودخلنا مقهى صغيراً واكلنا "البوزة" الدوندرمة، وتناولنا غداءنا في مطعم "اوندين" في الزيتونة على شاطئ البحر. كان منظر البحر رائعاً بزرقته الرهيبة. وبقينا هناك ساعتين، ثم خرجنا ومررنا بمكتبة ابتعت منها كتاب "عشيق الليدي جاترلي" الشهير بلغته الانجليزية الجميلة التي اشتهر بها د. هـ. لورنس، واشتريت مجلة الأديب بضعف ثمنها في بغداد أليس هذا غريباً؟؟
في المخيم معي الأديبات: انجيل عبود القصصية السورية والآنسة نهلة مروة المحررة في مجلة "صوت المرأة" وسوف تنشر قصيدتي "يوتوبيا الضائعة" في المجلة كما أعدت كلمة عني وعن وجودي في لبنان الآن، وعن شعري، وهي من أقارب كامل مروة صاحب جريدة "الحياة" والاستاذ حسين مروة الكاتب المعروف.
يوم الجمعة القادمة سأذهب إلى بيروت تلبية لدعوة من الآنسة "ادفيك جريديني" الكاتبة المعروفة، وهي ممن يكتبون في (صوت المرأة).
والآن سأحدثك عن "جورجيت نويصر" أقرب فتاة إلى نفسي هنا وقد أصبحت من أعز صديقاتي في الواقع، انها فتاة طويلة القادمة، شاحبة الوجه، شاعرة الروح إلى حدّ المرض، عميقة الثقافة، تجيد اربع لغات اوربية اضافة إلى اجادتها العربية فهي تحسن الايطالية والفرنسية والانجليزية، كلاماً وقراءة وكتابة كما انها تعرف الالمانية، وهي تقرأ كثيراً. ولجورجيت طريقة غريبة في الشعور بالأشياء ووصفها، بحيث تخلق منها شيئاً أصيلاً.
تخيلي هذا.. نحن نسير في الوديان المنبسطة، فتنحني فجأة وتجهد نفسها في قطف عرق من الشوك، وأقف انا متعجبة، حتى تنتهي، ثم تقف وتقول وهي تحمل العرق الشوكي: "هذا هو الله، وهذا هو الانسان، وهذه هي الطبيعة"
ولا تنتهي القصة هنا فاذ ذاك تروح تبحث عن صخرة مثقوبة تصنع منها مزهرية، وأشهد أن الغصن والصخرة يكونان صورة رائعة على المنضدة أمامي الآن. هذه الفتاة غريبة في عمق حِسّها ورهافة نفسها. أمس خرجنا في نزهة على ضوء القمر فأصرت على ان نجلس صامتتين لنصغي إلى ضفدعة كانت تلغط في بركة ماء قريبة، وقد أبقتنا في حالة صمت كامل مدة نصف ساعة، كانت خلالها تكلم الضفدعه أحياناً بكلام رقيق. ثم انها ذات ثقافة عميقة في الموسيقى الكلاسيك وتحب من الموسيقيين المعاصرين: سيبليوس ورخمانيغوف وسترافنسكي، ومن القدماء فاجنر وبرامز، وهي تحفظ أكبر مجموعة من الأغاني الانجليزية الجميلة وكذلك الايطالية وقد حفظتني مجموعة لا بأس بها من هذه الاغاني، في خيمتها منضدة عليها كتبي وكتبها، وانا طيلة النهار معها وثالثتنا صديقتنا المرحة أنجيل عبود، وهي فتاة رياضية الروح وصريحة. ولو عرفت والدتنا العزيزة مقدار العناية التي ألقاها من جورجيت وآنجيل لقبّلتهما. منذ يومين كنت مسؤولة عن غسل مجموعة من الصحون ودفعتني جورجيت عن المغسل وغسلت كل الصحون مكاني، وكانت حجتها ان بعض الناس خلفوا لأعمال الفكر السامية فحسب!! وهي على المائدة تجلس بجانبي وتبذل جهوداً مستمرة في اقناعي على الأكل والتغلب على خجلي. جورجيت مدرسة النشيد في المخيم، وفي الأسبوع القادم ستكون هي رئيسة المخيم، ونحن في الصباح نقرأ او نكتب، أمس قرأنا كثيراً من شعر (إوكار الن بو)، إلا ان انجيل لا تحب شعره، ولذلك غادرتنا وهي تقول: (انا او ادكاريو.)!! وجورجيت تحب شعري وتقول انه يعبر عن افكارها دائماً، وأحبت آنجيل قصيدتي "الخيط المشدود في شجرة السرر" و"كبرياء" في حين أحبت جورجيت "عروق خامدة" حباً كبيراً كما تعلقت بقصيدة "صراع".
أظن أن عيد الفطر قريب، وسأشتري ثوباً جديداً ارضاءً لوالدتنا التي تصرّ على ان نلبس شيئاً جديداً في العيد قضيت ظهيرة اليوم مع الأديبة نهلة مروة، نتحدث عن اشياء كثيرة منها إعدام أنطون سعادة زعيم الحزب القومي وأظنكم قرأتم كل شيء في الصحف وسمعتم الأنباء في الراديو، أعدم بتهمة التآمر على سلامة الجمهورية، وقتل موظف معين في الشرطة، مع تهم أخرى.
عصر اليوم فوجئت مفاجأة رائعة، عندما كنت أجلس في خيمتي، اتحدث عن موعد العودة إلى بغداد في اوائل آب القادم فقد رفعت رأسي فوجدتني أحدق في نعمت وديزي الأمير، فقفزت من مكاني إليها. نعمت قد اصبحت بدينة كأغلب المتزوجات!! إلا ان روحها ما زالت رقيقة. وقد مكثتا معي في المخيم ساعةً، والتقطنا عدة صور معاً، ثم خرجت معهما، وسرنا طويلاً نحو بيت أقارب لهما، وهناك رأيت بنت نعمت: وداد الحلوة. انها باختصار master picce وتملك جاذبية طفولية نادرة. وقد غادرتنا نعمت وديزي نحو "عالية" في اول الليل، وسأزورهما في الأسبوع القادم في "عالية" لقد حدثتك عن جورجيت طويلاً، لأنني اشعر بأنك ستعرفينها يوماً، وتحبينها، ولم أنبئك بعد انها فلسطينية، من اللاجئين إلى لبنان، اما آنجيل عبود فهي سورية من حمص.. (هبطت المخيم الآن ثلاث فتيات من الحبشة، وهن يتكلمن معنا بالانجليزية طبعاً.
في هذا الاسبوع سألقي على الزميلات في المخيم ببرنامج ليلتين: ثلاث قصائد "صراع" و"كبرياء" و"لنكن أصدقاء"، يتخلل ذلك كلمة عني تلقيها احدى المرشدات، وفي الليلة الثانية سأعد برنامجاً عن تشايكوفسكي وحياته وموسيقاه. أترين؟ انني هنا بشخصيتي الأدبية الانسانية.
تلقيت رسائلكم.. الف شكر، وسأكتب اليكم مفصلاً.
تحياتي القلبية لأبوي العزيزين، وإليك وإلى الاخوات وإلى اخوي.. الف قبلة إلى عزيزتي (ميسون) التي اشتاق إلى عينيها الجميلتين وقبلاتي إلى اخويها عادل ونسرين، تحياتي الحارة لجميع الاصدقاء والصديقات.....
اختك نازك
***
ضهور الشوبر- لبنان
24 / 7/ 1949
عزيزتي احسان
الف انتفاضة قلبية واشتياقة مني اليك والى ابويَّ واخويَّ واخواتي الاعزاء جميعاً، أنني أحيا هنا حياة كسل واحلام مستمرة لا اصنع خلالها أي شيء معين حتى القراءة ، نعم انا لا اقرأ الآن شيئاً مع كثرة الكتب التي تملأ المكتبة امامي، كتب كثيرة منوعة ، شعر فلسفة، قصص نقد وسير حياة بالعربية والانجليزية والفرنسية الا اننا ، كما تقول جورجيت نكتفي بشعور الاستمتاع بأن خيمتنا تحتوي على كل هذه الكتب البديعة ، فنحن لانملك لحظة فراغ نقرأ فيها . لقد انتقلت الى خيمة جورجيت وآنجيل ، وهي افضل خيمة في الميخم كله، اذ تشرف على واديين، ونستطيع منها رؤية بيروت بأضوائها النجمية ليلاً،
ومن خلفها البحر الرهيب بسواده الغامق، وتنبسط حولنا ليلاً اضواء مصايف الكحّالة وعاليه وبحمدون وبرمانة وصوفر. انتقلت الى خيمة جورجيت وانجيل منذ خمسة ايام، جورجيت وانجيل مرشدتان في المخيم..جورجيت هي الآن القائدة العليا للمخيم ، وقد بقيت تلح عليَّ ان انتقل الى خيمتها، كي لا اضطر الى الخضوع لقوانين المخيم وكي استطيع القراءة والكتابة بحرية، وها انذي مرتاحة اكبر ارتياح وقد علقنا صورة الرسام "فان كوخ" على الجدار. بجوار سريري منضدة صغيرة للكتابة. وفي الخيمة دولاب للملابس، ومنضدتان تضع جورجيت عليها أصص الازهار التي تجمعها كل يوم ، فضلاً عن اشيائنا الاخرى. في الخيمة مغسل ، وكراسي نستعملها حين نجلس امام الخيمة ، وخيمتنا هي الوحيدة التي تضاء بمصباحين كهربائيين بدلا من المصباح الواحد الذي تحتوي عليه كل خيمة.
