الفلسفة تجريد والفن تجسيد، فهما على هذا التعريف نقيضان أو طرفان متقابلان؛ أو هما على الأقل شيئان مختلفان، وليس من غرضنا في هذا المقال أن نعرض لما بين موضوع الفلسفة وموضوع الفن من خلاف، فإن قصارى القول في هذه المسألة أن الفيلسوف لا يشغل مكان الفنان، والفنان لا يشغل مكان الفيلسوف على أية حال، وأن بحث هذه المسألة أحرى بدراسة مستقلة تقصر عليه، وإنما غرضنا من هذا المقال أن نجمل رأي الفلسفة في الفن، أو قيمة الفن في رأي الفلاسفة، وأن نرد ذلك كله إلى سبب أصيل في موقف الفيلسوف من جميع المسائل التي تدخل في تقديره، ومنها حقيقة الفنون.
والسبب الأصيل الذي ترجع إليه تقديرات الفلاسفة في الحكم على الفن هو موقفهم من قيمة المحسوسات بالنسبة إلى الحقائق، فأنت تعرف رأي الفيلسوف في الفن إذا عرفت رأيه في المحسوسات ومبلغ دلالتها على الحقيقة؛ لأن الفن لا ينفصل عن المحسوسات، والفلسفة لا تنفصل عن طلب الحقيقة في أصول الأشياء أو فروعها، فلا قيمة للفن في نظر فيلسوف من الفلاسفة أكبر من قيمة الحقيقة التي يدل عليها.
فأفلاطون مثلًا كان يقول أن الحقائق أفكار مجردة من عقل الخالق جل وعلا، وأن هذه الأشياء المحسوسة إن هي إلا محاولة لإبراز تلك الأفكار إلى عالم المادة أو الهيولى، فالمحسوسات هي محاكاة للحقائق العليا، والمصنوعات الفنية هي محاكاة لهذه المحسوسات، ومؤدى ذلك أن الفن محاكاة للمحاكاة وتقليد للتقليد، وليست هذه بالمنزلة «المشرفة» في تقدير الفيلسوف، فلا جرم ينزل الفنانون في مقام دون مقام الشرف من جمهورية أفلاطون!
أما تلميذه الكبير — أرسطو — فقد كان للمحسوسات شأن أعظم من هذا الشأن في موازينه؛ لأنه يعتمد على المشاهدة والتجربة واستخلاص الكليات من الجزئيات، فالمحسوسات عنده وسيلة من وسائل الترقي إلى الحقيقة والنفاذ إلى لبابها، ومن ثم تبدو الحقيقة في عمل الفنان المجيد على وجه من الوجوه، بل ربما تأتَّى للفنان أن يخلص إلى الحقيقة الكلية من وراء المشاهدات الجزئية؛ لأنه إذا رسم لنا الوجه الجميل رسم لنا نموذج الوجه الجميل، ولم يرسل لنا هذا الوجه أو ذاك، فهو يترقى من الجزئيات إلى الكليات، وعند الفيلسوف أن «الجميل» غير «الطيب» أو «الخيِّر» في خصلة واحدة شاملة لما بينهما من الفروق، وهي أن الطيب متعلق بعالم العمل أو الحركة، وأن الجميل متعلق بعالم من المعاني ثابت لا حركة فيه، ومتى ذكرنا أن أرسطو يصف الله بأنه هو «المحرك الذي لا يتحرك»، فقد عرفنا المرتقى الذي ارتقى إليه بالجمال أو بالفن المشغول بتمثيل الجمال، ومن هنا لا عجب أن يرى أرسطو أن الشعر أهم من التاريخ؛ لأن الشعر يعرض لنا الإنسان في كلياته العامة ولا يعرض لنا التاريخ منه إلا وقائع مخصوصة وآحادًا متجزئين.
ومن طرائف المفارقات حقًّا أن أفلاطون — وهو في صميمه فنان واسع الخيال — ينزل بالخيال وذويه إلى تلك المنزلة المهينة! وأن تلميذه الكبير — وهو عالم لم يبلغ من سعة التخيل مبلغ أستاذه — يرتفع بالفن ذلك المرتفع ويقدره ذلك التقدير.
