في الذكرى الخامسة لرحيلها
مقدّمة
تُراهـنُ الكاتبة وعالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي على الكتابة لنقد العقل البطريريكي المتجذّر في المجتمعات العربيّة، مُقاومةً بذلك كلّ أشكال السُلط ومظاهرها التي يعكسها المجتمع وفاضحةً الرياء الاجتماعي والأخلاقي المستَشْري في عالمنا العربي. فهي تحفـُر، بعمق وجسارة وبأدوات عالمـة الاجتماع المقتدرة والأكاديميّة البارزة، في البنى الاجتماعيّة والثقافيّة والتراثيّة لتفكيك طلاسمهـا وهي التي خَبَرت الترحال العلمي والمعرفي إلى حدود الوعي البعيدة، فتفضح، في مؤلّفاتها ومحاضراتهـا، كل أشكـال الهيمنة التي تُمارسُ ضدّ المرأة من خلال الدينيِّ والسياسّي والثقافيّ، وتسعـى جاهـدة إلى تفكيك الخطابين الكلاسيكي والحديث معاً، الذين شكّلا ويشكّلان إلى غاية اليوم المفهوم الاجتماعي والثقافي للمذكّر والمؤنّث، ورصد مضامينهما ودلالاتهما العنصرية بوصفهما لم يدّخرا جهداً في تقديم قراءة مُظلّلة عُنصرّية ومُنحـازة بشكل صارخ وصريح لبعض المفاهيم، ولا شكّ، وفق المرنيسي، أنّ طريقة التعاطي مع المرأة تُشَكّل خرقا ًعلميّا وإنسانيّا وتُكرّس أطروحات لا صلة لها بالمنطق والواقع والحقيقة الانسانيّة.
وتَغْـرِفُ المرنيسي، لبسط أطروحاتها في هذا السياق، من ثَقافتين مختلفتين: فهي تَتَوَسّـلُ، على صعيد أوّل، بالثقافة العربيّة الإسلاميّة ونصوصها الدينيّة والتراثيّة، ولا تَكُفّ عن الاعتـزاز بصوفيتها وبمواقف الفيلسوف والمتصوّف محي الدين ابن عربيّ في الفتوحات المكيّة وفصوص الحكم، وبالمصنّفات الهامّة لــابن طيفور وحصراً كتابه الهامّ الموسوم بـــبلاغـات النساء، كما تمتعِض بشدّة، في الوقت ذاته، من تأويل الدين تأويـلاً مُتطرّفاً أحادياً يُخـفي في طيّاته الانْحياز الذكوري المفضـوح ضدّ النساء، وتتكئ، على صعيد ثانٍ، على الثقافة الغربيّة ونصوص كتُّاَبها من الفلاسفة والعلماء والفنانين أثناء المجادلة في قضايا فكريّة بعينها وذات صلة وثيقة بتاريخ النساء مع الاستبداد والصمت الطويــــل ضدّهنّ والنفوذ الهائــل الذي حازته هذه الهيمنة على مــرّ العصور، وغيرهــا من المسائـــل ذات الصلة بهذه القضايا، بوصف التراث الغربي هو الرافـد الآخـر الذي تعتمد عليه المرنيسي في استكمال انجــاز نصوصها العلميّة ومُصنفاتهـــا الأدبّية، وفضلاً عن ذلك كّلهِ تُحاضر ُببعض لغات هذا التراث، كالفرنسية والانجليزية في جامعات الغرب وفي أمريكـا، إلى جانب لغتها الأمّ العربية التي تُخاطِب بها جمهوراً آخر من المستمعين والمهتمّين.
يتّجِهُ طموح هذه الدراسة نحو استدعـاء آراء الكاتبة وتسويغها في سياقاتها المعرفيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة التي وَرَدَت فيها من خلال مُنجزاتها الفكريّة: الحريم السياسي: النبيّ والنساء -سُلطانات منسيات: نساء حاكمات في بلاد الإسلام - العابرة المكسورة الجناح: شهرزاد ترحل إلى الغرب- نساء على أجنحة الحلم - شهرزاد ليست مغربيّة - ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعيّة. كما سَيلفتُ هذا المقال عناية القارئ إلى أنّ المرنيسي لم تكن يوماً ضدّ الإسلام كما يُشاع عنها ذلك، وفوقَ ذلك كلّه فهي تكتب عن تسامحـه ِوكوْنيته، وقد جادلتْ في أكثر من مناسبة وعلى منصّات عالمية في هذه المسألة التي تَحْضرُ بكثافة وتعقّل واهتمام متزايد في نصوصها. ولعلّ هدفها من مغامرتها الفكريّة النقديّة تلك - التي ظلّت محفوفة بالمخاطر والمعوّقات، والتي جعلت مؤلّفاتها عُرْضة للهجوم والتجريح من طرف سلطة الرقيب الديني والسياسي الذي قام بإبعاد ومصادرة مُصنّفاتها ومنع أغلبيّتها من التداول في معظم الدول العربيّة - هو التمسّك برفض ربط الخبرة الإنسانيّة بالخبرة الذكوريّة وشَجْب كلّ أشكال الاستقطاب الذكوري ومركزيّته في تفسيره للعالم بُغيّة تكريس القول أنّ الرجلَ والمرأة شريكان في بناء العقل والحضارة والتاريخّ والانتقال من ''ثقافة الفحولة'' إلى ''ثقافة المواطنة'' الحقّة الفعليّة بأبعادها الإنسانيّة العميقة.
1 -فاطمة المرنيسي والحريم الفاسي
في حريم (1) بمدينة فاس (2) المغربيّة التي تعود إلى القرن التاسع الميلادي وُلِدتْ فاطمة المرنيسي عام 1940م، وفي هذه البيئة الفاسيّة المحافظة على التراث والتقاليد العريقة رأت المرنيسي بأمّ عينيها، وهي طفلة صغيرة، واقع المرأة المغربيّة وتعرّفت على حياتها اليوميّة وآلامها وآمالها وتقاليدها وهيمنة المجتمع الذكوري على الحياة الاجتماعيّة وذلك بالتقليل من قيمة الأنثى وإقصاءها وتزكيّة جسدها فقط بوصفه مرتع الشهوات وحسب ووسيلة لحفظ النسل. وسَتلتقط ذاكرة المرنيسي تلك المشاهد بدقّة مُتناهية لتعيدَ لاحقاً رسم صورها وصياغتها في مؤلّفاتها، ولذلك يلاحظُ القارئ أنّ السرد في كتابها نساء على أجنحة الحلم، وإن كان يختلط فيه الواقع بالخيال، قد جاء على قدر كبير من الصراحة والعفويّة والصدق والتنسيق والإمتاع وبعيداً عن الرقابة الذاتيّة إلى حدّ كبير، وعِبره تصف الكاتبة دقائق الأمور اليوميّة والحياتيّة والمعيشيّة والطقوس الدينيّة في المواسم والأعياد في حريم فاس والحرائم المغربية، وهذا ينسحب على البيت العربي بشكل عام في تلك الفترة التاريخيّة من القرن الماضي.
ولا تتردّد المرنيسي في استحضار مفهوم الحريم في صوره السلبيّة قائلةً: «أنا امرأة حُكم على أمّها الاحتباس في حريم حتى عام 1956! وعلى الدولة المستقّلة أن تولد بعد 1956! (3) هذه هي المغامرة المدهشة» (4). لا ريب أنّها تُدْرج ثقافتها الأولى في نصوصها المختلفة لتُعلن صراحة ودون مواربة عن الاستخفاف بكثير من تلك الممارسات الماضية - الحاضرة، التي لا تقوم على أيّ سند علميّ أو منطقيّ أو عقليّ، والصادرة عن السلطة المهَيْمنة التي تُتْقن ببراعةٍ فائقة طريقة التبرير الفجّة، مستغلّة، في ذلك، جهل النساء وضعفهنّ وعوزهنّ، فرغم أنّ سلطة الرجال في العصر الحديث لم تعد تُقدّر بعدد النساء الأسيرات في الحريم والحرائم بشكل عام، إلاّ أنّ هذه الأمور ظلّت قائمة في مدينة فاس واستمرّت في بسط نفوذها «لأنّ عقارب الساعة توقّفت عند زمن هارون الرشيد» (5). في إشارة إلى كثرة الجواري والنساء اللواتي كان قصر الخليفة هارون الرشيد يزخر بهنّ، وكان هذا التوجّه مبعث الفخر والاعتزاز والسرور، وقد دلّ فضلاً عن ذلك على الهيبة والقوّة والنفوذ في ذلك الزمن.
ذات مرّة أصغت المرنيسي إلى والدها يُحدّثها قائلاً: «أنّ الله عندما خلق الأرض وما عليها فَصَلَ بين النساء والرجال، وشقّ بحراً بكامله بين النصارى والمسلمين، ذلك أنّ النظام والانسجام لا يتحقّقان إلاّ إذا احترمت كلّ فئة حدودها، وكلّ خرق يؤدّي بالضرورة إلى الفوضى والشقاء» (6). وتكشف هذه العبارة عن تلك التقسيمات الثنائية السائدة والمفروضة اجتماعيّا، والتي تصل إلى حدّ القانون، وعن الانصياع الطوعي للتشريعات الاجتماعيّة كونها مقدّسة ولا يجب المساس بهيبتها، ما يجعل التركيز على دراسة هذا التقسيم ليس محلّ صدفة في حياة المرنيسي بل هو نتيجة معايشة ومعاناة فعليّة في حريم فاس الذي رأت فيه الكاتبة النور لأوّل مرّة وتعلّمت فيه أوّل أبجديات الحياة الاجتماعيّة. وتنطوي عبارة المرنيسي السابقة التي تُحيلنا إليها في نساء على أجنحة الحلم على عدّة معاني ودلالات ستَنْبري، على مدى سنوات عمرها، الحفر فيها عميقاً وتفكيكها وتوظيفها للتعبير عن تلك البنى الاجتماعية الضاربة بجذورها في عمق المجتمع المغربي بشكل خاص (7) والعربيّ بشكل عام، والتي نتج عنها بالضرورة التقسيم الاجتماعي للأجساد ( ولوظائفها الاجتماعيّة (9) تبعاً لذلك.
كان على النصّ المرنيسي الواعد بحمولات نقديّة عميقة أن يستنفر كلّ أدواته المعرفيّة في عمليّة النقد، أو بالأحرى في عمليّة الهدم وإعادة البناء، وهو يشقّ عصا الطاعة على مضامين المفاهيم المكرّسة، ولكن لا مندوحـة عن الاعتراف بأنّ هذا المسعى كان يحتاج إلى القوّة والصلابة والقدرة والمعرفة والكفاءة، فنقد تراث فكري استمرّ لقرون طويلة من الزمن كان بالغ الحساسيّة والأهميّة في الآن معاً، ثم أنّ المكانة العظيمة بل الأسطوريّة أحياناً، للسرديات الذكورية الفكريّة منها والدينيّة والتراثيّة تجعـل الإِقْدام على هذه المهمّة ضرباً من ضروب المخاطرة غير المضمونة النتائج، في ظلّ تاريخ بطريريكي مُتراكم. إنّ مقولة الجنوسة (10) ، التي تنتقدها المرنيسي بقوّة، ليست متأصّلة في أجساد الأفراد رجالاً ونساءً بل في المعايير الثقافيّة للمجتمعات كما تؤكّده أيضا الكاتبة إيفلين فوكس كيللر في تحليلها لهذه المسألة، حيث الذكور والإناث البيولوجيين يصبحون رجالا ونساء. إنّ مقولة ''النوع'' (هنا)، كما تعبّر عن ذلك كيللر في إحدى مقالاتها الهامّة في هذا الموضوع، إنّما تنطبق على المعتقدات الشعبيّة حول مدلول'' المذكّر'' و ''المؤنّث''، مُضيفة في السياق نفسه، أنّ القضيّة المطروحة إنّما تتعلّق بفحص الكيفيّة التي تتجذّر بها هذه المعتقدات داخل المجتمع (11)، وهو الطريق ذاته الذي مشت فيه المرنيسي.
2 -حدود الحريم
وُلدَتْ المرنيسي في ذات اليوم الذي ولد فيها ابن عمّها سمير - كما ترويه لنا - ورغم الإعياء والتعب الذي كان بادياً على والدتها جراء آلام المخاض والولادة تقول: «أصرّت أمّي على أن تُطلق النساء نفس الزغاريد ويحتفلن بنفس الطريقة التي استقبلن بها سمير، لقد رفضت دائماً تفوّق الذكور وعدّته عبثاً وأمراً مُتناقضا مع الإسلام الحقّ» (12). إنّ مفهوم الحدّود في هذه الفقرة يدلّ على سيادة منظومة ثقافيّة وأخلاقيّة تعترف بالأعلى والأدنى، بالمتن والهامش، فالحدود «لا توضع مجاناً، والمجتمع لا يتلاعب بالتقسيم لمجرّد رغبته في تجزيئ العالم الاجتماعي، ذلك أنّ الحدود الموضوعة تجسّدُ توزيعاً غير عادل للسلطة» (13). إنّ مفهوم الحدّ هنا مُكثّف وبالغ الدلالة على سلطة اجتماعيّة قاهرة ذلك أنّ «الحدود لا توجد إلاّ في أذهان الذين يملكون السلطة» (14)، وهم مهوسون بتكريس الطاعة العمياء والهيمنة والخضوع والاستكانة لما يعتبرونه الأعلى أو المركز.
إنّ المرنيسي حَسمتْ موقفها من موضوعها منذ البداية، ولذلك تبدو لغتها واضحة مباشرة وغير مراوغة في شرح دلالات الحدود التي تفصل، في حقيقة الأمر، بين الرجال والنساء وبين الداخل والخارج، مع ما يحمله كل عالمَ منهما من علامات القوّة والهيبة أو الضعف والدونيّة. وحسب المرنيسي فإنّ «تقسيم المكان الاجتماعي إلى مكان منزلي ومكان عام تعبير عن علاقة سُلطويّة وتراتبيّة. فالهندسة الاجتماعيّة في بلادنا العربيّة تقسّم العالم إلى عالمين فرعيين: عالم الرجال، الأمّة الذي يُرادف الدين والسلطة، وعالم النساء الذي يمثّل مجال الحياة الجنسيّة والأسرة» (15). وتعبّر الأدبيّات البطريريكيّة الكلاسيكيّة عن هذه الثنائية بالمصطلحات: (الروح-المادّة)، (العقل-الجسد)، (الرجل-المرأة)، (المركز-الهامش)، (الأعلى-الأدنى). ولا غرو أنّ التقسيمات الثنائية الدارجة، على حدّ تعبير المرنيسي «ترسم خطوط السلطة، لأنّ وجود الحدود أينما كانت يعني بأنّ هناك نمطيْن من البشر على هذه الأرض التي خلقها الله: هناك الأقوياء في جانب والضعفاء في الجانب الآخر» (16).
في كتابات المرنيسي، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال استدعاء مفهوم الحدّ دون مفهوم الحريم، هذا الأخير الذي يدّل دلالة بالغة على سطوة المكان وجبروته، وتَشرح المرنيسي هذا الكلام في مستهّل كتابها: العابرة المكسورة الجناح: شهرزاد ترحل إلى الغرب: عندما تقول أنّ الحريم هو «مجال أبوابه موصده وآفاقه مسدودة» (17)، وهي لا تلبث أن تُكرّر على مسامعنا، في أكثر من نصّ لها، حكايتها مع الجدّة التي أخبرتها، منذ نعومة أظافرها، عن مؤسّسة الحريم القاسيّة التي تبتلع حقوق النساء وتصادر حريتهنّ وتمنعهنّ من التحرّك. وتُرْدف قائلة أنّ: «مفهوم الحريم مكانيّ بالأساس، إنّه هندسة حيث المكان العامّ بالمفهوم الغربي لللفظة غير مقبول، لأنّه لا يوجد هناك إلاّ مكان ''داخلي'' للنساء الحقّ في الوجود به، ومكان ذكوري خارجي تَبْعد عنه النساء» (18).
لم يخطر أبداً على بال المرنيسي أن تربط الحريم بشيء مبهج، خاصّة وأنّ المفهوم يحيل إلى «الحرام أي الممنوع والحرام في كلّ الثقافات يحيل بشدّة على العقاب..إنّه[الحريم] (19) يتموضع في الحدود الخطيرة حيث يتواجه القانون والرغبة الانسانيّة» (20). إنّ استحضار الفضاء المفاهيمي للمرنيسي وعدم تجاهل السياق التاريخي لهو على درجة كبيرة من الأهميّة لفهم الوظيفة الحقيقيّة للأفراد في المجتمع الذي تتحدّث عنه الكاتبة، فهي تُعيد مفهوم الحريم إلى حلبة النقاش الثقافي وتعمل على ترْهينهِ لتتقصّى بواسطتهِ واقع الحال وتتوسّل بالحفر التاريخي والاجتماعي والتفكيك لمعاينة الأضرار من أجْل مآل جديد لمؤسّسة الأسرة والمجتمع.
3 -حريم الشرق وحريم الغرب
على الرغم من كون مؤسّسة الحريم، وهي الوجه الآخر لمؤسّسة الرقّ والعبوديّة، قديمة في التاريخ الإنساني وقد عرفتها كلّ المجتمعات البشريّة، فإنّ المرنيسي تتعجّب من نظرة الغرب للحريم بوصفه موجود في الشرق فقط. فإذا كانت هذه المؤسّسة راسخة القدم منذ التاريخ البعيد، فما الفرق إذن بين الحريم الشرقي والحريم الغربي؟ لاشكّ أنّ المرنيسي قد امتعضت من طريقة تعاطي الغربيين، في أعمالهم الفنيّة، مع حكاية شهرزاد وكيفيّة تناولها في مجال الأدب والفنّ والرسم والمسرح والسينما وغيرها من الفنون، وهي تتحدّث، بحسرة وألم، عن التشويه التاريخي البالغ الذي طال صورتها عند الغربيين في آدابهم وفنونهم، والتصوّرات الساذجة المغلوطة إزاءها وكذا التفسير العبثي السطحي، الناتج عن عدم معرفة ودراية، لتفاصيل الليالي في ألف ليلة وليلة. لقد تمّ تقديم شهرزاد للناس في صورة امرأة عاريّة بلهاء شرهة للجنس فاقدة للعقل ومُستسلمة بغباء شديد لمصير غرائبي وفجائي، امرأة فقدت سلاح العقل والبلاغة ولم تعد تملك من مقوّمات وجودها إلاّ جسدها الذي تكوّمه كل ليلة وتقدّمه للرجال بشكل بليد طوعي ومقزّز، الأمر الذي يتنافى والحقيقة التاريخيّة لشهرزاد الشرقيّة.
