لم أتعلَّم من الحياة الكثير من الأشياء، لقد كنت منشغلة طيلة الوقت بتحقيق ما فطرت عليه بغريزتي، أنا من النوع الذي لا يحتمل الحياة منفردًا بلا رفيق، أبحث دائمًا عن نصفى الآخر، أشعر بالنقصان مهما اكتملت، هناك شيء مهم أفتقده بشدةٍ، شيءٌ أشعر أنَّني قد عشته بالفعل، أكاد أشم رائحة أنفاسه على وسادتي، أبكى ليلًا من شدة الشوق إليه، يا إلهي كم هو مؤلم ذلك الشعور، الشعور بالافتقاد، كطفل فقد أُمّه في مكانٍ مزدحم، أنبح صوته من كثرة البكاء والمناداة، تحجرت حنجرته دون جدوى، ينظر إليه الجميع في تعجبٍ وينظر إليهم هو أيضًا في تعجبٍ..
كانت طفولتي بائسة حقًا، شعورٌ غريبٌ بالغربة والوحدة يعتصر قلبي الصَّغير، من هؤلاء البشر القساة الذين يدعون أنَّهم أهلي، يثرثرون ويتعاركون طيلة الوقت، يجبرونك على فعل أشياء روتينية عجيبة دائمًا، لا ينظرون لعينيك أبدًا خوفًا من فضح أمرهم، هل أنا طفلة مختطفة، أو طفلة متبناة، أو ربما ابنة خطيئة لأحد منهم لا أعلم، كُلّ ما أعلمه علم اليقين هو أنَّني نصف ينقصه نصف آخر ليكتمل، هناك جزء كبير بداخلي مفقود ولا يسعني سوى البحث عنه.
لم يتوقف الأمر عند هؤلاء الأهل المزعومين، ولا عند هذه الحياة الافتراضية البغيضة، ولكن ما اكتشفته بعد أن أشتد عودي ونمى أنَّني غير مرئية لجميع البشر، لست ملفتة للنظر، عندما سألت أُمّي ذات يوم:
ــ هل أنا طفلة جميلة ؟
كانت إجابتها:
ــ عادية.
.. كلمةٌ غريبةٌ ليس لها أي طعم ولا معنى، ماذا تعنى كلمة (عادية) ؟ هل هى تعنى أنَّني جميلة أم لا ؟.. كانت إجابتها غير مرضية بالنسبة لي، ولكنَّني أدركت معناها فيما بعد.. أنْ تكون شخصًا عاديًا هذا يعنى أنَّك تشبه النمط الُمعتاد.. أو بصيغة أدق الأكثر انتشارًا في هذا المكان وهذا التوقيت، ممَّا يعنى أنَّك لا تمتلك ما يُميِّزك عن غيرك، لذلك تبدو كزهرة بيضاء اللَّون منقوشة على رداء أبيض لا يمكن أن يلحظ وجودك سوى شخص شديد التركيز، يتمتع ببصيرةٍ روحيةٍ.. كونك زهرة هذا لا يعنى أنَّك جميل أو مميز إذا كنت موجودًا في حديقة مليئة بالزهور، أمَّا إذا كنت زهرة سوداء اللَّون مثلًا وسط زهور ملونة سوف تكون أنت الأكثر تميُّزًا حتى لو كانت بقية الأزهار تتمتّع بألوانٍ زاهيةٍ ومفرحةٍ..
هذا لا يعنى أيضًا أنَّني أنعت نفسي بالزهرة، ولكنَّه مُجرَّد تشبيه، ولأنَّني كنت عادية في زمنٍ عادى، وبيئة عادية، كان يتوجَّب عليَّ بذل جهد غير عادى حتى أستطيع لفت انتباه نصفى الآخر حتى يأتي وينتشلني من هذه الوحدة الموحشة، كانت محاولاتي تنجح أحيانًا في اصطياد انتباه أحدهم.. ولكنَّني كنت أكتشف سريعًا أنَّه ليس هو نصفى الآخر، ظللت أحاول وأفشل.. وأحاول وأفشل، حتى انتبهت فجأة أنَّ الزمن قد تسرسب من بين يديَّ، أصبحت على مقربةٍ ليست ببعيدةٍ من أعتاب الشيخوخة، بينما نصفى الآخر مازال شابًا وسيمًا ينتظرني عند الطرف الآخر من العالم، لذلك قرّرت الاستسلام والتوقف عن البحث والعمل، قررت أنْ أحيا ما تبقى لي في هذا العالم كما هو مقدر لي منذ البداية، امرأة عادية.. تعيش حياة عادية.. وسوف تموت موتًا عاديًا.. ولكن ينتظرها على الطرف الآخر من العالم حياة غير عادية.. بما أنَّني سوف أكون امرأة عادية في عالمٍ غير عادى، إذًا أنا امرأة مميزة كزهرة سوداء منقوشة على رداء أبيض.
