عبدالرزاق دحنون - رسالة إلى روائيَّة شابَّة

سيدتي

قرأتُ روايتك حتى الصفحة الأخيرة، وسررتُ لأنك استطعت اكمال بناء شخصياتها بشكل مقبول إلى حد ما. شخصيّة المرأة في روايتك والتي بكتها المدينة حين ماتت في نهاية الرواية مشغولة بإتقان ودراية، مع ذلك أسأل: هل هذا هو نموذج المرأة العربيّة حقاً؟ أنا لا أعرف يا سيدتي. أنت من عليها أن تُجيب. المرأة العربيّة من المحيط إلى الخليج لا نعرف عنها الكثير، نعرف بأنها ملكة في مملكتها. طبعاً شاهدت جموع النساء العربيّات الماجدات وهن يقتحمن الشوارع بالآلاف في عواصم ومدن الدول العربيّة التي شهدت احتجاجات عارمة في مظاهرات الثورات العربيّة ضدَّ الحاكم العربيّ في السودان ولبنان والجزائر واليمن والعراق والمغرب وسورية وليبيا والبحرين وتونس. قدَّرتهم واحترمتهم لهذه الجرأة والاقدام. ولا يهمني كثيراً هل هنَّ سافرات أو محجبات. أُعجبتُ مثلاً بتلك المرأة الشامخة "توكل كرمان" التي حازت جائزة نوبل للسلام عام 2011. ولو سألتني هل أعرف غيرها لقلتُ: نعم "بلقيس" ملكة سبأ، وأيضاً الكنداكة السودانيّة "آلاء صلاح" طالبة الهندسة المعماريّة التي هتفت بحميَّة وحماس خلال التظاهرات، وهي تقف على ظهر سيارة بيضاء تقود الحشود المعتصمة خارج مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم في أيام الثورة السودانيّة:

سيدتي

لاحظتُ في رسالتك أنك سألتني هذا السؤال: هل أعجبك موضوع الرواية؟ في العادة لا يُناقش كاتب الرواية حول موضوع روايته وهذه ملاحظة مهمة يجب أن نُدركها من البداية مع أن أغلب الروائيين الشباب الذين يكتبون لا يدركون ذلك. وعلى ما أحسب لا يُناقش الشاعر او القاص أو الروائي أو المسرحي في خياراته لموضوع انتاجه الأدبي أو مضمونه. يًناقش في كيف قدَّم هذا الموضوعات للجمهور، ما هي "المهارة الحرفيَّة" الذي استخدمها في كتابة الرواية، لأنه يكتب للناس ولا يكتب لنفسه. والرواية قد تثير الجدل في موضوعها أو مضمونها إذا كان المضمون غريباً أو تجاوز ما هو مألوف أو أثار زوبعة من النقد والرفض بشكل عام وكان الموضوع غاية في الغرابة ولا يتفق مع روح المجتمع الذي تحكي عنه الرواية، بمعنى كان مضمون الرواية شاذاً. مع ذلك عندي قناعة أن من حق كاتب الرواية أن يمتلك الحريّة المطلقة في اختيار موضوع روايته، الحريّة هي الأساس الذي يقوم عليه بناء العمل الروائي بل وأقول بثقة بأن فعل "الكتابة" يقوم على أكثر من تسعين بالمئة منه على "الحريّة" والباقي مهارة.

سيدتي

أدوات النقد البناء لا تلتفت إلى موضوع الرواية أو مضمونها، لأنها تعالج البناء العام الذي قامت عليه الرواية. سأضرب لك مثلاً بسيطاً في ذلك: أنت تريدين بيتاً للسكن هذا هو الموضوع ولكن مهندس البناء يقدم لك مخططات ونماذج متعددة لشكل هذا البيت. النقد الروائي يتناول المخطط، النموذج، الأسلوب، اللغة، الذي قامت عليها الرواية. أساسها عوارضها سقفها نوافذها أبوابها إن صحَّ التعبير. والبيت كذلك قد يتسع أو يضيق، من طابق أو طابقين، من حجر أو من اسمنت، أو قرميد أو من طين، بحديقة وشلال وأشجار أو بيت متواضع فقير من صفيح الزنك. النقد يُناقش هذه التفاصيل.

سيدتي

أنت تنتظرين مني رأياً صريحاً، فصيحاً في روايتك الأولى التي طبعتها وأعتقد بأنها صارت في المكتبات الآن. ما فائدة رأي بعد أن طبعت روايتك؟ الكتابة حكايتها حكاية لها أول وليس لها آخر. والرواية في هذا العصر تتخذ لنفسها ألف وجه، وترتدي في هيئتها ألف رداء، وتتشكل، أمام القارئ، تحت ألف شكل؛ مما يعسر تعريفها تعريفاً جامعاً مانعاً. ذلك أننا نلفى الرواية تشترك مع الأشكال الأدبية الأخرى بمقدار ما تستميز عنها بخصائصها الحميمة، وأشكالها الصميمة. والرواية في العموم تغترف بنهم من الحكايات والأساطير الشعبيّة، ولا تلفي أيّ غضاضة في ان تُغني نصها السردي بالمأثورات الشعبيّة، والمظاهر الأسطوريّة والملحميّة جميعاً، على حد تعبير الدكتور الجزائري عبد الملك مرتاض في كتابه ذائع الصيت "في نظريّة الرواية".