لقد «جرُّدَت شهرزاد من ذكائها حين غادرت الشرق وعبرت الحدود إلى الغرب.. والواقع أنّ الغربيين لم يأبهوا إلاّ بمشاهد المغامرة والغرام في ألف ليلة وليلة الذي انحصر هو الآخر في الزينة ولغة الجسد بشكل باعث على الاستغراب» (21). إنّ شهرزاد بمجرّد انتقالها إلى الضفّة الغربيّة فقدت أشهر أسلحتها، الكلمة والعقل والقدرة على الحكي ببلاغة شديدة والمقاومة المتواصلة دون كلل. والأنكى من ذلك كلّه، فيما يتعلّق بصورة الحريم في المخيال الغربي، أن يغذو مرتعاً للهو والاستمتاع بحشود النساء بكلّ أريحيّة وطمأنينة وبلا خوف، فلا تقاوم النساء ولا تنتفض ولا تنتقم وحتى وهنّ في وضع السبايا! فهل يمكن لهذه المعجزة المستحيلة أن تحصل في حريم الشرق حيث يتوجّس الرجال خيفة من النساء ومقاومتهنّ الشرسة ومن مكرهنّ ومكائدهنّ ودهائهنّ، والتاريخ، في هذا المجال، حافل بالروايات عن خلفاء ووزراء ووجهاء أنهت حياتهم الجواري والمحظيات والخليلات والعشيقات، لمجردّ الشكّ في نواياهم وإخلاصهم والالتفات إلى نساء أخريات وغضّ الطرف عنهنّ، وقد تنوّعت أساليب الموت والانتقام بين إغراق في الماء أو خنق بالوسادة أو دس السمّ في الطعام.
إنّ شهرزاد الشرقيّة ذكيّة قويّة مُقنعة وصَبورة، وأقوى سلاح تملكه هو الكلمة التي استطاعت بواسطتها تأجيل الموت بل وإبعاده عبر الليالي الطوال المخيفة. لم تكن قوّتها محصورة في جسدها فقط بل وفي عقلها أيضاً. واختلاف التصوّرات بين الحريم الشرقي والحريم الغربي واضح جدّا وينبع من الخلفيات الثقافيّة المختلفة للشرق والغرب، فالمفاهيم والتصوّرات المهاجرة عُرضة للتغيير والتشويه والطمس أحياناً ولعلّ الحريم الغربي، على حدّ تعبير المرنيسي قد اكتسب معناه عندما انتقل إلى الضفّة الأخرى ذات الأبعاد الثقافيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة المختلفة.
4 -المركز والهامش في السرديات البطريريكيّة
في السردياّت الأدبيّة والميثولوجية القديمة ذات الأبعاد الأخلاقية والسياسيّة والدينيّة تعكس الأساطير ثقافة الشعوب وعقائدهم وفلسفتهم في الحياة، وهذا الأمر ينسحب على أسطورة الإلهة أثينا (22) والاله بوسيدون (23) التي تكرّس فكرة دونيّة النساء والتحيّز الذكوري المفضوح ضدّهنّ، ولا يخفى على أحد مدى تأثير هذه الأساطير، التي نسمع صداها بقوّة، في الإنتاج الفكري والأدبي للكتّاب والفلاسفة. إنّ محاورة الجمهوريّة تختزل موقف أفلاطون من مفهوم العدالة (24) في الفرد والعدالة في الدولة، فالمدينة الأفلاطونيّة لا تكتسب مشروعيّة وجودها واستمراريتّها من دون الترتيب الطبقي العادل والمثالي، على حدّ تعبيره، ولتحقيق قوّة هذا المؤسّسة السياسيّة وإدارتها على أكمل وجه كان يجب أن توكل الرئاسة والحكـم إلى الفلاسفة الحكام أو الحكام الفلاسفة أي إلى عقل الدولة. وهنا يجب لفت الانتباه إلى أنّ أفلاطون يضع معادلة بين الرجولة/الذكورة/والعقل، وبين الأنوثة والجسد، فيتمّ، بناء على هذا التبرير، إقصاء المرأة من المجتمع تحت مزاعم عدم الأهليّة العقليّة، لقد تعاطى أفلاطون مع الذكورة بكثير من التبجيل والتقدير فرفع من مكانتها وأهميّتها داخل الدولة، في حين فعل النقيض مع الأنوثة، والنصّ الأفلاطوني، بهذا الصدد، صريح ولا يخفي مقاصده.
من الواضح جدا أنّ فلسفة أفلاطون، والكلام هنا ينصبّ على المنظومة المعرفيّة والمنظومة السياسيّة، قد احتقرت المادة والحواس والجسد والعبد والأنثى وجعلتهم في المرتبة الدنيا في سلّم المعرفة وفي الدرك الأسفل من المجتمع أو المدينة، وجعلت الذكورة مرادفـة للعقل والأنوثة مرادفة للجسد وصنّفت المرأة مع العبيد والأطفال والأشرار والمجانين، وهذا التصنيف الذي يكرّس كراهيّة المرأة يعكس بصدق السياق التاريخي والحضاري الذي كان الفيلسوف ينتمي إليه. فلا يستغرب المرء بعد هذا إنْ ظلّت المرأة في تاريخ الفكر اليوناني، بشكل عام، أدنى من الرجل ولا يحقّ لها أن تملك شيئاً من متاع الدنيا بل تظلّ مملوكة للرجل، هذا الأخير له الحقّ أن يمتلك جميع ممتلكاتها الماديّة إنْ وُجدتْ، كما أنّه يملك الأطفال والزوجات فضلاً عن ذلك كلّه. ثمّ أن شهادتها في المحاكم ليست لها قيمة حتى تبلغ سن الأربعين (25) ويكون ذلك وفق شروط معيّنة أشار إليها أفلاطون في محاورة القوانين، ما يعني أنّ أهليتها العقليّة والقانونيّة مشكوك فيها وهي ليست جديرة بالتصديق، وهكذا جرّدها أفلاطون من الأهليّة العقليّة والسياسيّة ولم تعدْ وصيّة حتىّ على نفسها وممتلكاتهـا بل إنّ الرجل هو الوصيّ الوحيد على ذلك.
أدانَ أفلاطون الطبيعة البشريّة للأنثى، وفي تصوّره ثمّة طبيعة أولى خاصّة بالرجل وطبيعة ثانيّة خاصّة بالمرأة، وهو يُلصق بالثانيّة المتعلّقـة بالأنثى كلّ أنواع الشـرور والآثام، بل ويذهب بعيداً إلى حدّ المبالغة في طرحـه، عندما يجعـل الخلق على هيئة أنثى عقاباً للإنسان على أخطاء ارتكبها في حياته وتكفيراً على خطيئة ما، فالإنسان الذي لا يُدير ظهـره للشهوات والنزوات الحسيّة، حسبه، سيتحوّل في ولادته الثانية إلى امرأة، وتتجسّد هذه العبارة بشكل صريح في محاورة تيماوس، وإذا لم يتوقّف الإنسان عن ارتكاب الشرور، يضيف أفلاطون، فسيتحوّل عندئذ إلى حيوان يُشبه في طبيعته مصدر الشرّ القادم منه (26). لقد انعكست هذه الأفكار بشكل سلبي على مُوَاطنة المرأة (27)، وظلّت هذه الأخيـرة، تبعاً لذلك، مواطنة غير فعليّة أو مواطنة من ''الدرجة الثانيّة''، بسبب التمييز العنصري والفوارق الاجتماعيّة المجحفة بحقّها.
كتبتْ سوزان موللر أوكين، بصدد نقدها للفكر السياسي الغربي، تقول: «لابدّ من الاعتراف في الحال، أنّ التراث العظيم للفلسفة السياسيّة يعتمد بصفة عامّة على كتابات الرجال، وللرجال، وعن الرجال» (28). ، ويبدو أنّ هذه العبارة تنطبق أيضا على فلسفة أرسطو إذ يكتسـي الترتيب الاجتماعي المتمثّل في نظام الهيراركيّة (29) أهميّة بالغة في فلسفته، ما يعني أنّ المدينة اليونانيّة تتميّز بطابعها الطبقي وما يعني أيضا أنّ النساء والعبيد والحرفيين والتّجار والصنّاع هم أدوات لخدمة الدولة واستقرارها، وضمن مفهوم الهيراركية يُقرأ هذا الفكر ويُستوعب خطابه الاجتماعي، ففي باب التفاوت والمساواة في الحقوق السياسيّة يقول أرسطو: «بما أنّ الغاية في كلّ علم وفنّ هي خير ما، فالغاية في أسمى العلوم والفنون كلّها هي أعظم خير وأقصـاه. وأسمى العلوم والفنون هي السياسة. والخير السياسي هو العدل، والعدل هو المنفعة العامة. والعدل يبدو للجميع مساواة ما» (30)، بل من العدالة ألا تكون ثمّة مساواة بين الأفراد أو بين الجنسين.
ذهب أرسطو إلى تأكيد تدنّي الطبيعة الأنثوية عندما قال بأنّ النساء هنّ أدنى من الرجال، وهو يكرسّ، بلا مُنازع، النظرة البطريريكيّة ولا يختلف كثيراً في هذه الجزئيّة عن سلفه أفلاطون وموقفه من مكانة المرأة ومن وظيفتها الأساسيّة في المجتمع. فلقد وُجِدت النساء، على حدّ تعبير أرسطو، من أجل التوالد وإنجاب النسل وتعمير المدينة، أما بالنسبة للرجال فهم الذين يمنحون القيمة والمعنى للأشياء، وهكذا حشر أرسطو المرأة في وظيفتها البيولوجيّة واعتبرها مجرّد آلة أو وعاء للإنجاب، وضمن نظرية العدل السياسي التي تقتضي مثل هذه الهيراركيّة الاجتماعيّة فإنّ نظرية العدالة الأرسطية تستدعي وجود الأعلى والأدنى، كما تقتضي عدم التكافؤ بين الرجال والنساء.
5 -عن السُلطانات المنْسيات: أو المرأة والسياسة
في النصّ المرنيسي تتهافتُ السردياّت البطريريكيّة الأفلاطونيّة والأرسطية معًا وغيرها من السرديات التي تحمل ذات المضامين، والتي تَعتبرها الكاتبة مجرّد هَرْطقات مُتجنيّة على الحقيقة والتاريخ، وللحِجاج في هذه المسألة ومسائل أخرى ذات صلة بالموضوع تحاول في كتابهـا: سُلطانات مَنْسيات رصد مجموعة من السُلطانات والملكات في التاريخ العربي الإسلامي البعيد والقريب ممن استطعن، بفضل ذكائهنّ وعلمهنّ، أن ينتزعن السلطة ويُغيّرن مجرى الأحداث ويكشفن عن مواهبهنّ في التعامل مع عالم السياسة والسلطة والإبداع في شتىّ مجالاته، رغم ما واجهن من عراقيل وصعوبات ودسائس. وتأتي المرنيسي على ذكر بعضهنّ مثل: السلطانة راضية التي تولّت الحكم بدلهي عام 634ه والملكة شجرة الذرّ التي استولت على الحكم عام 648ه وقادت المسلمين خلال الحروب الصليبيّة وحملت لقب سلطانة، ويُذكر أنّ كلّ من راضّيّة وشجرة الذرّ من أصول تركيّة، وفي اليمن حكمت الملكة أسماء والملكة أروى صنعاء في نهاية القرن الحادي عشر، وشاركت الملكة البربريّة زينب التفزاوي زوجها يوسف بن تاشفين حُكْمه الذي دام بين عام 453 و500ه، وغيرهنّ كثير ممّن تَذْكرهنّ الكاتبة، في هذا السياق، كنماذج لتسويغ أراءها عن قدرة النساء على القيادة والحكم.
لكن ثمة مسألة أخرى من الأهميّة بمكان الإشارة إليها في هذا الموضوع، وهي تتعلّق بالقوّة الخفيّة والمستترة للنساء وباستراتيجيتهنّ في القيادة وإدارة دفتيّ الحكم وصناعة السياسة حتى وهنّ في الظلّ والحريم، ويتعلّق الأمر هنا بسلطة الجواري والمحظيات والزوجات اللواتي كنّ يحكمن من وراء الأستار من داخل الحريم وإن كان ذلك بشكل غير رسمي، ويُبدين مقاومة مشهود لها، وتستعيد المرنيسي في سلطانات منسيات الكثير من الأحداث التاريخيّة والشخصيات النسائيّة التي تُذكرّ بما مضى، مثل الجارية الخيزرانأم الخليفة هارون الرشيد التي كانت بالغة الذكاء والفطنة وقد أبدت اهتماماً كبيراً بالسياسة، والجارية حُبابة جارية الخليفة يزيد الثاني التي كانت شاعرة ومغنيّة وذات أثر كبير على يزيد الثاني.
فإذا كانت ثورة الزنوج التاريخيّة، على حدّ توصيف المرنيسي، تسعى جاهدة إلى الاستيلاء على الحكم من خارج قصر الخلافة ووضع حدّ للاستغلال والخضوع وإهدار الكرامة الإنسانيّة، فإنّ ثورة الجواري لم تكن تعتمد على ذات الاستراتيجيات والآليات، لكي توطّن حضورها، وكانت الثورة تُشَنّ من داخل قصر الخليفة في مخدعه وعلى فراشه، فـ «لم تعلن الجواري الحرب على أسيادهنّ، ولكنّهنّ أحببنهم، ونحن أدرى بعدم قدرتنا على المقاومة في مثل هذه الحالات، أن نحبّ معنى ذلك أن نتخلّى عن المقاومة، ولا نأبه بالحدود، ونخلط بينهما ونلغي الحواجز» (31). لقد وجّهت الجواري الخلفاء من داخل الحريم، ومنه كذلك سيطرت على الخارج، فالجواري لم يكن هدفهنّ الوصول إلى السلطة، وإن كنّ يتفردن في كثير من الأحيان بها وبصناعة القرار، وفي حقيقة الأمر فإنّ سلطتهنّ كانت فعليّة وإن لم تكن رسميّة أو بقرار من الخليفة.
تبُيَّن المرنيسي، من خلال حَفْرها في القرون الماضيّة، سُطوة الهيمنة الذكوريّة على التوثيق وكتابة التاريخ وتحالف تلك الهيمنة مع المنظومة الثقافيّة والاجتماعيّة وكذلك مع المؤسّسة السياسيّة ذات القيّم الأبويّة في تَقَصُّدها إبعاد النساء وإقصاءهنّ وتجاهلهنّ ونسيانهنّ، وهي لم تلتفتْ إليهنّ أو لم تهتمّ بمكانتهنّ في التاريخ إلاّ بالنزْر اليَسير من الذِكْر العاجل وبما يحفظ، للمؤسّسة المهيمِنَة، ماء الوجه. وفي هذا السياق تستغربُ المرنيسي من ظاهرة «فُقدان المعاصرين لذاكرتهم بشكل كامل لا أحد يَذكرهنّ [السُلطانات والملكات] ولا أحد سمــع بهنّ» (32). وتتأسّف في ذات المقام على تواطؤ المؤرّخين في بلاد الشرق مع زملائهم في بلاد الغرب في فُقدان الذاكرة تلك عندما يتعلّق الأمر بالجمع بين المرأة العربيّة والسلطة. وهاهي تتعجّبُ من موقف أحد المختصّين في التاريخ الإسلامي برنارد لويس الذي يؤكّد بثقة بالغة وبمغالاة شديدة أنّ لا ملكة في التاريخ الإسلامي وأنّ لفظ ملكة ينسحب على الملكات الأوروبيات وحسب.
وتكتبُ المرنيسي في نصّها سلطانات منسيات قائلة: «إنّ هذا الحسم القاطع من طرف مختصّين ممتازين في الإسلام، من درجة برنارد لويس يؤكّدُ أمراً واحداً، وهو أنّه ليس بإمكان النساء المُسْلمات عامّة، والعربيّات خاصّة، الاعتمادَ على أحد لقراءة تاريخهنّ، سواء تعلّق الأمر بعالِمٍ أو بغير عَالِمٍ، بمن يتّخذ موقفاً أو بمحايدٍ» (33). إنّ تجنّب التاريخ في صورته الباهتة غير الموضوعيّة وإعادة قراءته، من زاوية إنسانيّة منفتحة على الحقيقة والتاريخ والواقع، باتت مسألة مُلحّة و أكثر من ضروريّة وهي تقع على مسؤوليّة المرأة، والمرأة العربيّة تحديداً، بُغيةَ رفع كل لبس وكذب واتّهام وتعتيم على تاريخ النساء والمبدعات عامّة، وتاريخ النساء العربيّات والمسلمات على وجه الخصوص، فـــــ «مُطَالبتنا بالتمتّع الكامل بحقوقنا الإنسانيّة العالميّة هنا، وفي الوقت الراهن، ستمرّ بالضرورة عبر بعث للذاكرة وإعادة قراءة، وإعادة بناء، لماضٍ إسلامي متّسع ومنفتح» (34).
6 - في مسألة الملْك والخِلافة: طابع السلطة بين الدنيوي والديني
يخلعُ تحليل المرنيسي، المتعلّق بالسُلطانات المنْسيات، اللواتي حَكمن بلاد الإسلام في التاريخ العربي الإسلامي، مزيداً من الرصانة على قوّة موقفها بشأن علاقة المرأة بالسلطة والسياسة والملْك، ولكنّ هل تقلّدت المرأة مهامّ الخلافة في الإسلام تتساءلُ الكاتبة؟ لاريب أنّ طرح مثل هذا السؤال الملغّم والجَسور هو مغامرة محفوفة بالمخاطر، وتُدرك المرنيسي مند البداية مدى صعوبة المهمّة التي تُقْدم عليها عندما تطرح مثل هذا السؤال الشائك في مجتمع لا تزال الإيديولوجيا الدينيّة تُهيمن عليه وتتحالف مع الإيدلوجيا السياسيّة ونظرياّت الهيمنة الذكوريّة عندما يتعلّق الأمر بالمصلحة المشتركة، ولكن رغم كلّ ذلك فإنّ المرنيسي تُصرّ على طرح السؤال واستحضار التاريخ بتفكيك البنى الثقافيّة والاجتماعيّة له. تقول الكاتبة بهذا الصدد: «إنّني أدرك بأنّ هذا السؤال يُشكّل في حدّ ذاته تجذيفاً، بل إنّ مجرّد التفكير في التجاسر على مُسَاءلة التاريخ بالنسبة لامرأة مثلي نشأت على تربيّة إسلاميّة تقليديّة، يعُاش كتجذيف باعث على الإحراج » (35).
