في " 30 تموز 2021 " أرسل إلي الصديق الباحث والمخرج المسرحي العراقي المعروف الدكتور قاسم بياتلي من إيطاليا " حيث درَس وتخرَّج هناك منذ ثلاثة عقود من الزمن ونيف "، أرسل إلي نصاً يفيض حنيناً إلى المكان : الوطن الممزق، من مكان يُلهب تمزقه الداخلي، تحت عنوان " إلى خليل في الغربة " ما يستهل به وثيق الصلة بموضوعنا هذا، وهو:
(تحوم النفس عطشى حول ثغر النهر الباسم. أيها الغريب، يا من ولدت من أحشاءالأرض، ومن بطن أمك، يا من هجرت أرضك لحاجة تطلبها، يا من تعيش غريباً بين أهلك، ألا تشعر بغربة في مملكة الله.
نظرة مفزوعة خرساء تبحلق في سماء ما بقى من تلك الذاكرة المهتزة من الخوف. ألم يكن حلمك بناء جسر بين ضفاف دلتا المشرق والمغرب في غربتك الغريبة، وضفاف النهرين الملتويين اللذين يجريان منذ الأزل في عالمك المرئي واللامرئي. ).
هذا التجاذب النفسي بين ما هو وجداني/ روحي وجغرافي، ومن خلال علاقتي به " حيث درَّس في جامعة دهوك " إقليم كردستان العراق " وكنا نلتقي بين الحين والآخر، تجمعنا ثقافة مشتركة بأكثر من معنى " تجاذبٌ يترجم علاقته بعمله المسرحي، وخياراته في الترجمة كذلك، وهو ضليع، لمن يتابعه في أسلوب الإخراج المسرحي لديه، وكتاباته، في هذا المنحى، وترجماته، وكيفية الربط بين هذا التوأم الفكري: النظري والعملي، في المسرح كصنعة وكبناء ثقافيين.
وهو الطريق الصعب الذي اختاره، إيماناً منه، أن في المسرح كعالم لا يخفي سحره المشروع، ما يحرّك الساكن في مجتمع عصي على التغيير، أو يثير مشاعر المقابل: المتفرج وتفكيره .
وفي هذا الكتاب ( التفكير في المسرح " دراسات في النظريات النقدية والتاريخية في المسرح " إعداد الدكتور الدكتور قاسم بياتلي )، وهو من إعداده وترجمته عن الإيطالية وممن درّسوه وتفاعل معهم من أساتذة طليان لهم بصمتهم في هذا الفن، يفيد من لديه رغبة في معرفة هذا الفن المركَّب، هذا الذي يمنح الكلمة الواحدة أبعاداً لا تحصى، من خلال الفضاء المسرحي الذي لا يحاط به .
كيف يمكن التفكير في المسرح ؟ هوذا السؤال الذي يطرَق به باب الكتاب ويشير إلى محتواه. التفكير في المسرح، هو توجيه النظر، كما يخيَّل إلي إلى أن التفكير في أصله حوار، مسرحي، بالنسبة إلى أي منا، في علاقه بنفسه، ووسطه، وبيئته ومن يحيطون به، ولو في صمت. ولعل التوضيح التالي" دراسات في النظرية النقدية والتاريخية في المسرحية " هو ما يحدَّد به سقف العنان، مساره، ما يعوَّل عليه نقدياً وتنوع مسالكه وممراته وكشوفاته ومؤثراته ومنغصاته، وما يدخل في سياق التاريخ وتتبع أزمنته ومن لهم رصيد بحثي، نقدي، كتابي، وإخراجي في بناء سرديات المسرح أو تعميقه أصولاً، وتوسيعه مجالات .
ماالذي يكوّن الكتاب؟
لا يخفى أن الدكتور اعتمد على خيار معرفي، ومكاشفة نقدية واستبصار للموضوع الأكثر استجابة لذائقته النفسية قراءة وقابلية تفعيل أثر بنسَبه المسرحي. فالخيار يعني في بنيته وجود أكثر مما مقدَّم، سواء جهة العناوين الفرعية، أو المضامين المختلفة والمتكاملة معاً كذلك.
نقرأ في التقديم ( إن البحوث الأربعة التي نقدمها للقاريء العربي هي عبارة عن مقترحات نظرية كتبها أربعة أساتذة في الجامعات الإيطالية قمنا بجمعها من مصادر متعددة : من المجلة الفصلية الإيطالية دفاتر مسرحية و من ملزمة دراسية ضمن منهاج التعليم في قسم الفنون و الموسيقى و العروض في جامعة بولونيا أثناء دراستي فيه، و من كتابات أخرى فكرية و نظرية للأساتذة الأربعة : فابريتزيو كروجاني و كلاوديو ميلدوليزي و فرانكو روفيني و فردناندو تفياني. و قمت بترتيبها في صيغة كتاب اخترت له عنوان التفكير في المسرح . دراسات في النظريات النقدية والتاريخية في المسرح.).
لعل بياتلي قدَّر أن مجرد التنويه إلى المصادر غير كاف، إذ لا بد من إضاءة لمن هو معمّق لفكرة الكتاب: كتابه هو بالذات، بما أنه هو المبادر إلى عملية الخيار والترتيب فالترجمة:
( إن البحوث التي قمنا بجمعها في هذا الكتاب لم تكن فقط دراسات نظرية مجردة، بل قد نشأت و نمَت في وسط وبيئة مسرحيه وثقافية زاخرة في حركتها. ولهذا جاءت مفعمة بروابط جدلية مع الحركة المسرحية في الواقع المادي (الملموس ) للمسرح. وطرحت نفسها بجرأة كبيرة كمقترحات تدعو إلى ضرورة خلق منهج جديد وحيوي يواكب التحولات الميدانية التي حصلت في مسيرة المسرح في القرن العشرين ، خصوصا بعد التغيرات الجذرية التي نبعت من تجارب المسرح الأوربي والأمريكي ، مثل تجارب الليفنغ ثيتر و تجارب المخرج ريجار شيشنر وبيتر بروك وغروتوفسكي و منظور أنثروبولوجية المسرح الذي تجسد في اعمال و كتب ايوجينيو باربا. ).
ثمة تاريخ مسمى ومضاء، تاريخ مرفَق بالأحداث والوقائع، ومن زوايا مختلفة، حيث إن الذين ينخرطون في اللعبة الفنية مسرحياً، يحملون عوالم متنوعة في أذهانهم. ويستشرفون قائمة المجتمعات التي تتشكل، وهي متجاورة، أومتداخلة كذلك، باسم المسرح بشخوصه وكائناته.
في بحث "التفكير في الفضاء المسرحي "لـ فابريتزيو كروجاني، هناك ما يكمن في الداخل، من خلال النشاط التفكيري، وما يصبح خارجاً من خلال إجراءات فنية، أي ما بات يُسمى على نطاق واسع بـ" الفضاء " وهو مسرحي هنا . الفضاء يعني الدخول في اللاتناهي، يعني إمكان القول والبناء المسرحيين، كما في أي عمل إبداعي، أو بحثي محرَّر من الثوابت أو المؤطَّرات، انطلاقاً من قدرات المسرحي، أي مجتمع مأهول بحيوية المسرح، ويثمنه ويتعلم منه واقعاً.
ويلعب التعريف دوراً موجباً في هذا الصدد، من خلال التالي:
(إن فضاء المسرح في ثقافتنا هو ليس من المعطيات الأولية، بل هو حصيلة لتفاعل معقد يتحرك ما بين قطبين : التصوير figuration)) و البيئة environment) ). وقد تم التفكير به كتعريف أولي، على اعتباره سند بصري لنص ما أو لنقل لفعل منجز أو مرويّ : فهو عبارة عن إسقاط فيزيقي أو صوري، مادي أو وهمي، يتموضع فيه تظاهر الفعل الدرامي، أي كمكان ملموس ومجازي للشخصيات.
وفي تعريف آخر يتم التفكير به على إعتباره فضاء الممثلين، ويحصل على مؤهلاته من خلال كونه منفصلاً، أي بإعتباره خارجاً عن الحياة اليومية المعتاده(extra –(daily في كونه مكاناً للعرض مخصصا للممثلين ولا علاقة له بالمتفرجين ( الصالة كانت رمزاً لذلك ).
ويتم التفكير به في درجة ثالثة، على إعتباره فضاء مخصصاً للعروض spectaculs) ) أي في إحتوائه على الخشبة والصالة سوية ( وكل الفضاءات المخصصة للخدمات وكقيمة معمارية, كبناية ).
فقد تم التفكير بالفضاء، كما نعرف، على اعتباره محدداً من قبل الحاجات ( الأشياء) أو على إعتباره حاوي للحاجات، فالفضاء المسرحي هو عنصر من هذه الصيغ للكينونه الثقافية للفضاء، وبطرق غير منفصلة عن مختلف الأشكال التعبيرية.
إن الفضاء المسرحي الذي يتم التفكير فيه كحاوي للحاجات والذي يضطلع فيه الفراغ شكلا ومعنى، يبحث عن تعريفات تشخصه قبل أن يتم ملؤه بالدراما والفعل.
أصبح فضاء المسرح من جديد، في وجوده الواعي وتخطيطه المشروعي، مكاناً للعروض التمثيلية ( rappresentation ). وذلك من خلال تواجد الأماكن الكثيرة والمختلفة غير المحددة التي قامت ثقافتنا بصياغتها وخلقها وتغيرها واضطلعت بها.