سيدتي

النماذج الروائية العربيّة والعالميّة أضحت واسعة الانتشار ويمكن لكاتب الرواية الاستفادة من ذلك المنجز الهائل في هذا الباب. بمعنى أن مخزوننا من القراءة ينعكس انعكاساً واضحاً في اختيار كلماتنا وجملنا حين نكتب. وعندما يكون هذا المخزون فقيراً أو شحيحاً يظهر ذلك على تقنيات السرد التي نستعملها، أقصد بناء الجملة التي تسعى لنقل المشهد الروائي للقارئ. يُضاف إلى ذلك جملة من العوامل لا بد أن تتوفر كي تُعطينا مشهداً روائياً جميلاً نطمئن إليه. والجيد أنه كُتب الكثير من الكتب عن تقنيات السرد الروائي، وكتبت الدراسات والأبحاث التي لا حصر لها عن طرق كتابة الرواية الحديثة في هذا العصر الروائي. وهذا كله يفتح لنا باباً معرفياً هائلاً. طبعاً إضافة لعشرات والمئات من الروايات العالميّة الحديثة المترجمة، ومثلها، بل وأزيد منها، من الروايات العربيّة من مختلف الأقطار العربيّة، وكل يوم تقريباً أتعرف عبر وسائل التواصل الاجتماعي على روائي أو روائيَّة من عالمنا العربيّ من هذا القطر أو ذاك لم أعرفه أو أعرفها قبل الآن. بعضهم يُغريك لمتابعته، وبعض الآخر لا يترك مرورك على رواياته أثراً يذكر في نفسك.

سيدتي

أنت طرقت باباً يحتاج الولوج منه إلى عالم الرواية دراية واسعة بشؤون الرواية وطرق كتابتها. السؤال الأهم: لمن نكتب ولماذا نكتب في الأساس؟ قد تكون هذه الكتابة خاطرة خطرت لنا ونريد ان نستعمل في كتابتها لغة رشيقة، سهلة، بسيطة، ولكنها عميقة، لأن البساطة، في حد ذاتها، عميقة بشكل مذهل، انظري إلى بساطة حكايات "ألف ليلة وليلة" وتأمليها جيداً، كيف عاشت بيننا أكثر من ألف عام، وما نزال نستمتع بها في القراءة أو في مشاهدتها متلفزة، ما السرّ يا ترى؟ قد نكتب رواية قصيرة وتكون مذهلة- وقد كتبها بحرفيّة عالية الكاتب الروسي إيفان تورغينيف:

ترجم ثلاثة منها عن الروسية الكاتب السوري ابن مدينة إدلب مواهب كيالي. نعم، هو الأخ الأكبر للكاتب السوري الساخر الكبير حسيب كيالي. لا تظني بأنني أهرب من تقييم ما كتبت من صفحات روايتك، وبكل تأكيد لن اعطيك حكماً نهائياً ولا تنتظري مني ذلك -لستُ حكماً في ساحة ملعب، وما عندي صفارة ولا كرتاً لا أصفر ولا أحمر- أنت من عليك أن تسألي، واعلم بأن السؤال الجيد يستدعي جواباً أجود منه بكل تأكيد.

سيدتي

اشتركي مع من تُحبين من الأهل والأصدقاء والمعارف في تدقيق كل جملة كتبتها، في كل مشهد رسمته، ناقشيهم في شخصيات الرواية واستفيدي من ملاحظاتهم، وانتبهي إلى سلامة اللغة، وأعدي الصياغة مرة بعد مرة حتى يستقيم لك سياق السرد. وإن كنت تخجلين من عرض ما تكتبين على الآخر، فتلك مسألة خطيرة ولا يمكنك الاستمرار في الكتابة. ناقشي موضوع الرواية-سياقها العام- مع من تألفين وتحبين-لا أقصد البوح بأسرار الكتابة- لأن بناء الشخصية في الرواية يحتاج إلى خبرة حياتية عظيمة-الروائيون الكبار فعلوا ذلك- استفيدي قدر الإمكان من المحيط حولك ولا تخجلي من طلب "المشورة" من هذا وتلك أو ممن تثق بسلامة ذوقه الأدبي من جيلك على أن يكون قارئاً جيداً. لا تأنسي بمن يقول لك روايتك رائعة وما شابه ذلك. هذا مديح مريح ولكنه زائف، مغشوش، رديء، لا يُركن إليه. واستفيدي أيضا من الورش التي يقيمها أصحاب الصنعة في الرواية عبر المصور في "يوتيوب" في هذه التجارب السردية فائدة عظيمة، استمعي إليهم بشغف المتعلم وحماسة الشباب ولا تدعي شارة ولا واردة في شأن الرواية دون أن تتفحصها وتُمعني الفكر فيها، ثمَّ هاتي لك دفتراً واكتبي روايتك أو إن أردت طريقة أسهل افتحي الشاشة الزرقاء لحاسوبك وها هو "الكيبورد" أو لوحة المفاتيح أمامك، اكتبي.

سيدتي

تمنياتي أن تكون روايتك الثانية أجمل من الأولى.
كل المحبة والتقدير
من المرتفعات الجبلية في مدينة إزمير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...