ريم خيري شلبي
كانت طفولتي بائسة حقًا، شعورٌ غريبٌ بالغربة والوحدة يعتصر قلبي الصَّغير، من هؤلاء البشر القساة الذين يدعون أنَّهم أهلي، يثرثرون ويتعاركون طيلة الوقت، يجبرونك على فعل أشياء روتينية عجيبة دائمًا، لا ينظرون لعينيك أبدًا خوفًا من فضح أمرهم، هل أنا طفلة مختطفة، أو طفلة متبناة، أو ربما ابنة خطيئة لأحد منهم لا أعلم، كُلّ ما أعلمه علم اليقين هو أنَّني نصف ينقصه نصف آخر ليكتمل، هناك جزء كبير بداخلي مفقود ولا يسعني سوى البحث عنه.
لم يتوقف الأمر عند هؤلاء الأهل المزعومين، ولا عند هذه الحياة الافتراضية البغيضة، ولكن ما اكتشفته بعد أن أشتد عودي ونمى أنَّني غير مرئية لجميع البشر، لست ملفتة للنظر، عندما سألت أُمّي ذات يوم:
ــ هل أنا طفلة جميلة ؟
كانت إجابتها:
ــ عادية.
.. كلمةٌ غريبةٌ ليس لها أي طعم ولا معنى، ماذا تعنى كلمة (عادية) ؟ هل هى تعنى أنَّني جميلة أم لا ؟.. كانت إجابتها غير مرضية بالنسبة لي، ولكنَّني أدركت معناها فيما بعد.. أنْ تكون شخصًا عاديًا هذا يعنى أنَّك تشبه النمط الُمعتاد.. أو بصيغة أدق الأكثر انتشارًا في هذا المكان وهذا التوقيت، ممَّا يعنى أنَّك لا تمتلك ما يُميِّزك عن غيرك، لذلك تبدو كزهرة بيضاء اللَّون منقوشة على رداء أبيض لا يمكن أن يلحظ وجودك سوى شخص شديد التركيز، يتمتع ببصيرةٍ روحيةٍ.. كونك زهرة هذا لا يعنى أنَّك جميل أو مميز إذا كنت موجودًا في حديقة مليئة بالزهور، أمَّا إذا كنت زهرة سوداء اللَّون مثلًا وسط زهور ملونة سوف تكون أنت الأكثر تميُّزًا حتى لو كانت بقية الأزهار تتمتّع بألوانٍ زاهيةٍ ومفرحةٍ..
هذا لا يعنى أيضًا أنَّني أنعت نفسي بالزهرة، ولكنَّه مُجرَّد تشبيه، ولأنَّني كنت عادية في زمنٍ عادى، وبيئة عادية، كان يتوجَّب عليَّ بذل جهد غير عادى حتى أستطيع لفت انتباه نصفى الآخر حتى يأتي وينتشلني من هذه الوحدة الموحشة، كانت محاولاتي تنجح أحيانًا في اصطياد انتباه أحدهم.. ولكنَّني كنت أكتشف سريعًا أنَّه ليس هو نصفى الآخر، ظللت أحاول وأفشل.. وأحاول وأفشل، حتى انتبهت فجأة أنَّ الزمن قد تسرسب من بين يديَّ، أصبحت على مقربةٍ ليست ببعيدةٍ من أعتاب الشيخوخة، بينما نصفى الآخر مازال شابًا وسيمًا ينتظرني عند الطرف الآخر من العالم، لذلك قرّرت الاستسلام والتوقف عن البحث والعمل، قررت أنْ أحيا ما تبقى لي في هذا العالم كما هو مقدر لي منذ البداية، امرأة عادية.. تعيش حياة عادية.. وسوف تموت موتًا عاديًا.. ولكن ينتظرها على الطرف الآخر من العالم حياة غير عادية.. بما أنَّني سوف أكون امرأة عادية في عالمٍ غير عادى، إذًا أنا امرأة مميزة كزهرة سوداء منقوشة على رداء أبيض.
ريم خيري شلبي