إن الفضاء المسرحي هو عنصر فعال في العرض التمثيلي و في الثقافة المسرحية، ولكن كما كتب غوردن كريغ : " في زمن ما كانت السينوغرافيا عبارة عن معمار. وفيما بعد أصبحت محاكاة للمعمار. وفي فترة أخرى كانت محاكاة للمعمار المصطنع. ومنذ ذلك الحين فقدت عقلها واصبحت معتوهة، فوجد نفسها، من تلك اللحظة، في مصح عقلي ".
والفضاء المسرحي كأداة للإبداع الدرامي وكمكان للعلاقات ولحالات بلاغية يصبو إلى أن يكون بحد ذاته خاضعا للإستكشاف، وذلك من خلال تصفية حساباته مع التصويرية ( figuration ) والبيئة، ومن خلال إستخدامه لتعقيداته، وطرح نفسه، من جانبه- على إعتباره أصلا وإبتداعا لما هو مسرحي (teatrale ) الذي يتم تحديده في كل مرة من جديد.).
في مثل هذه الإضاءة، لدينا أكثر من مفتاح معرفي، اجتهادي، لفتح أكثر من باب، تخلصاً لمتا يقيّد إبداع كل من المسرحي: الكاتب، ومعه، أو بجواره: المسرح، وربما هم معاً، حين يكون المخرج نفسه كاتب النص المسرحي، وبما يتناسب وتعقيدات العصر، أو مستجداته، وذلك الشعور الواعي والمتنامي لدى المعني به بوجود الرهان على هذا الفضاء والذي يلحق به الأرضيَّ بكائناته وطبيعته ولامرئياته كذلك .
ألم نقرأ بلسان فرانسواز بيليسون كارو (نحن نؤلف للمرحلة. نكتب للمرحلة. يقود الكاتب المسرحي شرط لا غنى عنه ؛ يعرفه ويلاحظه بطريقة لا شعورية )؟
إن التأليف هو مناشدة غياب لكي يحضر، واستشراف للمغيب، وتفضية له من داخله.
وما يقرَأ في هذا الاقتباس هو تشديد على الحاجة الماجة للتحول حباً بالمنشود ونوعيته .
وإذا كان التفكير في الفضاء المسرحي قد أدخلنا إلى عالمه المركَّب، وكيف يمكن الإقامة فيه، أو كيفية التأثير فيه، وكذلك تحريك الساكن في النفوس والرؤوس، فإن بحث " التفكير في الممثل " لـ كلاوديو ميلدو ليزي يضيء من له الدور اللافت في هذا الفضاء: إنه كائنه الحي والذي يعيش أدواراً، ومن خلالها يلوّن الفضاء ذاك، ومن هنا كان النظر في أمره
(لقد كُتب الكثير حول من هو الممثل وكُتبت القليل من الدراسات، أو لا شيء، حول ماذا يفعل الممثلون. وهكذا، وعلى مر الزمان، تكون تفكير قوي حول طبيعة الممثل، وأحتل ذلك الفضاء الذي كان ينبغي أن يخصص للحديث عن تجارب الممثلين.
إن الممثل، كما نقرأ في الكتب المتداولة، هو عبارة عن ذلك الذي يمنح صوته وحركاته لتجسيد عمل المؤلف، ولكن ذلك هوعبارة عن إحدى الأدوات التي يمتلكها، من بين الأدوات الأخرى التي هي في حوزته.
وكان الممثل في القرن التاسع عشر، يقوم بتمثيل النص من خلال مزج عالمه الشخصي الخاص به، وعالم الفئة الإجتماعية التي ينتمي إليها.
والتمثيل في اللغة الإيطالية ( recitare ) كمفردة، كما جاءت في القواميس الإيطالية، تشير إلى معنى القول (dire) للتمثيل الذهني ( rappresentare )، أي القول عن ظهر قلب (المحفوظ في الذهن) وذلك يعني نوعآ من إمتلاك الممثل على مهارة التظاهر(التنكر simulare ) وأن يبدو في ذلك تلقائيآ.
فالممثل يقوم بإعداد نفسه من خلال تقليد (محاكاة) ممثل أكبر منه عمرآ (أو أقدم منه) ومن ثم يصبح، بعد ذلك، هو نفسه مجالآ للمحاكاة من قبل من سيأتي بعده. وفي كل مرحلة إنتقالية، هناك تراكم أرثري لأجساد الممثلين، إضافة ‘إلى التنويعات الشخصية لكل واحد منهم، أي أضافة إلى مبادراتهم الفنية الشخصية.
إن ذاكرة الجسد، في الأساس، تشكل جوانب كثيرة من سحر المسرح بشكل عام، وعندما قام ديكارت بتعريفها "كجوهر ثقيل" فهو قد نفى أن يكون الجسد عبارة عن آلة – لربما وهمية- ولكنها كثيفة (opaca – قاتمة) نسبة الى الذهن.
إن تاريخ الممثل، من جهة النظر هذه، هو عبارة عن تاريخ لنوع من التضاد في التطبيق، وتاريخ المسرح هو تاريخ لإمكانيات أَخرى، لكينونة أخرى. وهذه هي النفحة الضرورية لكي تأخذ الذاكرة المكتوبة مغزاها (sensi ) من جديد.).
أردت إيراد هذا الاقتباس الطويل نسبياً، للتأكيد على المكان الخطيرة والأثيرة للممثل، فهو الذي يخاطب المتفرج بتلك الشخصيات التي يحتضنها ويفجّرها خارجاً.
وأذكر توصيفاً معبّراً عما تقدم لجير فيليب ، وهو ( الممثلون ، كائنات من لحم ودم ، يجسدون القصة: سحر هذا التجسد يسمح بالتواصل المباشر لمشاعر الممثل مع المتفرجين من خلال الجسد ، والإيماءات ، وتعبيرات الوجه ، والصوت ، التنغيم ، الذي يعزز تأثير النص. بعض الممثلين ميزوا شخصياتهم ).
ولا بد أن الذين يحضرون للمشاهدة، يعيشون حيواتهم الداخلية ويتراسلون مع الممثلين نفسياً.
ورهان المخرج هو على هذه الكائنات، حيث تُنفَخ في النصوص، وتستولد كائناتها المسرحية .
وبغية الاقتراب أكثر من فكرة الكتاب، ومما يميّزه، كان بحث " التفكير في النص الدرامي " لفرانكو ، ينبّه إلى العلامة الفارقة للنص الدرامي: المسرحي، وكيف ينبغي لمن يفكّر في هذا الجانب أن يراعي مقومات النص الدرامي، ليكون أهلاً للفضاءالمسرحي وتفعيلاً لمفهومه.
وكما هو وضع الممثل، يلاحَظ بالمقابل، مدى الإقبال على هذا الموضوع، والنقاش حوله، وحتى التنادي، بصيغ شتى، بين أهل المسرح، لترسيخ الاسم كما يستحق، وهو يتجدد باستمرار:
( من أجل الاختصار سنشير هنا إلى مجمل الدراسات التي خصصت للنصوص الدرامية على إعتبارها نقداُ درامياُ , ويمكن أن نحمل النقد الدرامي )مع بعض الإستثناءات المنفردة في إنحرافها عن القالب العام( مسؤولية العواقب المتأتية من أمرين :القطاعية sectoriality) ) وتجاوزحدود مجاله (tresppassing -).
إن النقد الدرامي، في عموميته، هو قليل اللأهمية ونادرالتوظيف لدى الباحثين في المسرح، حتى وإن كان ، ضمن محدودية، يطرح بعض المساهمات المحفزة للباحث. ولكن عدم الإعتراف بمحدوديته وخروجه عن مجاله، أي من مجال المسرح الملموس، هو الذي يجعل جانبا كبيرا من أحاديثه عبارة عن هباء.
إن النص الدرامي، كجنس أدبي مصاب بعدم التوازن في بنيته، مابين هويته القوية( strong identity ) وبلاغته الضعيفة ((weak rhetoric .
ونحدد الهوية هنا على إعتبارها مجمل الإشارات الشكلية والبنيوية البارزة التي تسمح للمستمتع ( fruitore =ا لمستفيد - يستخدم هذه المفردة عوضا عن المفردة " المتلقي " المألوفة ـ المترجم ) بأن يشخص انتماء النص في جنس من االأجناس الادبية فقط، و نعني هنا انتمائه إلى الجنس الدرامي الأدبي .
ونحدد البلاغة ) rhetoric) على إعتبارها مجمل المعايير (norma ) أو القناعات التي تقوم بتوجيه المنتج ( producer) في كتابته للنص الذي ينتمي إلى جنس محدد من الأجناس الأدبية، و نعني إلى الجنس الدرامي فقط.
إن الإسم الذي يعطى للشخصية في النص الدرامي هو بمثابة (اكثر مما هو اشارة الى ) شخص فيزيقي، كما لو أن من يقول جملة في النص هو ذلك الذي يمثل النص اكثر مما هو (من يحيلنا إلى) الشخصية التي تأتي من المؤشرات الخارجة - عن النص لتزودنا باسمها.