ولكن أرسطو — على جلالة قدره — لم يسلم من خطأ الأقدمين جميعًا في قولهم: إن الفنون كلها تقوم على المحاكاة والتقليد، وغفلتهم عن الحقيقة التي شاعت اليوم بين المفكرين ونقاد الفنون، وهي أن الفن الرفيع لا يقوم على غير الخلق والإبداع، ومن طرائف المفارقات أيضًا أن الرجل الذي أدرك — بين الأقدمين — أن الفنان يبتدع ولا يقلد لم يكن من الفلاسفة المعدودين، بل كان معدودًا من الأدباء والخطباء، وهو شيشرون الخطيب الروماني المشهور؛ فإنه قال لصديقه ماركس بروتس: إن فيدياس لم يقلد شيئًا حين مثل لنا زيوس وأثينه، ولكنه خلق من مخيلته ما يراه الناس بالأبصار، وكان يقول إن الجمال معنى يقوم على نسبة الجزء إلى سائر الأجزاء، وأنه لارتباطه بالمعنى يختلف بين الرجال والنساء، فجمال الرجل فحواه الوقار وجمال المرأة فحواه الرشاقة، ومتى كان الفنان موكلًا بتمثيل المعاني فهناك شيء أمامه غير محاكاة المحسوسات.
ثم ظهرت المدرسة الأفلاطونية الحديثة، فكان رأيها في الجمال والفن هو رأي إمامها أفلاطون، وهو لا يعظم المحسوسات كلها ولا يحتقرها كلها، ولكنه يعطيها من الحسن والخير بمقدار نصيبها من الفيض والصدور.
وخلاصة فلسفة أفلوطين أن المخلوقات جميعًا صدرت من «الأحد» على التوالي؛ ففيها من الجمال بمقدار ما يتجلى فيها من فيض الأحد، أو من فيض العقول التي تسلسلت من وجوده درجات بعد درجات، فإذا مثل الفنان لونًا من ألوان الجمال فهو لا يمثل لنا محسوسًا من هذه المحسوسات، وإنما يمثل لنا قبسًا من نور «الأحد» الذي تجلى في ذلك المحسوس، وقد كان أفلوطين ينكر تعريف الجمال بالتناسب؛ لأن التمثال الذي يصور الحياة أجمل في رأيه من التمثال الذي تتناسب أعضاؤه، وهو بعيد الشبه بالحياة.
وقامت الفلسفة الدينية بعد المدرسة الأفلاطونية الحديثة، فانقسم أصحابها إلى قسمين في تقدير الفنون، ويمكن أن يُقال هذا عن الفلسفة المسيحية، كما يُقال عن غيرها من الفلسفات الدينية، ومنها فلسفة المتصوفة والمتكلمين بين المسلمين.
فالذين نظروا منهم إلى الدنيا نظرة الزهد فيها والتزاور عنها توجسوا من الفنون، كما توجسوا من سائر المحسوسات، وحسبوها أحبولة من أحابيل الشيطان.
والذين نظروا إلى الخلق كأنه أثر من آثار الخالق التمسوا في الحسن دليلًا على وجود مبدعه ومصوره، فلم ينكروه ولم ينكروا الفنون التي تعرضه وتجلوه.
وربما جمعوا بين النظرتين، كما فعل سكوتس Scotus (٨١٥–٨٧٧)، ومن نحا نحوه، فيقولون إن الجمال قد يكون رمزًا إلى جمال الله، كما يكون فخًّا من فخاخ الشيطان، ولا يجعله الشيطان فخًّا من فخاخه إلا لأنه حسن يستهدي الأبصار ويفتن القلوب.
وقد كان القديس توما الأكويني حكمًا عدلًا في هذه المسألة، كما كان حكمًا عدلًا في غيرها من مسائل الفلسفة واللاهوت، فعنده أن الكون كله جميل في نظر من يراه فيرى إبداع خالقه فيه، وأن الجميل الحق لا يكون جميلًا إلا إذا توافر فيه كمال وتناسق وصفاء، وذلك كله عنوان محسوس لجمال الله.
ولما نشأت الفلسفة الحديثة كان إمامها «ديكرت» وسطًا بين تقديس الحس وتدنيسه، أو بين الاعتماد عليه كل الاعتماد وإسقاطه كل الإسقاط، فهو لا ينكر أن الحس يتأدى بنا إلى المعرفة في بعض الأحيان، ولا يقول بأنه هو سبيل المعرفة الوحيد، كما يقول الحسيون التجريبيون، فهناك حس صادق وحس واهم، والتمييز بينهما لا يرجع إلى مقاييس الحس نفسه، بل إلى مقاييس الحقائق الرياضية التي أثبتها الله في عقل الإنسان، فإذا جلست أمام الموقد فقد تكون جالسًا هناك حقًّا، وقد تكون في حلم يُخيَّل إليك أنك جالس هناك، والعقل بمقاييسه الرياضية هو الذي يميز بين الحِسَّيْن.