وتَسْترسل الكاتبة، في مستهلّ كتابها سلطانات منسيات، في شرح بعض المصطلحات المهمّة أوّلاً: فما معنى كلمة الملْكوما معنى كلمة الخِلافة؟ وذلك قبل الانتقال إلى السؤال الموالي، هل يُعدّ لقب الخليفة والملِك مُتاحاً للجميع؟ ويأتي التوضيح بكون «الخلافة تشْمل الملْك بالضرورة كأحد مُكوّناتها بما أنّ عليها حتماً أن تَسهر على مصالح الناس الدنيويّة، وهذا التفسير مهمّ لفهم ما سيلي، وخاصّة ما يتعلّق بالملكات اللائي لا يُمكنهنّ أن يطمحن إلى أكثر من السلطة الدنيويّة» (36). والفكرة الأولى التي ينْضَح بها التعريف، لأوّل وهلة، هي أنّ الخلِافة تحمل في طيّاتها دلالات روحيّة ودينيّة، بينما تحمل كلمة الملْك والسلطان مضامين سياسيّة ودنيويّة، وهذا الأمر كافٍ، في حدّ ذاته، لكي تصل النساء إلى مرتبة الملكات والسلطانات لا إلى منصب الخلافة الذي يتمّ استبعادهنّ منه بل وحظره عليهنّ تمامًا، إنّ النساء بإمكانهنّ، فقط، حمل ألقاب ملكة وسلطانة لأنّها «لا تتضمّن أو تدلّ على مهمّة إلاهيّة، أما [لقب] (37) الخليفة فليس بوسعهنّ الطموح إليهِ مُطلقاً» (38). ولعلّه من أجل هذا لا نجد في القواميس العربية مؤنّث لمصطلح الخليفة، إذ «تعكس القواميس التي يؤلّفها الذكور -غالبا -رؤية أحاديةّ للعالم من الناحيّة الجندريّة: ففي لسان العرب لابن منظور تعني كلمة ''رجل'' معاني الشدّة والكمال، وإذا تشبّهت امرأة بالرجال في زيّهم وهيأتهم لُعنتْ، وإذا تشبّهت برأيهم ومعرفتهم مُدحتْ وبوركتْ» (39). ويحيلنا هذا الكلام إلى تعريف ابن منظور في كتابه لسان العرب وكيف يجعل التذكير بخلاف التأنيث، فهو يرمز دوماً للشدّة والقوّة والصلابة في حين يرمز التأنيث إلى الضعف والهزال وقلّة القيمة والأهميّة.
لكنّ الأمر المهمّ الذي يجب التنبيه إليه، في سياق الحديث عن سُلطتين مختلفتين: إحداهما دنيويّة والثانيّة دينيّة، هو أنّ التاريخ يعلّمنا أنّ الخليفة لم يكن يستسغْ باستسهال شديد دخول المرأة حتّى إلى عالم السلطة الدنيويّة، إلى عالم السياسة وممارسة مهام السلطة - المتاحة لها من الزاوية النظرية - كون النساء، في رأيه، لسن جديرات بذلك، متّكئاً في تلك المزاعم على منظومة العقائد الاجتماعيّة في تعريفها لمفهوم المذكّر والمؤنّث وللمهام المنوط بها كل واحد منهما في السياق التفسيري المقترح لتلك العقائد، وعلى التأويل الديني المطوّع سلفاً لتوجيه فكرته في الاتّجاه الذي يبتغيه، ويتمثّل هنا في تبرير إبعاد النساء وإقصاءهنّ من حقل النشاط الاجتماعي، والسياسي منه على وجه الخصوص. وبوصف الخليفة، على حدّ تعبير المرنيسي «ممّثل الله على الأرض وعلى مستوى المبدأ أو المصدر الأعلى لكلّ تفويض عن الإرادة الإلهيّة، عارض الخليفة بشكل كلّي وصول النساء إلى مهام رئيس الدولة، رغم أنّهن لم يطمحن أبداَ إلى أكثر من تسيير الشؤون الأرضيّة» (40).
7 -اللغة والهيمنة والتحيّز الثقافي
يَنْفرد المذكّر، وفق التحليل السابق، بمضامين خاصّة ذات دلالات واضحة على كماله وقوّته وجبروته، وفي تحديد الأعلى والأدنى وأدوار كلّ واحد منهما، فلقد انعكست الثقافة الذكوريّة، بشكل عام، على طريقة إنشاء المعاجم اللغويّة وعلى محتوياتها وكانت اللغة حاضنة قويّة للثقافة السائدة، وعلى حدّ تعبير الكاتبة أبو ريشة فعندما تكون الثقافة مذكّرة، أي البنية المجتمعيّة كذلك، فــ «إنّ إحدى أهمّ أدواتها للاستمرار وإعادة إفراز ذاتها هي اللغة الحاملة والمحمولة، واللغة المرآة، واللغة كفاعلة، واللغة كآلة لكشف الخداع الثقافي والاجتماعي» (41)، فمن شأن التحيّز اللغوي أن يكون تحيّزا ثقافيّاً وبطريريكيّاً، وليس مأزق اللغة العربيّة « إلاّ تمظهراً للمأزق الثقافي الذي يُقصي المرأة ويغيّبها، ويشارك في هذا التغييب المجتمع العربي بجميع عناصره وفواعله بما في ذلك المرأة التقليديّة وكذلك العصريّة» (42)، التي تقبع في ذهنها صور الإقصاء والدونيّة وعدم الأهليّة، وتتمكّن استراتيجيّة الهيمنة من ترسيخ معتقداتها والنيل من شخصيّة المرأة، وفي المحصّلة يحدث الاستسلام للشروط تلك ويكون « بعدم التدخّل لصياغة صورة بديلة أو الإعلان على الأقلّ عن الاختلاف عنها أو معها» (43).
وفي سياق متّصل، يشرح عبدالله الغذامي مسألة غياب المرأة كفاعل لغوي وعدم استقلاليتها اللغويّة في كلّ الثقافات ومن ثمّة غيابها كذات متكلّمة، فقد فسح هذا الواقع الاعتباطي، حسب تحليله، المجال على مصراعيهِ لللفظ الفحل يمارس إكراهاته. وقد انعكس التأثير الكبير الذي مارستهُ ثقافة الفحولة على اللغة، «فتظهر اللغة تاريخيّا وواقعيّا على أنّها مؤسّسة ذكوريّة، وهي إحدى قلاع الرجل الحصينة. وهذا يعني حرمان المرأة ومنعها من دخول هذه المؤسّسة الخاصّة بالرجل. ممّا جعل المرأة في موضوع هامشي بالنسبة لعلاقتها مع صناعة اللغة وإنتاجها» (44).
فوجود المرأة خارج نطاق اللغة من شأنه أن يحقّق للذكر الفحل السيادة التعبيريّة، على حدّ توصيف الغذامي في كتابه المرأة واللغة (45) ، فتخلو الساحة للفحل لصياغة العالم كما يشاء وصياغة تاريخ النساء كما تريده إرادته المُهيمِنة والمنفردة بالتدوين والتأريخ والتعبير، ولا تحضر المرأة عندئذ بالشكل الذي تريد بل يمكن توصيفها بـ «الكائن الآخر، الذي ''احتجزناه'' وحوّرنا في كيانه، وجعلناه بالشكل الذي يجب أن يكون فيه، كما نريد نحن، أي أسقطنا فيه ومنه، ما يحقّق هذه الإرادة والرغبة داخله!» (46). إنّ هذا التصرّف والسلوك من شأنه أن يجعل الكثير من الحقائق في التاريخ عرضة للمُساءلة وإعادة التأويل، بُغية استكمال جوانبها الناقصة، وقد يُطعن في صدقيتها كونها غير موضوعيّة ولا تمتّ إلى الحقيقة بصلة، ولكن لو تيّسر للمرأة تدوين التاريخ وكتابة أحداثه والمشاركة فيه مع الرجل، الذي احتكر هذه الصناعة على مدى قرون طويلة من الزمن، «لكنّا قرأنا تاريخاً مختلفاً عن فاعلات ومؤثّرات وصانعات للأحداث، وهنا ستكون الأنوثة قيمة إيجابيّة مثل الفحولة تماماً» (47).
ففي منظومة الفحولة لا صوتَ يعلو على صوت الذكَر، بل إنّه الصوت الوحيد المتبقّي بعد إعدام الصوت الآخر بواسطة صناعة الكتابة الذكوريّة، وعندها «لم يكتف الرجل بتصوير المرأة حسب ظنونه عنها، بل إنّه -أيضاً -تولّى التحدّث بالنيابة عنها، ومن هنا فإنّ الرجل يكتب المرأة في لغته هو وليس في لغتها ويَسْتنطقها حسب منطقه ويريدها حسب هواه» (48) نظراً لكونها موضوعاً، في نظره. ولكنّها متى تحوّلت إلى ذات كاتبة مستقّلة، تطرح رؤيا مختلفة إزاء العالم والإنسان، شكّلت خطراً جسيماً على فحولته وزعزعت عرش مملكته الأسطوريّة التي سَيّجها بيقينياته التي ليست يقيناً في واقع الحال، وقد تكون نازك الملائكة (49) (1923-2007) قد زعزعت تلك اليقينيات الذكوريّة في الأدب الحديث، فــلا غرابة أن يكون «الفتح الشعري الحديث قد تمّ على يد امرأة» (50).
فاستخدام الضمير المؤنّث وتاء التأنيث هو منعطف تاريخي وحضاري هامّ وحدث من شأنه أن يقلب المفاهيم رأسا على عقب ويعيد كتابة التاريخ من زوايا إنسانيّة أخرى، فالكتابة تعني «أنّنا أمام نقلة نوعيّة في مسألة الإفصاح عن الأنثى، إذ لم يعد الرجل هو المتكلّم عنها والمفصح عن حقيقتها وصفاتها -كما فعل على مدى قرون متوالية -ولكن المرأة صارت تتكلّم وتفصح وتشهر عن إفصاحها هذا بواسطة (القلم) هذا القلم الذي ظلّ مذكّرا وظلّ أداة ذكوريّة» (51)، فأضاف هذا الحضور الأنثوي صوتاً جديداً إلى اللغة ظلّ لقرون طويلة من الزمن مستبعداً منها وغير مرغوب في حضوره .
دخلت المرأة، إذن، عالم اللغة أو لغة الآخر بواسطة عمليّة الكتابة وكم لهذ الأخيرة من دلالات (52) عميقة، وما أعظمها من وسيلة تفكّ بها ألغاز التاريخ وتحكي بواسطتها مأساتها الإنسانيّة وتُدين بها كلّ أشكال الهيمنة التي سُلّطت عليها وتدعو فيها إلى مُراجعة التاريخ وسردياته التي كتبها الرجال وانحازوا فيها للرجال. يقول فردينان دي سوسور Ferdinand de Saussure (1857-1913) أهمّ وأشهر اللغوين في العصر الحديث» عندما نتحدّث عن قيمة كلمة ما، نفكّر بالصفة التي تجعل الكلمة تمثّل فكرة وهذا في الحقيقة جانب من القيمة اللغويّة» (53)، ويجيئ كلام دي سوسور، في هذه العجالة، في معرض حديثه عن القيمة اللغويّة من وجهة نظر فكريّة، فلا شكّ، استناداً إلى موقف هذا الأخير، في أهميّة الدلالات الفكريّة المختلفة التي يُحيل إليها الضمير المتكلّم عندما يُقْبِل على اللغة.
لكنّ أمراً لافتاً يجب الإشارة إليه، مع تأنيث الضمير المتكلّم وغداة دخول المرأة عالم الكتابة، وهو استمرار سطوة الهيمنة البطريريكيّة ومعها التشكيك في قدرة النساء على العطاء والكتابة والإبداع بشكل عام، فــــ «حين تفرض كتابة المرأة ذاتها داخل النسق الذكوري، ولو باعتبارها هامشاً، يَنعتها الرجل بأنّها ليست امرأة، ولا تستجيب لخصائص الأنوثة الضروريّة للمرأة» (54). إنّه لا مفرّ، عندئذ، من القول أنّ التمركز داخل النسق الذكوري المهيمن إنّما يغدو كفاحاً مستمرّا ومتواصل الحلقات، إذْ لا يمكن لأي حركة فكريّة نضاليّة أن تستمرّ «ما لم تمرّ بصراع طويل مع القوى الفاعلة في المجتمع، وتلك المؤثّرة في صنع القرار. ولا يمكن لها أن تتمدّد في التاريخ ما لم يكن لها قاعدة شعبيّة محرّضة ومساندة» (55).
فهل يعني هذا الأمر أنّ تراجع النساء عن الكتابة يطرح أسئلة كبيرة لا تنتهي تُفضي في نهاية المطاف إلى التقليل والتشكيك في مؤهّلاتها؟ كما وأنّ الإقدام على ممارستها يطرح أسئلة أخرى وإشكاليات لا حصر لها ولا تقلّ أهميّة عن سابقاتها من قبيل: هل هناك جدوى من كتابة المرأة، وهل ترتقي نصوصها إلى الشكل المطلوب؟ لماذا يستمرّ هذا العنف الرمزي، وفق مصطلح بورديو، في التمظهر في صور متعدّدة؟ لقد بدتْ المرنيسي واضحةً المواقف في معاينة تلك الإشكاليّات، ومن الجدل المنفصل أو المتّصل بإبداع المرأة والإيمان بها كذات لغويّة، لقد نهضتْ نصوصها لِتُبطل كلّ مسلكيّة تَصْرف النظر عن حضور كتابة المرأة وتَنْصَرف إلى التضليل والإقصاء أو التمسّك بعدم إضفاء طابع المشروعية والوجود على الذات اللغويّة المؤنّثة.
8 - المعرفة بوصفها سلطة وآلية مقاومة
عندما دخلت المرأة إلى المحظور، حسب تعبير الغذامي، «ومدّت يدها إلى اللفظ الفحل والقلم المذكّر» (56) أصبحت صناعة التاريخ ليست ذكوريّة صرفه، ففي كتابها الموسوم بـ شهرزاد ليست مغربيّةتحاول المرنيسي أن تشرح فيه علاقة النساء بالمعرفة وبالسلطة فتقول في مقطع منه «تطرح شهرزاد، بوصفها أسطورة، المشكلة الأساسيّة للظلم، للاستراتيجيّات التي سيتّخذها الضعيف والمنبوذ في مواجهة طغيان الجبابرة، وأكثر أنواع اللامبالاة ظُلماً وهولاً هي تلك المتعلّقة بالمعرفة» (57). لقد توهّجت شهرزاد عن طريق الحكي الذي امتدّ عبر الليالي ومن فرط رحابة الروح لديها وعمقها وإنسانيتها ونبرتها الواثقة وتمسّكها بالحياة، استطاعت أن تجعل شهريار يَعْدِل عن مشروعه في قتل جميع نساء المدينة، وأكثر من ذلك يعترفُ بخطئه وتجنّيه وبمُكابرته، فوحدها الكلمات أجّلت موتها وألغته لاحقاً، «لم تكن شهرزاد تتحكّم في الجنود بل في الكلمات. من هنا يمكن أن تصير الحكايات بمثابة أسطورة حضاريّة راهنة جدّا. إنّ حكايات ألف ليلة وليلة تتغنّى بانتصار العقل على العنف» (58).
لا تُلْقي شهرزاد بالاً لتهديد ووعيد شهريار في ألف ليلة وليلة ولا تذهب إلى الموت بسذاجة، فهي مُصرّة أن تغيّر كلّ خططه وتستميله إليها وتغيّر دواخله حتى تجعله يعدل عن الآراء القاتلة، وكانت أقوى أسلحتها في ذلك الكلمة التي تختزل بكلّ وضوح العقل والذكاء والسلطة. إنّها استطاعت، بواسطة الكلمة (59)، أن تحوّل الليالي الموحشة المرعبة التي كانت رائحة الغدر والموت تفوح منها إلى ليالي للأنس والسمر والحبّ، كانت شهرزاد مصّرة على تغيير شهريار من الداخل وعازمة على تلطيف طبعه وتحويله من شخص قاسي القلب متلهف للموت، إلى شخص جديد ينضح حناناً وعشقاً وحبّا، وهي مهمّة عصيّة ولكنّها لم تكن مُستحيلة البتة إزاء ملك لم يستطع أن يحطّم أحد من الناس غروره أو يُثنيه عن أفكاره السوداويّة إلاّ الكلمات، التي انتصرت في نهاية المطاف على أنانيته وتطرّفه وغروره، فــــ «بإمكان الكلمات أن تُنقد من يتحكّم في نسْجها بحذاقة، وتلك حال شهرزاد راوية ألف ليلة وليلة. كان الخليفة سيقطع رأسها ولكنّها نجحت في إيقافه بسحر الكلمات» (60).
لم تعتمد شهرزاد على جسدها دون العقل في تغيير مصيرها ولم ينجذب إليها شهريار بقوّة الجنس وحسب، بل بقوّة العقل والحكمة والذكاء، إنّ نموذج شهرزاد يعلّمنا بأنّه «بإمكان المرأة أن تثور بفعاليّة بشرط أن تفكّر. إنّها حين تعتمد على قوّة ذكائها، تساعد الرجل على أن يتخلّص من حاجته النرجسيّة» (61). لقد رأى فيها شهريار امرأة متفرّدة عن باقي النساء اللواتي صادفهنّ في حياته وهي معتمدة على الكلمة بوصفها سلاحا قويّا وفعالاً للمبارزة والبقاء.
9 - النساء والإبداع في المتن التراثـي العربي الإسلامي
تستعيدُ النساء أهميّتهنّ في بعض النصوص التراثيّة الاستثنائيّة كتلك المنسوبة لـابن طيفور (62)، ففي كتابه بلاغات النساء (63) يخالفُ الكاتب تلك الصورة النمطيّة، عن المرأة، التي ظلّت قابعة في الأذهان ويُسجّل لنا تاريخاً منصفاً لإبداعهنّ. وتستحضره المرنيسي، في نصوصها، باعتزاز وتقدير موصوفين، فمعه وبه ترفع بعض اللبس عن التعتيم الشديد الذي طال تاريخ النساء المبدعات في المدوّنات التراثيّة، وإذا كان باستطاعة الكاتب المنصف والموضوعي أن يقدّم مثل تلك الصور التي قدّمها ابن طيفور في بلاغات النساء فإنّ هذا سينتهي إلى كتابة التاريخ بشكل متحضّر وإنساني، وإجلاء ذلك التعتيم الذي استقرّ في الضمير الجمعي، ومعه مقاومة ثقافة النسيان.