وتظهر في دراماتورجية تقنية – نص أهمية ترتيب بنية الشرائح الداخلية للنص diegetico)) لكلا المكونين. بينما يمكن أن تظهر في دراماتورجية التقنيات الاخرى للمسرح، أهمية الفقرات الأخرى للمعاهدة ، وإمكانية أخرى من التمديدات الإستثنائية ومن دون أن ينتج عند ذلك أي تغيرجوهري في مبدأ التشغيل الوظيفي.).
من المؤكد أن قارىء هذا الاقتباس، سيميز بين ما هو ممكن فهمه، كما في شان عبارات تشغل المسرح تفكيراً وتطبيقاً، وأخرى تتطلب ثقافة مؤازرة لمعرفة تلك القوى التي تسهم في تطوير كل من النص المسرحي ودراميته فنياً، وعناصر تكوينه وتلك المفردات المستحدثة لأجله، كما في الدراماتورجيا والقطاعية وغيرهما.
ولهذا، فإن بحث" التفكير في العرض المسرحي " لـ فردناندو تفياني ، يشغل مكاناً اعتبارياً له، في الكتابة، ويتكامل مع الأبحاث الأخرى، كما يكتمل بها.
يمكن أن نقتبس التالي توضيحاً لهذه الجزيئة الفكرية:
( نحن ننتمي لمسرح قد جاء بعد السينما. وعندما نفكر بالعرض نصبو إلى سحقه وحصره في بعدين، ومن ثم نفكر به كتكوين أتى من نظرة موحدة، إنصهرت فيه كل العناصر لتكون وحدةً واحدة في عمل واحد. أي نفكر بالعرض كمنتوج، يمكن أن نفصل ما بين مختلف مسانده ومكوناته من خلال التحليل, ولكن من دون إعتبار كل مكون واحدة على إنفراد، كنتاجات فنيه مستقله.
إن مفهوم العرض المقدم (- recita) كعرض تمثيلي ( (rappresentation نقدي (يقوم بتجسيد النص بشكل نقدي بارز) والإنخراط المتواصل للمثقفين, بمختلف اختصاصاتهم (الأدبية والفنية), في بيئة الفرق المسرحية المحترفة في أوربا، وتغير ذوق الجمهور المثقف (وتغيرات الحالات البيئوية أحياناً، ومن ضمنها بروز أهمية الظلام على الخشبة و في الصالة), دفع كل ذلك الى خلق تذوق العرض على إعتباره عرض منصهر موحد ومتواصل من دون إنقطاع، و ليس على إعتباره يتكون من أوصال (scraps = أو قطع و أوصال مثل كوبليهات القطع الموسيقية ـ المترجم), مختلفة ومتعددة. و قد دفع ذلك تدريجيا، إلى نمو حضور من المسؤول ، بجانب الممثل ) إضافة إلى المؤلف والسينوغرافي) الذي يقوم بتنسيق الأمورالإجمالية والتفسيرات الكلية للنص.).
وما هو معزّز تاريخياً لذلك:
( أ – مثال من عصر النهضة
في بلاط أحد الأمراء الإيطاليين في القرن السادس عشر يتم تقديم عرض تمثيلي, بعد أن تم التحضير له لفترة من الزمن: النص (commedia) هو لمؤلف ما، وقد قام رسام– معماري بتحضير المشهد، و الفضاء الذي سيقدم فيه العروض، وهو نفسه، أوشخص آخر قام بتصميم ورسم الملابس التي ستستخدم في الفواصل الوسطية (intemezzi) ما بين العروض.
ب – أمثله شرقية:
يتم بناء العروض المسرحية الشرقية المنتمية إلى تقاليد عريقة من خلال نفس المعايير و لكن بأشكال وأهداف مختلفه جداً.
و نجد هنا أن كل شئ قد تم إبرالزه : ليس بالمعنى الذي يتم فيه تثبيت العرض، بل بالمعنى الذي يتم فيه تثبيت الخطوط، الخط التمثيلي لكل ممثل على انفراد، والأداء، والنص، والتنويعات للموسيقى. ولكن حتى هنا تتلاقى مختلف خطوط العرض, وتتلاحم و تتوحد ، ولكن من دون خضوعها لمبدأ توحدي ليتجاوزها أو ليصهرها كعناصر لعمل واحد موحد.
لقد اهتمت الدراسات التاريخية المسرحية، منذ القرن الثامن عشر ولحد منتصف القرن العشرين، جوهرياً، بالأعمال الأدبية الدرامية. أما الآن، وبعد أن ادركت وبشكل واضح جداً، أن المسرح هو ليس فقط عبارة عن الأدب المسرحي، بل وكذلك هو العرض، وجدت نفسها أشبه بشخصية بيرو ( المضحك الباكي-المترجم) (pirro) بعد الإنتصار. وهكذا, فإن "مؤرخ المسرح " هو أشبه "بمؤرخ التماثيل النحتية"، الذي ملك حرية الشك لإهتمامه بتماثيل من الملح. بل بالأحرى لإهتمامه فقط بتلك التماثيل.
إن التفكير بالعروض على أنها كتماثيل من الملح ، كأعمال يؤسف لضياعها (لزوالها) هو شئ فيه نوع من الإلتباس، و يدفع ذلك، بطريقة ما، إلى أن يوضع في الظل ما يؤسف عليه : أي التظليل على ان العروض المسرحية التي لا تدوم على مر الزمن، بخلاف كل تلك الأعمال التي يهتم بها التاريخ و النقد الفني .
فقد كانت افكار ستانسلافسكي و كوبو و ميرخولد و برخت و جوليان بيك و غروتوفسكي، كلها متقدمة على زمنها، ولكنها كانت أفكارا قد تم تحقيقها وبثها عن طريق العروض.
لكن ينبغي أن نؤكد، كان هناك ، بجانب كريغ وآبيا، ومن بعد ذلك آرثو، وجود جسد كائن ( organismo ) مسرحي قوي، "مجموعة من الممثلين المنعزلين" عن التطبيقات المسرحية الجارية حينئذ، ومن خلال الانفصال و المواجهة مع الآخرين، تم تشكل ذلك.).
ونظراً لخطورة العرض، وما في المعروض من مرئي، فهناك مساحة معطاة لهذا الجانب، ليكون أكثر وضوحاً بعناصر نصه، حيث التوصيف له دور هنا:
( والعرض هو مخلوق طائري ولهذا يحيلنا الى تلك العناصر المتواصلة التي يكون فيها عبارة عن لحظة من التقاليد التراثية والتطبيقات الفنية، و الخطوط الفنية الفردية و ثقافة المجموعة... و يظهر من هذه المجازية عنصراً آخراً للأبعاد الثلاثة للعرض عندما نساءل عن كيفية دخوله في تماس مع البيئة المحيطة.
فالعرض هو، قبل كل شئ، عبارة عن ثمرة لتجمع الناس، وتقسيم المهمات، والتنظيم والتخطيط لمشروع، و البروفات، ونشاطات تصاحب ذلك. ومن كل ذلك كانت العلاقات والروابط الاجتماعية بين الأفراد و الجماعة هي التي كانت تأخذ صيغا معينة وتتشكل. و لكن من كان يبرز في كل ذلك هو القائد الذي يقوم بقيادة النشاطات لفترة قصيرة، والذي كان يتميز بحضوره المعتبر وامتيازاته التي كان يتحلى بها في الحياة اليومية. و كان يتم من خلال ذلك، ولفترة من الزمن، تغير التراتيب الاجتماعية الجارية أو التأكيد عليها، و يتم محاكاة صراعات اجتماعية، ومن ثم كان يتم تنظيم البروفات.)
وما يتضح يشكل بُعداً آخر يتركز على مفهوم العرض هذا:
( من الصحيح أن العرض المسرحي، غالبا، لم يكن عبارة عن عملية وحدة (وانصهار) بل كان عملية تلاقي و تلاحم. ومن الصحيح أنه عبارة عن لحظة أكثر مما هو عبارة عن شئ فني ، يقوم بفعله ( وقام بفعله ويمكن أن يقوم بفعله ) من خلال حجمه و بفترته التحضيرية و الأجواء البيئوية التي يقوم بخلقها، وليس من خلال سطحية عرضه فقط ( أي ذلك الذي نقتصر عليه في تفكيرنا بشكل عام عندما نفكر بعرض ما ). ولكن، من الصحيح أيضا، أن العروض المسرحية هي غالبا ما يعاد عرضها أو من الممكن إعادتها، ويخطط لها كمشروع و يتم تكوينها. أي بمعنى أنها, كذلك كأعمال وكمنتوج فني .).
وما يسمّي حيوية بحث كهذا :
( في النهاية: إن البحث عن نقطة متحركة للتوازن، ما بين اتجاهين نقيضين، يطرح نفسه ضمن الصيغ النظرية كمشكلة للعلاقة ما بين رؤية الممثل ورؤية المتفرج. وحتى في هذه الحالة ينبغي, وقبل كل شئ ، التأكد من ثبوت الحقائق الجلية ظاهريا ، وتلك الأفكار المتداولة في الذهنية المسرحية التي تظهر على أنها نقاطا جيدة للانطلاق، لأنها مألوفة لدى العموم.).
أبحاث أربعة، عناصر هي أركان أربعة تعلو بفكرة الكتاب، وتفصح عن القيمة الفكرية والبحثية والجمالية للكتاب في عمومه، وما يمكن أن يكون للمسرح من دور اليوم بالذات، في الوصل بين مكونات المجتمع ومختلف فئاته، فالمسرح ينير، ويصدم ليكون التنويرالداخلي أكثر فاعلية، وأخذاً بعية الاعتبار كذلك .
