مصوبا صوتي نحو النافذة المغلقة ناديت بصوت واضح، ولم يرد، (في الليل، وفي هذه المنطقة المتطرفة، لا يكون من اللائق رفع الصوت أكثر مما ينبغي).
شرس، يتناوش الناس بأسنانه، ويخمشهم بأظافره، لكنني أقسم أن في داخله طفلا متهدجا في بكائه المكتوم.
ناديت، ولا مجيب.
جئته في الموعد المبرم، ومن المفترض أن يفتح النافذة الآن، ويلوح لي إيذانا بالصعود لشقته التي استأجرها مضطرا في الدور الرابع في البيت الشعبي، وعليه أن ينزل ليناولني من يدي؛ لنتخطى النساء الجالسات على عتبة البيت، وفي صحنه، وعلى درجات السلم المؤدي إلى باب الشقة، بيت ضيق وبعيد لم يختره عن قناعة، ولكنه أرغم عليه؛ لضيق الوقت، وذات اليد، رغم أن بيت أبيه شاخص هناك في مكان أرقى، ويتسع له ولأبنائه، لكن ماذا عساه أن يفعل في المضايقات التي يتعرض لها كل لحظة؟ إلا أن يرحل عنه، غير مأسوف عليه، وعلى من فيه.
ناديت وناديت، ولم يرد.
مساحة هذا البيت لا تزيد عن أربعين مترا، ويبدو إلى جانب البيوت المتراصة دمية قميئة بين ظلام لا تكسره إلا الأضواء الخافتة؛ ولأنه في أطراف المدينة، فهو يضم أدنى فئات المجتمع، والناس والجيران – هنا - وجوههم غريبة، لكنهم طيبون، متدنو الحال وبسطاء، جافون وشرسون، متطفلون وودودون، يقضون جل وقتهم أمام البيوت التي يقتصر دورها على استضافتهم للنوم ليلا، أو استعمال دورات المياه بها عند الحاجة الملحة، أما مع الحاجة غير الملحة فقد يكون الشارع مكانا مناسبا لها في أي زاوية في الظلام، وجباتهم يتناولونها في العراء، لا خصوصية هنا، والقادم مثلي إلى هذه المنطقة مراقب من رأسه حتى قدميه.
ناديت بصوت عال، واهتز الشيش المغلق، ولاحظت خيالا يتحرك من خلفه، لكن لم أميزه بوضوح.
في الصباح قبل أن يدعوني لزياته همس متألما " أجبرتنا أخواتنا البنات، وزوجات الأخوة على ترك بيوت آبائنا لهن، دون أن يراعين حق القرابة، أو يمنحن أبناءنا طود الرحمة"، وأضاف: "كيف لهن أن يستعدين أميَّ عليَّ وعلى الزوجة والأبناء، ويتآمرن علينا بكل هذا الغل؟!".
ناديت بصوت أعلى، والحركة تنشط خلف الشيش المغلق، وخيالات الأشخاص تبدو أكثر سرعة ووضوحا.
أردت أن أخفف عنه، فذكرت له بعض النكات، تجاوب معي، وانخرطنا في ضحك مصطنع أبله (هل للمتألم أن يضحك ضحكا عفويا بريئا؟ لا أظن) وفي أثناء مزاحنا الملفق، وتظاهرنا بالسعادة المفتعلة قال مازحا: "في شهر رمضان - الذي أنزل فيه القرآن- تصفد الشياطين، لكن الصغار -أبنائي- يقومون بدور العفاريت والشياطين معا، فهم لا ينامون إلا بعد الفجر، ويستيقظون قبل المغرب مباشرة، دون أن أقوم بالأعباء الرجولية المطلوبة؛ ولأنه لا أمل لدي هذه الليلة أو في غيرها في هذا الشهر المبارك، فأنا أدعوك لتناول بعض الحلوى الرمضانية ، وسأنتظرك مساء بعد صلاة التراويح".
ناديت وناديت بصوت أعلى وأعلى؛ دفعني لذلك ما قرأته في وجوه الجيران من الاستنكار المفرط، وقد بدا لهم أني فارض نفسي عليه فرضا، وأنه لا يرغب في مقابلتي.
لعله الآن يقوم بأعبائه الرجولية المطلوبة، قلت في نفسي، وربما سرب الأبناء لبعض الوقت، وقررت أن أنصرف، لكن الصوت الأخير كان عاليا جدا، وقد أدرك أن منظره سيكون غير لائق، أمام الجيران الذين يعلمون بوجوده؛ فهم يعرفون ما في بيته أكثر مما يعرفه شخصيا، وحينها ارتج الشيش بعنف، وفتح الزجاج، وأطل برأسه المقلوبة لأسفل وقال: "من من"، وكررها مرتين، فقلت له: "أنا أنا"، وكررتها مرتين، قال: "سأنزل سأنزل" وكررها بعنف.