لكن الموقف، من المرأة، الملفت للانتباه والاهتمام، في تراثنا العربي الإسلامي، هو ذلك المنسوب إلى جماعة المتصوّفة، إذْ ينفرد محيي الدين بن عربي (1165م – 1240م) في هذا الشأن بإضفاء القيمة والأهميّة عليها، ففي كتابه الفتوحات المكيّة وتحديداً في الباب المعنون «في معرفة منزل جمع النساء الرجال في بعض المواطن الإلهيّة وهو من الحضرة المحمديّة»، يعتزّ هذا الرجل المتصوّف بالتأنيث قائلاً: «شرف التأنيث إلا إطلاق الذات على الله إطلاق الصفة وكلاهما لفظ التأنيث جبراً لقلب المرأة الذي يكسره من لا علم له من الرجال بالأمر» (64). فالنصّ في حضوره الصوفي عند ابن عربي لا يطرح مسألة التراتبيّة الهرميّة المعهودة، بل تذوب فيه مسألة الذكورة والأنوثة أمام الله، وتصبح الأنوثة عندئذ قيمة يتمّ التركيز عليها لأنّها تعدّ الشرف الذي تحوزه الذات الإلهيّة، بل إنّ الأنوثة هي من أعظم مظاهر خلق الله. ويضيف ابن عربي في نفس الباب قائلاً: «اعلم أيّدك الله أن الإنسانيّة لما كانت حقيقة جامعة للرجل والمرأة لم يكن للرجال على النساء درجة من حيث الإنسانيّة» (65). وموقف كهذا، بالقياس إلى العصر الذي قيل فيه والثقافة السائدة فيه، يعدّ، لامحالة، جريئا ومسبوقاً وحضاريّا.
إنّ ابن عربي يرفع من قيمة الأنثى ويذمّ الموقف الذي يفْصِل بينها وبين الذكر، وتعبّر قصيدته، التي يفتتح بها الباب الذي أوردناه في هذا العنصر، شاهداً حيّاً على موقف التصوّف من التأنيث، يقول في أبياتها:
إنّ النســاءَ شَقائـــــــــقُ الذكـــــــــــران في عـــــــــــالَم الأرواح والأبـــْــــــــــــدان
والحُكْم متّحــــد الوجــــــود عليْهما وهو المعَبِـــّـــر عنـــــــه بالإنســـــــــــــان
وتفرّقــــــــا عنـــــْه بأمْـــــــر عــــــــــــــارض فَصْل الإناث بهِ مـــــن الذكــــــــران
من رُتْبة الإجماع بحكم فيهمـــــــــــــا بحقيقـــة التوحيــــــد في الأعْيـــــَــــــــان
وإذا نَظَرْت إلى السماء وأرضها فــــَرَقْـــت بينهمـــــــا بــــــلا فـــُرْقـــــــــــان
أنظر إلى الإحسان عيناً واحــــداً وظهـــــــوره بالحكــــم عن إحســــــان
أما في كتابه فصوص الحكم فإنّ موقفه من التأنيث، هو الآخر، من الأهميّة بمكان ويجدّد رسوخ موقفه من المرأة إذ يقول في الفصّ الموسوم بــ «فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمّديّة» مستحضراً قول النبيّ محمّد في كلامه عن محبّة النساء، ''حُبّبَ إليّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلتُ قرّة عيني في الصلاة''، ومعقباً عليه بقوله: «ابتدأ بذكر النساء وأخّر الصلاة، وذلك لأنّ المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها. ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه، فإنّ معرفته بربّه نتيجة عن معرفته بنفسه..» (66). والتأنيث في هذه العبارة «ليس أمراً لفضياًّ بل له دلالة معنويّة في العرفان الصوفي الفلسفي» (67). ولئن كان من كلام في هذا المقام، بعد استعراض بعض مواقف ابن عربي في التأنيث، هو أنّ نصيْه: الفتوحات المكيّة وكذلك فصوص الحكميكشفان عن قيمة المرأة في التراث العرفاني الصوفي، كما ينطويان على مفارقة واضحة بين موقفيهما من المرأة وباقي المواقف التراثيّة الأخرى منها. وتستعين المرنيسي، في كتاباتها بهذه النصوص، التراثيّة المشْرقة، وتحتفي بها بوصفها سنداً تاريخياً في توقير الأنثى. وقد لا يكون من باب المبالغة في شيء إذا نعتناها بالمؤلّفات التنويريّة في التراث العربي الإسلامي، والصوفيّ منه على وجه الدقّة، التي يجب استدعاءها وترهينها باستمرار نظراً لما تقدّمه من قيّم نبيلة، أخلاقيّة، دينيّة وجماليّة.
10 -المرنيسي ونقاش حول النسويّة الإسلاميّة في أبعادها الحضارية والتنويريّة
لقد أصبح واضحاً للقارئ، الآن، أنّ المرنيسي تكنُّ احتراماً كبيراً للتراث العربي الإسلامي ولا تتردّد، في كلّ مرّة، من الحفر فيه والعودة إليه كمعين لا ينضب لكتاباتها، وإن كانت تُسجّل، بصريح العبارة، انحيازها لأفكار التنوير والعقلانيّة الموجودة بين ظهراني هذا التراث وللتفاسير الموضوعيّة وغير المتطرّفة فيه. تقول المرنيسي في أحد مقاطع مؤلّفاتها، «من حسن حظنا كباحثات وباحثين في ميدان العائلة أنّ تراثنا الإسلامي مكتوب، وأنّنا نملك معطيات تاريخيّة غزيرة حول العائلة في فجر الإسلام. ومن هنا يمكن القيام بتحليل منهجي دقيق للتغيّرات الحادثة في المؤسّسة العائليّة بعد ظهور الإسلام، انطلاقا من مؤلّفات تزخر بالمعلومات حول الحياة الزوجيّة لدى المئات من الصحابة والصحابيات كـــــ'' الطبقات'' لابن سعد.. [و] حياة النبي (ص) منبع غزير للمعلومات، حيث أولى المؤرّخون اهتماماً خاصّاً لحياته العائليّة» (68).
وفي مخاطبة التراث لا تدّخر المرنيسي جهداً في سبيل العودة إلى النصّ القرآني والسنّة النبويّة وصحيح البخاري والمعاجم التراثيّة، وغيرها من المصادر والمصنّفات التاريخيّة القديمة، لتستعين بها في إعادة قراءة بعض الآيات القرآنيّة، كتلك المتعلّقة بتعدّد الزوجات ومناقشتها في أبعادها النفسيّة والاجتماعيّة، أو الالتفات إلى ظاهرة الطلاق باستحضار الآيات والشواهد على ذلك، معزّزة آراءها بقراءة سوسيولوجيّة، ومستعملة منهجيّة وأدوات عالمة الاجتماع في تفكيك هذه المشكلة أو تلك. وتكمن طرافة المرنيسي، وهي تحفر عميقا في كلّ هذا، في جرأتها على اقتراح قراءة تأويليّة جديدة للنصّ القرآني (69)، قراءة حديثة ومن زاوية نسويّة (70)، وإن كان التراث الإسلامي لم يشجّع أبداً على هذه المسلكيّة، بل واستنكرها بشدّة إلاّ فيما نذر، ولا غرابة في الأمر إذا علمنا أنّ ذلك التراث قد اتّكأ في تلك المواقف على ثقافة الفحولة.
ويستند الخطاب النسوي الإسلامي في تَشَكُّله على استدعاء النصّ القرآني والسنّة النبويّة من أجل إعادة تفسير بعض الآيات القرآنيّة وخاصة تلك الصور القرآنيّة المتعلّقة بالنساء والأحاديث النبويّة التي تَذْكُرهنّ، والاجتهاد في تقديم تأويلات جديدة بالاستناد إلى قيّم العدالة والتسامح والرحمة والحقّ التي يعلمّنا إياها الدين الإسلامي. ووفق هذا الهدف فإنّ النسويّة الاسلاميّة تقوم بـــ «الردّ على التفسيرات التي تسلّط الضوء على معاني الأفضليّة والسيطرة والتمييز في القدرات والتحيّز لجنس دون آخر. فيحاولن تقديم بدائل وحلول ووجهات نظر أخرى لمناهضة التحيّز ضدّ المرأة، وذلك عبر الاستناد إلى منهجيّات وآليات تفسير محدّدة» (71). إنّ النسويّة الإسلاميّة (72) تسلك هذا الطريق، لكي تقدّم حلولاً فقهيّة جديدة، رغم الانتقادات الشديدة لها، ولكي تضع حدّا للتطرّف وللكثير من المبالغات في الدين وتحلّ بعض مشكلات الواقع الاجتماعي والعمل على «التصدّي للأحكام الفقهيّة السائدة عن الزواج والطلاق والقوامة وتعدّد الزوجات» (73).
ولا يتوقّف أداء النسويات الاسلاميّات (74) عند هذا الحدّ بل هنّ يذهبن بعيداً إلى «غربلة التفاسير ومراجعة تراكماتها وتناقضاتها، وذلك في محاولة للتفريق بين شرح الآية والرأي الشخصي للمفسّر المبني على الثقافة المجتمعيّة. وفي كلّ هذه المحاولات لإنتاج تفاسير ومفاهيم جديدة، تضع الباحثات أمام أعينهنّ القيّم القرآنيّة العُليا وأساسيات الدين» (75)، وهذا يعني في مضمونه إعادة قراءة تاريخ الأفكار في مجالات عديدة ومنها الأحكام الفقهيّة وتاريخ الأفكار الدينيّة. إنّ النسوياّت الإسلاميّات سيؤدين دوراً حضارياً إيجابياً، لامحالة، إذا استمرّ هاجس التحليل والنقد الموضوعي من بين أهدافهنّ على شرط ألا يتحيزن لرأي ويتعصبن له، ولا يلغين جهوداً أخرى، في مجال البحث كتلك التي تقدّمها النسويات العلمانيات مثلاً أو غيرهن من الاتّجاهات المختلفة والمتعارضة معها، فلا أحد بإمكانه أن يحتكر الحقيقة.
على النسويات الاسلاميّات ألاّ تسقطن في فخّ هيمنة من طراز آخر، هي ''الهيمنة الأنثويّة'' المتطرّفة والمتعصّبة للرأي، إذْ يحتاج التراث الديني والموروث الثقافي منّا إلى قراءة موضوعيّة له، معتمدة على منهجيّات علميّة حديثة في البحث وعلى قراءة عميقة وواعيّة تراعي السياقات التاريخيّة للأفكار مراعاة شديدة، لكيلا تُقتطع النصوص من فضائها الاجتماعي والثقافي والعقائدي بشكل تعسّفي وانتقائي. فكلّ هيمنة كيفما كان شكلها ستسيئ إلى النصّ أكثر مما ستفيده وتستجلي متونه، لذلك على النسويات الإسلاميّات أن يُطَهِرن التاريخ من الأكاذيب والمغالطات الكثيرة التي عملت السلطة الذكوريّة المهيمنة على بسطها على مدى قرون طويلة من الزمن، لا أن يسلكنَ نفس الطريق بآليات مختلفة ولبوس جديدة.
كثيرا ما كانت الكتابة والكلمة، عموماً، استراتيجيّة للمقاومة والتغيير، وهاهي المرنيسي تسوق براهينها على صحّة هذا الكلام وهي الموفورة الثقافة والواسعة الاطّلاع على النصوص الحديثة وعلى الكتب والمخطوطات القديمة. إنّ الكلمة بإمكانها أن تكون سلاحاً فعّالاً ضدّ الهيمنة والاستبداد والإقصاء واللامساواة، وباستطاعتها تغيير وجه العالم فضلاً عن ذلك، وفي نصوص المرنيسي، بلا استثناء، مقاومة شرسة بالحرف، متواصلة ولا هوادة فيها، ضدّ السرديات البطريريكيّة والأفكار الظلامية وضدّ ذهنيّة القرون الوسطى)).
د. خديجة زتيلي
********************************
هوامش المقال
(1) في معاجم اللغة العربيّة جمعه أحْرام وحرائم وحُرم، وهو كلّ ما حرَم انتهاكه وهو تعبير يشير أيضا إلى جناح النساء في قصر الحاكم الملك، السلطان، أو الأمير. وجاء في لسان العرب لابن منظور: حرم: الحرم، بالكسر، والحرام: نقيض الحلال، وجمعه حرم.. والحريم الذي حرم مسّه فلا يُدنى منه.. أنظر بهذا الصدد:
أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم (ابن منظور)، لسان العرب، ج 4، (بيروت: دار صابر، 2003).
(2) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، (المغرب: منشورات الفنك والمركز الثقافي العربي، ط 2، 2007)، ص 9.
(3) تاريخ استقلال المغرب عن الاحتلال الفرنسي.
(4) فاطمة المرنيسي، شهرزاد ليست مغربيّة، تر: ماري طوق، (المغرب: نشر الفنك والمركز الثقافي العربي، ط 2، 2003)، ص 68.
(5) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ص 53.
(6) المرجع نفسه، ص 9.
(7) ردّا على الذين اعتبروا كتاب: نساء على أجنحة الحلم بمثابة السيرة الذاتيّة لفاطمة المرنيسي توضّح قائلة: «هذا الكتاب ليس سيرة ذاتيّة، وإنّما أحداث متخيّلة على شكل حكايات ترويها طفلة في السابعة، فإنّ ما ورد هنا بشأن أحداث يناير 1944 نابع من ذكرياتي التي احتفظت بها عمّا كانت تحكيه نساء لا يعرفن الكتابة والقراءة في وسط الدار أو على السطوح». هناك إذن الجانب الواقعي التاريخي والجانب الآخر سردي ومتخيّل. أنظر كتاب: نساء على أجنحة الحلم، ص 255.
( في سياق الحديث عن البناء الاجتماعي للأجساد تقول الكاتبة ماريا بيونج دولابيلاكازا: إنّ البيولوجيا هي التي تمّ الاستناد عليها في توزيع الأدوار الاجتماعيّة، وتوضّح الكاتبة أنّ البيولوجيين النساء هنّ أوّل من ناضلن ضدّ هذه الأفكار لوضع حدّ لهذا الخطاب. لقد حَدَث ذلك بالفعل منذ سبعينيات القرن العشرين عندما وعت الباحثات الأكاديميّات، بشكل عميق، أنّ العلاقة الموجودة بين البيولوجيا والتفسيرات الخاطئة التي كانت سائدة عن دونية النساء وعدم أهليتهنّ العلميّة والفكريّة والسياسيّة، إنّما مردّه إلى القيّم البطريريكيّة التي كانت هي المحتكـرة لهذا العلم والصانعة لمتونه. يمكن للقارئ النظر في مقالها:
Maria Puig de la Bellacasa , « les corps des pratiques : politiques féministes et (re) construction de ''la nature'' », dans : Helene Rouch , Elsa Dorlin , Le corps entre sexe et genre , ( paris : L’Harmattan , 2005) , pp, 20 - 21 .
ووفقاً للطرح القائل بضرورة تغيير المفاهيم البيولوجية في حدّ ذاتها، كان يجب إنتاج خطاب علمي وبيولوجي جديد لاستحداث خطاب فكري وسياسي مختلف هو الآخر، يحتكم إلى العلم والموضوعية لا إلى التخمين والافتراض أو إلى الإيديولوجيا والنظرة العنصرية الضيّقة. فالنصّ البيولوجي القديم غدا نصّاً اعتباطيا مُغالياً في نزعته العنصريّة فاقداً لشرعيّته العلميّة، ما يعني، منطقيّا، أن كلّ النظريات التي تستند عليه لتؤسّس، انطلاقا منه، لخطاب فكري وسياسي ستغدو هي الأخرى فاقدة لكل شرعيّة علميّة ومصداقيّة معرفيّة. كان الوصول إلى المبتغى مرهونا ًبمدى دحض البنى العلميّة القديمة والبرهنة على إفلاسها وفسادها.
(9) تحدّث بيار بورديو Pierre Bourdieu (1930 -2002) في كتابه الهيمنة الذكوريّة عن البناء الاجتماعي للأجساد الذي يحيل بالضرورة إلى التقسيم الاجتماعي للنشاطات داخل البيت وخارجه، وهو يأتي وفقاً للنظرة الاجتماعيّة المختلفة إلى الجنسين، وقد توسّل بورديو في دراسته الميدانيّة تلك بالمجتمع القبائلي في الجزائر، في مرحلة الستينات من القرن الماضي، بوصفه عيّنة واقعيّة وتاريخيّة للتقسيم الاجتماعي للأجساد، وإن كنّا نرى أنّ مظاهر لذلك التقسيم لا تزال سارية المفعول إلى يومنا هذا، قد لا تكون بنفس الحدّة السابقة ولكنّها لم تختف ولن تختفي بالمطلق في ظلّ الإيمان بمقولة التقسيم الاجتماعي للأجساد وفق النوع. وحسب بورديو فإنّ «النظام الاجتماعي يشتغل بحيازة آلة رمزيّة هائلة تصبو إلى المصادقة على الهيمنة الذكوريّة التي يتأسّس عليها». فالأجساد الذكوريّة وتلك الأنثويّة يتمّ تبرير نوع نشاطها في المجتمع بناء على الاختلاف الجنسي لا غير. وهذا الأسلوب في تقسيم العمل وتعيين جدواه وقيمته، وفق النظام الجنسي، يرفضه ويدينه ويخطئه وهو مرذول في نصّ بورديو، وينبري في مقدّمة كتاب الهيمنة الذكورية لشرحه وتحديد موقف منه منذ البداية. أنظر بهذا الصدد:
بيار بورديو، الهيمنة الذكوريّة، تر: سلمان قعفراني، مراجعة ماهر تريمش، (لبنان: مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط1، 2009)، ص 27.
(10) إنّ المنظومة الاجتماعيّة والثقافية هي التي تُحدّد أدوار الجنسين بمعزل عن رغبتهما وإرادتهما، وهي أيضاً التي تَطرح صورة الذات المثاليّة اجتماعيّا وفق معاييـر معيّنة. في الوقت الذي تؤكّد فيه التجربة الواقعيّة والتاريخيّة، بشكل عام أنّ الفحـولة ليست مقياساً للنجاح، وأنّ الذكورة والأنوثة هي صفات أفقيّة وليست هرميّة.
(11) Evelyn Fox Keller, « Histoire d’une trajectoire de recherche », traduit de Langlais par Natalie Jas, dans : Delphine Gardey et Liana Löwy, Les sciences et la fabrication du féminin et du masculin, (paris : Éditions les archives contemporaine, 2000), p 46.
(12) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ص ص 16 -17.
(13) فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعيّة، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، (المغرب: منشورات الفنك والمركز الثقافي العربي، ط4، 2005)، ص 149.
(14) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ص 11.
(15) فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعيّة، ص 150.
(16) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ص 254.
(17) فاطمة المرنيسي، العابرة المكسورة الجناح: شهرزاد ترحل إلى الغرب، (المغرب: منشورات الفنك والمركز الثقافي العربي، ط1، 2002)، ص 5.
(18) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ص 259.
(19) تمّ إضافة اللفظة إلى الجملة بغرض التوضيح.
(20) فاطمة المرنيسي، العابرة المكسورة الجناح: شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص 23.
(21) المرجع نفسه، ص ص 80-81.