وتسمح لنا هذه المراجعة، ولو بإيجاز شديد، والقراءة، ولو أنها سريعة بالمقابل، بالتأكيد على أن كتاباً كهذا يعزّز موقعه الثقافي عموماً، ومكانته المسرحية خصوصاً، من خلال جملة أبحاثه المسمّاة، وإبراز مدى فائدتها لأهلها طبعاً، لا سيما حين يكون المعد للكتاب هذا، والمترجم لما تقدَّم، من يعيش شغف الانشغال بالمسرح قراءة وكتابة وإخراجاً، وأن الذي تقدَّمت به بداية، عنصر إشهار لعلاقة كهذه، حيث يتراءى ما هو إنساني موحد، شرقه وغربه، من جهة، ولأن عطشاً إلى المسرح حين يتنشط، وقد ضاق عليه الخناق وأكثر، في ظل الأوضاع المتردية في منطقتنا، وهذا يعني، أن المسرح شاهد حي على ما يجري توتراً أو استقراراً
وتبعاً لهذا القول، فإن المتابع لما يقدّمه بياتلي مسرحياً: نصاً، وكتابة نقد وإخراجاً، إنما هو الوعي الذي يترجم شخصيته المفهومية بوصفها شخصية مسرح، وعالَم مسرح، وهموم مسرح، وما يرافق ذلك من صعوبات وتحديات، ولأن المسرح كموقع اعتباري: ثقافة وأداء دور، في مجتمع يحارب الشفافية والمكاشفة، ويراهن على المتستر في حقيقته اليومية، وهو يرتقي لديه إلى مستوى المعرّي لهذا الوجه المقنّع، والساعي إلى نزع الحجب المتعددة المراتب عن جسده، ليس حباً في التعرية وتشهيراً، وإنما في جعله معافى، وقادراً على دخهول التاريخ، وتمثّل الحياة في الصميم، أي ما يجعل المسرح فاعل تنوير للمجتمع، وتعزيز قوى التنوير كذلك.
ومن يقرأ هذه الأبحاث، ويصلها بإسهامات بياتلي الأخرى " كما يتضح في بطاقة التعريف به أسفل المقال هذا " يتأكد هذا الرهان الشاق والشيق لديه.
ثمة قول ينسَب إلى ابن رشد، ألا وهو: تموت روحي بموت الفلسفة.
بالتوازي معه، يمكن القول بلسان بياتلي: تموت روحي بموت المسرح !
ملاحظة من كاتب المقال:
هذا المقال الذي سطّرته يخص كتاب" التفكير في المسرح " كما تقدم، وهو قيد الطبع الآن، وقد أرسِل إلي، فأحببت رد هذا الجميل بجميل مستحق، ولهذا جاءت الاقتباسات دون أرقام الصفحات الخاصة به .
من جهة أخرى، أنشر ما ورد في مختتم الكتاب من بطاقة التعريف بالسير الذاتية لمؤلفي البحوث في هذا الكتاب، إلى جانب السيرة الذاتية لمعده ومترجمه
فابريتزيو كروجاني ـ (ولد في روما سنة 1942 ، ت في سنة 1992).
تخرج من جامعة لا سبينسا كلية الآداب والفلسفة ـ في قسم تاريخ المسرح. وعمل مدرسا ، ثم بروفسورا في جامعة بولونيا ، في قسم الفنون والموسيقا والعروض (D.A.M.S) منذ سنة 1971، كاستاذ لمادة تاريخ المسرح.
كلاوديو ميلدوليزي: برفيسور أكاديمي و مؤرخ ، ولد في مدينة بولونيا (1942 ـ 2009) .
تخلرج من أكاديمية فن الدراما في روما في قسم التمثيل.
عمل مدرساً في جامعة بيسكارا ، ثم بروفيسورا في جامعة بولونيا في كلية الآداب والفلسفة ، قسم الفنون والموسيقا والعروض (D.A.M.S). وعمل كمدرس لمادة الدراماتورجيا منذ سنة 1969. حصل على لقب ديكانا (كبير الأكاديميين. عضو في الأكاديمة العلمية في ايطاليا (Lincei ).
فرانكو روفيني (ولد في مدينة ماجراتا في 1939 ـ يعيش حاليا في روما.) بروفسور وباحث مسرحي .
تخرج من جامعة روما كلية العلوم والتكنولوجيا في تخصص علم الفيزياء. درس مادة الفيزياء و الرياضيات في المدارس الإعدادية.
فردنادو تفياني : برفسور ومؤرخ مسرحي (ولد في روما 1942، يعيش حاليا في روما)
تخرج من جامعة روما سابينسا كلية الآداب والفلسفة قسم التاريخ .
عمل استاذ برفسور في جامعة آكويلا (1986) و جامعة بولونيا ، درس فيها تاريخ المسرح.
شارك في تأسيس مجلة دفاتر مسرحية و مجلة المسرح والتاريخ (1986). عضو مؤسس (مع ايجينيو باربا ) للمدرسة الدولية لأنثروبولوجي المسرح (1979)، ويعمل مستشار أدبي مع فرقة الأدون تياتر في الدنمارك (منذ سنة 1975).
ترجمت بعض كتبه للغة الانجليزية والفرنسية . ونشرت له بعض المقالات البحثية باللغة العربية : في كتاب طاقات الممثل (صدر في مصر) ، وفي كتاب أسرار فن الممثل ( تأليف بارب وسافايزي ـ د . قاسم بياتلي ، صدر في البحرين)
د . قاسم يياتلي ـ معد الكناب : مخرج وباحث مسرحي عراقي
دبلوم الفنون الجميلة بغداد سنة 1976ـ أكمل الدراسات الجامعية في كلية الآداب والفلسفة– بولونيا الإيطالية – في قسم (D.A.M.S). وحصل في نفس الجامعة على الدكتوراه سنة 1990.
عمل مدرسا في مادة التمثيل في جامعة طرابلس سنة 2008 . وفي جامعة دهوك 2011 ـ 2014 ـ عمل مدرس مادة التمثيل لحد سنة 2019 في كلية الفنون الجميلة ـ جامعة الموصل (العراق).
ـ صدر له بالعربية العديد من الكتب :"الرقص في المجتمع الإسلامي" - حوارات حول المسرح - دوائر المسرح و ذاكرة الجسد، و غروتوفسكي والمسرح وكتاب "غروتوفسكي بين العضوية والطقوسية". لغة الحركة و الجسد وفن لممثل ( الشارقة 2016). الإخرج وفن المسرح (الأردن 2017) . وكتاب كوميديا ديللارته ، الهيئة العربية للمسرح ( الشارقة 2018) .
ترجم كتب إيوجينيو باربا إلا اللغة العربية: مسيرة المعاكسين (بيروت 1995) و ). وترجمة ثلاثة نصوص كوميدية للمسرحي الإيطالي داريو فو (الحائز على جائزة النوبل).
و زورق من الورق عرض المباديء العامة لأنثروبولوجية المسرح (القاهرة 2006) . وكتاب أسرار فن الممثل ( البحرين 2015 )
ـ نشر خمسة كتب باللغة الإيطالية : الجسد الكشوف ( تورينو طبعة ثانية 2005 ) وآخرها هياكل اللطائف ( ميلانو2007 مع مقدمة كتبها ايوجينيو باربا). ونشر بعض كتاباته بالفرنسية والإنجليزية والإسبانية والبرتغالية.
أسس فرقة مسرح الأركان في مدينة فلورنس سنة 1984 .أخرج معها : حكاية المتزهد - البرزخ نور الشرق- جزة الخروف الذهبية- رقصات الأركان- إلى خليل في الغربة و شهرزاد والتفكير في بغداد، ومسرحية الحسد و روح بلا مسكن، قدمت في بلدان عديدة: إيطاليا، اسبانيا، البرازيل بلجيكيا و الدنمارك، و الشارقة و مراكش و دمشق ( 2006)، ليبيا 2009، دهوك والسليمانية وأربيل وبطمان ( في تركيا 2015)
اشترك في ندوات و أشرف على دورات تدريبية حول التمثيل: معهد الدراما كامبريج 1992، جامعة روما 3 وأكاديمية الفنون في مدينة بيلورتزونتي (البرازيل (2006). و دورات تدريبية في التمثيل والإخراج: تنظيم جمعية المسرحين في الشارقة سنة2000، وودورتين سنة 2001 و2004 ، من تنظيم مديرية الثقافة في حكومة الشارقة.
ـ تم تقديم فلم رحلة نحو الينابيع، وثائقي عن مسيرته الفنية، من إخراج الفنان جودي الكناني،
ـ تمت مناقشة رسالة دكتوراه عن تجربته المسرحية في جامعة باريس 8 بعنوان بداغوجيا الممثل في المسرح الوسيط في 2018 للدكتور الليبي موسى العماري.
حصل على شهادة تقديرية من جامعة بولونيا الإيطالية ، منحت له لمسيرة نشاطه الإبداعي الفني المسرحي والثقافي في المجتمع والثقافة في إيطاليا .