وجملة ما يؤخذ من هذا الرأي أنه رأي سلبي في النظر إلى قيمة الفنون، وغاية ما ينتهي إليه أنه لا مانع من تمثيل المعرفة أو الحقيقة في آيات الفن الجميل.
ثم راجت مدرسة الحس والمعرفة التجريبية، واقترن رواجها بالرجعة إلى المدرسة السلفية، أي: بالرجعة إلى مقاييس الفنون كما كانت في عهد اليونان واللاتين الأقدمين، فقامت فلسفة الجمال كلها — أو كادت تقوم كلها — على المقاييس الحسية، وظهر اسم «الأيستتك Oesthetics» بمعنى فلسفة الجمال لأول مرة حوالي هذه الفترة، وكان صائغ هذه الكلمة بومجارتن Baumgarten ينشر مذهبه في ألمانيا، ويعاصره أدمند برك Burke بآراء في الجمال والجلال تتلاقى معه في شيء واحد، وهو الرجوع إلى المشاهدات والمحسوسات وتوخي الدراسات العلمية في تقرير القواعد وتعميم الأحكام.
وجاء رد الفعل المنتظر بعد كل حركة تتمادى إلى نهايتها، فأخذ الفلاسفة ينقصون من سلطان الحس ويلوذون بعض اللواذ بإلهام البداهة وإيحاء الضمير.
وطليعة هذه الحركة فيلسوفان عظيمان من أعظم الفلاسفة الألمان في القرن التاسع عشر، وهما: «كانت» و«هيجل».
ﻓ «كانت» يقول إن الحس والعقل معًا لا ينفذان إلى ما وراء الظواهر الطبيعية، وإننا لا نعرف قانونًا من القوانين العامة يضطرنا إلى الحكم على شيء من الأشياء بأنه جميل أو غير جميل، وإنما يرجع تذوق الجمال إلى «القانون الأدبي أو الأخلاقي» الذي تُناط به معرفة الله، فالجمال هو رمز النظام الأدبي في الوجود، وهو مع هذا لا يرادف «الخير» في مدلوله ومعناه؛ لأنك لا تقول عن الشيء إنه «خيِّر» أو «طيب» إلا إذا عرفت قبل ذلك ما هو ذلك الشيء، ولكنك تعرف الجميل، ولا تحتاج إلى مثل تلك المعرفة؛ لأن البداهة التي يوحي بها النظام الأدبي في الوجود هي مصدر الحكم عليه.
و«هيجل» يضع الفن في جانب، ويضع الفلسفة في جانب يحاذيه ولا يناقضه؛ لأنه يقرن الفن بالجمال، ويقرن الفلسفة بالحقيقة، ويقول إن الحقيقة هي الفكرة المطلقة Absolute كما تتجلى للعقل، وإن الجمال هو الفكرة المطلقة كما تتجلى للحس والمدركات الحسية، ويتبعها الخيال.
ويترقى شأن الفن بترقي شأن البداهة في الجيل الذي أعقب ذلك الجيل، وهو جيل القرن العشرين، فالفيلسوف الإيطالي كروتشي “Croce” يقسم المعرفة إلى معرفتين: معرفة منطق ومعرفة بداهة، وعماد المنطق العقل، وعماد البداهة الخيال، وهو — أي: كروتشي — محسوب من الهيجليين؛ لأنه يقول بالفكرة المطلقة، أو يقول بأن الفكر هو قوام الوجود، ولكن الفكرة عند كروتشي روح عامل وليس مجرد فكرة منطقية، ومن هنا يفضل كروتشي الفن على العلم وعلى فلسفة ما وراء الطبيعة؛ لأنه ينشئ ويعمل وينفذ بنا مباشرة إلى معرفة الكائن أو الحي في ذاته، وإذا قال كروتشي إن الخيال قرار وإن المنطق يقوم عليه، فليس معنى ذلك أنه يرفع شأن المنطق على شأن الخيال، بل هو يجعل العلاقة بين المعرفة البديهية والمعرفة المنطقية كالمعرفة بالكلام والمعرفة بالأجرومية، فلا أجرومية بغير كلام، وإن كان الكلام قرارًا تقوم الأجرومية عليه، وفضل الفن أنه منوط بالنموذج الفرد من حيث ينقلنا العلم بعيدًا من الحياة النابضة إلى المجردات العامة، ونحن نبتغي المنفعة من العلوم، ولكننا نبتغي الحياة من الفنون.