اما عن حياتي الشعرية فهي راكدة ولا افهم السر ولا شغل لي غير كتابة المذكرات والرسائل الطويلة العريضة اليكم:
منذ يومين رحت اشكو الى انجيل ركودي الشعري هذا فأقنعتني بأنه ركود وقتي ، بعد فورة "شظايا ورماد"، على ان حياتي الادبية ليست راكدة. منذ ايام لبيت دعوة مجلة "صوت المرأة" فذهبت الى بيروت وقصدت ادارة المجلة واستقبلتني الصحفية المعروفة السيدة "ادفيله جريديني"، وتعرفت هناك بالشاعر نقولا فياض الذي حضر لرؤيتي حين علم انني سأزور المجلة
كذلك قابلت رئيس التحرير الشاعر فؤاد سليمان. وقد تلوت على الحاضرين قصيدة "الافعوان" وقصيدة "خرافات" فاحبوهما جداً وكان تعليق فؤاد سليمان ان شعري لايمثل العراق ولايمثل السمعة النسوية وانه شعر فردي النزعة، وغير متأثر بالنزعة المحلية في العراق ، ولا في سائر البلاد العربية. وجدت في قوله مدحاً جميلاً لشعري. بعد ذلك تلا علينا الدكتور فياض قصيدتين من شعره الجيد، وهو من الشعراء المجددين في لبنان. وحين كنت اغادر المكان اقترح فؤاد سليمان ان اسجل جلسة شعرية بالاشتراك مع بعض الشعراء اللبنانيين ، لتذاع في محطة الشرق الادنى ، فترددتُ ثم وافقت "لا اظن ترددي يعجبك وهو كذلك لايعجب جورجيت التي تشبهك اكثر مما تتخيلين في طريقة نظرها الى شعري وحياتي"، وذهبنا حالاً الى محطة الشرق الادنى على شاطئ البحر في الطابق الخامس من عمارة عالية، واستقبلنا هناك السكرتير الذي ظهر انه يعرفني وانه قرأ عاشقة الليل، واتفقنا على التسجيل يوم الجمعة ، ثم دعتني السيدة ادفيك بإلحاح الى تناول الغداء في دارها. فذهبت وتغديت هناك ، ويقع بيتها على البحر، وقضيت الوقت معها حتى الخامسة مساءً، وقد حضر خلال ذلك بعض الشعراء : رشدي وحلمي المعلوف، وفؤاد سليمان (الاولان من عائلة شاعرنا المفضل فوزي المعلوف) وطلبوا ان اسمعهم شيئاً من شعري ، فتلوت قصيدة "كبرياء" وجنّوا بها ، كما هو المنتظر، (لقد احدثت هذه القصيدة دوّياً هنا، انني اغار منها على شعري الباقي، لأنني فيما يلوح لم اكتبْ بعدها ما يوازيها!) ثم تلوا هم بعض قصائدهم، وقد أحببتُ شعر فؤاد سليمان الذي يحمل الطابع اللبناني اعني رمزية الالفاظ والاوزان القصيرة ، والموسيقى والتأثر بالطبيعة.
في الخامسة غادرنا دار السيدة ادفيك، واوصلوني جميعاً الى "البرج" وهو مركز بيروت، ومن هناك أخذت اول سيارة الى ضهور الشوبر. اما الجلسة الشعرية في محطة الشرق الأدنى فقد سجلت يوم الجمعة الماضي، واشترك فيها معي رشدي المعلوف وفؤاد سليمان. وتبدأ الجلسة بعبارة (عاشقة الليل ونازك الملائكة اسمان جميلان احببناهما منذ حين..الخ ). ثم وجه اليّ رياض المعلوف سؤالاً عن تطور شعري في "شظايا ورماد" فأجبت عليه ، وتلوت مقاطع من قصيدة (وجوه ومرايا) وقصيدة "رماد" ثم تلا كل من الزميلين قصيدتين، واختتمت الجلسة بمقطعين من قصيدتي "جامعة الظلال". وسوف تذاع هذه الجلسة في يوم 17 آب في الثالثة مساء ، وتعاد اذاعتها في 18 آب في الساعة عينها، فلا تنسوا الاستماع اليها والارجح انني سأكون معكم في بغداد عندئذ.
في الاسبوع الماضي دعتني الآنسة "دنيا مروة" لتناول الشاي مع مجموعة من مرشدات المخيم (دنيا هي شقيقة كامل مروة صاحب جريدة الحياة). وقابلته عندها كما قابلت هناك بعض العراقيات.
شاهدت في بلدة "بكفيا" فلم (دكتور جيكل ومستر هايد) واستمتعت به استمتاعاً عظيماً، وانا اراه للمرة الثانية، واتذكر كل تفاصيله، ان الناس يجدون صعوبة في التذكر، اما انا فيصعب عليَّ ان انسى هذه مصيبة بالنسبة لي اذ تحرمني من لذات كثيرة، امس سافرنا الى "برمانة". وتغدينا فيها. والبلدة تشرف على بيروت كلها، وصنوبرها رائع وكذلك سروها. حين سأعود الى بغداد ستلاحظون عليَّ تطوراً لابأس به وذلك من تأثير حياتي في المخيم. عموماً اصبحت غير خجولة.
في التاسع والعشرين سنغادر المخيم ونسكن في بيروت لمدة اسبوع الا اننا لن نمكث فيها وانما سنسافر كل يوم الى مكان ، فنزور "بيت الدين" وزحلة وبحمدون وعاليه وصيدا وسواها من مدن جنوب لبنان (شمال لبنان رأيناه كله خلال رحلتنا الى الارز) وسوف اذهب غداً الى عاليه لزيارة الصديقتين (نعمت وديزي الامير). سنغادر لبنان في 7 آب الى سوريا حيث سنقضي بضعة ايام في دمشق الفاتنة التي تركت في انفسنا جميعاً اثراً عميقاً..انني املك اصدقاء في دمشق وقد تلقيت ثلاث دعوات من سوريين لزيارتهم عند وصولي، انت ترين ان سفرتي الى لبنان تكاد تصبح رحلة ادبية محضة، اعرف ان هذا يسرك ، وألاحظ إنني معروفة جداً، في لبنان وسوريا. الحكومة اللبنانية تطارد القوميين بعصبية وحدة. ويوم الخميس أعدم ستة من القوميين رمياً بالرصاص. كان ذلك امراً فظيعاً لم اتحمله.
ما افظع الانسان وما اقساه!
تسلمت رسالتك الاخيرة يوم 22 تموز.
اشكرك على تهنئتك على قبعتي التي اشتريتها بما يعادل 150 فلساً فقط ! ان كثيراً من الاشياء تباع هنا بأسعار زهيدة الا ان كثيرامنها ايضاً تباع باسعار مرتفعة جداً ومنها الكتب.
اقترب العيد وقد ارسلت اليكم بطاقة تهنئة ارجو ان تكون وصلتكم. الناس في ضهور الشوبرمسيحيون وقلما اقابل مسلمين فيها. تتحدثين عن بغداد وغبارها وحرها، واضطرار اخواتنا على "الانبطاح" على الكاشي الرطب دونما حصير من شدة الحرّ!!
ما اجمل هذه الامور المألوفة. انها من بعيد تلوح لي كما تلوح النجوم غامضة وجميلة وبراقة ، وانا اسلي نفسي هنا بشراء هدايا لكل منكم، واحس انه ألذّ ما اقوم به من اعمال! اميمة وجورجيت تبلغانك تحياتهما. انجيل معجبة جداً بك، اما رأيها فيّ أنا، فهو على حد تعبيرها، انني اتكالية وغير طبيعية على العكس من جورجيت التي تؤكد لها انني طبيعية تماماً. على انهما معاً تؤمنان بأنني انسان بريء وانني مثالية idealist وسدىً احاول أنْ اقرأ لها قصيدتي "جمود" و"نداء الى الموتى"!! بلغي سلامي الى ابويّ والى جدي واخوالي جميعاً والى عماتي والى عمي علي ، والى جميل "خالي" والى كل الصديقات والقريبات. عثرت على تمثال لموزارت اظنني ساشتريه الا انني اتردد خوفاً عليه من ان يتحطم في طريق العودة . خمسون تحية لعصام ونزار ولبنى وسها وسعاد! انني مشتاقة اليكم، والرجوع الى العراق بعد فراق هذا الشهر شيء احلم به باستمرار.
نازك
***
زحلة ـ لبنان - الاحد 31 تموز عام 1949.
عزيزتي سعاد.
ادرج في رسالتي هذه اليك بضعة اخبار تهمك من حياتي هنا. غادرنا ضهور الشوبرامس وسكنا في بنسيون على البحر في بيروت ، وسنبقى في بيروت حتى منتصف نهار الخميس المقبل حيث سنغادرها الى دمشق فنبقى فيها يومين، ونسافر بعدها الى بغداد.
اسعد الله ايامكم. اما ايامي انا خلال العيد فقد كانت باردة ليلة العيد احسستُ بكآبة حين تذكرت بعدي عنكم، وانه اول عيد اقضيه بعيداً عنكم.
والواقع ان الغربة تجعل للاشياء قيماً غير التي نعهدها، وقد أحسست هذا المعنى ليلة العيد احساسا كلياً. كانت ادارة المخيم قد اصطحبت الفتيات جميعاً الى وادي بولون المجاور، ولم اشعر بالرغبة في الذهاب، فقد رأيت ان افكر في بغداد والعيد وحدي.
وهكذا بقيتُ في المخيم الواسع الفارغ الذي بدا لي موحشاً بعد ان غادره سكانه المرحون. كان الصمت مطبقاً، ولا صوت الا حفيف الصنوبر، وصوت ارتطام الهواء بالخيام. واخيراً لم أعدْ احتمل الوحدة، فخرجت الى الأرجوحة ، ورحت أهزّ نفسي ، كان الهواء بارداً مشبعاً بالغيوم الكثيفة، فأحسستُ برعشة البرد وتركت الارجوحة مضطرة.. وفجأة سمعت اصواتاً فاذا خمس زميلات يتعشين، آه ما اشدّ حبّ الانسان للناس. لقد شعرت بأنني عثرت على كنز : وجلسنا نتناول العشاء فلاحظت ان الزميلات كلهن مسلمات ، ما عدا واحدة، كنا ننتمي الى شعوب مختلفة: عراقية وسورية ولبنانية وفلسطينية وبولندية الا ان كونهن مسلمات سرّني لاول مرة في حياتي، فالغربة كما قلتُ، تغير مقاييس الاشياء. كانت اللبنانية كئيبة مثلي لفراق اسرتها وانت تعرفينها: الآنسة ناهدة عسيران قريبة الدكتور شريف عسيران، وهي من مدينة صيدا. جلسنا نتحدث عن العيد والغربة نعم ان ضهور الشوبرمسيحية لكنّ الصعّادات ظلت تتفجر حتى منتصف الليل احتفالاً بالعيد . لم يبق فندق الا اقام احتفالاً كبيراً صاخباً حضره مئات من الناس.
في صباح العيد أيقظتني جورجيت قائلة: كل عام وانت بخير، ان جورجيت ياعزيزتي سعاد صديقة نادرة الى حدّ لايصدق. انني لولاها لكنت ضائعة في الخيم وانت تعلمين مقدار حاجتي الى انسان كإحسان يقود حياتي ويدبر اموري العملية ، لقد قامت جورجيت بأضعاف ما كانت تقوم به احسان تخيلي. رتبتْ فراشي بعد النهوض وكوت ملابسي ، ومشطت شعري ، ودعتني الى الوقوف امام المصور، ثم ارسلتني الى عاليه! سافرت وحدي الى بيروت ثم ركبت سيارة (البوسطة) الذاهبة الى عاليه، فبلغتها ظهراً وسألت شرطياً فدلني على بيت نعمت وديزي الامير، فتناولت الغداء عندهما ثم خرجنا للتمشي..عاليه مدينة مزدحمة جداً وقد علمت من الصديقتين ان فريد الاطرش ينزل في عاليه في فندق طانيوس ومعه سامية جمال وعبد السلام النابلسي، ومن اجل نقل اخبار هؤلاء النجوم اليك قررتُ ان اراهم لاسيما فريد الاطرش المطرب الكبير، خاصة ان نعمت وديزي تشاهدانه كل يوم في الشارع او في الكباريه الخ ولذلك خرجنا بعد العشاء متوجهات الى حيث الفندق، وانتظرنا طويلاً لكن حضرته اعتصم داخل الفندق ولم يغادره! وفي الشارع رأينا عبد السلام النابلسي فقط.