تمخضت في مسيرة عمله التطبيقي وبحثه النظري رؤية وتوجه المسرح الوسيط مبرزا فيه دور الممثل في بناء العمل الدرامي المسرحي ، ضمن رؤية أنثروبولوجية المسرح ، مركزا على أسس لغة الحركة و الجسد في عمل دراماتورجية الممثل.
(تحوم النفس عطشى حول ثغر النهر الباسم. أيها الغريب، يا من ولدت من أحشاءالأرض، ومن بطن أمك، يا من هجرت أرضك لحاجة تطلبها، يا من تعيش غريباً بين أهلك، ألا تشعر بغربة في مملكة الله.
نظرة مفزوعة خرساء تبحلق في سماء ما بقى من تلك الذاكرة المهتزة من الخوف. ألم يكن حلمك بناء جسر بين ضفاف دلتا المشرق والمغرب في غربتك الغريبة، وضفاف النهرين الملتويين اللذين يجريان منذ الأزل في عالمك المرئي واللامرئي. ).
هذا التجاذب النفسي بين ما هو وجداني/ روحي وجغرافي، ومن خلال علاقتي به " حيث درَّس في جامعة دهوك " إقليم كردستان العراق " وكنا نلتقي بين الحين والآخر، تجمعنا ثقافة مشتركة بأكثر من معنى " تجاذبٌ يترجم علاقته بعمله المسرحي، وخياراته في الترجمة كذلك، وهو ضليع، لمن يتابعه في أسلوب الإخراج المسرحي لديه، وكتاباته، في هذا المنحى، وترجماته، وكيفية الربط بين هذا التوأم الفكري: النظري والعملي، في المسرح كصنعة وكبناء ثقافيين.
وهو الطريق الصعب الذي اختاره، إيماناً منه، أن في المسرح كعالم لا يخفي سحره المشروع، ما يحرّك الساكن في مجتمع عصي على التغيير، أو يثير مشاعر المقابل: المتفرج وتفكيره .
وفي هذا الكتاب ( التفكير في المسرح " دراسات في النظريات النقدية والتاريخية في المسرح " إعداد الدكتور الدكتور قاسم بياتلي )، وهو من إعداده وترجمته عن الإيطالية وممن درّسوه وتفاعل معهم من أساتذة طليان لهم بصمتهم في هذا الفن، يفيد من لديه رغبة في معرفة هذا الفن المركَّب، هذا الذي يمنح الكلمة الواحدة أبعاداً لا تحصى، من خلال الفضاء المسرحي الذي لا يحاط به .
كيف يمكن التفكير في المسرح ؟ هوذا السؤال الذي يطرَق به باب الكتاب ويشير إلى محتواه. التفكير في المسرح، هو توجيه النظر، كما يخيَّل إلي إلى أن التفكير في أصله حوار، مسرحي، بالنسبة إلى أي منا، في علاقه بنفسه، ووسطه، وبيئته ومن يحيطون به، ولو في صمت. ولعل التوضيح التالي" دراسات في النظرية النقدية والتاريخية في المسرحية " هو ما يحدَّد به سقف العنان، مساره، ما يعوَّل عليه نقدياً وتنوع مسالكه وممراته وكشوفاته ومؤثراته ومنغصاته، وما يدخل في سياق التاريخ وتتبع أزمنته ومن لهم رصيد بحثي، نقدي، كتابي، وإخراجي في بناء سرديات المسرح أو تعميقه أصولاً، وتوسيعه مجالات .
ماالذي يكوّن الكتاب؟
لا يخفى أن الدكتور اعتمد على خيار معرفي، ومكاشفة نقدية واستبصار للموضوع الأكثر استجابة لذائقته النفسية قراءة وقابلية تفعيل أثر بنسَبه المسرحي. فالخيار يعني في بنيته وجود أكثر مما مقدَّم، سواء جهة العناوين الفرعية، أو المضامين المختلفة والمتكاملة معاً كذلك.
نقرأ في التقديم ( إن البحوث الأربعة التي نقدمها للقاريء العربي هي عبارة عن مقترحات نظرية كتبها أربعة أساتذة في الجامعات الإيطالية قمنا بجمعها من مصادر متعددة : من المجلة الفصلية الإيطالية دفاتر مسرحية و من ملزمة دراسية ضمن منهاج التعليم في قسم الفنون و الموسيقى و العروض في جامعة بولونيا أثناء دراستي فيه، و من كتابات أخرى فكرية و نظرية للأساتذة الأربعة : فابريتزيو كروجاني و كلاوديو ميلدوليزي و فرانكو روفيني و فردناندو تفياني. و قمت بترتيبها في صيغة كتاب اخترت له عنوان التفكير في المسرح . دراسات في النظريات النقدية والتاريخية في المسرح.).
لعل بياتلي قدَّر أن مجرد التنويه إلى المصادر غير كاف، إذ لا بد من إضاءة لمن هو معمّق لفكرة الكتاب: كتابه هو بالذات، بما أنه هو المبادر إلى عملية الخيار والترتيب فالترجمة:
( إن البحوث التي قمنا بجمعها في هذا الكتاب لم تكن فقط دراسات نظرية مجردة، بل قد نشأت و نمَت في وسط وبيئة مسرحيه وثقافية زاخرة في حركتها. ولهذا جاءت مفعمة بروابط جدلية مع الحركة المسرحية في الواقع المادي (الملموس ) للمسرح. وطرحت نفسها بجرأة كبيرة كمقترحات تدعو إلى ضرورة خلق منهج جديد وحيوي يواكب التحولات الميدانية التي حصلت في مسيرة المسرح في القرن العشرين ، خصوصا بعد التغيرات الجذرية التي نبعت من تجارب المسرح الأوربي والأمريكي ، مثل تجارب الليفنغ ثيتر و تجارب المخرج ريجار شيشنر وبيتر بروك وغروتوفسكي و منظور أنثروبولوجية المسرح الذي تجسد في اعمال و كتب ايوجينيو باربا. ).
ثمة تاريخ مسمى ومضاء، تاريخ مرفَق بالأحداث والوقائع، ومن زوايا مختلفة، حيث إن الذين ينخرطون في اللعبة الفنية مسرحياً، يحملون عوالم متنوعة في أذهانهم. ويستشرفون قائمة المجتمعات التي تتشكل، وهي متجاورة، أومتداخلة كذلك، باسم المسرح بشخوصه وكائناته.
في بحث "التفكير في الفضاء المسرحي "لـ فابريتزيو كروجاني، هناك ما يكمن في الداخل، من خلال النشاط التفكيري، وما يصبح خارجاً من خلال إجراءات فنية، أي ما بات يُسمى على نطاق واسع بـ" الفضاء " وهو مسرحي هنا . الفضاء يعني الدخول في اللاتناهي، يعني إمكان القول والبناء المسرحيين، كما في أي عمل إبداعي، أو بحثي محرَّر من الثوابت أو المؤطَّرات، انطلاقاً من قدرات المسرحي، أي مجتمع مأهول بحيوية المسرح، ويثمنه ويتعلم منه واقعاً.
ويلعب التعريف دوراً موجباً في هذا الصدد، من خلال التالي:
(إن فضاء المسرح في ثقافتنا هو ليس من المعطيات الأولية، بل هو حصيلة لتفاعل معقد يتحرك ما بين قطبين : التصوير figuration)) و البيئة environment) ). وقد تم التفكير به كتعريف أولي، على اعتباره سند بصري لنص ما أو لنقل لفعل منجز أو مرويّ : فهو عبارة عن إسقاط فيزيقي أو صوري، مادي أو وهمي، يتموضع فيه تظاهر الفعل الدرامي، أي كمكان ملموس ومجازي للشخصيات.
وفي تعريف آخر يتم التفكير به على إعتباره فضاء الممثلين، ويحصل على مؤهلاته من خلال كونه منفصلاً، أي بإعتباره خارجاً عن الحياة اليومية المعتاده(extra –(daily في كونه مكاناً للعرض مخصصا للممثلين ولا علاقة له بالمتفرجين ( الصالة كانت رمزاً لذلك ).
ويتم التفكير به في درجة ثالثة، على إعتباره فضاء مخصصاً للعروض spectaculs) ) أي في إحتوائه على الخشبة والصالة سوية ( وكل الفضاءات المخصصة للخدمات وكقيمة معمارية, كبناية ).
فقد تم التفكير بالفضاء، كما نعرف، على اعتباره محدداً من قبل الحاجات ( الأشياء) أو على إعتباره حاوي للحاجات، فالفضاء المسرحي هو عنصر من هذه الصيغ للكينونه الثقافية للفضاء، وبطرق غير منفصلة عن مختلف الأشكال التعبيرية.
إن الفضاء المسرحي الذي يتم التفكير فيه كحاوي للحاجات والذي يضطلع فيه الفراغ شكلا ومعنى، يبحث عن تعريفات تشخصه قبل أن يتم ملؤه بالدراما والفعل.
أصبح فضاء المسرح من جديد، في وجوده الواعي وتخطيطه المشروعي، مكاناً للعروض التمثيلية ( rappresentation ). وذلك من خلال تواجد الأماكن الكثيرة والمختلفة غير المحددة التي قامت ثقافتنا بصياغتها وخلقها وتغيرها واضطلعت بها.