ويقابل كروتشي — ولكن على الطريقة الإنجليزية — الفيلسوف الإنجليزي كولنجود Collingwood، فهو يبين في كتابه عن فلسفة الفن أو العرض أو التمثيل، غير التقليد؛ لأن التقليد أخذ صناعة من صناعة، أما العرض أو التمثيل فهو أخذ صناعة من الطبيعة، ثم يعود فيقول إن العرض عمل يلازم الفن، ولكنه ليس هو الفن في صميمه؛ لأنه عمل من أعمال الحذق والمهارة التي تشبه أن تكون مهارة آلية، وليس بخلق ولا إنشاء ولا إفضاء بروح الفنان إلى من ينظرون عمله، ولو كان كل ما يعنينا من الفن أنه يعرض لنا الطبيعة في الصورة لما بقيت للصورة التي مات أصحابها قيمة فنية بعد موتهم وضياع المقياس الذي تُقاس به مشابهتهم للصور التي تمثلهم، فهناك شيء في الصورة غير مجرد المشابهة يعنينا ويقوم عليه تقديرنا لملكة الفنان المطبوع، وهذا هو الخلق والتغيير.
وعند كولنجود أن الخيال باب من أبواب المعرفة وإن اختلط فيه الصدق بالضلال، وليس في هذا الاختلاط ما يعيبه ويبطل عمله؛ لأنه بمثابة الفروض العلمية التي تختلط وتتضارب فيما بينها إلى أن تتمحص عن فرض واحد معول عليه، ويفرق كولنجود بين الخيال Imagination والوهم أو الخداع Make-believe كما يفرق بين الفن الذي يعتمد على هذا، والفن الذي يعتمد على ذاك.
فالفن الخادع هو الفن الذي يرضي شهوة من الشهوات يفقدها الإنسان في عالم الحس، فيموهها على نفسه في عالم الأحلام.
أما الخيال فإنه يجري عمله كما تجري الحواس وظائفها دون تعمد للخداع وإرضاء الشهوات، وإن جاء منه عفوًا ما يخدع أو ما يرضي شهوة المتخيلين.
ويمتاز فن الخيال على فن الخداع بأنه فن لا يتوخى التسلية ولا إثارة الإحساس، بل يعمد إلى الأشياء التي يحسها الناس إحساسًا مبهمًا أو مضطربًا فيجلوها لهم، ويرفعها أمامهم من قرارتها الغامضة إلى وضح الوعي والتصور المبين، ولا معنى في مذهب كولنجود لقول القائلين بالفن للفن، على اعتبار أن الفن صناعة أو صياغة منفصلة عن الموضوع، ولكن «الفن للفن» في رأيه معناه أن الفن لموضوعه، وأن موضوعه هو ما تقدمت الإشارة إليه من تجلية الخيال والشعور.
وتنتهي بنا هذه الرحلة السريعة بين القديم والحديث إلى خلاصة نجعلها في هذه الحقيقة، وهي أننا نرتقي في تقدير الفن كلما ارتقينا في تقدير الحس والبداهة وفي العلم بوظيفة الخيال، فليس الفن مقيدًا بالحس والمدركات الحسية، وليس الخيال خداعًا منعزلًا عن حقائق الأشياء، بل هو وظيفة مبدعة تنفذ من أسرار الخلق إلى الصميم.
ونعود إلى أفلاطون لنقتبس منه أمثولة تنفعنا في تقريب وظيفة الفن على هذا الاعتبار، فأفلاطون يقول إن الإله السرمدي شاءت له نعمته أن يتفضل على المخلوقات بنوع من البقاء يناسبها؛ لأنه هو الباقي الذي لا يزول، وليس من المعقول أن يخلع عليها نعمة البقاء الأبدي؛ لأن بقاء الأبد لا يُخلَع ولا ينتقل من خالق إلى مخلوق، فوهب لها بقاء الزمان تحاكي به بقاء الله، وهو غاية ما تسمو إليه من دوام.