(22) تقول الأسطورة: «في صباح أحد الأيام، وقبل أن يُطلق على مدينة أثينا اسمها المعروف، أفاق أهل المدينة على حادث عجيب، فمن باطن الأرض نبتت في ليلة واحدة شجرة زيتون ضخمة لم يروا شبيهاً لها من قبل، وعلى مقربة منها انبثق من جوف الأرض نبع ماء غزير لم يكن موجوداً من قبل أيضاً، وقد أدرك الناس أن وراء ذلك سراً إلهياً ورسالة تأتي من الغيب، فأرسل الملك إلى معبد ''دلفي'' يستطلع عرافته ويطلب منها تفسيراً، فجاءه الجواب أن شجرة الزيتون هي الإلهة أثينا، وأن نبعة الماء هي الإله بوسيدون، وأن الإلهين يخبران أهل المدينة أي من الاسمين يطلقون على مدينتهم، عند ذلك جمع الملك كل السكان واستفتاهم في الأمر، فصوتت النساء إلى جانب أثينا، وصوت الرجال إلى جانب بوسيدون، ولما كان عدد النساء أكبر من عدد الرجال كانت الغلبة لهنّ، وتم إطلاق اسم الإلهة أثينا على المدينة، وهنا غضب بوسيدون فأرسل مياهه المالحة العاتية فغطت أراضي أثينا، وتراجعت تاركة أملاحها التي حالت دون زراعة التربة وجني المحصول، ولتهدئة خواطر الإله الغاضب، فرض الرجال على النساء ثلاث عقوبات: أولاً: لن يتمتعن بحق التصويت العام بعد اليوم، ثانياً: لن ينسب الأولاد إلى أمهاتهم بعد اليوم بل إلى آبائهم، ثالثاً: لن تحمل النساء لقب الأثينيات، ويبقى ذلك وقفاً على الرجال». نقلاَ عن:
حياة الرايس، جسد المرأة: من سلطة الإنس إلى سلطة الجان، (القاهرة: سينا للنشر، ط1، 1995)، ص 9.
(23) تجسّد هذه الأسطورة القديمة تلك الثنائيّة الموجودة بين الرجل والمرأة، والترتيب الهرميّ لهما في المجتمع، وستتكرّس هذه النظرة، لاحقاً، في نصوص الأدباء والفلاسفة.
(24) أفلاطون، الجمهوريّة، تر، فؤاد زكريا، مراجعة، محمد سليم سالم، (الإسكندريّة: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2005)، ص 355.
(25) أفلاطون، القوانين، ترجمه من اليونانية إلى الإنجليزيّة، أ-تيلور، نقله إلى العربيّة، محمد حسن ظاظا، (القاهرة: مطابع الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 1986)، ص 522.
(26) Platon, Timée, présentation et traduction par Luc Brisson, (paris : Édition Flammarion, 5eme édition, 2001), pp 135 - 136.
(27) ريان فوت، النسويّة والمواطنة، تر: أيمن بكر وسمر الشيشكلي، مراجعة فريدة النقاش، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط 1، 2004).
(28) سوزان موللر أوكين، النساء في الفكر السياسي الغربي، تر: إمام عبد الفتاح إمام، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط 1، 2002)، ص 15.
(29) هي التراتبية، وتعني التسلسل الهرمي للموجودات، فهناك هيراركيّة في الموجودات الماديّة، وأخرى في الموجودات البشريّة، وملخّصها أنّ الأدنى تابع بالضرورة، لما هو أعلى.
(30) أرسطو، في السياسة، نقله من الأصل اليوناني إلى العربية وقدّم وعلّق عليه الأب أوغسطينس برباره البولسي، (بيروت: اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، ط 2، 1980)، ص 150.
(31) فاطمة المرنيسي، سُلطانات مَنسيات: نساء حاكمات في بلاد الإسلام، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، (المغرب: منشورات الفنك، والمركز الثقافي العربي، ط1، 2000)، ص 58.
(32) المرجع نفسه، ص ص 174-175.
(33) المرجع نفسه، ص 175.
(34) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(35) المرجع نفسه، ص 8.
(36) المرجع نفسه، ص 10.
(37) الكلمة مضافة للنصّ بغرض التوضيح.
(38) فاطمة المرنيسي، سُلطانات مَنسيات ، ص 11.
(39) زليخة أبو ريشة، أنثى اللغة: أوراق في الخطاب والجنس، (دمشق: دار نينوى، 2009)، ص 32.
(40) فاطمة المرنيسي، سُلطانات مَنسيات ، ص 37.
(41) زليخة أبو ريشة، أنثى اللغة: أوراق في الخطاب والجنس، ص 21.
(42) المرجع نفسه
* ملاحظة: بقية الاحالات الهامش تجدونها في التعليق
___________________
إرتأيت نشر هذا المقال الذي يحمل عنوان
((استراتيجية الكتابة في نقد العقل البطريريكي:
تجليّات ثقافة المقاومة في نصوص فاطمة المرنيسي))
وكنت قد شاركت به قبل أربع سنوات في مؤتمر ''ثقافة المقاومة'' الذي جُمعتْ أعماله في كتاب من إصدارات الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفيّة..
المرنيسي المرأة التي لم تهادن يوما لقول كلمة
مقدّمة
تُراهـنُ الكاتبة وعالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي على الكتابة لنقد العقل البطريريكي المتجذّر في المجتمعات العربيّة، مُقاومةً بذلك كلّ أشكال السُلط ومظاهرها التي يعكسها المجتمع وفاضحةً الرياء الاجتماعي والأخلاقي المستَشْري في عالمنا العربي. فهي تحفـُر، بعمق وجسارة وبأدوات عالمـة الاجتماع المقتدرة والأكاديميّة البارزة، في البنى الاجتماعيّة والثقافيّة والتراثيّة لتفكيك طلاسمهـا وهي التي خَبَرت الترحال العلمي والمعرفي إلى حدود الوعي البعيدة، فتفضح، في مؤلّفاتها ومحاضراتهـا، كل أشكـال الهيمنة التي تُمارسُ ضدّ المرأة من خلال الدينيِّ والسياسّي والثقافيّ، وتسعـى جاهـدة إلى تفكيك الخطابين الكلاسيكي والحديث معاً، الذين شكّلا ويشكّلان إلى غاية اليوم المفهوم الاجتماعي والثقافي للمذكّر والمؤنّث، ورصد مضامينهما ودلالاتهما العنصرية بوصفهما لم يدّخرا جهداً في تقديم قراءة مُظلّلة عُنصرّية ومُنحـازة بشكل صارخ وصريح لبعض المفاهيم، ولا شكّ، وفق المرنيسي، أنّ طريقة التعاطي مع المرأة تُشَكّل خرقا ًعلميّا وإنسانيّا وتُكرّس أطروحات لا صلة لها بالمنطق والواقع والحقيقة الانسانيّة.
وتَغْـرِفُ المرنيسي، لبسط أطروحاتها في هذا السياق، من ثَقافتين مختلفتين: فهي تَتَوَسّـلُ، على صعيد أوّل، بالثقافة العربيّة الإسلاميّة ونصوصها الدينيّة والتراثيّة، ولا تَكُفّ عن الاعتـزاز بصوفيتها وبمواقف الفيلسوف والمتصوّف محي الدين ابن عربيّ في الفتوحات المكيّة وفصوص الحكم، وبالمصنّفات الهامّة لــابن طيفور وحصراً كتابه الهامّ الموسوم بـــبلاغـات النساء، كما تمتعِض بشدّة، في الوقت ذاته، من تأويل الدين تأويـلاً مُتطرّفاً أحادياً يُخـفي في طيّاته الانْحياز الذكوري المفضـوح ضدّ النساء، وتتكئ، على صعيد ثانٍ، على الثقافة الغربيّة ونصوص كتُّاَبها من الفلاسفة والعلماء والفنانين أثناء المجادلة في قضايا فكريّة بعينها وذات صلة وثيقة بتاريخ النساء مع الاستبداد والصمت الطويــــل ضدّهنّ والنفوذ الهائــل الذي حازته هذه الهيمنة على مــرّ العصور، وغيرهــا من المسائـــل ذات الصلة بهذه القضايا، بوصف التراث الغربي هو الرافـد الآخـر الذي تعتمد عليه المرنيسي في استكمال انجــاز نصوصها العلميّة ومُصنفاتهـــا الأدبّية، وفضلاً عن ذلك كّلهِ تُحاضر ُببعض لغات هذا التراث، كالفرنسية والانجليزية في جامعات الغرب وفي أمريكـا، إلى جانب لغتها الأمّ العربية التي تُخاطِب بها جمهوراً آخر من المستمعين والمهتمّين.
يتّجِهُ طموح هذه الدراسة نحو استدعـاء آراء الكاتبة وتسويغها في سياقاتها المعرفيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة التي وَرَدَت فيها من خلال مُنجزاتها الفكريّة: الحريم السياسي: النبيّ والنساء -سُلطانات منسيات: نساء حاكمات في بلاد الإسلام - العابرة المكسورة الجناح: شهرزاد ترحل إلى الغرب- نساء على أجنحة الحلم - شهرزاد ليست مغربيّة - ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعيّة. كما سَيلفتُ هذا المقال عناية القارئ إلى أنّ المرنيسي لم تكن يوماً ضدّ الإسلام كما يُشاع عنها ذلك، وفوقَ ذلك كلّه فهي تكتب عن تسامحـه ِوكوْنيته، وقد جادلتْ في أكثر من مناسبة وعلى منصّات عالمية في هذه المسألة التي تَحْضرُ بكثافة وتعقّل واهتمام متزايد في نصوصها. ولعلّ هدفها من مغامرتها الفكريّة النقديّة تلك - التي ظلّت محفوفة بالمخاطر والمعوّقات، والتي جعلت مؤلّفاتها عُرْضة للهجوم والتجريح من طرف سلطة الرقيب الديني والسياسي الذي قام بإبعاد ومصادرة مُصنّفاتها ومنع أغلبيّتها من التداول في معظم الدول العربيّة - هو التمسّك برفض ربط الخبرة الإنسانيّة بالخبرة الذكوريّة وشَجْب كلّ أشكال الاستقطاب الذكوري ومركزيّته في تفسيره للعالم بُغيّة تكريس القول أنّ الرجلَ والمرأة شريكان في بناء العقل والحضارة والتاريخّ والانتقال من ''ثقافة الفحولة'' إلى ''ثقافة المواطنة'' الحقّة الفعليّة بأبعادها الإنسانيّة العميقة.
1 -فاطمة المرنيسي والحريم الفاسي
في حريم (1) بمدينة فاس (2) المغربيّة التي تعود إلى القرن التاسع الميلادي وُلِدتْ فاطمة المرنيسي عام 1940م، وفي هذه البيئة الفاسيّة المحافظة على التراث والتقاليد العريقة رأت المرنيسي بأمّ عينيها، وهي طفلة صغيرة، واقع المرأة المغربيّة وتعرّفت على حياتها اليوميّة وآلامها وآمالها وتقاليدها وهيمنة المجتمع الذكوري على الحياة الاجتماعيّة وذلك بالتقليل من قيمة الأنثى وإقصاءها وتزكيّة جسدها فقط بوصفه مرتع الشهوات وحسب ووسيلة لحفظ النسل. وسَتلتقط ذاكرة المرنيسي تلك المشاهد بدقّة مُتناهية لتعيدَ لاحقاً رسم صورها وصياغتها في مؤلّفاتها، ولذلك يلاحظُ القارئ أنّ السرد في كتابها نساء على أجنحة الحلم، وإن كان يختلط فيه الواقع بالخيال، قد جاء على قدر كبير من الصراحة والعفويّة والصدق والتنسيق والإمتاع وبعيداً عن الرقابة الذاتيّة إلى حدّ كبير، وعِبره تصف الكاتبة دقائق الأمور اليوميّة والحياتيّة والمعيشيّة والطقوس الدينيّة في المواسم والأعياد في حريم فاس والحرائم المغربية، وهذا ينسحب على البيت العربي بشكل عام في تلك الفترة التاريخيّة من القرن الماضي.
ولا تتردّد المرنيسي في استحضار مفهوم الحريم في صوره السلبيّة قائلةً: «أنا امرأة حُكم على أمّها الاحتباس في حريم حتى عام 1956! وعلى الدولة المستقّلة أن تولد بعد 1956! (3) هذه هي المغامرة المدهشة» (4). لا ريب أنّها تُدْرج ثقافتها الأولى في نصوصها المختلفة لتُعلن صراحة ودون مواربة عن الاستخفاف بكثير من تلك الممارسات الماضية - الحاضرة، التي لا تقوم على أيّ سند علميّ أو منطقيّ أو عقليّ، والصادرة عن السلطة المهَيْمنة التي تُتْقن ببراعةٍ فائقة طريقة التبرير الفجّة، مستغلّة، في ذلك، جهل النساء وضعفهنّ وعوزهنّ، فرغم أنّ سلطة الرجال في العصر الحديث لم تعد تُقدّر بعدد النساء الأسيرات في الحريم والحرائم بشكل عام، إلاّ أنّ هذه الأمور ظلّت قائمة في مدينة فاس واستمرّت في بسط نفوذها «لأنّ عقارب الساعة توقّفت عند زمن هارون الرشيد» (5). في إشارة إلى كثرة الجواري والنساء اللواتي كان قصر الخليفة هارون الرشيد يزخر بهنّ، وكان هذا التوجّه مبعث الفخر والاعتزاز والسرور، وقد دلّ فضلاً عن ذلك على الهيبة والقوّة والنفوذ في ذلك الزمن.
ذات مرّة أصغت المرنيسي إلى والدها يُحدّثها قائلاً: «أنّ الله عندما خلق الأرض وما عليها فَصَلَ بين النساء والرجال، وشقّ بحراً بكامله بين النصارى والمسلمين، ذلك أنّ النظام والانسجام لا يتحقّقان إلاّ إذا احترمت كلّ فئة حدودها، وكلّ خرق يؤدّي بالضرورة إلى الفوضى والشقاء» (6). وتكشف هذه العبارة عن تلك التقسيمات الثنائية السائدة والمفروضة اجتماعيّا، والتي تصل إلى حدّ القانون، وعن الانصياع الطوعي للتشريعات الاجتماعيّة كونها مقدّسة ولا يجب المساس بهيبتها، ما يجعل التركيز على دراسة هذا التقسيم ليس محلّ صدفة في حياة المرنيسي بل هو نتيجة معايشة ومعاناة فعليّة في حريم فاس الذي رأت فيه الكاتبة النور لأوّل مرّة وتعلّمت فيه أوّل أبجديات الحياة الاجتماعيّة. وتنطوي عبارة المرنيسي السابقة التي تُحيلنا إليها في نساء على أجنحة الحلم على عدّة معاني ودلالات ستَنْبري، على مدى سنوات عمرها، الحفر فيها عميقاً وتفكيكها وتوظيفها للتعبير عن تلك البنى الاجتماعية الضاربة بجذورها في عمق المجتمع المغربي بشكل خاص (7) والعربيّ بشكل عام، والتي نتج عنها بالضرورة التقسيم الاجتماعي للأجساد (
كان على النصّ المرنيسي الواعد بحمولات نقديّة عميقة أن يستنفر كلّ أدواته المعرفيّة في عمليّة النقد، أو بالأحرى في عمليّة الهدم وإعادة البناء، وهو يشقّ عصا الطاعة على مضامين المفاهيم المكرّسة، ولكن لا مندوحـة عن الاعتراف بأنّ هذا المسعى كان يحتاج إلى القوّة والصلابة والقدرة والمعرفة والكفاءة، فنقد تراث فكري استمرّ لقرون طويلة من الزمن كان بالغ الحساسيّة والأهميّة في الآن معاً، ثم أنّ المكانة العظيمة بل الأسطوريّة أحياناً، للسرديات الذكورية الفكريّة منها والدينيّة والتراثيّة تجعـل الإِقْدام على هذه المهمّة ضرباً من ضروب المخاطرة غير المضمونة النتائج، في ظلّ تاريخ بطريريكي مُتراكم. إنّ مقولة الجنوسة (10) ، التي تنتقدها المرنيسي بقوّة، ليست متأصّلة في أجساد الأفراد رجالاً ونساءً بل في المعايير الثقافيّة للمجتمعات كما تؤكّده أيضا الكاتبة إيفلين فوكس كيللر في تحليلها لهذه المسألة، حيث الذكور والإناث البيولوجيين يصبحون رجالا ونساء. إنّ مقولة ''النوع'' (هنا)، كما تعبّر عن ذلك كيللر في إحدى مقالاتها الهامّة في هذا الموضوع، إنّما تنطبق على المعتقدات الشعبيّة حول مدلول'' المذكّر'' و ''المؤنّث''، مُضيفة في السياق نفسه، أنّ القضيّة المطروحة إنّما تتعلّق بفحص الكيفيّة التي تتجذّر بها هذه المعتقدات داخل المجتمع (11)، وهو الطريق ذاته الذي مشت فيه المرنيسي.
2 -حدود الحريم
وُلدَتْ المرنيسي في ذات اليوم الذي ولد فيها ابن عمّها سمير - كما ترويه لنا - ورغم الإعياء والتعب الذي كان بادياً على والدتها جراء آلام المخاض والولادة تقول: «أصرّت أمّي على أن تُطلق النساء نفس الزغاريد ويحتفلن بنفس الطريقة التي استقبلن بها سمير، لقد رفضت دائماً تفوّق الذكور وعدّته عبثاً وأمراً مُتناقضا مع الإسلام الحقّ» (12). إنّ مفهوم الحدّود في هذه الفقرة يدلّ على سيادة منظومة ثقافيّة وأخلاقيّة تعترف بالأعلى والأدنى، بالمتن والهامش، فالحدود «لا توضع مجاناً، والمجتمع لا يتلاعب بالتقسيم لمجرّد رغبته في تجزيئ العالم الاجتماعي، ذلك أنّ الحدود الموضوعة تجسّدُ توزيعاً غير عادل للسلطة» (13). إنّ مفهوم الحدّ هنا مُكثّف وبالغ الدلالة على سلطة اجتماعيّة قاهرة ذلك أنّ «الحدود لا توجد إلاّ في أذهان الذين يملكون السلطة» (14)، وهم مهوسون بتكريس الطاعة العمياء والهيمنة والخضوع والاستكانة لما يعتبرونه الأعلى أو المركز.
إنّ المرنيسي حَسمتْ موقفها من موضوعها منذ البداية، ولذلك تبدو لغتها واضحة مباشرة وغير مراوغة في شرح دلالات الحدود التي تفصل، في حقيقة الأمر، بين الرجال والنساء وبين الداخل والخارج، مع ما يحمله كل عالمَ منهما من علامات القوّة والهيبة أو الضعف والدونيّة. وحسب المرنيسي فإنّ «تقسيم المكان الاجتماعي إلى مكان منزلي ومكان عام تعبير عن علاقة سُلطويّة وتراتبيّة. فالهندسة الاجتماعيّة في بلادنا العربيّة تقسّم العالم إلى عالمين فرعيين: عالم الرجال، الأمّة الذي يُرادف الدين والسلطة، وعالم النساء الذي يمثّل مجال الحياة الجنسيّة والأسرة» (15). وتعبّر الأدبيّات البطريريكيّة الكلاسيكيّة عن هذه الثنائية بالمصطلحات: (الروح-المادّة)، (العقل-الجسد)، (الرجل-المرأة)، (المركز-الهامش)، (الأعلى-الأدنى). ولا غرو أنّ التقسيمات الثنائية الدارجة، على حدّ تعبير المرنيسي «ترسم خطوط السلطة، لأنّ وجود الحدود أينما كانت يعني بأنّ هناك نمطيْن من البشر على هذه الأرض التي خلقها الله: هناك الأقوياء في جانب والضعفاء في الجانب الآخر» (16).