قضيت الليلة في بيت نعمت وديزي الامير:الخميس ثاني ايام العيد، كانت معي ديزي فذهبنا الى بيروت لشراء بعض الاشياء من السوق ، وما كدنا نصل البرج "مركز بيروت" حتى وقع نظرنا على اعلان كبير على باب سينما "اوبرا": (عنبر) فاقترحت ديزي ان ندخل فوافقت ، واسرعنا فقطعنا تذكرتين ودخلنا. اغاني الفلم بديعة خاصةً "مين ينصف المظلوم" اما اغنية "دوس على الدنيا" فلها في الفلم موقع سخيف جداً مع انها اغنية جميلة. قصة الفلم مفككة تشبه قصة "قلبي دليلي" تمثيل ليلى مراد ايضاً. الفلم كوميدي مضحك جداً، وعموماً فلم "عنبر" هذا ممتع برغم سخافة قصته وعدم انسجام حوادثها ، وليلى مراد فيه محبوبة جداً. لاحظي انه فلم استعراضي ، وقد مثل انور وجدي فيه دور مدير احد المسارح وقائد فرقة الجاز فيه.
تخيليه! لقد كان مضحكاً حقاً.
ظهراً غادرت بيروت الى ضهور الشوبر، صباح السبت . غادرنا المخيم ، وكان الوداع كئيباً فقد اعتدنا رفقة كثيرات، واصبح لكل منا صديقات خاصة انا. لقد اقترحت على جورجيت ان تحضر الى العراق فقالت انها ستفكر. وانا اشعر الآن بوحشة كبيرة وفراغ ضخم في نفسي. ها نحن الآن في بيروت ، اكتب هذا في البنسيون، وقد ابيتُ ان اخرج مع الزميلات لأن "نهلة مروة" ستحضر لتأخذني الى الأونيسكو لتفرجني على الجامعة الامريكية.
البنسيون الذي نسكنه يطل على البحر، ويقع مقابل الجامعة الامريكية بحيث ننصب ساعاتنا مع ساعتها كل صباح.
اول من امس دعتني ناهدة عسيران الى صيدا، فذهبت معها وتناولت الغداء في بيتها الواقع في الطابق الرابع من عمارة يسكنها آل عسيران الذين هم من اغنى الملاّكين في صيدا. وهي مدينة ساحرة تقع على البحر الصخري الشواطئ وتغسل تربتها الامواج الثائرة باستمرار، وقد راقتني مزارع صيدا البديعة وجلسنا طويلاً نطلّ على البحر ونرقب الامواج العاتية. يا للسماء ما اروع البحر! انه باختصار شيء يبعث جنون الجمال في الروح.
وألحت ناهدة الحاحاً شديداً ان اقضي الليلة عندهم قائلة انه من غير الممكن ان تتركني عائلة عريقة كآل عسيران اعود الى بيروت في المساء، ولكنني اصررت على العودة لان الصديقات ينتظرنني في البنسيون ، وهكذا عدت الى بيروت في الليل، الا ترين انني اصبحت شجاعة؟
امس سافرنا الى زحلة عروس المدن اللبنانية واستغرقت الرحلة ساعتين، ومررنا بالكحالة وعاليه وبحمدون وصوفر الخ ثم هبطنا الى سهل البقاع البديع، واستقبلتنا "شتورة" الحلوة الرقيقة ، ثم توجهنا الى زحلة الفاتنة ، يا لها من مدينة ساحرة!
لقد خلبت ألباب الزميلات جميعاً ، وكادت كل منهن تفقد عقلها كما قلن ، واجمعن على انها اروع مكان في لبنان، وأبرز ما فيها كثرة المياه، فحيثما توجهت سمعت دويّ عين متفجرة او شلال تهبط مياهه بقوة، وهناك (وادي العرائس) المشهور الذي كتب فيه شوقي قصيدة (يا جارة الوادي) حيث أُقيمتْ المقاهي العديدة الرائعة. هذه المقاهي أقيمتْ على حافة وادي الماء الجارف البارد جداً الذي تحفّ به من الجانبين ، وقد نظمتْ المقاهي تنظيماً بديعاً ، وترين مع هذه الرسالة صورة لي عند حوض يتوسط واحداً من المقاهي، وتشاهدين الماء ينحدر من فوق الصخور.
إن هذه المقاهي شيء رائع حقاً لم يسبق لي ان شهدت مثله، وانت تجدين فيها آلافاً من الناس يجلسون على المناضد الأنيقة ويستمعون الى الاغاني العربية او يرقصون او يغنون او يلتقطون الصور، الحرية هنا مطلقة، ويتصرف المرء كما يروقه من دون قيود. كانت رحلة امس تغص بالعراقيين على غير موعد او اتفاق ، قابلت وسلمت علي كثير من المعارف والاقارب.
لقد كان العراق كله في زحلة امس!
اليوم نحن في بيروت ، زارتني صباحاً جورجيت وشقيقتها وقضينا النهار معاً، وتناولنا الـ mud وهو نوع لذيذ من الدوندرمة في مقهى فيصل ، ثم ذهبنا الى بلاج "سان سيمون" وخلعنا أحذيتنا وخضنا في الماء المالح المحرق، ثم عدنا الى الفندق، واعقبنا ذلك بجوله طويلة في اسواق بيروت ومكتباتها.. في بيروت كتب رائعة لكنني لم اشتر شيئاً لغلاء اثمانها، بشكل مزعج.
انني مشوقة اليكم جداً وقد اصبحت احلم بالعودة الى بغداد ولن تطول اقامتي هنا اكثر من اسبوع ، بيروت حارة ، حرارتها لاتطاق ولا اظنكم تعانون مثلها. الى اللقاء ياعزيزتي سعاد..
بلغي احترامي وحبي الى ابي وامي واخوتي جميعاً.
هذه الرسالة بدأتها في زحلة وأتممتها في بيروت.
المخلصة ?
عزيزتي احسان
هذه ثاني رسالة أبعث بها اليك، وكانت الاولى من بيروت، وتاريخها أمس، وكتبتها لغرض طمأنتكم على راحتي، لا للتعبير عن مشاعري، ووصف مشاهداتي خلال الرحلة التي طالت ثلاثاًً وعشرين ساعة. وسأبدأ القصة من أولها، راجية ألا اثرثر طويلاً على عادتي في الرسائل!
عندما تحركت بنا سيارة "تيرن" من بغداد، ورأيتكم ترفعون أيديكم مودعين، شعرت بغصة في اعماقي لم تفارقني حتى بلغنا الفلوجة بسيارتنا المريحة، ثم وصلنا الرمادي، وانبسطت في طريقنا بحيرة الحبانية بمائها الازرق الجميل، بعد ذلك بساعة تعشينا، وهبط الليل العميق، وأشرق الهلال الطفل وراح يرمقنا بعينيه البريئتين، الا ان سلوك الهلال لم يكن على نحو ما اعتدنا في بغداد، فحين أطلت من النافذة أحدق في القفار قفز قلبي قفزتين ورسم علامة تعجب كبيرة في الهواء.
رأيت الهلال، على البعد، ساقطاً فوق الأرض!! ألا تصدقين؟! كان منظراً عجيباً نبّهت الزميلات اليه، فحدثت ضجة في السيارة وقالت: "أراكسي بدروسيان" انها خائفة من هذا المنظر الغريب فلا بد ان شيئا قد حدث في السماء فأسقط القمر على الارض على اننا خسرنا المنظر بسرعة، فنحن في الصحراء نرى الافق البعيد دون عائق، ولذلك بدأ الهلال وكأنه ساقط على الارض.
لغنا الرطبة في منتصف الليل، وهي آخر نقطة عراقية قبل حدود سوريا فهبطنا وشربنا الشاي في كازينو هناك، وبعد ان ارتحلنا غادرنا المكان بالسيارة ودخلنا الصحراء برمالها ورياحها وجدبها وغبارها، فأغلقنا النوافذ اغلاقاً تاماً، ولبسنا المعاطف الصوفية وبقينا نرتجف فاستعملنا البطانيات، فالتفت كل واحد منا بها ثم نام الكل ما عدا أختك التي وجدت في فكرة عبورها الصحراء أول مرة شيئاً يستأهل السهر وخفقان القلب من شدة الحماس.. بادية الشام هذه الارض الماحلة الجدباء التي تنعدم فيها الحياة ويحكمها الصمت والنسيان، كانت السيارة تسير وانا في سورة من الشعر. وكان هناك بيت واحد من الشعر يتردد في ذهني:
طالت بنا الصحراء حتى خلتها أبد الأبيد
ولا أدري من بعث هذا البيت من مدفن الذكريات؟ المهم ان قائله هو الشاعر علي الجارم الذي كان قد عبر هذه الصحراء مثلي بسيارة "نيرن" بدليل قوله:
وسفينتي "نيرن" بها ما في فؤادي من وقود
ثم استولى علي النعاس، فأغلقت عيني ونحن في الرابعة صباحاً، ولما استيقظت في الصباح، رأيت الصحراء من جديد، وفي التاسعة اصبحنا نسير الى جانب سلسلة جبال جرداء ادركنا منها اننا نسير على تربة سورية، وبها انتهت الصحراء، ثم لاحت لنا "ابو الشامات" اول نقطة بعد الحدود السورية، وهبطنا هناك وسألنا عن الساعة فعلمنا انها الثامنة صباحاً وهكذا عشنا هذه الساعة مرتين! ولما تم تأشير جوازاتنا عدنا الى السيارة، فانبسط امامنا طريق شاعري اخضر تمتد على يمينه سلسلة طويلة جداً من الجبال. سوريا!! يا لها من جنة ساحرة، لقد امتلأت روحي برقتها وعذوبتها، الطريق من ابي الشامات الى دمشق يطول ساعة واحدة ولكنها ساعة تنفلت في دقائق بحساب الشعور، والذي يعبر هذه الساعة، يهرب من افعوان الزمن. ومررنا بعدة مدن صغيرة ثم بلغنا دمشق. دمشق باختصار جنة على الارض، تقوم المدينة بين جبال شاهقة تحف بها من جهتين وتمنحها مياهها الباردة. وشوارع دمشق لا تنبسط دائما ترتفع وتنحدر، وانت تسيرين في شارع، وترفعين راسك فترين فوقك على مسافة امتار شارعا آخر تسير فيه عشرات السيارات وهي مع ذلك مدينة كبيرة بعماراتها الحديثة العالية وببنوكها وشركاتها ودوائرها الحكومية، وهذا كله شيء لا نراه في شمالنا الحبيب الذي ما زالت طبيعته فطرية دونما تنظيم. لا شك ان يد الانسان تصنع المعجزات، ودمشق خير دليل على ذلك، فهذه المدينة قد مستها عصا ساحر رفيع الذوق فحولتها الى هذه الروعة. باختصار دمشق فردوس شاعري الجمال.