وعلى هذا النحو يمكننا أن نقول إن الخالق السرمدي — جلت قدرته — قد شاءت له نعمته أن يتفضل على العباد بنوع من قدرة الخلق تناسبها، وتدخل في مستطاعها، فوهب لها الفن تخلق به بدائعها وتصور به آمالها، فهو غاية ما تسمو إليه من خلق وإبداع، وهو قبس في الإنسان من قدرة الله، أو كما قلنا من قصيدة في ديواننا الأول:
الشِّعرُ من نفسِ الرَّحمنِ مقتبَسٌ .......... والشَّاعرُ الفذُّ بين النَّاسِ رَحمانُ
* المصدر: دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، عباس محمود العقاد
www.facebook.com
والسبب الأصيل الذي ترجع إليه تقديرات الفلاسفة في الحكم على الفن هو موقفهم من قيمة المحسوسات بالنسبة إلى الحقائق، فأنت تعرف رأي الفيلسوف في الفن إذا عرفت رأيه في المحسوسات ومبلغ دلالتها على الحقيقة؛ لأن الفن لا ينفصل عن المحسوسات، والفلسفة لا تنفصل عن طلب الحقيقة في أصول الأشياء أو فروعها، فلا قيمة للفن في نظر فيلسوف من الفلاسفة أكبر من قيمة الحقيقة التي يدل عليها.
فأفلاطون مثلًا كان يقول أن الحقائق أفكار مجردة من عقل الخالق جل وعلا، وأن هذه الأشياء المحسوسة إن هي إلا محاولة لإبراز تلك الأفكار إلى عالم المادة أو الهيولى، فالمحسوسات هي محاكاة للحقائق العليا، والمصنوعات الفنية هي محاكاة لهذه المحسوسات، ومؤدى ذلك أن الفن محاكاة للمحاكاة وتقليد للتقليد، وليست هذه بالمنزلة «المشرفة» في تقدير الفيلسوف، فلا جرم ينزل الفنانون في مقام دون مقام الشرف من جمهورية أفلاطون!
أما تلميذه الكبير — أرسطو — فقد كان للمحسوسات شأن أعظم من هذا الشأن في موازينه؛ لأنه يعتمد على المشاهدة والتجربة واستخلاص الكليات من الجزئيات، فالمحسوسات عنده وسيلة من وسائل الترقي إلى الحقيقة والنفاذ إلى لبابها، ومن ثم تبدو الحقيقة في عمل الفنان المجيد على وجه من الوجوه، بل ربما تأتَّى للفنان أن يخلص إلى الحقيقة الكلية من وراء المشاهدات الجزئية؛ لأنه إذا رسم لنا الوجه الجميل رسم لنا نموذج الوجه الجميل، ولم يرسل لنا هذا الوجه أو ذاك، فهو يترقى من الجزئيات إلى الكليات، وعند الفيلسوف أن «الجميل» غير «الطيب» أو «الخيِّر» في خصلة واحدة شاملة لما بينهما من الفروق، وهي أن الطيب متعلق بعالم العمل أو الحركة، وأن الجميل متعلق بعالم من المعاني ثابت لا حركة فيه، ومتى ذكرنا أن أرسطو يصف الله بأنه هو «المحرك الذي لا يتحرك»، فقد عرفنا المرتقى الذي ارتقى إليه بالجمال أو بالفن المشغول بتمثيل الجمال، ومن هنا لا عجب أن يرى أرسطو أن الشعر أهم من التاريخ؛ لأن الشعر يعرض لنا الإنسان في كلياته العامة ولا يعرض لنا التاريخ منه إلا وقائع مخصوصة وآحادًا متجزئين.
ومن طرائف المفارقات حقًّا أن أفلاطون — وهو في صميمه فنان واسع الخيال — ينزل بالخيال وذويه إلى تلك المنزلة المهينة! وأن تلميذه الكبير — وهو عالم لم يبلغ من سعة التخيل مبلغ أستاذه — يرتفع بالفن ذلك المرتفع ويقدره ذلك التقدير.
ولكن أرسطو — على جلالة قدره — لم يسلم من خطأ الأقدمين جميعًا في قولهم: إن الفنون كلها تقوم على المحاكاة والتقليد، وغفلتهم عن الحقيقة التي شاعت اليوم بين المفكرين ونقاد الفنون، وهي أن الفن الرفيع لا يقوم على غير الخلق والإبداع، ومن طرائف المفارقات أيضًا أن الرجل الذي أدرك — بين الأقدمين — أن الفنان يبتدع ولا يقلد لم يكن من الفلاسفة المعدودين، بل كان معدودًا من الأدباء والخطباء، وهو شيشرون الخطيب الروماني المشهور؛ فإنه قال لصديقه ماركس بروتس: إن فيدياس لم يقلد شيئًا حين مثل لنا زيوس وأثينه، ولكنه خلق من مخيلته ما يراه الناس بالأبصار، وكان يقول إن الجمال معنى يقوم على نسبة الجزء إلى سائر الأجزاء، وأنه لارتباطه بالمعنى يختلف بين الرجال والنساء، فجمال الرجل فحواه الوقار وجمال المرأة فحواه الرشاقة، ومتى كان الفنان موكلًا بتمثيل المعاني فهناك شيء أمامه غير محاكاة المحسوسات.