في كتابات المرنيسي، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال استدعاء مفهوم الحدّ دون مفهوم الحريم، هذا الأخير الذي يدّل دلالة بالغة على سطوة المكان وجبروته، وتَشرح المرنيسي هذا الكلام في مستهّل كتابها: العابرة المكسورة الجناح: شهرزاد ترحل إلى الغرب: عندما تقول أنّ الحريم هو «مجال أبوابه موصده وآفاقه مسدودة» (17)، وهي لا تلبث أن تُكرّر على مسامعنا، في أكثر من نصّ لها، حكايتها مع الجدّة التي أخبرتها، منذ نعومة أظافرها، عن مؤسّسة الحريم القاسيّة التي تبتلع حقوق النساء وتصادر حريتهنّ وتمنعهنّ من التحرّك. وتُرْدف قائلة أنّ: «مفهوم الحريم مكانيّ بالأساس، إنّه هندسة حيث المكان العامّ بالمفهوم الغربي لللفظة غير مقبول، لأنّه لا يوجد هناك إلاّ مكان ''داخلي'' للنساء الحقّ في الوجود به، ومكان ذكوري خارجي تَبْعد عنه النساء» (18).
لم يخطر أبداً على بال المرنيسي أن تربط الحريم بشيء مبهج، خاصّة وأنّ المفهوم يحيل إلى «الحرام أي الممنوع والحرام في كلّ الثقافات يحيل بشدّة على العقاب..إنّه[الحريم] (19) يتموضع في الحدود الخطيرة حيث يتواجه القانون والرغبة الانسانيّة» (20). إنّ استحضار الفضاء المفاهيمي للمرنيسي وعدم تجاهل السياق التاريخي لهو على درجة كبيرة من الأهميّة لفهم الوظيفة الحقيقيّة للأفراد في المجتمع الذي تتحدّث عنه الكاتبة، فهي تُعيد مفهوم الحريم إلى حلبة النقاش الثقافي وتعمل على ترْهينهِ لتتقصّى بواسطتهِ واقع الحال وتتوسّل بالحفر التاريخي والاجتماعي والتفكيك لمعاينة الأضرار من أجْل مآل جديد لمؤسّسة الأسرة والمجتمع.
3 -حريم الشرق وحريم الغرب
على الرغم من كون مؤسّسة الحريم، وهي الوجه الآخر لمؤسّسة الرقّ والعبوديّة، قديمة في التاريخ الإنساني وقد عرفتها كلّ المجتمعات البشريّة، فإنّ المرنيسي تتعجّب من نظرة الغرب للحريم بوصفه موجود في الشرق فقط. فإذا كانت هذه المؤسّسة راسخة القدم منذ التاريخ البعيد، فما الفرق إذن بين الحريم الشرقي والحريم الغربي؟ لاشكّ أنّ المرنيسي قد امتعضت من طريقة تعاطي الغربيين، في أعمالهم الفنيّة، مع حكاية شهرزاد وكيفيّة تناولها في مجال الأدب والفنّ والرسم والمسرح والسينما وغيرها من الفنون، وهي تتحدّث، بحسرة وألم، عن التشويه التاريخي البالغ الذي طال صورتها عند الغربيين في آدابهم وفنونهم، والتصوّرات الساذجة المغلوطة إزاءها وكذا التفسير العبثي السطحي، الناتج عن عدم معرفة ودراية، لتفاصيل الليالي في ألف ليلة وليلة. لقد تمّ تقديم شهرزاد للناس في صورة امرأة عاريّة بلهاء شرهة للجنس فاقدة للعقل ومُستسلمة بغباء شديد لمصير غرائبي وفجائي، امرأة فقدت سلاح العقل والبلاغة ولم تعد تملك من مقوّمات وجودها إلاّ جسدها الذي تكوّمه كل ليلة وتقدّمه للرجال بشكل بليد طوعي ومقزّز، الأمر الذي يتنافى والحقيقة التاريخيّة لشهرزاد الشرقيّة.
لقد «جرُّدَت شهرزاد من ذكائها حين غادرت الشرق وعبرت الحدود إلى الغرب.. والواقع أنّ الغربيين لم يأبهوا إلاّ بمشاهد المغامرة والغرام في ألف ليلة وليلة الذي انحصر هو الآخر في الزينة ولغة الجسد بشكل باعث على الاستغراب» (21). إنّ شهرزاد بمجرّد انتقالها إلى الضفّة الغربيّة فقدت أشهر أسلحتها، الكلمة والعقل والقدرة على الحكي ببلاغة شديدة والمقاومة المتواصلة دون كلل. والأنكى من ذلك كلّه، فيما يتعلّق بصورة الحريم في المخيال الغربي، أن يغذو مرتعاً للهو والاستمتاع بحشود النساء بكلّ أريحيّة وطمأنينة وبلا خوف، فلا تقاوم النساء ولا تنتفض ولا تنتقم وحتى وهنّ في وضع السبايا! فهل يمكن لهذه المعجزة المستحيلة أن تحصل في حريم الشرق حيث يتوجّس الرجال خيفة من النساء ومقاومتهنّ الشرسة ومن مكرهنّ ومكائدهنّ ودهائهنّ، والتاريخ، في هذا المجال، حافل بالروايات عن خلفاء ووزراء ووجهاء أنهت حياتهم الجواري والمحظيات والخليلات والعشيقات، لمجردّ الشكّ في نواياهم وإخلاصهم والالتفات إلى نساء أخريات وغضّ الطرف عنهنّ، وقد تنوّعت أساليب الموت والانتقام بين إغراق في الماء أو خنق بالوسادة أو دس السمّ في الطعام.
إنّ شهرزاد الشرقيّة ذكيّة قويّة مُقنعة وصَبورة، وأقوى سلاح تملكه هو الكلمة التي استطاعت بواسطتها تأجيل الموت بل وإبعاده عبر الليالي الطوال المخيفة. لم تكن قوّتها محصورة في جسدها فقط بل وفي عقلها أيضاً. واختلاف التصوّرات بين الحريم الشرقي والحريم الغربي واضح جدّا وينبع من الخلفيات الثقافيّة المختلفة للشرق والغرب، فالمفاهيم والتصوّرات المهاجرة عُرضة للتغيير والتشويه والطمس أحياناً ولعلّ الحريم الغربي، على حدّ تعبير المرنيسي قد اكتسب معناه عندما انتقل إلى الضفّة الأخرى ذات الأبعاد الثقافيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة المختلفة.
4 -المركز والهامش في السرديات البطريريكيّة
في السردياّت الأدبيّة والميثولوجية القديمة ذات الأبعاد الأخلاقية والسياسيّة والدينيّة تعكس الأساطير ثقافة الشعوب وعقائدهم وفلسفتهم في الحياة، وهذا الأمر ينسحب على أسطورة الإلهة أثينا (22) والاله بوسيدون (23) التي تكرّس فكرة دونيّة النساء والتحيّز الذكوري المفضوح ضدّهنّ، ولا يخفى على أحد مدى تأثير هذه الأساطير، التي نسمع صداها بقوّة، في الإنتاج الفكري والأدبي للكتّاب والفلاسفة. إنّ محاورة الجمهوريّة تختزل موقف أفلاطون من مفهوم العدالة (24) في الفرد والعدالة في الدولة، فالمدينة الأفلاطونيّة لا تكتسب مشروعيّة وجودها واستمراريتّها من دون الترتيب الطبقي العادل والمثالي، على حدّ تعبيره، ولتحقيق قوّة هذا المؤسّسة السياسيّة وإدارتها على أكمل وجه كان يجب أن توكل الرئاسة والحكـم إلى الفلاسفة الحكام أو الحكام الفلاسفة أي إلى عقل الدولة. وهنا يجب لفت الانتباه إلى أنّ أفلاطون يضع معادلة بين الرجولة/الذكورة/والعقل، وبين الأنوثة والجسد، فيتمّ، بناء على هذا التبرير، إقصاء المرأة من المجتمع تحت مزاعم عدم الأهليّة العقليّة، لقد تعاطى أفلاطون مع الذكورة بكثير من التبجيل والتقدير فرفع من مكانتها وأهميّتها داخل الدولة، في حين فعل النقيض مع الأنوثة، والنصّ الأفلاطوني، بهذا الصدد، صريح ولا يخفي مقاصده.
من الواضح جدا أنّ فلسفة أفلاطون، والكلام هنا ينصبّ على المنظومة المعرفيّة والمنظومة السياسيّة، قد احتقرت المادة والحواس والجسد والعبد والأنثى وجعلتهم في المرتبة الدنيا في سلّم المعرفة وفي الدرك الأسفل من المجتمع أو المدينة، وجعلت الذكورة مرادفـة للعقل والأنوثة مرادفة للجسد وصنّفت المرأة مع العبيد والأطفال والأشرار والمجانين، وهذا التصنيف الذي يكرّس كراهيّة المرأة يعكس بصدق السياق التاريخي والحضاري الذي كان الفيلسوف ينتمي إليه. فلا يستغرب المرء بعد هذا إنْ ظلّت المرأة في تاريخ الفكر اليوناني، بشكل عام، أدنى من الرجل ولا يحقّ لها أن تملك شيئاً من متاع الدنيا بل تظلّ مملوكة للرجل، هذا الأخير له الحقّ أن يمتلك جميع ممتلكاتها الماديّة إنْ وُجدتْ، كما أنّه يملك الأطفال والزوجات فضلاً عن ذلك كلّه. ثمّ أن شهادتها في المحاكم ليست لها قيمة حتى تبلغ سن الأربعين (25) ويكون ذلك وفق شروط معيّنة أشار إليها أفلاطون في محاورة القوانين، ما يعني أنّ أهليتها العقليّة والقانونيّة مشكوك فيها وهي ليست جديرة بالتصديق، وهكذا جرّدها أفلاطون من الأهليّة العقليّة والسياسيّة ولم تعدْ وصيّة حتىّ على نفسها وممتلكاتهـا بل إنّ الرجل هو الوصيّ الوحيد على ذلك.
أدانَ أفلاطون الطبيعة البشريّة للأنثى، وفي تصوّره ثمّة طبيعة أولى خاصّة بالرجل وطبيعة ثانيّة خاصّة بالمرأة، وهو يُلصق بالثانيّة المتعلّقـة بالأنثى كلّ أنواع الشـرور والآثام، بل ويذهب بعيداً إلى حدّ المبالغة في طرحـه، عندما يجعـل الخلق على هيئة أنثى عقاباً للإنسان على أخطاء ارتكبها في حياته وتكفيراً على خطيئة ما، فالإنسان الذي لا يُدير ظهـره للشهوات والنزوات الحسيّة، حسبه، سيتحوّل في ولادته الثانية إلى امرأة، وتتجسّد هذه العبارة بشكل صريح في محاورة تيماوس، وإذا لم يتوقّف الإنسان عن ارتكاب الشرور، يضيف أفلاطون، فسيتحوّل عندئذ إلى حيوان يُشبه في طبيعته مصدر الشرّ القادم منه (26). لقد انعكست هذه الأفكار بشكل سلبي على مُوَاطنة المرأة (27)، وظلّت هذه الأخيـرة، تبعاً لذلك، مواطنة غير فعليّة أو مواطنة من ''الدرجة الثانيّة''، بسبب التمييز العنصري والفوارق الاجتماعيّة المجحفة بحقّها.
كتبتْ سوزان موللر أوكين، بصدد نقدها للفكر السياسي الغربي، تقول: «لابدّ من الاعتراف في الحال، أنّ التراث العظيم للفلسفة السياسيّة يعتمد بصفة عامّة على كتابات الرجال، وللرجال، وعن الرجال» (28). ، ويبدو أنّ هذه العبارة تنطبق أيضا على فلسفة أرسطو إذ يكتسـي الترتيب الاجتماعي المتمثّل في نظام الهيراركيّة (29) أهميّة بالغة في فلسفته، ما يعني أنّ المدينة اليونانيّة تتميّز بطابعها الطبقي وما يعني أيضا أنّ النساء والعبيد والحرفيين والتّجار والصنّاع هم أدوات لخدمة الدولة واستقرارها، وضمن مفهوم الهيراركية يُقرأ هذا الفكر ويُستوعب خطابه الاجتماعي، ففي باب التفاوت والمساواة في الحقوق السياسيّة يقول أرسطو: «بما أنّ الغاية في كلّ علم وفنّ هي خير ما، فالغاية في أسمى العلوم والفنون كلّها هي أعظم خير وأقصـاه. وأسمى العلوم والفنون هي السياسة. والخير السياسي هو العدل، والعدل هو المنفعة العامة. والعدل يبدو للجميع مساواة ما» (30)، بل من العدالة ألا تكون ثمّة مساواة بين الأفراد أو بين الجنسين.
ذهب أرسطو إلى تأكيد تدنّي الطبيعة الأنثوية عندما قال بأنّ النساء هنّ أدنى من الرجال، وهو يكرسّ، بلا مُنازع، النظرة البطريريكيّة ولا يختلف كثيراً في هذه الجزئيّة عن سلفه أفلاطون وموقفه من مكانة المرأة ومن وظيفتها الأساسيّة في المجتمع. فلقد وُجِدت النساء، على حدّ تعبير أرسطو، من أجل التوالد وإنجاب النسل وتعمير المدينة، أما بالنسبة للرجال فهم الذين يمنحون القيمة والمعنى للأشياء، وهكذا حشر أرسطو المرأة في وظيفتها البيولوجيّة واعتبرها مجرّد آلة أو وعاء للإنجاب، وضمن نظرية العدل السياسي التي تقتضي مثل هذه الهيراركيّة الاجتماعيّة فإنّ نظرية العدالة الأرسطية تستدعي وجود الأعلى والأدنى، كما تقتضي عدم التكافؤ بين الرجال والنساء.
5 -عن السُلطانات المنْسيات: أو المرأة والسياسة
في النصّ المرنيسي تتهافتُ السردياّت البطريريكيّة الأفلاطونيّة والأرسطية معًا وغيرها من السرديات التي تحمل ذات المضامين، والتي تَعتبرها الكاتبة مجرّد هَرْطقات مُتجنيّة على الحقيقة والتاريخ، وللحِجاج في هذه المسألة ومسائل أخرى ذات صلة بالموضوع تحاول في كتابهـا: سُلطانات مَنْسيات رصد مجموعة من السُلطانات والملكات في التاريخ العربي الإسلامي البعيد والقريب ممن استطعن، بفضل ذكائهنّ وعلمهنّ، أن ينتزعن السلطة ويُغيّرن مجرى الأحداث ويكشفن عن مواهبهنّ في التعامل مع عالم السياسة والسلطة والإبداع في شتىّ مجالاته، رغم ما واجهن من عراقيل وصعوبات ودسائس. وتأتي المرنيسي على ذكر بعضهنّ مثل: السلطانة راضية التي تولّت الحكم بدلهي عام 634ه والملكة شجرة الذرّ التي استولت على الحكم عام 648ه وقادت المسلمين خلال الحروب الصليبيّة وحملت لقب سلطانة، ويُذكر أنّ كلّ من راضّيّة وشجرة الذرّ من أصول تركيّة، وفي اليمن حكمت الملكة أسماء والملكة أروى صنعاء في نهاية القرن الحادي عشر، وشاركت الملكة البربريّة زينب التفزاوي زوجها يوسف بن تاشفين حُكْمه الذي دام بين عام 453 و500ه، وغيرهنّ كثير ممّن تَذْكرهنّ الكاتبة، في هذا السياق، كنماذج لتسويغ أراءها عن قدرة النساء على القيادة والحكم.
لكن ثمة مسألة أخرى من الأهميّة بمكان الإشارة إليها في هذا الموضوع، وهي تتعلّق بالقوّة الخفيّة والمستترة للنساء وباستراتيجيتهنّ في القيادة وإدارة دفتيّ الحكم وصناعة السياسة حتى وهنّ في الظلّ والحريم، ويتعلّق الأمر هنا بسلطة الجواري والمحظيات والزوجات اللواتي كنّ يحكمن من وراء الأستار من داخل الحريم وإن كان ذلك بشكل غير رسمي، ويُبدين مقاومة مشهود لها، وتستعيد المرنيسي في سلطانات منسيات الكثير من الأحداث التاريخيّة والشخصيات النسائيّة التي تُذكرّ بما مضى، مثل الجارية الخيزرانأم الخليفة هارون الرشيد التي كانت بالغة الذكاء والفطنة وقد أبدت اهتماماً كبيراً بالسياسة، والجارية حُبابة جارية الخليفة يزيد الثاني التي كانت شاعرة ومغنيّة وذات أثر كبير على يزيد الثاني.
فإذا كانت ثورة الزنوج التاريخيّة، على حدّ توصيف المرنيسي، تسعى جاهدة إلى الاستيلاء على الحكم من خارج قصر الخلافة ووضع حدّ للاستغلال والخضوع وإهدار الكرامة الإنسانيّة، فإنّ ثورة الجواري لم تكن تعتمد على ذات الاستراتيجيات والآليات، لكي توطّن حضورها، وكانت الثورة تُشَنّ من داخل قصر الخليفة في مخدعه وعلى فراشه، فـ «لم تعلن الجواري الحرب على أسيادهنّ، ولكنّهنّ أحببنهم، ونحن أدرى بعدم قدرتنا على المقاومة في مثل هذه الحالات، أن نحبّ معنى ذلك أن نتخلّى عن المقاومة، ولا نأبه بالحدود، ونخلط بينهما ونلغي الحواجز» (31). لقد وجّهت الجواري الخلفاء من داخل الحريم، ومنه كذلك سيطرت على الخارج، فالجواري لم يكن هدفهنّ الوصول إلى السلطة، وإن كنّ يتفردن في كثير من الأحيان بها وبصناعة القرار، وفي حقيقة الأمر فإنّ سلطتهنّ كانت فعليّة وإن لم تكن رسميّة أو بقرار من الخليفة.