تخطى النسوة الجالسات على العتبة ومرق إليّ متوترا، وكان وجهه يتقطر عرقا، وشعره متناثر هنا وهناك؛ لذا تأكد لدي أنه كان ينفذ أمرا مشروعا وحيدا في هذا الشهر الفضيل، وقد فضحه إلى جانب ما ذكرت ارتباكه الشديد، وشيء من خجل مكتوم، واحمرار في عينيه ينشأ غالبا من تناول أقراص دوائية مخصوصة، باغته معتذرا: "اسمح لي بالانصراف، يبدو أني جئتك في موعد غير مناسب"، وكاد أن يسمح لي، لكنه قرأ في أعين الجالسات على العتبة استنكارا واضحا، فتراجع وتمسك وأقسم أيمانا غليظة أن أصعد معه، وإن لم أفعل فسيكون آخر ما بيننا.
باغته: "هل الصغار في الشقة الآن؟"، قال: "نعم"، فقلت في نفسي: "أخطأت في تقديري، والرجل لم يكن يؤدي شيئا من واجباته المفروضة"، وصعد أمامي السلم ليفسح الطريق، وأنا وراءه منتصرا أسير، ولكني لاحظت أشياء أخرى، كان العرق يغطي جسده بالكامل، والجلباب قد التصق عليه بإحكام ، ومن خلال ضوء السلم الساقط عليه دققت فيه من الخلف، وتأكد لدي أنه لا يرتدي ملابس داخلية بالمرة، لم تكن هناك أية علامة لشيء علوي يحيط بالصدر ويحز في الرقبة، و لم يكن يرتدي غيرها سفلية؛ فقد كانت إليتاه ترتجان أو بالأحرى (تترجرجان) بعنف في صعوده السريع للسلم.
"يااااه لقد أخطأت بقدومي إليه ليتني لم أفعل"، وتضايقت كثيرا.
دلف إلى الشقة، كانت همسا، والأشياء والأغراض مرمية ومبعثرة في كل مكان، يبدو أن صاحبنا هذا غير نمطي، ولا تقليدي، فهو لا يرتبط بمكان بعينه، وسألته على الفور سؤالا خبيثا: "أين أبناؤك الصغار إذن؟!" قال وهو ينكس رأسه: "في الحقيقة أنا سربتهم"، فضحكت وضحك، ولأول مرة نضحك من قلبينا، نضحك معا بصدق نادر، وأقسمت أن أنصرف، قال: "لا والله ما تمشي، خلاص الليلة باظت يا روح أمك"، واستمر في الضحك والضحك، وأنا أضحك وأضحك، وربما كانت هي المرة الأولى والأخيرة للضحك اللامحدود الخالص.
شرس، يتناوش الناس بأسنانه، ويخمشهم بأظافره، لكنني أقسم أن في داخله طفلا متهدجا في بكائه المكتوم.
ناديت، ولا مجيب.
جئته في الموعد المبرم، ومن المفترض أن يفتح النافذة الآن، ويلوح لي إيذانا بالصعود لشقته التي استأجرها مضطرا في الدور الرابع في البيت الشعبي، وعليه أن ينزل ليناولني من يدي؛ لنتخطى النساء الجالسات على عتبة البيت، وفي صحنه، وعلى درجات السلم المؤدي إلى باب الشقة، بيت ضيق وبعيد لم يختره عن قناعة، ولكنه أرغم عليه؛ لضيق الوقت، وذات اليد، رغم أن بيت أبيه شاخص هناك في مكان أرقى، ويتسع له ولأبنائه، لكن ماذا عساه أن يفعل في المضايقات التي يتعرض لها كل لحظة؟ إلا أن يرحل عنه، غير مأسوف عليه، وعلى من فيه.
ناديت وناديت، ولم يرد.
مساحة هذا البيت لا تزيد عن أربعين مترا، ويبدو إلى جانب البيوت المتراصة دمية قميئة بين ظلام لا تكسره إلا الأضواء الخافتة؛ ولأنه في أطراف المدينة، فهو يضم أدنى فئات المجتمع، والناس والجيران – هنا - وجوههم غريبة، لكنهم طيبون، متدنو الحال وبسطاء، جافون وشرسون، متطفلون وودودون، يقضون جل وقتهم أمام البيوت التي يقتصر دورها على استضافتهم للنوم ليلا، أو استعمال دورات المياه بها عند الحاجة الملحة، أما مع الحاجة غير الملحة فقد يكون الشارع مكانا مناسبا لها في أي زاوية في الظلام، وجباتهم يتناولونها في العراء، لا خصوصية هنا، والقادم مثلي إلى هذه المنطقة مراقب من رأسه حتى قدميه.
ناديت بصوت عال، واهتز الشيش المغلق، ولاحظت خيالا يتحرك من خلفه، لكن لم أميزه بوضوح.
في الصباح قبل أن يدعوني لزياته همس متألما " أجبرتنا أخواتنا البنات، وزوجات الأخوة على ترك بيوت آبائنا لهن، دون أن يراعين حق القرابة، أو يمنحن أبناءنا طود الرحمة"، وأضاف: "كيف لهن أن يستعدين أميَّ عليَّ وعلى الزوجة والأبناء، ويتآمرن علينا بكل هذا الغل؟!".