ثم ظهرت المدرسة الأفلاطونية الحديثة، فكان رأيها في الجمال والفن هو رأي إمامها أفلاطون، وهو لا يعظم المحسوسات كلها ولا يحتقرها كلها، ولكنه يعطيها من الحسن والخير بمقدار نصيبها من الفيض والصدور.
وخلاصة فلسفة أفلوطين أن المخلوقات جميعًا صدرت من «الأحد» على التوالي؛ ففيها من الجمال بمقدار ما يتجلى فيها من فيض الأحد، أو من فيض العقول التي تسلسلت من وجوده درجات بعد درجات، فإذا مثل الفنان لونًا من ألوان الجمال فهو لا يمثل لنا محسوسًا من هذه المحسوسات، وإنما يمثل لنا قبسًا من نور «الأحد» الذي تجلى في ذلك المحسوس، وقد كان أفلوطين ينكر تعريف الجمال بالتناسب؛ لأن التمثال الذي يصور الحياة أجمل في رأيه من التمثال الذي تتناسب أعضاؤه، وهو بعيد الشبه بالحياة.
وقامت الفلسفة الدينية بعد المدرسة الأفلاطونية الحديثة، فانقسم أصحابها إلى قسمين في تقدير الفنون، ويمكن أن يُقال هذا عن الفلسفة المسيحية، كما يُقال عن غيرها من الفلسفات الدينية، ومنها فلسفة المتصوفة والمتكلمين بين المسلمين.
فالذين نظروا منهم إلى الدنيا نظرة الزهد فيها والتزاور عنها توجسوا من الفنون، كما توجسوا من سائر المحسوسات، وحسبوها أحبولة من أحابيل الشيطان.
والذين نظروا إلى الخلق كأنه أثر من آثار الخالق التمسوا في الحسن دليلًا على وجود مبدعه ومصوره، فلم ينكروه ولم ينكروا الفنون التي تعرضه وتجلوه.
وربما جمعوا بين النظرتين، كما فعل سكوتس Scotus (٨١٥–٨٧٧)، ومن نحا نحوه، فيقولون إن الجمال قد يكون رمزًا إلى جمال الله، كما يكون فخًّا من فخاخ الشيطان، ولا يجعله الشيطان فخًّا من فخاخه إلا لأنه حسن يستهدي الأبصار ويفتن القلوب.
وقد كان القديس توما الأكويني حكمًا عدلًا في هذه المسألة، كما كان حكمًا عدلًا في غيرها من مسائل الفلسفة واللاهوت، فعنده أن الكون كله جميل في نظر من يراه فيرى إبداع خالقه فيه، وأن الجميل الحق لا يكون جميلًا إلا إذا توافر فيه كمال وتناسق وصفاء، وذلك كله عنوان محسوس لجمال الله.
ولما نشأت الفلسفة الحديثة كان إمامها «ديكرت» وسطًا بين تقديس الحس وتدنيسه، أو بين الاعتماد عليه كل الاعتماد وإسقاطه كل الإسقاط، فهو لا ينكر أن الحس يتأدى بنا إلى المعرفة في بعض الأحيان، ولا يقول بأنه هو سبيل المعرفة الوحيد، كما يقول الحسيون التجريبيون، فهناك حس صادق وحس واهم، والتمييز بينهما لا يرجع إلى مقاييس الحس نفسه، بل إلى مقاييس الحقائق الرياضية التي أثبتها الله في عقل الإنسان، فإذا جلست أمام الموقد فقد تكون جالسًا هناك حقًّا، وقد تكون في حلم يُخيَّل إليك أنك جالس هناك، والعقل بمقاييسه الرياضية هو الذي يميز بين الحِسَّيْن.
وجملة ما يؤخذ من هذا الرأي أنه رأي سلبي في النظر إلى قيمة الفنون، وغاية ما ينتهي إليه أنه لا مانع من تمثيل المعرفة أو الحقيقة في آيات الفن الجميل.