إن الفضاء المسرحي هو عنصر فعال في العرض التمثيلي و في الثقافة المسرحية، ولكن كما كتب غوردن كريغ : " في زمن ما كانت السينوغرافيا عبارة عن معمار. وفيما بعد أصبحت محاكاة للمعمار. وفي فترة أخرى كانت محاكاة للمعمار المصطنع. ومنذ ذلك الحين فقدت عقلها واصبحت معتوهة، فوجد نفسها، من تلك اللحظة، في مصح عقلي ".
والفضاء المسرحي كأداة للإبداع الدرامي وكمكان للعلاقات ولحالات بلاغية يصبو إلى أن يكون بحد ذاته خاضعا للإستكشاف، وذلك من خلال تصفية حساباته مع التصويرية ( figuration ) والبيئة، ومن خلال إستخدامه لتعقيداته، وطرح نفسه، من جانبه- على إعتباره أصلا وإبتداعا لما هو مسرحي (teatrale ) الذي يتم تحديده في كل مرة من جديد.).
في مثل هذه الإضاءة، لدينا أكثر من مفتاح معرفي، اجتهادي، لفتح أكثر من باب، تخلصاً لمتا يقيّد إبداع كل من المسرحي: الكاتب، ومعه، أو بجواره: المسرح، وربما هم معاً، حين يكون المخرج نفسه كاتب النص المسرحي، وبما يتناسب وتعقيدات العصر، أو مستجداته، وذلك الشعور الواعي والمتنامي لدى المعني به بوجود الرهان على هذا الفضاء والذي يلحق به الأرضيَّ بكائناته وطبيعته ولامرئياته كذلك .
ألم نقرأ بلسان فرانسواز بيليسون كارو (نحن نؤلف للمرحلة. نكتب للمرحلة. يقود الكاتب المسرحي شرط لا غنى عنه ؛ يعرفه ويلاحظه بطريقة لا شعورية )؟
إن التأليف هو مناشدة غياب لكي يحضر، واستشراف للمغيب، وتفضية له من داخله.
وما يقرَأ في هذا الاقتباس هو تشديد على الحاجة الماجة للتحول حباً بالمنشود ونوعيته .
وإذا كان التفكير في الفضاء المسرحي قد أدخلنا إلى عالمه المركَّب، وكيف يمكن الإقامة فيه، أو كيفية التأثير فيه، وكذلك تحريك الساكن في النفوس والرؤوس، فإن بحث " التفكير في الممثل " لـ كلاوديو ميلدو ليزي يضيء من له الدور اللافت في هذا الفضاء: إنه كائنه الحي والذي يعيش أدواراً، ومن خلالها يلوّن الفضاء ذاك، ومن هنا كان النظر في أمره
(لقد كُتب الكثير حول من هو الممثل وكُتبت القليل من الدراسات، أو لا شيء، حول ماذا يفعل الممثلون. وهكذا، وعلى مر الزمان، تكون تفكير قوي حول طبيعة الممثل، وأحتل ذلك الفضاء الذي كان ينبغي أن يخصص للحديث عن تجارب الممثلين.
إن الممثل، كما نقرأ في الكتب المتداولة، هو عبارة عن ذلك الذي يمنح صوته وحركاته لتجسيد عمل المؤلف، ولكن ذلك هوعبارة عن إحدى الأدوات التي يمتلكها، من بين الأدوات الأخرى التي هي في حوزته.
وكان الممثل في القرن التاسع عشر، يقوم بتمثيل النص من خلال مزج عالمه الشخصي الخاص به، وعالم الفئة الإجتماعية التي ينتمي إليها.
والتمثيل في اللغة الإيطالية ( recitare ) كمفردة، كما جاءت في القواميس الإيطالية، تشير إلى معنى القول (dire) للتمثيل الذهني ( rappresentare )، أي القول عن ظهر قلب (المحفوظ في الذهن) وذلك يعني نوعآ من إمتلاك الممثل على مهارة التظاهر(التنكر simulare ) وأن يبدو في ذلك تلقائيآ.
فالممثل يقوم بإعداد نفسه من خلال تقليد (محاكاة) ممثل أكبر منه عمرآ (أو أقدم منه) ومن ثم يصبح، بعد ذلك، هو نفسه مجالآ للمحاكاة من قبل من سيأتي بعده. وفي كل مرحلة إنتقالية، هناك تراكم أرثري لأجساد الممثلين، إضافة ‘إلى التنويعات الشخصية لكل واحد منهم، أي أضافة إلى مبادراتهم الفنية الشخصية.
إن ذاكرة الجسد، في الأساس، تشكل جوانب كثيرة من سحر المسرح بشكل عام، وعندما قام ديكارت بتعريفها "كجوهر ثقيل" فهو قد نفى أن يكون الجسد عبارة عن آلة – لربما وهمية- ولكنها كثيفة (opaca – قاتمة) نسبة الى الذهن.
إن تاريخ الممثل، من جهة النظر هذه، هو عبارة عن تاريخ لنوع من التضاد في التطبيق، وتاريخ المسرح هو تاريخ لإمكانيات أَخرى، لكينونة أخرى. وهذه هي النفحة الضرورية لكي تأخذ الذاكرة المكتوبة مغزاها (sensi ) من جديد.).
أردت إيراد هذا الاقتباس الطويل نسبياً، للتأكيد على المكان الخطيرة والأثيرة للممثل، فهو الذي يخاطب المتفرج بتلك الشخصيات التي يحتضنها ويفجّرها خارجاً.
وأذكر توصيفاً معبّراً عما تقدم لجير فيليب ، وهو ( الممثلون ، كائنات من لحم ودم ، يجسدون القصة: سحر هذا التجسد يسمح بالتواصل المباشر لمشاعر الممثل مع المتفرجين من خلال الجسد ، والإيماءات ، وتعبيرات الوجه ، والصوت ، التنغيم ، الذي يعزز تأثير النص. بعض الممثلين ميزوا شخصياتهم ).
ولا بد أن الذين يحضرون للمشاهدة، يعيشون حيواتهم الداخلية ويتراسلون مع الممثلين نفسياً.
ورهان المخرج هو على هذه الكائنات، حيث تُنفَخ في النصوص، وتستولد كائناتها المسرحية .
وبغية الاقتراب أكثر من فكرة الكتاب، ومما يميّزه، كان بحث " التفكير في النص الدرامي " لفرانكو ، ينبّه إلى العلامة الفارقة للنص الدرامي: المسرحي، وكيف ينبغي لمن يفكّر في هذا الجانب أن يراعي مقومات النص الدرامي، ليكون أهلاً للفضاءالمسرحي وتفعيلاً لمفهومه.
وكما هو وضع الممثل، يلاحَظ بالمقابل، مدى الإقبال على هذا الموضوع، والنقاش حوله، وحتى التنادي، بصيغ شتى، بين أهل المسرح، لترسيخ الاسم كما يستحق، وهو يتجدد باستمرار:
( من أجل الاختصار سنشير هنا إلى مجمل الدراسات التي خصصت للنصوص الدرامية على إعتبارها نقداُ درامياُ , ويمكن أن نحمل النقد الدرامي )مع بعض الإستثناءات المنفردة في إنحرافها عن القالب العام( مسؤولية العواقب المتأتية من أمرين :القطاعية sectoriality) ) وتجاوزحدود مجاله (tresppassing -).
إن النقد الدرامي، في عموميته، هو قليل اللأهمية ونادرالتوظيف لدى الباحثين في المسرح، حتى وإن كان ، ضمن محدودية، يطرح بعض المساهمات المحفزة للباحث. ولكن عدم الإعتراف بمحدوديته وخروجه عن مجاله، أي من مجال المسرح الملموس، هو الذي يجعل جانبا كبيرا من أحاديثه عبارة عن هباء.
إن النص الدرامي، كجنس أدبي مصاب بعدم التوازن في بنيته، مابين هويته القوية( strong identity ) وبلاغته الضعيفة ((weak rhetoric .
ونحدد الهوية هنا على إعتبارها مجمل الإشارات الشكلية والبنيوية البارزة التي تسمح للمستمتع ( fruitore =ا لمستفيد - يستخدم هذه المفردة عوضا عن المفردة " المتلقي " المألوفة ـ المترجم ) بأن يشخص انتماء النص في جنس من االأجناس الادبية فقط، و نعني هنا انتمائه إلى الجنس الدرامي الأدبي .
ونحدد البلاغة ) rhetoric) على إعتبارها مجمل المعايير (norma ) أو القناعات التي تقوم بتوجيه المنتج ( producer) في كتابته للنص الذي ينتمي إلى جنس محدد من الأجناس الأدبية، و نعني إلى الجنس الدرامي فقط.
إن الإسم الذي يعطى للشخصية في النص الدرامي هو بمثابة (اكثر مما هو اشارة الى ) شخص فيزيقي، كما لو أن من يقول جملة في النص هو ذلك الذي يمثل النص اكثر مما هو (من يحيلنا إلى) الشخصية التي تأتي من المؤشرات الخارجة - عن النص لتزودنا باسمها.
وتظهر في دراماتورجية تقنية – نص أهمية ترتيب بنية الشرائح الداخلية للنص diegetico)) لكلا المكونين. بينما يمكن أن تظهر في دراماتورجية التقنيات الاخرى للمسرح، أهمية الفقرات الأخرى للمعاهدة ، وإمكانية أخرى من التمديدات الإستثنائية ومن دون أن ينتج عند ذلك أي تغيرجوهري في مبدأ التشغيل الوظيفي.).