تبُيَّن المرنيسي، من خلال حَفْرها في القرون الماضيّة، سُطوة الهيمنة الذكوريّة على التوثيق وكتابة التاريخ وتحالف تلك الهيمنة مع المنظومة الثقافيّة والاجتماعيّة وكذلك مع المؤسّسة السياسيّة ذات القيّم الأبويّة في تَقَصُّدها إبعاد النساء وإقصاءهنّ وتجاهلهنّ ونسيانهنّ، وهي لم تلتفتْ إليهنّ أو لم تهتمّ بمكانتهنّ في التاريخ إلاّ بالنزْر اليَسير من الذِكْر العاجل وبما يحفظ، للمؤسّسة المهيمِنَة، ماء الوجه. وفي هذا السياق تستغربُ المرنيسي من ظاهرة «فُقدان المعاصرين لذاكرتهم بشكل كامل لا أحد يَذكرهنّ [السُلطانات والملكات] ولا أحد سمــع بهنّ» (32). وتتأسّف في ذات المقام على تواطؤ المؤرّخين في بلاد الشرق مع زملائهم في بلاد الغرب في فُقدان الذاكرة تلك عندما يتعلّق الأمر بالجمع بين المرأة العربيّة والسلطة. وهاهي تتعجّبُ من موقف أحد المختصّين في التاريخ الإسلامي برنارد لويس الذي يؤكّد بثقة بالغة وبمغالاة شديدة أنّ لا ملكة في التاريخ الإسلامي وأنّ لفظ ملكة ينسحب على الملكات الأوروبيات وحسب.
وتكتبُ المرنيسي في نصّها سلطانات منسيات قائلة: «إنّ هذا الحسم القاطع من طرف مختصّين ممتازين في الإسلام، من درجة برنارد لويس يؤكّدُ أمراً واحداً، وهو أنّه ليس بإمكان النساء المُسْلمات عامّة، والعربيّات خاصّة، الاعتمادَ على أحد لقراءة تاريخهنّ، سواء تعلّق الأمر بعالِمٍ أو بغير عَالِمٍ، بمن يتّخذ موقفاً أو بمحايدٍ» (33). إنّ تجنّب التاريخ في صورته الباهتة غير الموضوعيّة وإعادة قراءته، من زاوية إنسانيّة منفتحة على الحقيقة والتاريخ والواقع، باتت مسألة مُلحّة و أكثر من ضروريّة وهي تقع على مسؤوليّة المرأة، والمرأة العربيّة تحديداً، بُغيةَ رفع كل لبس وكذب واتّهام وتعتيم على تاريخ النساء والمبدعات عامّة، وتاريخ النساء العربيّات والمسلمات على وجه الخصوص، فـــــ «مُطَالبتنا بالتمتّع الكامل بحقوقنا الإنسانيّة العالميّة هنا، وفي الوقت الراهن، ستمرّ بالضرورة عبر بعث للذاكرة وإعادة قراءة، وإعادة بناء، لماضٍ إسلامي متّسع ومنفتح» (34).
6 - في مسألة الملْك والخِلافة: طابع السلطة بين الدنيوي والديني
يخلعُ تحليل المرنيسي، المتعلّق بالسُلطانات المنْسيات، اللواتي حَكمن بلاد الإسلام في التاريخ العربي الإسلامي، مزيداً من الرصانة على قوّة موقفها بشأن علاقة المرأة بالسلطة والسياسة والملْك، ولكنّ هل تقلّدت المرأة مهامّ الخلافة في الإسلام تتساءلُ الكاتبة؟ لاريب أنّ طرح مثل هذا السؤال الملغّم والجَسور هو مغامرة محفوفة بالمخاطر، وتُدرك المرنيسي مند البداية مدى صعوبة المهمّة التي تُقْدم عليها عندما تطرح مثل هذا السؤال الشائك في مجتمع لا تزال الإيديولوجيا الدينيّة تُهيمن عليه وتتحالف مع الإيدلوجيا السياسيّة ونظرياّت الهيمنة الذكوريّة عندما يتعلّق الأمر بالمصلحة المشتركة، ولكن رغم كلّ ذلك فإنّ المرنيسي تُصرّ على طرح السؤال واستحضار التاريخ بتفكيك البنى الثقافيّة والاجتماعيّة له. تقول الكاتبة بهذا الصدد: «إنّني أدرك بأنّ هذا السؤال يُشكّل في حدّ ذاته تجذيفاً، بل إنّ مجرّد التفكير في التجاسر على مُسَاءلة التاريخ بالنسبة لامرأة مثلي نشأت على تربيّة إسلاميّة تقليديّة، يعُاش كتجذيف باعث على الإحراج » (35).
وتَسْترسل الكاتبة، في مستهلّ كتابها سلطانات منسيات، في شرح بعض المصطلحات المهمّة أوّلاً: فما معنى كلمة الملْكوما معنى كلمة الخِلافة؟ وذلك قبل الانتقال إلى السؤال الموالي، هل يُعدّ لقب الخليفة والملِك مُتاحاً للجميع؟ ويأتي التوضيح بكون «الخلافة تشْمل الملْك بالضرورة كأحد مُكوّناتها بما أنّ عليها حتماً أن تَسهر على مصالح الناس الدنيويّة، وهذا التفسير مهمّ لفهم ما سيلي، وخاصّة ما يتعلّق بالملكات اللائي لا يُمكنهنّ أن يطمحن إلى أكثر من السلطة الدنيويّة» (36). والفكرة الأولى التي ينْضَح بها التعريف، لأوّل وهلة، هي أنّ الخلِافة تحمل في طيّاتها دلالات روحيّة ودينيّة، بينما تحمل كلمة الملْك والسلطان مضامين سياسيّة ودنيويّة، وهذا الأمر كافٍ، في حدّ ذاته، لكي تصل النساء إلى مرتبة الملكات والسلطانات لا إلى منصب الخلافة الذي يتمّ استبعادهنّ منه بل وحظره عليهنّ تمامًا، إنّ النساء بإمكانهنّ، فقط، حمل ألقاب ملكة وسلطانة لأنّها «لا تتضمّن أو تدلّ على مهمّة إلاهيّة، أما [لقب] (37) الخليفة فليس بوسعهنّ الطموح إليهِ مُطلقاً» (38). ولعلّه من أجل هذا لا نجد في القواميس العربية مؤنّث لمصطلح الخليفة، إذ «تعكس القواميس التي يؤلّفها الذكور -غالبا -رؤية أحاديةّ للعالم من الناحيّة الجندريّة: ففي لسان العرب لابن منظور تعني كلمة ''رجل'' معاني الشدّة والكمال، وإذا تشبّهت امرأة بالرجال في زيّهم وهيأتهم لُعنتْ، وإذا تشبّهت برأيهم ومعرفتهم مُدحتْ وبوركتْ» (39). ويحيلنا هذا الكلام إلى تعريف ابن منظور في كتابه لسان العرب وكيف يجعل التذكير بخلاف التأنيث، فهو يرمز دوماً للشدّة والقوّة والصلابة في حين يرمز التأنيث إلى الضعف والهزال وقلّة القيمة والأهميّة.
لكنّ الأمر المهمّ الذي يجب التنبيه إليه، في سياق الحديث عن سُلطتين مختلفتين: إحداهما دنيويّة والثانيّة دينيّة، هو أنّ التاريخ يعلّمنا أنّ الخليفة لم يكن يستسغْ باستسهال شديد دخول المرأة حتّى إلى عالم السلطة الدنيويّة، إلى عالم السياسة وممارسة مهام السلطة - المتاحة لها من الزاوية النظرية - كون النساء، في رأيه، لسن جديرات بذلك، متّكئاً في تلك المزاعم على منظومة العقائد الاجتماعيّة في تعريفها لمفهوم المذكّر والمؤنّث وللمهام المنوط بها كل واحد منهما في السياق التفسيري المقترح لتلك العقائد، وعلى التأويل الديني المطوّع سلفاً لتوجيه فكرته في الاتّجاه الذي يبتغيه، ويتمثّل هنا في تبرير إبعاد النساء وإقصاءهنّ من حقل النشاط الاجتماعي، والسياسي منه على وجه الخصوص. وبوصف الخليفة، على حدّ تعبير المرنيسي «ممّثل الله على الأرض وعلى مستوى المبدأ أو المصدر الأعلى لكلّ تفويض عن الإرادة الإلهيّة، عارض الخليفة بشكل كلّي وصول النساء إلى مهام رئيس الدولة، رغم أنّهن لم يطمحن أبداَ إلى أكثر من تسيير الشؤون الأرضيّة» (40).
7 -اللغة والهيمنة والتحيّز الثقافي
يَنْفرد المذكّر، وفق التحليل السابق، بمضامين خاصّة ذات دلالات واضحة على كماله وقوّته وجبروته، وفي تحديد الأعلى والأدنى وأدوار كلّ واحد منهما، فلقد انعكست الثقافة الذكوريّة، بشكل عام، على طريقة إنشاء المعاجم اللغويّة وعلى محتوياتها وكانت اللغة حاضنة قويّة للثقافة السائدة، وعلى حدّ تعبير الكاتبة أبو ريشة فعندما تكون الثقافة مذكّرة، أي البنية المجتمعيّة كذلك، فــ «إنّ إحدى أهمّ أدواتها للاستمرار وإعادة إفراز ذاتها هي اللغة الحاملة والمحمولة، واللغة المرآة، واللغة كفاعلة، واللغة كآلة لكشف الخداع الثقافي والاجتماعي» (41)، فمن شأن التحيّز اللغوي أن يكون تحيّزا ثقافيّاً وبطريريكيّاً، وليس مأزق اللغة العربيّة « إلاّ تمظهراً للمأزق الثقافي الذي يُقصي المرأة ويغيّبها، ويشارك في هذا التغييب المجتمع العربي بجميع عناصره وفواعله بما في ذلك المرأة التقليديّة وكذلك العصريّة» (42)، التي تقبع في ذهنها صور الإقصاء والدونيّة وعدم الأهليّة، وتتمكّن استراتيجيّة الهيمنة من ترسيخ معتقداتها والنيل من شخصيّة المرأة، وفي المحصّلة يحدث الاستسلام للشروط تلك ويكون « بعدم التدخّل لصياغة صورة بديلة أو الإعلان على الأقلّ عن الاختلاف عنها أو معها» (43).
وفي سياق متّصل، يشرح عبدالله الغذامي مسألة غياب المرأة كفاعل لغوي وعدم استقلاليتها اللغويّة في كلّ الثقافات ومن ثمّة غيابها كذات متكلّمة، فقد فسح هذا الواقع الاعتباطي، حسب تحليله، المجال على مصراعيهِ لللفظ الفحل يمارس إكراهاته. وقد انعكس التأثير الكبير الذي مارستهُ ثقافة الفحولة على اللغة، «فتظهر اللغة تاريخيّا وواقعيّا على أنّها مؤسّسة ذكوريّة، وهي إحدى قلاع الرجل الحصينة. وهذا يعني حرمان المرأة ومنعها من دخول هذه المؤسّسة الخاصّة بالرجل. ممّا جعل المرأة في موضوع هامشي بالنسبة لعلاقتها مع صناعة اللغة وإنتاجها» (44).
فوجود المرأة خارج نطاق اللغة من شأنه أن يحقّق للذكر الفحل السيادة التعبيريّة، على حدّ توصيف الغذامي في كتابه المرأة واللغة (45) ، فتخلو الساحة للفحل لصياغة العالم كما يشاء وصياغة تاريخ النساء كما تريده إرادته المُهيمِنة والمنفردة بالتدوين والتأريخ والتعبير، ولا تحضر المرأة عندئذ بالشكل الذي تريد بل يمكن توصيفها بـ «الكائن الآخر، الذي ''احتجزناه'' وحوّرنا في كيانه، وجعلناه بالشكل الذي يجب أن يكون فيه، كما نريد نحن، أي أسقطنا فيه ومنه، ما يحقّق هذه الإرادة والرغبة داخله!» (46). إنّ هذا التصرّف والسلوك من شأنه أن يجعل الكثير من الحقائق في التاريخ عرضة للمُساءلة وإعادة التأويل، بُغية استكمال جوانبها الناقصة، وقد يُطعن في صدقيتها كونها غير موضوعيّة ولا تمتّ إلى الحقيقة بصلة، ولكن لو تيّسر للمرأة تدوين التاريخ وكتابة أحداثه والمشاركة فيه مع الرجل، الذي احتكر هذه الصناعة على مدى قرون طويلة من الزمن، «لكنّا قرأنا تاريخاً مختلفاً عن فاعلات ومؤثّرات وصانعات للأحداث، وهنا ستكون الأنوثة قيمة إيجابيّة مثل الفحولة تماماً» (47).
ففي منظومة الفحولة لا صوتَ يعلو على صوت الذكَر، بل إنّه الصوت الوحيد المتبقّي بعد إعدام الصوت الآخر بواسطة صناعة الكتابة الذكوريّة، وعندها «لم يكتف الرجل بتصوير المرأة حسب ظنونه عنها، بل إنّه -أيضاً -تولّى التحدّث بالنيابة عنها، ومن هنا فإنّ الرجل يكتب المرأة في لغته هو وليس في لغتها ويَسْتنطقها حسب منطقه ويريدها حسب هواه» (48) نظراً لكونها موضوعاً، في نظره. ولكنّها متى تحوّلت إلى ذات كاتبة مستقّلة، تطرح رؤيا مختلفة إزاء العالم والإنسان، شكّلت خطراً جسيماً على فحولته وزعزعت عرش مملكته الأسطوريّة التي سَيّجها بيقينياته التي ليست يقيناً في واقع الحال، وقد تكون نازك الملائكة (49) (1923-2007) قد زعزعت تلك اليقينيات الذكوريّة في الأدب الحديث، فــلا غرابة أن يكون «الفتح الشعري الحديث قد تمّ على يد امرأة» (50).
فاستخدام الضمير المؤنّث وتاء التأنيث هو منعطف تاريخي وحضاري هامّ وحدث من شأنه أن يقلب المفاهيم رأسا على عقب ويعيد كتابة التاريخ من زوايا إنسانيّة أخرى، فالكتابة تعني «أنّنا أمام نقلة نوعيّة في مسألة الإفصاح عن الأنثى، إذ لم يعد الرجل هو المتكلّم عنها والمفصح عن حقيقتها وصفاتها -كما فعل على مدى قرون متوالية -ولكن المرأة صارت تتكلّم وتفصح وتشهر عن إفصاحها هذا بواسطة (القلم) هذا القلم الذي ظلّ مذكّرا وظلّ أداة ذكوريّة» (51)، فأضاف هذا الحضور الأنثوي صوتاً جديداً إلى اللغة ظلّ لقرون طويلة من الزمن مستبعداً منها وغير مرغوب في حضوره .
دخلت المرأة، إذن، عالم اللغة أو لغة الآخر بواسطة عمليّة الكتابة وكم لهذ الأخيرة من دلالات (52) عميقة، وما أعظمها من وسيلة تفكّ بها ألغاز التاريخ وتحكي بواسطتها مأساتها الإنسانيّة وتُدين بها كلّ أشكال الهيمنة التي سُلّطت عليها وتدعو فيها إلى مُراجعة التاريخ وسردياته التي كتبها الرجال وانحازوا فيها للرجال. يقول فردينان دي سوسور Ferdinand de Saussure (1857-1913) أهمّ وأشهر اللغوين في العصر الحديث» عندما نتحدّث عن قيمة كلمة ما، نفكّر بالصفة التي تجعل الكلمة تمثّل فكرة وهذا في الحقيقة جانب من القيمة اللغويّة» (53)، ويجيئ كلام دي سوسور، في هذه العجالة، في معرض حديثه عن القيمة اللغويّة من وجهة نظر فكريّة، فلا شكّ، استناداً إلى موقف هذا الأخير، في أهميّة الدلالات الفكريّة المختلفة التي يُحيل إليها الضمير المتكلّم عندما يُقْبِل على اللغة.
لكنّ أمراً لافتاً يجب الإشارة إليه، مع تأنيث الضمير المتكلّم وغداة دخول المرأة عالم الكتابة، وهو استمرار سطوة الهيمنة البطريريكيّة ومعها التشكيك في قدرة النساء على العطاء والكتابة والإبداع بشكل عام، فــــ «حين تفرض كتابة المرأة ذاتها داخل النسق الذكوري، ولو باعتبارها هامشاً، يَنعتها الرجل بأنّها ليست امرأة، ولا تستجيب لخصائص الأنوثة الضروريّة للمرأة» (54). إنّه لا مفرّ، عندئذ، من القول أنّ التمركز داخل النسق الذكوري المهيمن إنّما يغدو كفاحاً مستمرّا ومتواصل الحلقات، إذْ لا يمكن لأي حركة فكريّة نضاليّة أن تستمرّ «ما لم تمرّ بصراع طويل مع القوى الفاعلة في المجتمع، وتلك المؤثّرة في صنع القرار. ولا يمكن لها أن تتمدّد في التاريخ ما لم يكن لها قاعدة شعبيّة محرّضة ومساندة» (55).
فهل يعني هذا الأمر أنّ تراجع النساء عن الكتابة يطرح أسئلة كبيرة لا تنتهي تُفضي في نهاية المطاف إلى التقليل والتشكيك في مؤهّلاتها؟ كما وأنّ الإقدام على ممارستها يطرح أسئلة أخرى وإشكاليات لا حصر لها ولا تقلّ أهميّة عن سابقاتها من قبيل: هل هناك جدوى من كتابة المرأة، وهل ترتقي نصوصها إلى الشكل المطلوب؟ لماذا يستمرّ هذا العنف الرمزي، وفق مصطلح بورديو، في التمظهر في صور متعدّدة؟ لقد بدتْ المرنيسي واضحةً المواقف في معاينة تلك الإشكاليّات، ومن الجدل المنفصل أو المتّصل بإبداع المرأة والإيمان بها كذات لغويّة، لقد نهضتْ نصوصها لِتُبطل كلّ مسلكيّة تَصْرف النظر عن حضور كتابة المرأة وتَنْصَرف إلى التضليل والإقصاء أو التمسّك بعدم إضفاء طابع المشروعية والوجود على الذات اللغويّة المؤنّثة.
8 - المعرفة بوصفها سلطة وآلية مقاومة
عندما دخلت المرأة إلى المحظور، حسب تعبير الغذامي، «ومدّت يدها إلى اللفظ الفحل والقلم المذكّر» (56) أصبحت صناعة التاريخ ليست ذكوريّة صرفه، ففي كتابها الموسوم بـ شهرزاد ليست مغربيّةتحاول المرنيسي أن تشرح فيه علاقة النساء بالمعرفة وبالسلطة فتقول في مقطع منه «تطرح شهرزاد، بوصفها أسطورة، المشكلة الأساسيّة للظلم، للاستراتيجيّات التي سيتّخذها الضعيف والمنبوذ في مواجهة طغيان الجبابرة، وأكثر أنواع اللامبالاة ظُلماً وهولاً هي تلك المتعلّقة بالمعرفة» (57). لقد توهّجت شهرزاد عن طريق الحكي الذي امتدّ عبر الليالي ومن فرط رحابة الروح لديها وعمقها وإنسانيتها ونبرتها الواثقة وتمسّكها بالحياة، استطاعت أن تجعل شهريار يَعْدِل عن مشروعه في قتل جميع نساء المدينة، وأكثر من ذلك يعترفُ بخطئه وتجنّيه وبمُكابرته، فوحدها الكلمات أجّلت موتها وألغته لاحقاً، «لم تكن شهرزاد تتحكّم في الجنود بل في الكلمات. من هنا يمكن أن تصير الحكايات بمثابة أسطورة حضاريّة راهنة جدّا. إنّ حكايات ألف ليلة وليلة تتغنّى بانتصار العقل على العنف» (58).