الجبال في سوريا ولبنان عموما شاهقة الى حد مخيف وهي تختلف عن جبالنا في الموصل، الا ان جبال حاج عمران مثلها في العلوّ لكنها أي الحاج عمران أغزر مياهاً واخصب تربة واكثر فاكهة من جبال سوريا ولبنان، ومع ذلك فلبنان أجمل من شمال العراق، اذ يخيم الاهمال على جبالنا، مما يجعل الارتياح الكلي اليها مستحيلاً.
بلغنا دمشق في الحادية عشرة، وبقينا فيها نصف ساعة استبدلنا خلالها السيارة باخرى من سيارات الشركة تلائم الجبال، ومنذ غادرنا الشام ابتدأت في حياتي فترة رائعة، دمعت خلالها عيناي تاثراً بالجمال الآلهي الذي تفيض به هذه اليوتوبيا التي تقوم في الجبال.
وفي بلدة (دُمّر) بعد دمشق رأيت اشجار القوع بكثرة وسألت عنها فقيل لي انها اشجار "الحور" ويظهر ان هذا هو اسمها هنا، المهم انني تاثرت تأثراً شديداً، وحييتها كما أحيي صديقة قديمة.
وفي جبل (ميسلون) رأيت عين ماء ضحلة اضحكني اهتمام السكان بها. نحن في شمال العراق نسير ست ساعات كاملة بالسيارة على حافة وادٍ تنحدر اليه شلالات مدوية من كل جبل نمرّ به، ولا احد يهتم بها، في حين يقيمون هنا فوق شيء، اسميه عين ماء تجوزاً، مقهى، ويبيعون الماء بالنقود، فيا لنا شعباً كسولاً لا تطربه مغنية الحيّ!!
اخيراً هبطنا الى سهل البقاع الساحر. هنا يعجز القلم عن الوصف. نحن الان في لبنان لا سوريا، وقد أشرت جوازاتنا في مخفر شرطة الحدود. طريق سهل البقاع تحف به اشجار الصنوبر والحور، وفهمت لماذا سمي "سهل البقاع" فهو اولاً سهل واسع جداً ومنبسط، يقوم بين سلسلتين من الجبال الشاهقة، ثم هو ذو بقاع تختلف كل بقعة منها بلونها وتربتها عن الاخرى، وتوجد فيه عدة مصايف اهمها "شتورة" بمفاهيمها الشاعرية، وبيوتها الصخرية ذات السقوف الحمراء، وبساتينها الخضراء، ويخترق سهل البقاع طريق ربما كان اجمل طريق شاهدته طيلة حياتي، بعد ذلك بدأنا نرتقي جبل (دار البيضا) الشاهق، فلاح لنا سهل البقاع اشبه بمدينة صغيرة. وبعد مصايف صغيرة اخرى رحنا نسير على مسافة وادٍ هائل العمق، اعمق مرات عديدة من وادي الموت تحت "العمادية"، وفي اعماق الوادي تقوم بلدة (برُمّانة). كم تمنيت ان تكونوا معي لتستمعوا بكل هذا الجمال.
ثم وصلنا (صُوفَر) المصيف الذي تتدرج بناياته الفخمة الحديثة فوق الجبال، ولاح لنا البحر من بعيد محفوفاً بالغيوم والضباب لبعده عنا، بعد ذلك بلغنا (بحمدون) وأظنه اكبر مصايف لبنان ومن أجملها، أشدها ازدحاماً بناياته الحديثة ذات الطبقات العديدة وفنادقه وحوانيته التجارية الخ، بعد ذلك وصلنا "عَاليَه" وهي مصيف كبير، شديد الازدحام ، وكل هذه المصايف فراديس ساحرة، والجبال فيها شاهقة بشكل مخيف وخطر، أنت قد رأيت جبال العراق وعشت فيها الا ان لبنان اروع من العراق عشرين مرة! وجمال الجبال هنا ينتمي الى صنف آخر غير جمال جبالنا في الشمال.
ولهذا يصعب عليك التخيل اخيراً بدأنا نهبط الى بيروت، ولاحت لنا المدينة القائمة على شاطئ البحر، وهبَّ في وجوهنا هواء ساخن، بعد برودة الجبال. شوارع بيروت ضيقة وليس فيها شارع رئيسي وعماراتها عالية حديثة، والمهم أنني أحببتها إذ لاحت لي مدينة مثقفة تخيم عليها روح العلم.
وعند نزولنا الى بيروت خفق قلبي بحدة عندما رأيت البحر بعد طول حنيني اليه منذ طفولتي.. وقفت بنا السيارة في (الزيتونة) عند شاطئ البحر. وانطلقت وعبرت الشارع ووقفت عند السياج احدق في البحر الازرق الممتد الى ما لا نهاية، ثم نوديت للذهاب الى مقر : (y.w.c.a) في بيروت، وعند الوصول رأيت شيئاً مغرياً وجدت مكتبة كبيرة حافلة بالكتب قرب المقر، واطل عليَّ من نوافذ المكتبة مؤلفات ادبية فرنسية وانجليزية طالما بحثت عنها سدىً في مكتبات بغداد، وكان مقر (جمعية الشابات المسيحيات) يقع في الطابق الخامس من عمارة عالية، وكان علي الصعود اليها مع زميلاتي على الرغم من تعبنا بعد سفرتنا الطويلة التي استمرت ثلاثاً وعشرين ساعة دون استراحة، واستقبلتنا في مقر الجمعية مديرة المكان بلطف قائلة: (كيف حالكن؟ أهله وسهلة بيكن)، وقادتنا الى مغاسل نظيفة، اراحتنا من شعورنا المستمر بأننا مغبرون شُعْثٌ! وما كدنا ندخل غرفة الاستراحة حتى اسرعت الى منضدة عليها اوراق وجلست اكتب اليكم رسالتي الاولى، وحين انتهيت منها خرجت الى الشرفة، فرأيت البحر البديع منبسطاً من ناحية والجبال السامقة الهائلة قائمة من ناحية اخرى، وبيروت بشوارعها وعماراتها تقوم بينهما، ونحن في الطابق الخامس نرى الناس والسيارات من أعلى، يا لها مكاناً ساحراً بيروت هذه. ثم خرجت مع زميلتَّي رمزية وسعاد، لنتفرج على البحر، وانتهينا الى فندق كبير يقع عند البحر كتب عليه بحروف بارزة اسم الراقصة سامية جمال التي تعمل فيه، وقد بحثت عن اسم فريد الاطرش فلم اجده، بعد ذلك مررنا بقبر الجندي المجهول الكائن في الزيتونة على شاطئ البحر، تغطيه الأكاليل وتحفّ به حديقة، واتكأنا الى السياج ورحنا نحدق في البحر، ومرّت بنا سيارة الجمعية والتقطتنا لترتقي بنا الجبل الى المخيم، الان بدأنا نرتفع مغادرين بيروت، وكان امامنا ساعة كي نصل الى "ضهور الشوير" مصيفنا المقصود، ورحنا نصعد الى علو شاهق سيبلغ حين نصل الى "ضهور الشوير" 5600 قدم فوق سطح البحر، وبدأنا نرتقي ونرتقي حتى اصبح البحر يبدو كأنه ضباب وارتفعنا في دروب حلزونية تسير الى اعلى ابداً كانها تنوي ان توصلنا الى السماء. وقد عمق الوادي عمقاً هائلاً لا يستطيع القلم ان يصوره. الآن اصبحنا أعلى من الغيوم كلها، وهي تحتنا تلفع المصايف كلها وتمتد على صورة رائعة، وسألت احدى الزميلات الى اين نصعد؟ انني اموت رعباً، فضحك السائق الماهر وقال: "انتظري لم يزل امامنا صعود" ، واندفعت السيارة من جديد الى اعلى فوق الغيوم، فبلغنا مصيف "بكفيا" الفاتن ببيوته الانيقة وفنادقه الفخمة، وبعد ذلك لم نعد نرى قعر الوادي فلا شيء الا الغيوم والضباب واصبح الجو بارداً رطباً فارتدينا المعاطف بعد حرارة بيروت. اخيراً بلغنا ضهور الشوير لكن السيارة بقيت مندفعة الى الامام الى أعلى، وحين بلغنا أعلى قمة في المصيف ارتقينا في ممّر من اشجار الصنوبر أدى بنا الى خيامنا الكبيرة ووقفت السيارة اخيراً فارتقينا مشياً على الاقدام الى مخيمنا فوق الغيوم، في السماء، واستقر بنا المقام في المخيم في السادسة مساء، فعكفنا حقائبنا، ونعلق ملابسنا، والمخيم منظم جداً ومريح الى حدّ يروقني، فالخيام من النوع الكبير ذي السقف العالي، بحيث نستطيع ان نمشي ونتحرك كما نشاء وفي خيمة كل منا ثماني زميلات منهن اميمة وهند ورمزية وأراكسي وروز الخ والخيمة مجهزة بالكهرباء وفيها دولابان واسعان علقنا فيهما ملابسنا. ومصيف ضهور الشوير أجمل مصايف لبنان، والمناظر الطبيعية التي تنبسط امام الساكن فيه اروع من اية مناظر، فالبحر يبدو من بعيد، وفوقه تضرب الشمس كل مساء، والوديان المحيطة بقمتنا مكسوة باشجار الصنوبر.
وفي الليل يحدق المرء، فيرى الجبال مرصعة بشبه نجوم، هي اضواء المصايف الشاعرية العديدة التي تحيط بجنتنا. في الليل يموت الانسان برداً هنا، وما يكاد الظلام يهبط حتى يصبح الجو رطباً بحيث يكاد كل شيء يبتل ونضطر الى الاختباء داخل الخيمة من شدة البرد مع ارتداء كل ما لدينا من ملابس الشتاء، بل حتى نضطر الى ان نلف اجسامنا بالبطانيات، ونبقى نرتجف. احدى الزميلات قالت انها لو كانت تعلم ان الحياة في ضهور الشوير شتاء دائماً لما حضرت الى لبنان اطلاقاً، وقد استفدت من بطانياتي الاربع واستعملتها جميعاً من اجل الحصول على الدفء وسأطلب الى المخيم تجهيزي ببطانية اخرى، اليوم، وبسبب الرطوبة هو علو المصيف ثم ان الجو هنا غائم في اغلب الاحيان، اننا نعيش في الغيوم تماماً الغيوم يسمونها هنا (الغطيطة).