من المؤكد أن قارىء هذا الاقتباس، سيميز بين ما هو ممكن فهمه، كما في شان عبارات تشغل المسرح تفكيراً وتطبيقاً، وأخرى تتطلب ثقافة مؤازرة لمعرفة تلك القوى التي تسهم في تطوير كل من النص المسرحي ودراميته فنياً، وعناصر تكوينه وتلك المفردات المستحدثة لأجله، كما في الدراماتورجيا والقطاعية وغيرهما.
ولهذا، فإن بحث" التفكير في العرض المسرحي " لـ فردناندو تفياني ، يشغل مكاناً اعتبارياً له، في الكتابة، ويتكامل مع الأبحاث الأخرى، كما يكتمل بها.
يمكن أن نقتبس التالي توضيحاً لهذه الجزيئة الفكرية:
( نحن ننتمي لمسرح قد جاء بعد السينما. وعندما نفكر بالعرض نصبو إلى سحقه وحصره في بعدين، ومن ثم نفكر به كتكوين أتى من نظرة موحدة، إنصهرت فيه كل العناصر لتكون وحدةً واحدة في عمل واحد. أي نفكر بالعرض كمنتوج، يمكن أن نفصل ما بين مختلف مسانده ومكوناته من خلال التحليل, ولكن من دون إعتبار كل مكون واحدة على إنفراد، كنتاجات فنيه مستقله.
إن مفهوم العرض المقدم (- recita) كعرض تمثيلي ( (rappresentation نقدي (يقوم بتجسيد النص بشكل نقدي بارز) والإنخراط المتواصل للمثقفين, بمختلف اختصاصاتهم (الأدبية والفنية), في بيئة الفرق المسرحية المحترفة في أوربا، وتغير ذوق الجمهور المثقف (وتغيرات الحالات البيئوية أحياناً، ومن ضمنها بروز أهمية الظلام على الخشبة و في الصالة), دفع كل ذلك الى خلق تذوق العرض على إعتباره عرض منصهر موحد ومتواصل من دون إنقطاع، و ليس على إعتباره يتكون من أوصال (scraps = أو قطع و أوصال مثل كوبليهات القطع الموسيقية ـ المترجم), مختلفة ومتعددة. و قد دفع ذلك تدريجيا، إلى نمو حضور من المسؤول ، بجانب الممثل ) إضافة إلى المؤلف والسينوغرافي) الذي يقوم بتنسيق الأمورالإجمالية والتفسيرات الكلية للنص.).
وما هو معزّز تاريخياً لذلك:
( أ – مثال من عصر النهضة
في بلاط أحد الأمراء الإيطاليين في القرن السادس عشر يتم تقديم عرض تمثيلي, بعد أن تم التحضير له لفترة من الزمن: النص (commedia) هو لمؤلف ما، وقد قام رسام– معماري بتحضير المشهد، و الفضاء الذي سيقدم فيه العروض، وهو نفسه، أوشخص آخر قام بتصميم ورسم الملابس التي ستستخدم في الفواصل الوسطية (intemezzi) ما بين العروض.
ب – أمثله شرقية:
يتم بناء العروض المسرحية الشرقية المنتمية إلى تقاليد عريقة من خلال نفس المعايير و لكن بأشكال وأهداف مختلفه جداً.
و نجد هنا أن كل شئ قد تم إبرالزه : ليس بالمعنى الذي يتم فيه تثبيت العرض، بل بالمعنى الذي يتم فيه تثبيت الخطوط، الخط التمثيلي لكل ممثل على انفراد، والأداء، والنص، والتنويعات للموسيقى. ولكن حتى هنا تتلاقى مختلف خطوط العرض, وتتلاحم و تتوحد ، ولكن من دون خضوعها لمبدأ توحدي ليتجاوزها أو ليصهرها كعناصر لعمل واحد موحد.
لقد اهتمت الدراسات التاريخية المسرحية، منذ القرن الثامن عشر ولحد منتصف القرن العشرين، جوهرياً، بالأعمال الأدبية الدرامية. أما الآن، وبعد أن ادركت وبشكل واضح جداً، أن المسرح هو ليس فقط عبارة عن الأدب المسرحي، بل وكذلك هو العرض، وجدت نفسها أشبه بشخصية بيرو ( المضحك الباكي-المترجم) (pirro) بعد الإنتصار. وهكذا, فإن "مؤرخ المسرح " هو أشبه "بمؤرخ التماثيل النحتية"، الذي ملك حرية الشك لإهتمامه بتماثيل من الملح. بل بالأحرى لإهتمامه فقط بتلك التماثيل.
إن التفكير بالعروض على أنها كتماثيل من الملح ، كأعمال يؤسف لضياعها (لزوالها) هو شئ فيه نوع من الإلتباس، و يدفع ذلك، بطريقة ما، إلى أن يوضع في الظل ما يؤسف عليه : أي التظليل على ان العروض المسرحية التي لا تدوم على مر الزمن، بخلاف كل تلك الأعمال التي يهتم بها التاريخ و النقد الفني .
فقد كانت افكار ستانسلافسكي و كوبو و ميرخولد و برخت و جوليان بيك و غروتوفسكي، كلها متقدمة على زمنها، ولكنها كانت أفكارا قد تم تحقيقها وبثها عن طريق العروض.
لكن ينبغي أن نؤكد، كان هناك ، بجانب كريغ وآبيا، ومن بعد ذلك آرثو، وجود جسد كائن ( organismo ) مسرحي قوي، "مجموعة من الممثلين المنعزلين" عن التطبيقات المسرحية الجارية حينئذ، ومن خلال الانفصال و المواجهة مع الآخرين، تم تشكل ذلك.).
ونظراً لخطورة العرض، وما في المعروض من مرئي، فهناك مساحة معطاة لهذا الجانب، ليكون أكثر وضوحاً بعناصر نصه، حيث التوصيف له دور هنا:
( والعرض هو مخلوق طائري ولهذا يحيلنا الى تلك العناصر المتواصلة التي يكون فيها عبارة عن لحظة من التقاليد التراثية والتطبيقات الفنية، و الخطوط الفنية الفردية و ثقافة المجموعة... و يظهر من هذه المجازية عنصراً آخراً للأبعاد الثلاثة للعرض عندما نساءل عن كيفية دخوله في تماس مع البيئة المحيطة.
فالعرض هو، قبل كل شئ، عبارة عن ثمرة لتجمع الناس، وتقسيم المهمات، والتنظيم والتخطيط لمشروع، و البروفات، ونشاطات تصاحب ذلك. ومن كل ذلك كانت العلاقات والروابط الاجتماعية بين الأفراد و الجماعة هي التي كانت تأخذ صيغا معينة وتتشكل. و لكن من كان يبرز في كل ذلك هو القائد الذي يقوم بقيادة النشاطات لفترة قصيرة، والذي كان يتميز بحضوره المعتبر وامتيازاته التي كان يتحلى بها في الحياة اليومية. و كان يتم من خلال ذلك، ولفترة من الزمن، تغير التراتيب الاجتماعية الجارية أو التأكيد عليها، و يتم محاكاة صراعات اجتماعية، ومن ثم كان يتم تنظيم البروفات.)
وما يتضح يشكل بُعداً آخر يتركز على مفهوم العرض هذا:
( من الصحيح أن العرض المسرحي، غالبا، لم يكن عبارة عن عملية وحدة (وانصهار) بل كان عملية تلاقي و تلاحم. ومن الصحيح أنه عبارة عن لحظة أكثر مما هو عبارة عن شئ فني ، يقوم بفعله ( وقام بفعله ويمكن أن يقوم بفعله ) من خلال حجمه و بفترته التحضيرية و الأجواء البيئوية التي يقوم بخلقها، وليس من خلال سطحية عرضه فقط ( أي ذلك الذي نقتصر عليه في تفكيرنا بشكل عام عندما نفكر بعرض ما ). ولكن، من الصحيح أيضا، أن العروض المسرحية هي غالبا ما يعاد عرضها أو من الممكن إعادتها، ويخطط لها كمشروع و يتم تكوينها. أي بمعنى أنها, كذلك كأعمال وكمنتوج فني .).
وما يسمّي حيوية بحث كهذا :
( في النهاية: إن البحث عن نقطة متحركة للتوازن، ما بين اتجاهين نقيضين، يطرح نفسه ضمن الصيغ النظرية كمشكلة للعلاقة ما بين رؤية الممثل ورؤية المتفرج. وحتى في هذه الحالة ينبغي, وقبل كل شئ ، التأكد من ثبوت الحقائق الجلية ظاهريا ، وتلك الأفكار المتداولة في الذهنية المسرحية التي تظهر على أنها نقاطا جيدة للانطلاق، لأنها مألوفة لدى العموم.).
أبحاث أربعة، عناصر هي أركان أربعة تعلو بفكرة الكتاب، وتفصح عن القيمة الفكرية والبحثية والجمالية للكتاب في عمومه، وما يمكن أن يكون للمسرح من دور اليوم بالذات، في الوصل بين مكونات المجتمع ومختلف فئاته، فالمسرح ينير، ويصدم ليكون التنويرالداخلي أكثر فاعلية، وأخذاً بعية الاعتبار كذلك .