ناديت بصوت أعلى، والحركة تنشط خلف الشيش المغلق، وخيالات الأشخاص تبدو أكثر سرعة ووضوحا.
أردت أن أخفف عنه، فذكرت له بعض النكات، تجاوب معي، وانخرطنا في ضحك مصطنع أبله (هل للمتألم أن يضحك ضحكا عفويا بريئا؟ لا أظن) وفي أثناء مزاحنا الملفق، وتظاهرنا بالسعادة المفتعلة قال مازحا: "في شهر رمضان - الذي أنزل فيه القرآن- تصفد الشياطين، لكن الصغار -أبنائي- يقومون بدور العفاريت والشياطين معا، فهم لا ينامون إلا بعد الفجر، ويستيقظون قبل المغرب مباشرة، دون أن أقوم بالأعباء الرجولية المطلوبة؛ ولأنه لا أمل لدي هذه الليلة أو في غيرها في هذا الشهر المبارك، فأنا أدعوك لتناول بعض الحلوى الرمضانية ، وسأنتظرك مساء بعد صلاة التراويح".
ناديت وناديت بصوت أعلى وأعلى؛ دفعني لذلك ما قرأته في وجوه الجيران من الاستنكار المفرط، وقد بدا لهم أني فارض نفسي عليه فرضا، وأنه لا يرغب في مقابلتي.
لعله الآن يقوم بأعبائه الرجولية المطلوبة، قلت في نفسي، وربما سرب الأبناء لبعض الوقت، وقررت أن أنصرف، لكن الصوت الأخير كان عاليا جدا، وقد أدرك أن منظره سيكون غير لائق، أمام الجيران الذين يعلمون بوجوده؛ فهم يعرفون ما في بيته أكثر مما يعرفه شخصيا، وحينها ارتج الشيش بعنف، وفتح الزجاج، وأطل برأسه المقلوبة لأسفل وقال: "من من"، وكررها مرتين، فقلت له: "أنا أنا"، وكررتها مرتين، قال: "سأنزل سأنزل" وكررها بعنف.
تخطى النسوة الجالسات على العتبة ومرق إليّ متوترا، وكان وجهه يتقطر عرقا، وشعره متناثر هنا وهناك؛ لذا تأكد لدي أنه كان ينفذ أمرا مشروعا وحيدا في هذا الشهر الفضيل، وقد فضحه إلى جانب ما ذكرت ارتباكه الشديد، وشيء من خجل مكتوم، واحمرار في عينيه ينشأ غالبا من تناول أقراص دوائية مخصوصة، باغته معتذرا: "اسمح لي بالانصراف، يبدو أني جئتك في موعد غير مناسب"، وكاد أن يسمح لي، لكنه قرأ في أعين الجالسات على العتبة استنكارا واضحا، فتراجع وتمسك وأقسم أيمانا غليظة أن أصعد معه، وإن لم أفعل فسيكون آخر ما بيننا.
باغته: "هل الصغار في الشقة الآن؟"، قال: "نعم"، فقلت في نفسي: "أخطأت في تقديري، والرجل لم يكن يؤدي شيئا من واجباته المفروضة"، وصعد أمامي السلم ليفسح الطريق، وأنا وراءه منتصرا أسير، ولكني لاحظت أشياء أخرى، كان العرق يغطي جسده بالكامل، والجلباب قد التصق عليه بإحكام ، ومن خلال ضوء السلم الساقط عليه دققت فيه من الخلف، وتأكد لدي أنه لا يرتدي ملابس داخلية بالمرة، لم تكن هناك أية علامة لشيء علوي يحيط بالصدر ويحز في الرقبة، و لم يكن يرتدي غيرها سفلية؛ فقد كانت إليتاه ترتجان أو بالأحرى (تترجرجان) بعنف في صعوده السريع للسلم.
"يااااه لقد أخطأت بقدومي إليه ليتني لم أفعل"، وتضايقت كثيرا.
دلف إلى الشقة، كانت همسا، والأشياء والأغراض مرمية ومبعثرة في كل مكان، يبدو أن صاحبنا هذا غير نمطي، ولا تقليدي، فهو لا يرتبط بمكان بعينه، وسألته على الفور سؤالا خبيثا: "أين أبناؤك الصغار إذن؟!" قال وهو ينكس رأسه: "في الحقيقة أنا سربتهم"، فضحكت وضحك، ولأول مرة نضحك من قلبينا، نضحك معا بصدق نادر، وأقسمت أن أنصرف، قال: "لا والله ما تمشي، خلاص الليلة باظت يا روح أمك"، واستمر في الضحك والضحك، وأنا أضحك وأضحك، وربما كانت هي المرة الأولى والأخيرة للضحك اللامحدود الخالص.
(القصة منشورة بجريدة القاهرة، بجمهورية مصر العربية، العدد ١٠٩٥، السنة الحادية والعشرون، الثلاثاء ١٣- ٧ - ٢٠٢١م)