صباح اليوم استيقظت مصابة بصداع خفيف على اثر السفرة الطويلة، فنصحتني "المراقبة" ان انام حالاً، فجلست في الفراش اكتب اليكم هذه الرسالة الطويلة، وجاءتني المراقبة بمقياس الحرارة فظهر ان حرارتي طبيعية تماماً.
اليوم ذهبت كثير من الزميلات الى بيروت لشراء بعض الحاجيات ولم اذهب انا لانني آثر ان احتفظ بنصائح والدتي ما دمت متعبة، وعليَّ ان ارتاح، بجانبي الآن "اراكسي" تكتب الى اسرتها كما افعل انا. الصداع عندي قد خفَّ، ومنذ دقائق خرجت فسرت على حافة غابة الصنوبر، وفي ريعان الظهيرة، وتحت الشمس لكن الهواء القارس أعادني بانتظام الى قواعدي في الخيمة!
هذه الرسالة جعلتها طويلة لأنها اول رسالة، ولن تكون رسائلي التالية بهذا الطول، فأنا اثري ان اطالع واكتب قصائد ومذكرات. لاحظوا انني لم اكتب حتى الآن يومياتي ولذلك أرجو الاحتفاظ برسائلي حتى أعود.
بدأت بقراءة مسرحية الأشباح لابسن بالانجليزية ارجو تبليغ تحياتي الى امي وأبي وأخوتي جميعاً وسائر الاقارب والاصدقاء.
المخلصة: نازك الملائكة
استدراك: اكتبي اليَّ يا احسان حالاً رسالة طويلة، حدثيني فيها بألف شيء عنكم جميعاً، هل تسلمتم ؟ ديواني (شظايا ورماد) احفظوه كما اتفقنا ولا تطلعوا عليه أحداً، لا تنسي انك (وكيلة أعمالي) كلها في غيابي.
ضهور الشوير 4/7/1949
***
ضهور الشوير4 -7 - 1949
عزيزتي سها
اكتب اليك من قمتي الفاتنة في ضهور الشوير تحف بي اشجار الصنوبر، وعلى مقربة ترتفع الجبال المكللة بالجليد وتسبح فوقها الغيوم السحرية.
إن الحياة هنا هي في حد ذاتها تهذيب للنفس، وربما لذَّ لك يا عزيزتي ان احدثك عن نوعية الحياة التي نحياها هنا، فوق قمة أعلى جبل مسكون في لبنان حيث تنصرم أياي في اسلوب حلو يغلب عليه السلام والجمال والبساطة، واليكِ برنامج حياتنا في المخيم.
نستيقظ في السادسة والنصف فجراً، فنلبس ثياباً صوفية ومعطفاً ونهرع لغسل أوجهنا في المغاسل.
وفي السابعة نجتمع حول العلم اللبناني الذي يتوسط المخيم فنقدم له التحية على ان اعضاء المخيم ينتمون إلى شعوب مختلفة كالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن وانجلترا وأميركا وبولندا، فنحن نكاد نكون عصبة أمم، ولذلك يغلب أن نتكلم الانجليزية في اجتماعاتنا، ثم ساعة الفطور في خيمة مكشوفة تشرف على البحر والجبال المجاورة، وفي الثامنة توزع علينا أعمال المخيم مثل التنظيف وغسل الصحون وجلب الحطب والمساعدة في الطبخ، وملء اوعية الماء للشرب وسوى هذا من الأعمال البسيطة التي نقوم بها ضاحكات وهكذا يبقى المخيم نظيفاً مريحاً، وقبيل التاسعة تبدأ الصلاة المسيحية، وتقرأ علينا فصول من الكتاب المقدس، بعد ذلك، تلقى علينا محاضرتان تستمر كل منهما خمسين دقيقة، تتخللها فرصة راحة قصيرة وهذه المحاضرات اجتماعية غالباً، وكانت محاضرة اليوم حول فائدة كتابة المذكرات واليوميات، بالنسبة للشابات والشبان، وتنتهي المحاضرات في الحادية عشرة والنصف. ونتناول الغذاء في
الثانية عشرة والنصف. بعدها نرتاح حتى الثالثة والنصف، اما برنامج ما بعد الظهر فهو اروع ما يمكن ان تتخيلي. ففي الثالثة والنصف تبدأ دروس الموسيقى، والتمثيل، والرقص الريفي، والرسم. وتختار كل منا ما تشاء من هذه الدروس، واخترت انا الموسيقى طبعاً، ولو كانت معنا احسان لاختارت الرسم، فمعنا سيدة قديرة ترشد الزميلات في هذا الباب لاسيما رسم مناظر الطبيعة الحيّة، وقد حفظت حفنة من الاغاني الرقيقة الشاعرية التي تصف الجبال والبحار وتتغنى بالنجوم وتدعو إلى الحب والسلام، وبعضها يثيرني إلى درجة ذرف الدموع.. ثم نخرج للنزهة في مصيف ضهور الشوير الكبير الفخم بشوارعه الجميلة الواسعة ومقاهيه المنظمة وكازينواته وفنادقه، فنمشي طويلاً نرقب الجبال ونجمع اثمار الصنوبر، ونتكلم اللهجة اللبنانية مع اصحاب الحوانيت الكبيرة الفخمة الجميلة، ويزدحم المصيف في يومي العطلة السبت والأحد، كما تزدحم بغداد عصراً، حتى يصعب علينا السير وعبور الشوارع..
في السابعة مساءً نحتفل بانزال العلم ونقدم التحية للشمس الغاربة، وهذه الفعالية شعرية جداً، نجلس كلنا على كراسي منخفضة من الحصير، في حلقة تواجه الشمس الغاربة على البحر، وننشد بضعة اناشيد رقيقة بالانجليزية، أو نجلس صامتين وهو ما أفعله أنا باستمرار. ثم العشاء في السابعة والنصف، وفي الثامنة والنصف يبدأ السمر، وفيه تتلى علينا قصة، أمس سمعنا قصة لموباسان، أو تقوم الزميلات بتمثيل مسرحية قصيرة، وأروع ما في هذه الأماسي ما نسميه هنا "نار المخيم" إذ تطفأ الأنوار الكهربائية جميعاً، ونبقى في ظلام دامس ونحن نجلس في دائرة كبيرة منتظمة تتوسطنا كومة من الحطب والشوك، تحفّ بها أربع فتيات ثم تتقدم أحداهن، وتحيي النار لأنها رمز الطهر، وتتقدم الفتاة الثانية، وتحيي النار لأنها رمز الحب والصداقة، والثالثة لأنها رمز النور، والرابعة لانها رمز الحرارة، بعد ذلك توقد النار ونحن في صمت عميق وخشوع، وننشد نحن بعدها بالانجليزية (اشتعلت النار، نار المخيم تعالوا لننشد معاً في المساء، لنغن ولنكن مرحين" ثم نغني ما نشاء بالعربية والانجليزية واللاتينية أحياناً. في التاسعة والنصف ليلاً تنتهي فعاليات اليوم فنجتمع في حلقة متماسكة وننشد أنشودة شعرية مؤثرة عن "الصداقة القديمة": (أعطني يدك يا أخي وخذ يدي، ولنكن اصدقاء) ثم ننصرف في خيامنا. وفي العاشرة تطفأ الأضواء في كل المخيم، وننام كلنا. لا أكتمك يا صغيرتي المحبوبة انني أحياناً أتبرم بهذه القيود، إلا انني استفيد منها شعرياً، ونفسياً، فقد زايلني الشعور بالذات، وهو الكابوس الذي يطاردني دائماً، إلا ان الفكرة العامة عني بين اللبنانيات انني "صامتة" جداً.
في اليومين الأولين من وصولنا كنت مرتاحة جداً لأن الزميلات لا يعرفن اسمي، ثم تلي اسمي ذات صباح، فتحولت الانظار إليّ وتعالت الهمسات من كل جهة "الشاعرة"، "عاشقة الليل" على ان أياً منهن لم تقرأ شعري!! إلا انني ما اكاد أجلس حتى توجه إليّ الاسئلة، وتنهال عليّ الطلبات: (بحياتك موش تكتبيلنا شي عن المخيم) أو (دخلك عندك شي قصيدة عن الجبال)!!
على ان هذه الشهرة قد افادتني في حدود المخيم، قفد جاءت احدى المرشدات إليّ وسألتني: أأنا مرتاحة؟ ثم زادت وقالت ان من الخير لي أن أعفى من اعمال التنظيف وجمع الحطب فشكرتها. وأخبرتها أنني سأقوم بواجباتي كلها:
في المخيم تعرفت إلى آنسة سورية من حمص اسمها (آنجيل عبود) وكانت قد اصدرت كتاباً في الاسبوع الماضي عنوانه "شهداء" وأمس أمضيت معها عدة ساعات فعرفت انها أحضرت معها إلى المخيم مكتبة صغيرة!! أكثرها مؤلفا أدبية فرنسية منها مؤلفات سارتر، وزولا، وموباسان، وأكثر ما تقرأ القصص القصيرة لأنّ هذا ميدانها. المهم انني سررت لأنني عثرت على فتاة تصرف راتبها كله على الكتب، وفي الليل تلوت عليها قصائدي "صراع" و"كبرياء" و"انا" فأحبت قصيدة كبرياء.