وتسمح لنا هذه المراجعة، ولو بإيجاز شديد، والقراءة، ولو أنها سريعة بالمقابل، بالتأكيد على أن كتاباً كهذا يعزّز موقعه الثقافي عموماً، ومكانته المسرحية خصوصاً، من خلال جملة أبحاثه المسمّاة، وإبراز مدى فائدتها لأهلها طبعاً، لا سيما حين يكون المعد للكتاب هذا، والمترجم لما تقدَّم، من يعيش شغف الانشغال بالمسرح قراءة وكتابة وإخراجاً، وأن الذي تقدَّمت به بداية، عنصر إشهار لعلاقة كهذه، حيث يتراءى ما هو إنساني موحد، شرقه وغربه، من جهة، ولأن عطشاً إلى المسرح حين يتنشط، وقد ضاق عليه الخناق وأكثر، في ظل الأوضاع المتردية في منطقتنا، وهذا يعني، أن المسرح شاهد حي على ما يجري توتراً أو استقراراً
وتبعاً لهذا القول، فإن المتابع لما يقدّمه بياتلي مسرحياً: نصاً، وكتابة نقد وإخراجاً، إنما هو الوعي الذي يترجم شخصيته المفهومية بوصفها شخصية مسرح، وعالَم مسرح، وهموم مسرح، وما يرافق ذلك من صعوبات وتحديات، ولأن المسرح كموقع اعتباري: ثقافة وأداء دور، في مجتمع يحارب الشفافية والمكاشفة، ويراهن على المتستر في حقيقته اليومية، وهو يرتقي لديه إلى مستوى المعرّي لهذا الوجه المقنّع، والساعي إلى نزع الحجب المتعددة المراتب عن جسده، ليس حباً في التعرية وتشهيراً، وإنما في جعله معافى، وقادراً على دخهول التاريخ، وتمثّل الحياة في الصميم، أي ما يجعل المسرح فاعل تنوير للمجتمع، وتعزيز قوى التنوير كذلك.
ومن يقرأ هذه الأبحاث، ويصلها بإسهامات بياتلي الأخرى " كما يتضح في بطاقة التعريف به أسفل المقال هذا " يتأكد هذا الرهان الشاق والشيق لديه.
ثمة قول ينسَب إلى ابن رشد، ألا وهو: تموت روحي بموت الفلسفة.
بالتوازي معه، يمكن القول بلسان بياتلي: تموت روحي بموت المسرح !
ملاحظة من كاتب المقال:
هذا المقال الذي سطّرته يخص كتاب" التفكير في المسرح " كما تقدم، وهو قيد الطبع الآن، وقد أرسِل إلي، فأحببت رد هذا الجميل بجميل مستحق، ولهذا جاءت الاقتباسات دون أرقام الصفحات الخاصة به .
من جهة أخرى، أنشر ما ورد في مختتم الكتاب من بطاقة التعريف بالسير الذاتية لمؤلفي البحوث في هذا الكتاب، إلى جانب السيرة الذاتية لمعده ومترجمه
فابريتزيو كروجاني ـ (ولد في روما سنة 1942 ، ت في سنة 1992).
تخرج من جامعة لا سبينسا كلية الآداب والفلسفة ـ في قسم تاريخ المسرح. وعمل مدرسا ، ثم بروفسورا في جامعة بولونيا ، في قسم الفنون والموسيقا والعروض (D.A.M.S) منذ سنة 1971، كاستاذ لمادة تاريخ المسرح.
كلاوديو ميلدوليزي: برفيسور أكاديمي و مؤرخ ، ولد في مدينة بولونيا (1942 ـ 2009) .
تخلرج من أكاديمية فن الدراما في روما في قسم التمثيل.
عمل مدرساً في جامعة بيسكارا ، ثم بروفيسورا في جامعة بولونيا في كلية الآداب والفلسفة ، قسم الفنون والموسيقا والعروض (D.A.M.S). وعمل كمدرس لمادة الدراماتورجيا منذ سنة 1969. حصل على لقب ديكانا (كبير الأكاديميين. عضو في الأكاديمة العلمية في ايطاليا (Lincei ).
فرانكو روفيني (ولد في مدينة ماجراتا في 1939 ـ يعيش حاليا في روما.) بروفسور وباحث مسرحي .
تخرج من جامعة روما كلية العلوم والتكنولوجيا في تخصص علم الفيزياء. درس مادة الفيزياء و الرياضيات في المدارس الإعدادية.
فردنادو تفياني : برفسور ومؤرخ مسرحي (ولد في روما 1942، يعيش حاليا في روما)
تخرج من جامعة روما سابينسا كلية الآداب والفلسفة قسم التاريخ .
عمل استاذ برفسور في جامعة آكويلا (1986) و جامعة بولونيا ، درس فيها تاريخ المسرح.
شارك في تأسيس مجلة دفاتر مسرحية و مجلة المسرح والتاريخ (1986). عضو مؤسس (مع ايجينيو باربا ) للمدرسة الدولية لأنثروبولوجي المسرح (1979)، ويعمل مستشار أدبي مع فرقة الأدون تياتر في الدنمارك (منذ سنة 1975).
ترجمت بعض كتبه للغة الانجليزية والفرنسية . ونشرت له بعض المقالات البحثية باللغة العربية : في كتاب طاقات الممثل (صدر في مصر) ، وفي كتاب أسرار فن الممثل ( تأليف بارب وسافايزي ـ د . قاسم بياتلي ، صدر في البحرين)
د . قاسم يياتلي ـ معد الكناب : مخرج وباحث مسرحي عراقي
دبلوم الفنون الجميلة بغداد سنة 1976ـ أكمل الدراسات الجامعية في كلية الآداب والفلسفة– بولونيا الإيطالية – في قسم (D.A.M.S). وحصل في نفس الجامعة على الدكتوراه سنة 1990.
عمل مدرسا في مادة التمثيل في جامعة طرابلس سنة 2008 . وفي جامعة دهوك 2011 ـ 2014 ـ عمل مدرس مادة التمثيل لحد سنة 2019 في كلية الفنون الجميلة ـ جامعة الموصل (العراق).
ـ صدر له بالعربية العديد من الكتب :"الرقص في المجتمع الإسلامي" - حوارات حول المسرح - دوائر المسرح و ذاكرة الجسد، و غروتوفسكي والمسرح وكتاب "غروتوفسكي بين العضوية والطقوسية". لغة الحركة و الجسد وفن لممثل ( الشارقة 2016). الإخرج وفن المسرح (الأردن 2017) . وكتاب كوميديا ديللارته ، الهيئة العربية للمسرح ( الشارقة 2018) .
ترجم كتب إيوجينيو باربا إلا اللغة العربية: مسيرة المعاكسين (بيروت 1995) و ). وترجمة ثلاثة نصوص كوميدية للمسرحي الإيطالي داريو فو (الحائز على جائزة النوبل).
و زورق من الورق عرض المباديء العامة لأنثروبولوجية المسرح (القاهرة 2006) . وكتاب أسرار فن الممثل ( البحرين 2015 )
ـ نشر خمسة كتب باللغة الإيطالية : الجسد الكشوف ( تورينو طبعة ثانية 2005 ) وآخرها هياكل اللطائف ( ميلانو2007 مع مقدمة كتبها ايوجينيو باربا). ونشر بعض كتاباته بالفرنسية والإنجليزية والإسبانية والبرتغالية.
أسس فرقة مسرح الأركان في مدينة فلورنس سنة 1984 .أخرج معها : حكاية المتزهد - البرزخ نور الشرق- جزة الخروف الذهبية- رقصات الأركان- إلى خليل في الغربة و شهرزاد والتفكير في بغداد، ومسرحية الحسد و روح بلا مسكن، قدمت في بلدان عديدة: إيطاليا، اسبانيا، البرازيل بلجيكيا و الدنمارك، و الشارقة و مراكش و دمشق ( 2006)، ليبيا 2009، دهوك والسليمانية وأربيل وبطمان ( في تركيا 2015)
اشترك في ندوات و أشرف على دورات تدريبية حول التمثيل: معهد الدراما كامبريج 1992، جامعة روما 3 وأكاديمية الفنون في مدينة بيلورتزونتي (البرازيل (2006). و دورات تدريبية في التمثيل والإخراج: تنظيم جمعية المسرحين في الشارقة سنة2000، وودورتين سنة 2001 و2004 ، من تنظيم مديرية الثقافة في حكومة الشارقة.
ـ تم تقديم فلم رحلة نحو الينابيع، وثائقي عن مسيرته الفنية، من إخراج الفنان جودي الكناني،
ـ تمت مناقشة رسالة دكتوراه عن تجربته المسرحية في جامعة باريس 8 بعنوان بداغوجيا الممثل في المسرح الوسيط في 2018 للدكتور الليبي موسى العماري.
حصل على شهادة تقديرية من جامعة بولونيا الإيطالية ، منحت له لمسيرة نشاطه الإبداعي الفني المسرحي والثقافي في المجتمع والثقافة في إيطاليا .
تمخضت في مسيرة عمله التطبيقي وبحثه النظري رؤية وتوجه المسرح الوسيط مبرزا فيه دور الممثل في بناء العمل الدرامي المسرحي ، ضمن رؤية أنثروبولوجية المسرح ، مركزا على أسس لغة الحركة و الجسد في عمل دراماتورجية الممثل.