ثم راجت مدرسة الحس والمعرفة التجريبية، واقترن رواجها بالرجعة إلى المدرسة السلفية، أي: بالرجعة إلى مقاييس الفنون كما كانت في عهد اليونان واللاتين الأقدمين، فقامت فلسفة الجمال كلها — أو كادت تقوم كلها — على المقاييس الحسية، وظهر اسم «الأيستتك Oesthetics» بمعنى فلسفة الجمال لأول مرة حوالي هذه الفترة، وكان صائغ هذه الكلمة بومجارتن Baumgarten ينشر مذهبه في ألمانيا، ويعاصره أدمند برك Burke بآراء في الجمال والجلال تتلاقى معه في شيء واحد، وهو الرجوع إلى المشاهدات والمحسوسات وتوخي الدراسات العلمية في تقرير القواعد وتعميم الأحكام.
وجاء رد الفعل المنتظر بعد كل حركة تتمادى إلى نهايتها، فأخذ الفلاسفة ينقصون من سلطان الحس ويلوذون بعض اللواذ بإلهام البداهة وإيحاء الضمير.
وطليعة هذه الحركة فيلسوفان عظيمان من أعظم الفلاسفة الألمان في القرن التاسع عشر، وهما: «كانت» و«هيجل».
ﻓ «كانت» يقول إن الحس والعقل معًا لا ينفذان إلى ما وراء الظواهر الطبيعية، وإننا لا نعرف قانونًا من القوانين العامة يضطرنا إلى الحكم على شيء من الأشياء بأنه جميل أو غير جميل، وإنما يرجع تذوق الجمال إلى «القانون الأدبي أو الأخلاقي» الذي تُناط به معرفة الله، فالجمال هو رمز النظام الأدبي في الوجود، وهو مع هذا لا يرادف «الخير» في مدلوله ومعناه؛ لأنك لا تقول عن الشيء إنه «خيِّر» أو «طيب» إلا إذا عرفت قبل ذلك ما هو ذلك الشيء، ولكنك تعرف الجميل، ولا تحتاج إلى مثل تلك المعرفة؛ لأن البداهة التي يوحي بها النظام الأدبي في الوجود هي مصدر الحكم عليه.
و«هيجل» يضع الفن في جانب، ويضع الفلسفة في جانب يحاذيه ولا يناقضه؛ لأنه يقرن الفن بالجمال، ويقرن الفلسفة بالحقيقة، ويقول إن الحقيقة هي الفكرة المطلقة Absolute كما تتجلى للعقل، وإن الجمال هو الفكرة المطلقة كما تتجلى للحس والمدركات الحسية، ويتبعها الخيال.
ويترقى شأن الفن بترقي شأن البداهة في الجيل الذي أعقب ذلك الجيل، وهو جيل القرن العشرين، فالفيلسوف الإيطالي كروتشي “Croce” يقسم المعرفة إلى معرفتين: معرفة منطق ومعرفة بداهة، وعماد المنطق العقل، وعماد البداهة الخيال، وهو — أي: كروتشي — محسوب من الهيجليين؛ لأنه يقول بالفكرة المطلقة، أو يقول بأن الفكر هو قوام الوجود، ولكن الفكرة عند كروتشي روح عامل وليس مجرد فكرة منطقية، ومن هنا يفضل كروتشي الفن على العلم وعلى فلسفة ما وراء الطبيعة؛ لأنه ينشئ ويعمل وينفذ بنا مباشرة إلى معرفة الكائن أو الحي في ذاته، وإذا قال كروتشي إن الخيال قرار وإن المنطق يقوم عليه، فليس معنى ذلك أنه يرفع شأن المنطق على شأن الخيال، بل هو يجعل العلاقة بين المعرفة البديهية والمعرفة المنطقية كالمعرفة بالكلام والمعرفة بالأجرومية، فلا أجرومية بغير كلام، وإن كان الكلام قرارًا تقوم الأجرومية عليه، وفضل الفن أنه منوط بالنموذج الفرد من حيث ينقلنا العلم بعيدًا من الحياة النابضة إلى المجردات العامة، ونحن نبتغي المنفعة من العلوم، ولكننا نبتغي الحياة من الفنون.