زميلاتي العراقيات عموماً في شوق حادّ للعراق، وأمس حاولنا الاستماع إلى محطة الاذاعة العراقية، فلم نعرف مكانها مطلقاً كيف انتم والموسيقى؟ انني هنا في نعيم، فمعنا اسطوانات كلاسيك كثيرة لفاجنر، وتشايكوفسكي، وبرليوز، وكريك، وشوبرت، وماندلسون، وقد استمعنا أمس إلى السمفونية الحزينة" لتشايكوفسكي، "وبحيرة البجع" له ايضاً. ما أعظم فاجنر واعجب العجب عبارة تشايكوفسكي المشهورة (أي دون كيشوت قد كان فاجنر!). هل امضي في حديثي عن المخيم؟
أرجو ألاّ تتخيل احسان ان مخيم الشابات المسيحيات W.C.A. لا كمخيمنا في سرسنك العام الماضي، فهو يكاد يكون بيتاً منتظماً مريحاً، نحن نأكل على موائد طويلة، ونجلس على كراسي جبلية من الخشب والخوص، في خيمة خاصّة تشرف على الوديان والجبال ومن بعيد يبدو لنا البحر، وفي المخيم نادٍ كبير يتوسطه راديو جيد، وجهاز جرامفون كهربائي مجهز بأحدث الاسطوانات الموسيقية الكلاسيك والغنائية والراقصة، وحتى التعليمية التي تتحدث عن مواضيع مثل "الموسيقى في أميركا" او "منشأ موسيقى الجاز" وسوى هذا. وفي النادي مكتبة صغيرة ومنضدة كبيرة للكتابة وهي تحفل بكثير من المجلات والكتب. ويضم النادي ما يقرب من سبعين كرسياً مريحاً. وفي المخيم ممرضتان لهما خيمة خاصة مجهزة بصيدلية صغيرة، فلا تكاد اية واحدة منا تشعر بوعكة حتى تكون احدى الممرضتين عند رأسها. وفي المخيم مخزن صغير لبيع الفاكهة وعلب الطعام والسكائر والدفاتر والجوارب وحتى الكتب! (لاحسان ونزار وسعاد عثرت على الدفاتر الجميلة التي اوصوني بشرائها، وسأحضر معي عدداً كافياً منها).
الضباب هنا أي الغيوم التي نعيش بينها اضطراراً، شيء رائع.. انني اقف مساءً احدق في الجبال فأرى الغيوم تركض حولي حتى تغلق (المراجيح) الأربع في المخيم، وحتى لا نعود نرى شيئاً يبعد عشرين متراً، ما عدا اشجار الصنوبر العنيدة المتحدية، فكل شيء غيرها أبيض كالجليد الذي يغطي الغيوم. وان الرطوبة التي تبلل معطفي وحذائي انما هي ذرات الغيوم لا غير. يا لها غيوماً قاسية، حتى ثيابي داخل الحقيبة لم تنجُ من شراستها.
خلال اليومين القادمين سنذهب إلى بيروت لنشاهد فلماً سينمائياً ونجلس على شاطئ البحر ساعات، وفي يوم السبت سنسافر إلى الأرز حيث نتزحلق على الجليد، ونزور مغارة "تاديشا" ذات الستلاكتايت والستلاكمايت، ثم نزور قرية "بشري مدفن جبران خليل ونرى "اهرون" الساحرة، وسنبيت في الأرز، وهناك سأكتب اليكم رسالة مطولة عن مشاهداتي.. اعتذر عن المضيّ في الكتابة يا سوسو لأن صافرة المخيم تكاد ترنّ معلنةً بدء دروس الموسيقى والرسم والرقص الشعبي على ان هذا البرنامج المعقد سينتهي في الأسبوع القادم، وننال بعده حرية كبيرة. تحياتي إلى كل الصديقات لاسيما فاطمة وسنية بلغي تحياتي القلبية إلى جدتي هواية وأخوالي جميعاً وأعمامي وعمّاتي وخالاتي وابنائهم وبناتهم ولا تنسي أحداً منهم.
فأنا شديدة الشوق إليهم جميعاً، وإليك وإلى اخواتي وإلى اخوي أجمل التحيات.
نازك
***
ضهور الشوير في 10-7-1949
احسان العزيزة
اشواق وأشواق وأشواق تملأ نهاري وليلي أحلاماً بكم، وتخيلاً للحياة التي تعيشونها في العراق العزيز. ها أنا أمسك بالقلم، وقد اعترى كل شيء حولي ذلك الجمود الرتيب الذي تألفه الظهيرة في كل مكان فأشجار الصنوبر ساهمة جامدة، والجبال الجبارة تجثم في برود ولا مبالاة وكأنها تحتضن الظهيرة نفسها، وكل شيء هادئ ساكن سوى ذلك الحيوان النشيط الذي يئزّ طيلة النهار:
انا هنا في المخيم مرتاحة وحياتي منظمة وهي تروقني جداً.
ولا شيء يضايقني إلا ان كل انسان في المخيم يرمقني باستغراب واعجاب لأنني شاعرة!!
يوم الجمعة ذهبنا إلى بيروت صباحاً، وبقينا فيها حتى السادسة مساءًَ، وأظنك سمعت عن حرِّ بيروت ورطوبتها، ذهبنا إلى السوق واشترينا بضعة اشياء، ودخلنا مقهى صغيراً واكلنا "البوزة" الدوندرمة، وتناولنا غداءنا في مطعم "اوندين" في الزيتونة على شاطئ البحر. كان منظر البحر رائعاً بزرقته الرهيبة. وبقينا هناك ساعتين، ثم خرجنا ومررنا بمكتبة ابتعت منها كتاب "عشيق الليدي جاترلي" الشهير بلغته الانجليزية الجميلة التي اشتهر بها د. هـ. لورنس، واشتريت مجلة الأديب بضعف ثمنها في بغداد أليس هذا غريباً؟؟
في المخيم معي الأديبات: انجيل عبود القصصية السورية والآنسة نهلة مروة المحررة في مجلة "صوت المرأة" وسوف تنشر قصيدتي "يوتوبيا الضائعة" في المجلة كما أعدت كلمة عني وعن وجودي في لبنان الآن، وعن شعري، وهي من أقارب كامل مروة صاحب جريدة "الحياة" والاستاذ حسين مروة الكاتب المعروف.
يوم الجمعة القادمة سأذهب إلى بيروت تلبية لدعوة من الآنسة "ادفيك جريديني" الكاتبة المعروفة، وهي ممن يكتبون في (صوت المرأة).
والآن سأحدثك عن "جورجيت نويصر" أقرب فتاة إلى نفسي هنا وقد أصبحت من أعز صديقاتي في الواقع، انها فتاة طويلة القادمة، شاحبة الوجه، شاعرة الروح إلى حدّ المرض، عميقة الثقافة، تجيد اربع لغات اوربية اضافة إلى اجادتها العربية فهي تحسن الايطالية والفرنسية والانجليزية، كلاماً وقراءة وكتابة كما انها تعرف الالمانية، وهي تقرأ كثيراً. ولجورجيت طريقة غريبة في الشعور بالأشياء ووصفها، بحيث تخلق منها شيئاً أصيلاً.
تخيلي هذا.. نحن نسير في الوديان المنبسطة، فتنحني فجأة وتجهد نفسها في قطف عرق من الشوك، وأقف انا متعجبة، حتى تنتهي، ثم تقف وتقول وهي تحمل العرق الشوكي: "هذا هو الله، وهذا هو الانسان، وهذه هي الطبيعة"
ولا تنتهي القصة هنا فاذ ذاك تروح تبحث عن صخرة مثقوبة تصنع منها مزهرية، وأشهد أن الغصن والصخرة يكونان صورة رائعة على المنضدة أمامي الآن. هذه الفتاة غريبة في عمق حِسّها ورهافة نفسها. أمس خرجنا في نزهة على ضوء القمر فأصرت على ان نجلس صامتتين لنصغي إلى ضفدعة كانت تلغط في بركة ماء قريبة، وقد أبقتنا في حالة صمت كامل مدة نصف ساعة، كانت خلالها تكلم الضفدعه أحياناً بكلام رقيق. ثم انها ذات ثقافة عميقة في الموسيقى الكلاسيك وتحب من الموسيقيين المعاصرين: سيبليوس ورخمانيغوف وسترافنسكي، ومن القدماء فاجنر وبرامز، وهي تحفظ أكبر مجموعة من الأغاني الانجليزية الجميلة وكذلك الايطالية وقد حفظتني مجموعة لا بأس بها من هذه الاغاني، في خيمتها منضدة عليها كتبي وكتبها، وانا طيلة النهار معها وثالثتنا صديقتنا المرحة أنجيل عبود، وهي فتاة رياضية الروح وصريحة. ولو عرفت والدتنا العزيزة مقدار العناية التي ألقاها من جورجيت وآنجيل لقبّلتهما. منذ يومين كنت مسؤولة عن غسل مجموعة من الصحون ودفعتني جورجيت عن المغسل وغسلت كل الصحون مكاني، وكانت حجتها ان بعض الناس خلفوا لأعمال الفكر السامية فحسب!! وهي على المائدة تجلس بجانبي وتبذل جهوداً مستمرة في اقناعي على الأكل والتغلب على خجلي. جورجيت مدرسة النشيد في المخيم، وفي الأسبوع القادم ستكون هي رئيسة المخيم، ونحن في الصباح نقرأ او نكتب، أمس قرأنا كثيراً من شعر (إوكار الن بو)، إلا ان انجيل لا تحب شعره، ولذلك غادرتنا وهي تقول: (انا او ادكاريو.)!! وجورجيت تحب شعري وتقول انه يعبر عن افكارها دائماً، وأحبت آنجيل قصيدتي "الخيط المشدود في شجرة السرر" و"كبرياء" في حين أحبت جورجيت "عروق خامدة" حباً كبيراً كما تعلقت بقصيدة "صراع".
أظن أن عيد الفطر قريب، وسأشتري ثوباً جديداً ارضاءً لوالدتنا التي تصرّ على ان نلبس شيئاً جديداً في العيد قضيت ظهيرة اليوم مع الأديبة نهلة مروة، نتحدث عن اشياء كثيرة منها إعدام أنطون سعادة زعيم الحزب القومي وأظنكم قرأتم كل شيء في الصحف وسمعتم الأنباء في الراديو، أعدم بتهمة التآمر على سلامة الجمهورية، وقتل موظف معين في الشرطة، مع تهم أخرى.
عصر اليوم فوجئت مفاجأة رائعة، عندما كنت أجلس في خيمتي، اتحدث عن موعد العودة إلى بغداد في اوائل آب القادم فقد رفعت رأسي فوجدتني أحدق في نعمت وديزي الأمير، فقفزت من مكاني إليها. نعمت قد اصبحت بدينة كأغلب المتزوجات!! إلا ان روحها ما زالت رقيقة. وقد مكثتا معي في المخيم ساعةً، والتقطنا عدة صور معاً، ثم خرجت معهما، وسرنا طويلاً نحو بيت أقارب لهما، وهناك رأيت بنت نعمت: وداد الحلوة. انها باختصار master picce وتملك جاذبية طفولية نادرة. وقد غادرتنا نعمت وديزي نحو "عالية" في اول الليل، وسأزورهما في الأسبوع القادم في "عالية" لقد حدثتك عن جورجيت طويلاً، لأنني اشعر بأنك ستعرفينها يوماً، وتحبينها، ولم أنبئك بعد انها فلسطينية، من اللاجئين إلى لبنان، اما آنجيل عبود فهي سورية من حمص.. (هبطت المخيم الآن ثلاث فتيات من الحبشة، وهن يتكلمن معنا بالانجليزية طبعاً.
