أدخل المدينة بعد انقطاع قسري، فأجد الحال غير الحال، ولا يغادرني الشعور بوطأة الهزيمة.
بعض التجار الذين تحطمت أبواب محالهم التجارية، إثر قيام الجيش الغازي بنهبها، يقفون أمام محالّهم في حالة من الشرود. ثمة في القدس أعداد قليلة من الناس تمشي على غير هدى، وثمة قليل من السيارات تتحرك في الشوارع التي تخترقها شاحنات الجنود، ومن خلف السور، تطل مئذنة أصابتها قنبلة، هشمت رأسها. وفي مواقع عديدة من المدينة، واجهات بيوت ومتاجر حطّمتها القنابل، أو ترك بصماته عليها الرصاص. ها هي ذي المدينة منطوية على نفسها، منكسرة.
أقترب من محل "جروبي" الذي كان من أكثر محلات المدينة حيوية وامتلاء بالزبائن، يقف صاحبه أبو عطا خلف الواجهة الزجاجية، مثبتاً كعادته سيجارته بين شفتيه فلا يحملها بين أصابعه إلا بعد وقت، يخبرني أن ابنه الذي استبدت به الحماسة، فذهب متطوعاً للقتال، لم يعد حتى هذه اللحظة.
تجوب دوريات الجيش شوارع المدينة، وثمة جنود يرابطون على مداخلها وفي ساحاتها. أدخل البلدة القديمة. ما زال الكثير من متاجرها مغلقاً، تحت تأثير الصدمة التي سببتها لأصحابها هذه الهزيمة، أو بسبب النزوح خارج الوطن، وهو الأمر الذي شجعت عليه قوات الاحتلال، وراحت توزع المنشورات على الناس، تشجعهم فيها على الرحيل، موضحة لهم أنها ستضع تحت تصرفهم حافلات ستقوم بنقلهم كل يوم، مجاناً، إلى الجسر في رحلة الذهاب بعيداً من الوطن. فانصاع لهذه الدعاية عدد غير قليل من الناس الذين خافوا عاقبة الأمور.
أجتاز باب العامود، أتذكر اليوم الذي اندلعت فيه الحرب؛ كنت أعمل مراقباً في امتحان التوجيهية في قاعة مدرسة تراسنطة، ولم ننتبه إلى أن الحرب بدأت منذ الصباح على الجبهة المصرية إلا بعد العاشرة. غادرت القاعة، واتجهت عبر طريق الجبشة نحو باب العامود، وحينما وجدت الحوانيت مغلقة، وليس ثمة أحد في الأسواق، تهيبت الخروج إلى ساحة باب العامود، لأنها مكشوفة أمام بناية النوتردام التي ترابط فيها قوة من الجيش الإسرائيلي. انعطفت يميناً نحو طريق الشيخ لولو، وسرت فيها قاصداً باب الساهرة لعلني أعثر على سيارة تنقلني إلى جبل المكبر.
وجدت الساحة التي أمام باب الساهرة موحشة لا أثر فيها لأية سيارة. بعد لحظات لعلع صوت الرصاص، ونشب القتال، فمضيت سيراً على الأقدام نحو مقبرة باب الأسباط، وهبطت في الشارع المحاذي لكنيسة ستنا مريم، ثم صعدت نحو حي رأس العامود، فاجتزته نحو حي الصلعة، ومن هناك إلى بيتي في جبل المكبر.
قبل أن أصل البيت بلحظات، ابتدأ القتال على قمة الجبل، ولم يدم طويلاً. حسمته الدبابات الإسرائيلية دون عناء، فتركنا بيوتنا، مثلما فعلنا العام 1948، واتجهنا إلى بيوت أقارب لنا، يقيمون قرب وادي الديماس في منطقة "أم عراق" التي لا تستطيع أن تصلها السيارات، لوعورة الطريق الموصلة إليها، فتوزعنا على بيوت الأقارب الذين خصصوا مكاناً لإقامة النساء، ومكاناً آخر لإقامة الرجال (في الأيام القليلة التالية، ستمر عبر هذا الطريق جموع من أهالي المدينة، الذين قذفت بهم الحرب بعيداً عن بيوتهم، سأرى تجاراً أعرفهم، يمضون مبتعدين نحو الشرق ومعهم زوجات بملابس مدنية وأحذية لا تتلاءم وقسوة الطرقات الممتدة بين الوديان، وسأرى أطفالاً يتصايحون وهم يتعثرون في الطرقات خلف آبائهم وأمهاتهم). كان كبيرهم "أبو خالد" الطاعن في السن يثق في عبد الناصر ثقة كبيرة. ظل يعلق الآمال على أخبار الجبهة المصرية، التي كانت تصله من مذياع ترانزستور حمله معه أحد أفراد عشيرتنا وهو يغادر بيته، فاعتبرنا مبادرته هذه تعبيراً عن الفطنة، ورحنا نلوم أنفسنا لأننا لم نفطن إلى اصطحاب مذياع معنا، يخفف من قلقنا، ويحجب عنا ولو جزئياً، ضجيج الطائرات التي تحلق في الظلمة فوق رؤوسنا.
كانت تلك هزيمة قاسية ما زلنا نعاني من آثارها حتى اليوم، وهي تُعدُّ الفصل الثاني المكمّل لكارثة 1948.