ويقابل كروتشي — ولكن على الطريقة الإنجليزية — الفيلسوف الإنجليزي كولنجود Collingwood، فهو يبين في كتابه عن فلسفة الفن أو العرض أو التمثيل، غير التقليد؛ لأن التقليد أخذ صناعة من صناعة، أما العرض أو التمثيل فهو أخذ صناعة من الطبيعة، ثم يعود فيقول إن العرض عمل يلازم الفن، ولكنه ليس هو الفن في صميمه؛ لأنه عمل من أعمال الحذق والمهارة التي تشبه أن تكون مهارة آلية، وليس بخلق ولا إنشاء ولا إفضاء بروح الفنان إلى من ينظرون عمله، ولو كان كل ما يعنينا من الفن أنه يعرض لنا الطبيعة في الصورة لما بقيت للصورة التي مات أصحابها قيمة فنية بعد موتهم وضياع المقياس الذي تُقاس به مشابهتهم للصور التي تمثلهم، فهناك شيء في الصورة غير مجرد المشابهة يعنينا ويقوم عليه تقديرنا لملكة الفنان المطبوع، وهذا هو الخلق والتغيير.
وعند كولنجود أن الخيال باب من أبواب المعرفة وإن اختلط فيه الصدق بالضلال، وليس في هذا الاختلاط ما يعيبه ويبطل عمله؛ لأنه بمثابة الفروض العلمية التي تختلط وتتضارب فيما بينها إلى أن تتمحص عن فرض واحد معول عليه، ويفرق كولنجود بين الخيال Imagination والوهم أو الخداع Make-believe كما يفرق بين الفن الذي يعتمد على هذا، والفن الذي يعتمد على ذاك.
فالفن الخادع هو الفن الذي يرضي شهوة من الشهوات يفقدها الإنسان في عالم الحس، فيموهها على نفسه في عالم الأحلام.
أما الخيال فإنه يجري عمله كما تجري الحواس وظائفها دون تعمد للخداع وإرضاء الشهوات، وإن جاء منه عفوًا ما يخدع أو ما يرضي شهوة المتخيلين.
ويمتاز فن الخيال على فن الخداع بأنه فن لا يتوخى التسلية ولا إثارة الإحساس، بل يعمد إلى الأشياء التي يحسها الناس إحساسًا مبهمًا أو مضطربًا فيجلوها لهم، ويرفعها أمامهم من قرارتها الغامضة إلى وضح الوعي والتصور المبين، ولا معنى في مذهب كولنجود لقول القائلين بالفن للفن، على اعتبار أن الفن صناعة أو صياغة منفصلة عن الموضوع، ولكن «الفن للفن» في رأيه معناه أن الفن لموضوعه، وأن موضوعه هو ما تقدمت الإشارة إليه من تجلية الخيال والشعور.
وتنتهي بنا هذه الرحلة السريعة بين القديم والحديث إلى خلاصة نجعلها في هذه الحقيقة، وهي أننا نرتقي في تقدير الفن كلما ارتقينا في تقدير الحس والبداهة وفي العلم بوظيفة الخيال، فليس الفن مقيدًا بالحس والمدركات الحسية، وليس الخيال خداعًا منعزلًا عن حقائق الأشياء، بل هو وظيفة مبدعة تنفذ من أسرار الخلق إلى الصميم.
ونعود إلى أفلاطون لنقتبس منه أمثولة تنفعنا في تقريب وظيفة الفن على هذا الاعتبار، فأفلاطون يقول إن الإله السرمدي شاءت له نعمته أن يتفضل على المخلوقات بنوع من البقاء يناسبها؛ لأنه هو الباقي الذي لا يزول، وليس من المعقول أن يخلع عليها نعمة البقاء الأبدي؛ لأن بقاء الأبد لا يُخلَع ولا ينتقل من خالق إلى مخلوق، فوهب لها بقاء الزمان تحاكي به بقاء الله، وهو غاية ما تسمو إليه من دوام.
وعلى هذا النحو يمكننا أن نقول إن الخالق السرمدي — جلت قدرته — قد شاءت له نعمته أن يتفضل على العباد بنوع من قدرة الخلق تناسبها، وتدخل في مستطاعها، فوهب لها الفن تخلق به بدائعها وتصور به آمالها، فهو غاية ما تسمو إليه من خلق وإبداع، وهو قبس في الإنسان من قدرة الله، أو كما قلنا من قصيدة في ديواننا الأول:
الشِّعرُ من نفسِ الرَّحمنِ مقتبَسٌ .......... والشَّاعرُ الفذُّ بين النَّاسِ رَحمانُ
* المصدر: دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، عباس محمود العقاد
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.