في هذا الاسبوع سألقي على الزميلات في المخيم ببرنامج ليلتين: ثلاث قصائد "صراع" و"كبرياء" و"لنكن أصدقاء"، يتخلل ذلك كلمة عني تلقيها احدى المرشدات، وفي الليلة الثانية سأعد برنامجاً عن تشايكوفسكي وحياته وموسيقاه. أترين؟ انني هنا بشخصيتي الأدبية الانسانية.
تلقيت رسائلكم.. الف شكر، وسأكتب اليكم مفصلاً.
تحياتي القلبية لأبوي العزيزين، وإليك وإلى الاخوات وإلى اخوي.. الف قبلة إلى عزيزتي (ميسون) التي اشتاق إلى عينيها الجميلتين وقبلاتي إلى اخويها عادل ونسرين، تحياتي الحارة لجميع الاصدقاء والصديقات.....
اختك نازك
***
ضهور الشوبر- لبنان
24 / 7/ 1949
عزيزتي احسان
الف انتفاضة قلبية واشتياقة مني اليك والى ابويَّ واخويَّ واخواتي الاعزاء جميعاً، أنني أحيا هنا حياة كسل واحلام مستمرة لا اصنع خلالها أي شيء معين حتى القراءة ، نعم انا لا اقرأ الآن شيئاً مع كثرة الكتب التي تملأ المكتبة امامي، كتب كثيرة منوعة ، شعر فلسفة، قصص نقد وسير حياة بالعربية والانجليزية والفرنسية الا اننا ، كما تقول جورجيت نكتفي بشعور الاستمتاع بأن خيمتنا تحتوي على كل هذه الكتب البديعة ، فنحن لانملك لحظة فراغ نقرأ فيها . لقد انتقلت الى خيمة جورجيت وآنجيل ، وهي افضل خيمة في الميخم كله، اذ تشرف على واديين، ونستطيع منها رؤية بيروت بأضوائها النجمية ليلاً،
ومن خلفها البحر الرهيب بسواده الغامق، وتنبسط حولنا ليلاً اضواء مصايف الكحّالة وعاليه وبحمدون وبرمانة وصوفر. انتقلت الى خيمة جورجيت وانجيل منذ خمسة ايام، جورجيت وانجيل مرشدتان في المخيم..جورجيت هي الآن القائدة العليا للمخيم ، وقد بقيت تلح عليَّ ان انتقل الى خيمتها، كي لا اضطر الى الخضوع لقوانين المخيم وكي استطيع القراءة والكتابة بحرية، وها انذي مرتاحة اكبر ارتياح وقد علقنا صورة الرسام "فان كوخ" على الجدار. بجوار سريري منضدة صغيرة للكتابة. وفي الخيمة دولاب للملابس، ومنضدتان تضع جورجيت عليها أصص الازهار التي تجمعها كل يوم ، فضلاً عن اشيائنا الاخرى. في الخيمة مغسل ، وكراسي نستعملها حين نجلس امام الخيمة ، وخيمتنا هي الوحيدة التي تضاء بمصباحين كهربائيين بدلا من المصباح الواحد الذي تحتوي عليه كل خيمة.
اما عن حياتي الشعرية فهي راكدة ولا افهم السر ولا شغل لي غير كتابة المذكرات والرسائل الطويلة العريضة اليكم:
منذ يومين رحت اشكو الى انجيل ركودي الشعري هذا فأقنعتني بأنه ركود وقتي ، بعد فورة "شظايا ورماد"، على ان حياتي الادبية ليست راكدة. منذ ايام لبيت دعوة مجلة "صوت المرأة" فذهبت الى بيروت وقصدت ادارة المجلة واستقبلتني الصحفية المعروفة السيدة "ادفيله جريديني"، وتعرفت هناك بالشاعر نقولا فياض الذي حضر لرؤيتي حين علم انني سأزور المجلة
كذلك قابلت رئيس التحرير الشاعر فؤاد سليمان. وقد تلوت على الحاضرين قصيدة "الافعوان" وقصيدة "خرافات" فاحبوهما جداً وكان تعليق فؤاد سليمان ان شعري لايمثل العراق ولايمثل السمعة النسوية وانه شعر فردي النزعة، وغير متأثر بالنزعة المحلية في العراق ، ولا في سائر البلاد العربية. وجدت في قوله مدحاً جميلاً لشعري. بعد ذلك تلا علينا الدكتور فياض قصيدتين من شعره الجيد، وهو من الشعراء المجددين في لبنان. وحين كنت اغادر المكان اقترح فؤاد سليمان ان اسجل جلسة شعرية بالاشتراك مع بعض الشعراء اللبنانيين ، لتذاع في محطة الشرق الادنى ، فترددتُ ثم وافقت "لا اظن ترددي يعجبك وهو كذلك لايعجب جورجيت التي تشبهك اكثر مما تتخيلين في طريقة نظرها الى شعري وحياتي"، وذهبنا حالاً الى محطة الشرق الادنى على شاطئ البحر في الطابق الخامس من عمارة عالية، واستقبلنا هناك السكرتير الذي ظهر انه يعرفني وانه قرأ عاشقة الليل، واتفقنا على التسجيل يوم الجمعة ، ثم دعتني السيدة ادفيك بإلحاح الى تناول الغداء في دارها. فذهبت وتغديت هناك ، ويقع بيتها على البحر، وقضيت الوقت معها حتى الخامسة مساءً، وقد حضر خلال ذلك بعض الشعراء : رشدي وحلمي المعلوف، وفؤاد سليمان (الاولان من عائلة شاعرنا المفضل فوزي المعلوف) وطلبوا ان اسمعهم شيئاً من شعري ، فتلوت قصيدة "كبرياء" وجنّوا بها ، كما هو المنتظر، (لقد احدثت هذه القصيدة دوّياً هنا، انني اغار منها على شعري الباقي، لأنني فيما يلوح لم اكتبْ بعدها ما يوازيها!) ثم تلوا هم بعض قصائدهم، وقد أحببتُ شعر فؤاد سليمان الذي يحمل الطابع اللبناني اعني رمزية الالفاظ والاوزان القصيرة ، والموسيقى والتأثر بالطبيعة.
في الخامسة غادرنا دار السيدة ادفيك، واوصلوني جميعاً الى "البرج" وهو مركز بيروت، ومن هناك أخذت اول سيارة الى ضهور الشوبر. اما الجلسة الشعرية في محطة الشرق الأدنى فقد سجلت يوم الجمعة الماضي، واشترك فيها معي رشدي المعلوف وفؤاد سليمان. وتبدأ الجلسة بعبارة (عاشقة الليل ونازك الملائكة اسمان جميلان احببناهما منذ حين..الخ ). ثم وجه اليّ رياض المعلوف سؤالاً عن تطور شعري في "شظايا ورماد" فأجبت عليه ، وتلوت مقاطع من قصيدة (وجوه ومرايا) وقصيدة "رماد" ثم تلا كل من الزميلين قصيدتين، واختتمت الجلسة بمقطعين من قصيدتي "جامعة الظلال". وسوف تذاع هذه الجلسة في يوم 17 آب في الثالثة مساء ، وتعاد اذاعتها في 18 آب في الساعة عينها، فلا تنسوا الاستماع اليها والارجح انني سأكون معكم في بغداد عندئذ.
في الاسبوع الماضي دعتني الآنسة "دنيا مروة" لتناول الشاي مع مجموعة من مرشدات المخيم (دنيا هي شقيقة كامل مروة صاحب جريدة الحياة). وقابلته عندها كما قابلت هناك بعض العراقيات.
شاهدت في بلدة "بكفيا" فلم (دكتور جيكل ومستر هايد) واستمتعت به استمتاعاً عظيماً، وانا اراه للمرة الثانية، واتذكر كل تفاصيله، ان الناس يجدون صعوبة في التذكر، اما انا فيصعب عليَّ ان انسى هذه مصيبة بالنسبة لي اذ تحرمني من لذات كثيرة، امس سافرنا الى "برمانة". وتغدينا فيها. والبلدة تشرف على بيروت كلها، وصنوبرها رائع وكذلك سروها. حين سأعود الى بغداد ستلاحظون عليَّ تطوراً لابأس به وذلك من تأثير حياتي في المخيم. عموماً اصبحت غير خجولة.
في التاسع والعشرين سنغادر المخيم ونسكن في بيروت لمدة اسبوع الا اننا لن نمكث فيها وانما سنسافر كل يوم الى مكان ، فنزور "بيت الدين" وزحلة وبحمدون وعاليه وصيدا وسواها من مدن جنوب لبنان (شمال لبنان رأيناه كله خلال رحلتنا الى الارز) وسوف اذهب غداً الى عاليه لزيارة الصديقتين (نعمت وديزي الامير). سنغادر لبنان في 7 آب الى سوريا حيث سنقضي بضعة ايام في دمشق الفاتنة التي تركت في انفسنا جميعاً اثراً عميقاً..انني املك اصدقاء في دمشق وقد تلقيت ثلاث دعوات من سوريين لزيارتهم عند وصولي، انت ترين ان سفرتي الى لبنان تكاد تصبح رحلة ادبية محضة، اعرف ان هذا يسرك ، وألاحظ إنني معروفة جداً، في لبنان وسوريا. الحكومة اللبنانية تطارد القوميين بعصبية وحدة. ويوم الخميس أعدم ستة من القوميين رمياً بالرصاص. كان ذلك امراً فظيعاً لم اتحمله.
ما افظع الانسان وما اقساه!
تسلمت رسالتك الاخيرة يوم 22 تموز.
اشكرك على تهنئتك على قبعتي التي اشتريتها بما يعادل 150 فلساً فقط ! ان كثيراً من الاشياء تباع هنا بأسعار زهيدة الا ان كثيرامنها ايضاً تباع باسعار مرتفعة جداً ومنها الكتب.
اقترب العيد وقد ارسلت اليكم بطاقة تهنئة ارجو ان تكون وصلتكم. الناس في ضهور الشوبرمسيحيون وقلما اقابل مسلمين فيها. تتحدثين عن بغداد وغبارها وحرها، واضطرار اخواتنا على "الانبطاح" على الكاشي الرطب دونما حصير من شدة الحرّ!!