بعض التجار الذين تحطمت أبواب محالهم التجارية، إثر قيام الجيش الغازي بنهبها، يقفون أمام محالّهم في حالة من الشرود. ثمة في القدس أعداد قليلة من الناس تمشي على غير هدى، وثمة قليل من السيارات تتحرك في الشوارع التي تخترقها شاحنات الجنود، ومن خلف السور، تطل مئذنة أصابتها قنبلة، هشمت رأسها. وفي مواقع عديدة من المدينة، واجهات بيوت ومتاجر حطّمتها القنابل، أو ترك بصماته عليها الرصاص. ها هي ذي المدينة منطوية على نفسها، منكسرة.
أقترب من محل "جروبي" الذي كان من أكثر محلات المدينة حيوية وامتلاء بالزبائن، يقف صاحبه أبو عطا خلف الواجهة الزجاجية، مثبتاً كعادته سيجارته بين شفتيه فلا يحملها بين أصابعه إلا بعد وقت، يخبرني أن ابنه الذي استبدت به الحماسة، فذهب متطوعاً للقتال، لم يعد حتى هذه اللحظة.
تجوب دوريات الجيش شوارع المدينة، وثمة جنود يرابطون على مداخلها وفي ساحاتها. أدخل البلدة القديمة. ما زال الكثير من متاجرها مغلقاً، تحت تأثير الصدمة التي سببتها لأصحابها هذه الهزيمة، أو بسبب النزوح خارج الوطن، وهو الأمر الذي شجعت عليه قوات الاحتلال، وراحت توزع المنشورات على الناس، تشجعهم فيها على الرحيل، موضحة لهم أنها ستضع تحت تصرفهم حافلات ستقوم بنقلهم كل يوم، مجاناً، إلى الجسر في رحلة الذهاب بعيداً من الوطن. فانصاع لهذه الدعاية عدد غير قليل من الناس الذين خافوا عاقبة الأمور.
أجتاز باب العامود، أتذكر اليوم الذي اندلعت فيه الحرب؛ كنت أعمل مراقباً في امتحان التوجيهية في قاعة مدرسة تراسنطة، ولم ننتبه إلى أن الحرب بدأت منذ الصباح على الجبهة المصرية إلا بعد العاشرة. غادرت القاعة، واتجهت عبر طريق الجبشة نحو باب العامود، وحينما وجدت الحوانيت مغلقة، وليس ثمة أحد في الأسواق، تهيبت الخروج إلى ساحة باب العامود، لأنها مكشوفة أمام بناية النوتردام التي ترابط فيها قوة من الجيش الإسرائيلي. انعطفت يميناً نحو طريق الشيخ لولو، وسرت فيها قاصداً باب الساهرة لعلني أعثر على سيارة تنقلني إلى جبل المكبر.
وجدت الساحة التي أمام باب الساهرة موحشة لا أثر فيها لأية سيارة. بعد لحظات لعلع صوت الرصاص، ونشب القتال، فمضيت سيراً على الأقدام نحو مقبرة باب الأسباط، وهبطت في الشارع المحاذي لكنيسة ستنا مريم، ثم صعدت نحو حي رأس العامود، فاجتزته نحو حي الصلعة، ومن هناك إلى بيتي في جبل المكبر.
قبل أن أصل البيت بلحظات، ابتدأ القتال على قمة الجبل، ولم يدم طويلاً. حسمته الدبابات الإسرائيلية دون عناء، فتركنا بيوتنا، مثلما فعلنا العام 1948، واتجهنا إلى بيوت أقارب لنا، يقيمون قرب وادي الديماس في منطقة "أم عراق" التي لا تستطيع أن تصلها السيارات، لوعورة الطريق الموصلة إليها، فتوزعنا على بيوت الأقارب الذين خصصوا مكاناً لإقامة النساء، ومكاناً آخر لإقامة الرجال (في الأيام القليلة التالية، ستمر عبر هذا الطريق جموع من أهالي المدينة، الذين قذفت بهم الحرب بعيداً عن بيوتهم، سأرى تجاراً أعرفهم، يمضون مبتعدين نحو الشرق ومعهم زوجات بملابس مدنية وأحذية لا تتلاءم وقسوة الطرقات الممتدة بين الوديان، وسأرى أطفالاً يتصايحون وهم يتعثرون في الطرقات خلف آبائهم وأمهاتهم). كان كبيرهم "أبو خالد" الطاعن في السن يثق في عبد الناصر ثقة كبيرة. ظل يعلق الآمال على أخبار الجبهة المصرية، التي كانت تصله من مذياع ترانزستور حمله معه أحد أفراد عشيرتنا وهو يغادر بيته، فاعتبرنا مبادرته هذه تعبيراً عن الفطنة، ورحنا نلوم أنفسنا لأننا لم نفطن إلى اصطحاب مذياع معنا، يخفف من قلقنا، ويحجب عنا ولو جزئياً، ضجيج الطائرات التي تحلق في الظلمة فوق رؤوسنا.
كانت تلك هزيمة قاسية ما زلنا نعاني من آثارها حتى اليوم، وهي تُعدُّ الفصل الثاني المكمّل لكارثة 1948.