ما اجمل هذه الامور المألوفة. انها من بعيد تلوح لي كما تلوح النجوم غامضة وجميلة وبراقة ، وانا اسلي نفسي هنا بشراء هدايا لكل منكم، واحس انه ألذّ ما اقوم به من اعمال! اميمة وجورجيت تبلغانك تحياتهما. انجيل معجبة جداً بك، اما رأيها فيّ أنا، فهو على حد تعبيرها، انني اتكالية وغير طبيعية على العكس من جورجيت التي تؤكد لها انني طبيعية تماماً. على انهما معاً تؤمنان بأنني انسان بريء وانني مثالية idealist وسدىً احاول أنْ اقرأ لها قصيدتي "جمود" و"نداء الى الموتى"!! بلغي سلامي الى ابويّ والى جدي واخوالي جميعاً والى عماتي والى عمي علي ، والى جميل "خالي" والى كل الصديقات والقريبات. عثرت على تمثال لموزارت اظنني ساشتريه الا انني اتردد خوفاً عليه من ان يتحطم في طريق العودة . خمسون تحية لعصام ونزار ولبنى وسها وسعاد! انني مشتاقة اليكم، والرجوع الى العراق بعد فراق هذا الشهر شيء احلم به باستمرار.
نازك
***
زحلة ـ لبنان - الاحد 31 تموز عام 1949.
عزيزتي سعاد.
ادرج في رسالتي هذه اليك بضعة اخبار تهمك من حياتي هنا. غادرنا ضهور الشوبرامس وسكنا في بنسيون على البحر في بيروت ، وسنبقى في بيروت حتى منتصف نهار الخميس المقبل حيث سنغادرها الى دمشق فنبقى فيها يومين، ونسافر بعدها الى بغداد.
اسعد الله ايامكم. اما ايامي انا خلال العيد فقد كانت باردة ليلة العيد احسستُ بكآبة حين تذكرت بعدي عنكم، وانه اول عيد اقضيه بعيداً عنكم.
والواقع ان الغربة تجعل للاشياء قيماً غير التي نعهدها، وقد أحسست هذا المعنى ليلة العيد احساسا كلياً. كانت ادارة المخيم قد اصطحبت الفتيات جميعاً الى وادي بولون المجاور، ولم اشعر بالرغبة في الذهاب، فقد رأيت ان افكر في بغداد والعيد وحدي.
وهكذا بقيتُ في المخيم الواسع الفارغ الذي بدا لي موحشاً بعد ان غادره سكانه المرحون. كان الصمت مطبقاً، ولا صوت الا حفيف الصنوبر، وصوت ارتطام الهواء بالخيام. واخيراً لم أعدْ احتمل الوحدة، فخرجت الى الأرجوحة ، ورحت أهزّ نفسي ، كان الهواء بارداً مشبعاً بالغيوم الكثيفة، فأحسستُ برعشة البرد وتركت الارجوحة مضطرة.. وفجأة سمعت اصواتاً فاذا خمس زميلات يتعشين، آه ما اشدّ حبّ الانسان للناس. لقد شعرت بأنني عثرت على كنز : وجلسنا نتناول العشاء فلاحظت ان الزميلات كلهن مسلمات ، ما عدا واحدة، كنا ننتمي الى شعوب مختلفة: عراقية وسورية ولبنانية وفلسطينية وبولندية الا ان كونهن مسلمات سرّني لاول مرة في حياتي، فالغربة كما قلتُ، تغير مقاييس الاشياء. كانت اللبنانية كئيبة مثلي لفراق اسرتها وانت تعرفينها: الآنسة ناهدة عسيران قريبة الدكتور شريف عسيران، وهي من مدينة صيدا. جلسنا نتحدث عن العيد والغربة نعم ان ضهور الشوبرمسيحية لكنّ الصعّادات ظلت تتفجر حتى منتصف الليل احتفالاً بالعيد . لم يبق فندق الا اقام احتفالاً كبيراً صاخباً حضره مئات من الناس.
في صباح العيد أيقظتني جورجيت قائلة: كل عام وانت بخير، ان جورجيت ياعزيزتي سعاد صديقة نادرة الى حدّ لايصدق. انني لولاها لكنت ضائعة في الخيم وانت تعلمين مقدار حاجتي الى انسان كإحسان يقود حياتي ويدبر اموري العملية ، لقد قامت جورجيت بأضعاف ما كانت تقوم به احسان تخيلي. رتبتْ فراشي بعد النهوض وكوت ملابسي ، ومشطت شعري ، ودعتني الى الوقوف امام المصور، ثم ارسلتني الى عاليه! سافرت وحدي الى بيروت ثم ركبت سيارة (البوسطة) الذاهبة الى عاليه، فبلغتها ظهراً وسألت شرطياً فدلني على بيت نعمت وديزي الامير، فتناولت الغداء عندهما ثم خرجنا للتمشي..عاليه مدينة مزدحمة جداً وقد علمت من الصديقتين ان فريد الاطرش ينزل في عاليه في فندق طانيوس ومعه سامية جمال وعبد السلام النابلسي، ومن اجل نقل اخبار هؤلاء النجوم اليك قررتُ ان اراهم لاسيما فريد الاطرش المطرب الكبير، خاصة ان نعمت وديزي تشاهدانه كل يوم في الشارع او في الكباريه الخ ولذلك خرجنا بعد العشاء متوجهات الى حيث الفندق، وانتظرنا طويلاً لكن حضرته اعتصم داخل الفندق ولم يغادره! وفي الشارع رأينا عبد السلام النابلسي فقط.
قضيت الليلة في بيت نعمت وديزي الامير:الخميس ثاني ايام العيد، كانت معي ديزي فذهبنا الى بيروت لشراء بعض الاشياء من السوق ، وما كدنا نصل البرج "مركز بيروت" حتى وقع نظرنا على اعلان كبير على باب سينما "اوبرا": (عنبر) فاقترحت ديزي ان ندخل فوافقت ، واسرعنا فقطعنا تذكرتين ودخلنا. اغاني الفلم بديعة خاصةً "مين ينصف المظلوم" اما اغنية "دوس على الدنيا" فلها في الفلم موقع سخيف جداً مع انها اغنية جميلة. قصة الفلم مفككة تشبه قصة "قلبي دليلي" تمثيل ليلى مراد ايضاً. الفلم كوميدي مضحك جداً، وعموماً فلم "عنبر" هذا ممتع برغم سخافة قصته وعدم انسجام حوادثها ، وليلى مراد فيه محبوبة جداً. لاحظي انه فلم استعراضي ، وقد مثل انور وجدي فيه دور مدير احد المسارح وقائد فرقة الجاز فيه.
تخيليه! لقد كان مضحكاً حقاً.
ظهراً غادرت بيروت الى ضهور الشوبر، صباح السبت . غادرنا المخيم ، وكان الوداع كئيباً فقد اعتدنا رفقة كثيرات، واصبح لكل منا صديقات خاصة انا. لقد اقترحت على جورجيت ان تحضر الى العراق فقالت انها ستفكر. وانا اشعر الآن بوحشة كبيرة وفراغ ضخم في نفسي. ها نحن الآن في بيروت ، اكتب هذا في البنسيون، وقد ابيتُ ان اخرج مع الزميلات لأن "نهلة مروة" ستحضر لتأخذني الى الأونيسكو لتفرجني على الجامعة الامريكية.
البنسيون الذي نسكنه يطل على البحر، ويقع مقابل الجامعة الامريكية بحيث ننصب ساعاتنا مع ساعتها كل صباح.
اول من امس دعتني ناهدة عسيران الى صيدا، فذهبت معها وتناولت الغداء في بيتها الواقع في الطابق الرابع من عمارة يسكنها آل عسيران الذين هم من اغنى الملاّكين في صيدا. وهي مدينة ساحرة تقع على البحر الصخري الشواطئ وتغسل تربتها الامواج الثائرة باستمرار، وقد راقتني مزارع صيدا البديعة وجلسنا طويلاً نطلّ على البحر ونرقب الامواج العاتية. يا للسماء ما اروع البحر! انه باختصار شيء يبعث جنون الجمال في الروح.
وألحت ناهدة الحاحاً شديداً ان اقضي الليلة عندهم قائلة انه من غير الممكن ان تتركني عائلة عريقة كآل عسيران اعود الى بيروت في المساء، ولكنني اصررت على العودة لان الصديقات ينتظرنني في البنسيون ، وهكذا عدت الى بيروت في الليل، الا ترين انني اصبحت شجاعة؟
امس سافرنا الى زحلة عروس المدن اللبنانية واستغرقت الرحلة ساعتين، ومررنا بالكحالة وعاليه وبحمدون وصوفر الخ ثم هبطنا الى سهل البقاع البديع، واستقبلتنا "شتورة" الحلوة الرقيقة ، ثم توجهنا الى زحلة الفاتنة ، يا لها من مدينة ساحرة!
لقد خلبت ألباب الزميلات جميعاً ، وكادت كل منهن تفقد عقلها كما قلن ، واجمعن على انها اروع مكان في لبنان، وأبرز ما فيها كثرة المياه، فحيثما توجهت سمعت دويّ عين متفجرة او شلال تهبط مياهه بقوة، وهناك (وادي العرائس) المشهور الذي كتب فيه شوقي قصيدة (يا جارة الوادي) حيث أُقيمتْ المقاهي العديدة الرائعة. هذه المقاهي أقيمتْ على حافة وادي الماء الجارف البارد جداً الذي تحفّ به من الجانبين ، وقد نظمتْ المقاهي تنظيماً بديعاً ، وترين مع هذه الرسالة صورة لي عند حوض يتوسط واحداً من المقاهي، وتشاهدين الماء ينحدر من فوق الصخور.
إن هذه المقاهي شيء رائع حقاً لم يسبق لي ان شهدت مثله، وانت تجدين فيها آلافاً من الناس يجلسون على المناضد الأنيقة ويستمعون الى الاغاني العربية او يرقصون او يغنون او يلتقطون الصور، الحرية هنا مطلقة، ويتصرف المرء كما يروقه من دون قيود. كانت رحلة امس تغص بالعراقيين على غير موعد او اتفاق ، قابلت وسلمت علي كثير من المعارف والاقارب.
لقد كان العراق كله في زحلة امس!
اليوم نحن في بيروت ، زارتني صباحاً جورجيت وشقيقتها وقضينا النهار معاً، وتناولنا الـ mud وهو نوع لذيذ من الدوندرمة في مقهى فيصل ، ثم ذهبنا الى بلاج "سان سيمون" وخلعنا أحذيتنا وخضنا في الماء المالح المحرق، ثم عدنا الى الفندق، واعقبنا ذلك بجوله طويلة في اسواق بيروت ومكتباتها.. في بيروت كتب رائعة لكنني لم اشتر شيئاً لغلاء اثمانها، بشكل مزعج.
انني مشوقة اليكم جداً وقد اصبحت احلم بالعودة الى بغداد ولن تطول اقامتي هنا اكثر من اسبوع ، بيروت حارة ، حرارتها لاتطاق ولا اظنكم تعانون مثلها. الى اللقاء ياعزيزتي سعاد..
بلغي احترامي وحبي الى ابي وامي واخوتي جميعاً.
هذه الرسالة بدأتها في زحلة وأتممتها في بيروت.
المخلصة ?