لا تُلْقي شهرزاد بالاً لتهديد ووعيد شهريار في ألف ليلة وليلة ولا تذهب إلى الموت بسذاجة، فهي مُصرّة أن تغيّر كلّ خططه وتستميله إليها وتغيّر دواخله حتى تجعله يعدل عن الآراء القاتلة، وكانت أقوى أسلحتها في ذلك الكلمة التي تختزل بكلّ وضوح العقل والذكاء والسلطة. إنّها استطاعت، بواسطة الكلمة (59)، أن تحوّل الليالي الموحشة المرعبة التي كانت رائحة الغدر والموت تفوح منها إلى ليالي للأنس والسمر والحبّ، كانت شهرزاد مصّرة على تغيير شهريار من الداخل وعازمة على تلطيف طبعه وتحويله من شخص قاسي القلب متلهف للموت، إلى شخص جديد ينضح حناناً وعشقاً وحبّا، وهي مهمّة عصيّة ولكنّها لم تكن مُستحيلة البتة إزاء ملك لم يستطع أن يحطّم أحد من الناس غروره أو يُثنيه عن أفكاره السوداويّة إلاّ الكلمات، التي انتصرت في نهاية المطاف على أنانيته وتطرّفه وغروره، فــــ «بإمكان الكلمات أن تُنقد من يتحكّم في نسْجها بحذاقة، وتلك حال شهرزاد راوية ألف ليلة وليلة. كان الخليفة سيقطع رأسها ولكنّها نجحت في إيقافه بسحر الكلمات» (60).
لم تعتمد شهرزاد على جسدها دون العقل في تغيير مصيرها ولم ينجذب إليها شهريار بقوّة الجنس وحسب، بل بقوّة العقل والحكمة والذكاء، إنّ نموذج شهرزاد يعلّمنا بأنّه «بإمكان المرأة أن تثور بفعاليّة بشرط أن تفكّر. إنّها حين تعتمد على قوّة ذكائها، تساعد الرجل على أن يتخلّص من حاجته النرجسيّة» (61). لقد رأى فيها شهريار امرأة متفرّدة عن باقي النساء اللواتي صادفهنّ في حياته وهي معتمدة على الكلمة بوصفها سلاحا قويّا وفعالاً للمبارزة والبقاء.
9 - النساء والإبداع في المتن التراثـي العربي الإسلامي
تستعيدُ النساء أهميّتهنّ في بعض النصوص التراثيّة الاستثنائيّة كتلك المنسوبة لـابن طيفور (62)، ففي كتابه بلاغات النساء (63) يخالفُ الكاتب تلك الصورة النمطيّة، عن المرأة، التي ظلّت قابعة في الأذهان ويُسجّل لنا تاريخاً منصفاً لإبداعهنّ. وتستحضره المرنيسي، في نصوصها، باعتزاز وتقدير موصوفين، فمعه وبه ترفع بعض اللبس عن التعتيم الشديد الذي طال تاريخ النساء المبدعات في المدوّنات التراثيّة، وإذا كان باستطاعة الكاتب المنصف والموضوعي أن يقدّم مثل تلك الصور التي قدّمها ابن طيفور في بلاغات النساء فإنّ هذا سينتهي إلى كتابة التاريخ بشكل متحضّر وإنساني، وإجلاء ذلك التعتيم الذي استقرّ في الضمير الجمعي، ومعه مقاومة ثقافة النسيان.
لكن الموقف، من المرأة، الملفت للانتباه والاهتمام، في تراثنا العربي الإسلامي، هو ذلك المنسوب إلى جماعة المتصوّفة، إذْ ينفرد محيي الدين بن عربي (1165م – 1240م) في هذا الشأن بإضفاء القيمة والأهميّة عليها، ففي كتابه الفتوحات المكيّة وتحديداً في الباب المعنون «في معرفة منزل جمع النساء الرجال في بعض المواطن الإلهيّة وهو من الحضرة المحمديّة»، يعتزّ هذا الرجل المتصوّف بالتأنيث قائلاً: «شرف التأنيث إلا إطلاق الذات على الله إطلاق الصفة وكلاهما لفظ التأنيث جبراً لقلب المرأة الذي يكسره من لا علم له من الرجال بالأمر» (64). فالنصّ في حضوره الصوفي عند ابن عربي لا يطرح مسألة التراتبيّة الهرميّة المعهودة، بل تذوب فيه مسألة الذكورة والأنوثة أمام الله، وتصبح الأنوثة عندئذ قيمة يتمّ التركيز عليها لأنّها تعدّ الشرف الذي تحوزه الذات الإلهيّة، بل إنّ الأنوثة هي من أعظم مظاهر خلق الله. ويضيف ابن عربي في نفس الباب قائلاً: «اعلم أيّدك الله أن الإنسانيّة لما كانت حقيقة جامعة للرجل والمرأة لم يكن للرجال على النساء درجة من حيث الإنسانيّة» (65). وموقف كهذا، بالقياس إلى العصر الذي قيل فيه والثقافة السائدة فيه، يعدّ، لامحالة، جريئا ومسبوقاً وحضاريّا.
إنّ ابن عربي يرفع من قيمة الأنثى ويذمّ الموقف الذي يفْصِل بينها وبين الذكر، وتعبّر قصيدته، التي يفتتح بها الباب الذي أوردناه في هذا العنصر، شاهداً حيّاً على موقف التصوّف من التأنيث، يقول في أبياتها:
إنّ النســاءَ شَقائـــــــــقُ الذكـــــــــــران في عـــــــــــالَم الأرواح والأبـــْــــــــــــدان
والحُكْم متّحــــد الوجــــــود عليْهما وهو المعَبِـــّـــر عنـــــــه بالإنســـــــــــــان
وتفرّقــــــــا عنـــــْه بأمْـــــــر عــــــــــــــارض فَصْل الإناث بهِ مـــــن الذكــــــــران
من رُتْبة الإجماع بحكم فيهمـــــــــــــا بحقيقـــة التوحيــــــد في الأعْيـــــَــــــــان
وإذا نَظَرْت إلى السماء وأرضها فــــَرَقْـــت بينهمـــــــا بــــــلا فـــُرْقـــــــــــان
أنظر إلى الإحسان عيناً واحــــداً وظهـــــــوره بالحكــــم عن إحســــــان
أما في كتابه فصوص الحكم فإنّ موقفه من التأنيث، هو الآخر، من الأهميّة بمكان ويجدّد رسوخ موقفه من المرأة إذ يقول في الفصّ الموسوم بــ «فصّ حكمة فرديّة في كلمة محمّديّة» مستحضراً قول النبيّ محمّد في كلامه عن محبّة النساء، ''حُبّبَ إليّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلتُ قرّة عيني في الصلاة''، ومعقباً عليه بقوله: «ابتدأ بذكر النساء وأخّر الصلاة، وذلك لأنّ المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها. ومعرفة الإنسان بنفسه مقدّمة على معرفته بربّه، فإنّ معرفته بربّه نتيجة عن معرفته بنفسه..» (66). والتأنيث في هذه العبارة «ليس أمراً لفضياًّ بل له دلالة معنويّة في العرفان الصوفي الفلسفي» (67). ولئن كان من كلام في هذا المقام، بعد استعراض بعض مواقف ابن عربي في التأنيث، هو أنّ نصيْه: الفتوحات المكيّة وكذلك فصوص الحكميكشفان عن قيمة المرأة في التراث العرفاني الصوفي، كما ينطويان على مفارقة واضحة بين موقفيهما من المرأة وباقي المواقف التراثيّة الأخرى منها. وتستعين المرنيسي، في كتاباتها بهذه النصوص، التراثيّة المشْرقة، وتحتفي بها بوصفها سنداً تاريخياً في توقير الأنثى. وقد لا يكون من باب المبالغة في شيء إذا نعتناها بالمؤلّفات التنويريّة في التراث العربي الإسلامي، والصوفيّ منه على وجه الدقّة، التي يجب استدعاءها وترهينها باستمرار نظراً لما تقدّمه من قيّم نبيلة، أخلاقيّة، دينيّة وجماليّة.
10 -المرنيسي ونقاش حول النسويّة الإسلاميّة في أبعادها الحضارية والتنويريّة
لقد أصبح واضحاً للقارئ، الآن، أنّ المرنيسي تكنُّ احتراماً كبيراً للتراث العربي الإسلامي ولا تتردّد، في كلّ مرّة، من الحفر فيه والعودة إليه كمعين لا ينضب لكتاباتها، وإن كانت تُسجّل، بصريح العبارة، انحيازها لأفكار التنوير والعقلانيّة الموجودة بين ظهراني هذا التراث وللتفاسير الموضوعيّة وغير المتطرّفة فيه. تقول المرنيسي في أحد مقاطع مؤلّفاتها، «من حسن حظنا كباحثات وباحثين في ميدان العائلة أنّ تراثنا الإسلامي مكتوب، وأنّنا نملك معطيات تاريخيّة غزيرة حول العائلة في فجر الإسلام. ومن هنا يمكن القيام بتحليل منهجي دقيق للتغيّرات الحادثة في المؤسّسة العائليّة بعد ظهور الإسلام، انطلاقا من مؤلّفات تزخر بالمعلومات حول الحياة الزوجيّة لدى المئات من الصحابة والصحابيات كـــــ'' الطبقات'' لابن سعد.. [و] حياة النبي (ص) منبع غزير للمعلومات، حيث أولى المؤرّخون اهتماماً خاصّاً لحياته العائليّة» (68).
وفي مخاطبة التراث لا تدّخر المرنيسي جهداً في سبيل العودة إلى النصّ القرآني والسنّة النبويّة وصحيح البخاري والمعاجم التراثيّة، وغيرها من المصادر والمصنّفات التاريخيّة القديمة، لتستعين بها في إعادة قراءة بعض الآيات القرآنيّة، كتلك المتعلّقة بتعدّد الزوجات ومناقشتها في أبعادها النفسيّة والاجتماعيّة، أو الالتفات إلى ظاهرة الطلاق باستحضار الآيات والشواهد على ذلك، معزّزة آراءها بقراءة سوسيولوجيّة، ومستعملة منهجيّة وأدوات عالمة الاجتماع في تفكيك هذه المشكلة أو تلك. وتكمن طرافة المرنيسي، وهي تحفر عميقا في كلّ هذا، في جرأتها على اقتراح قراءة تأويليّة جديدة للنصّ القرآني (69)، قراءة حديثة ومن زاوية نسويّة (70)، وإن كان التراث الإسلامي لم يشجّع أبداً على هذه المسلكيّة، بل واستنكرها بشدّة إلاّ فيما نذر، ولا غرابة في الأمر إذا علمنا أنّ ذلك التراث قد اتّكأ في تلك المواقف على ثقافة الفحولة.
ويستند الخطاب النسوي الإسلامي في تَشَكُّله على استدعاء النصّ القرآني والسنّة النبويّة من أجل إعادة تفسير بعض الآيات القرآنيّة وخاصة تلك الصور القرآنيّة المتعلّقة بالنساء والأحاديث النبويّة التي تَذْكُرهنّ، والاجتهاد في تقديم تأويلات جديدة بالاستناد إلى قيّم العدالة والتسامح والرحمة والحقّ التي يعلمّنا إياها الدين الإسلامي. ووفق هذا الهدف فإنّ النسويّة الاسلاميّة تقوم بـــ «الردّ على التفسيرات التي تسلّط الضوء على معاني الأفضليّة والسيطرة والتمييز في القدرات والتحيّز لجنس دون آخر. فيحاولن تقديم بدائل وحلول ووجهات نظر أخرى لمناهضة التحيّز ضدّ المرأة، وذلك عبر الاستناد إلى منهجيّات وآليات تفسير محدّدة» (71). إنّ النسويّة الإسلاميّة (72) تسلك هذا الطريق، لكي تقدّم حلولاً فقهيّة جديدة، رغم الانتقادات الشديدة لها، ولكي تضع حدّا للتطرّف وللكثير من المبالغات في الدين وتحلّ بعض مشكلات الواقع الاجتماعي والعمل على «التصدّي للأحكام الفقهيّة السائدة عن الزواج والطلاق والقوامة وتعدّد الزوجات» (73).
ولا يتوقّف أداء النسويات الاسلاميّات (74) عند هذا الحدّ بل هنّ يذهبن بعيداً إلى «غربلة التفاسير ومراجعة تراكماتها وتناقضاتها، وذلك في محاولة للتفريق بين شرح الآية والرأي الشخصي للمفسّر المبني على الثقافة المجتمعيّة. وفي كلّ هذه المحاولات لإنتاج تفاسير ومفاهيم جديدة، تضع الباحثات أمام أعينهنّ القيّم القرآنيّة العُليا وأساسيات الدين» (75)، وهذا يعني في مضمونه إعادة قراءة تاريخ الأفكار في مجالات عديدة ومنها الأحكام الفقهيّة وتاريخ الأفكار الدينيّة. إنّ النسوياّت الإسلاميّات سيؤدين دوراً حضارياً إيجابياً، لامحالة، إذا استمرّ هاجس التحليل والنقد الموضوعي من بين أهدافهنّ على شرط ألا يتحيزن لرأي ويتعصبن له، ولا يلغين جهوداً أخرى، في مجال البحث كتلك التي تقدّمها النسويات العلمانيات مثلاً أو غيرهن من الاتّجاهات المختلفة والمتعارضة معها، فلا أحد بإمكانه أن يحتكر الحقيقة.
على النسويات الاسلاميّات ألاّ تسقطن في فخّ هيمنة من طراز آخر، هي ''الهيمنة الأنثويّة'' المتطرّفة والمتعصّبة للرأي، إذْ يحتاج التراث الديني والموروث الثقافي منّا إلى قراءة موضوعيّة له، معتمدة على منهجيّات علميّة حديثة في البحث وعلى قراءة عميقة وواعيّة تراعي السياقات التاريخيّة للأفكار مراعاة شديدة، لكيلا تُقتطع النصوص من فضائها الاجتماعي والثقافي والعقائدي بشكل تعسّفي وانتقائي. فكلّ هيمنة كيفما كان شكلها ستسيئ إلى النصّ أكثر مما ستفيده وتستجلي متونه، لذلك على النسويات الإسلاميّات أن يُطَهِرن التاريخ من الأكاذيب والمغالطات الكثيرة التي عملت السلطة الذكوريّة المهيمنة على بسطها على مدى قرون طويلة من الزمن، لا أن يسلكنَ نفس الطريق بآليات مختلفة ولبوس جديدة.
كثيرا ما كانت الكتابة والكلمة، عموماً، استراتيجيّة للمقاومة والتغيير، وهاهي المرنيسي تسوق براهينها على صحّة هذا الكلام وهي الموفورة الثقافة والواسعة الاطّلاع على النصوص الحديثة وعلى الكتب والمخطوطات القديمة. إنّ الكلمة بإمكانها أن تكون سلاحاً فعّالاً ضدّ الهيمنة والاستبداد والإقصاء واللامساواة، وباستطاعتها تغيير وجه العالم فضلاً عن ذلك، وفي نصوص المرنيسي، بلا استثناء، مقاومة شرسة بالحرف، متواصلة ولا هوادة فيها، ضدّ السرديات البطريريكيّة والأفكار الظلامية وضدّ ذهنيّة القرون الوسطى)).
د. خديجة زتيلي
********************************
هوامش المقال
(1) في معاجم اللغة العربيّة جمعه أحْرام وحرائم وحُرم، وهو كلّ ما حرَم انتهاكه وهو تعبير يشير أيضا إلى جناح النساء في قصر الحاكم الملك، السلطان، أو الأمير. وجاء في لسان العرب لابن منظور: حرم: الحرم، بالكسر، والحرام: نقيض الحلال، وجمعه حرم.. والحريم الذي حرم مسّه فلا يُدنى منه.. أنظر بهذا الصدد:
أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم (ابن منظور)، لسان العرب، ج 4، (بيروت: دار صابر، 2003).
(2) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، (المغرب: منشورات الفنك والمركز الثقافي العربي، ط 2، 2007)، ص 9.
(3) تاريخ استقلال المغرب عن الاحتلال الفرنسي.
(4) فاطمة المرنيسي، شهرزاد ليست مغربيّة، تر: ماري طوق، (المغرب: نشر الفنك والمركز الثقافي العربي، ط 2، 2003)، ص 68.
(5) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ص 53.
(6) المرجع نفسه، ص 9.
(7) ردّا على الذين اعتبروا كتاب: نساء على أجنحة الحلم بمثابة السيرة الذاتيّة لفاطمة المرنيسي توضّح قائلة: «هذا الكتاب ليس سيرة ذاتيّة، وإنّما أحداث متخيّلة على شكل حكايات ترويها طفلة في السابعة، فإنّ ما ورد هنا بشأن أحداث يناير 1944 نابع من ذكرياتي التي احتفظت بها عمّا كانت تحكيه نساء لا يعرفن الكتابة والقراءة في وسط الدار أو على السطوح». هناك إذن الجانب الواقعي التاريخي والجانب الآخر سردي ومتخيّل. أنظر كتاب: نساء على أجنحة الحلم، ص 255.
(
Maria Puig de la Bellacasa , « les corps des pratiques : politiques féministes et (re) construction de ''la nature'' », dans : Helene Rouch , Elsa Dorlin , Le corps entre sexe et genre , ( paris : L’Harmattan , 2005) , pp, 20 - 21 .
ووفقاً للطرح القائل بضرورة تغيير المفاهيم البيولوجية في حدّ ذاتها، كان يجب إنتاج خطاب علمي وبيولوجي جديد لاستحداث خطاب فكري وسياسي مختلف هو الآخر، يحتكم إلى العلم والموضوعية لا إلى التخمين والافتراض أو إلى الإيديولوجيا والنظرة العنصرية الضيّقة. فالنصّ البيولوجي القديم غدا نصّاً اعتباطيا مُغالياً في نزعته العنصريّة فاقداً لشرعيّته العلميّة، ما يعني، منطقيّا، أن كلّ النظريات التي تستند عليه لتؤسّس، انطلاقا منه، لخطاب فكري وسياسي ستغدو هي الأخرى فاقدة لكل شرعيّة علميّة ومصداقيّة معرفيّة. كان الوصول إلى المبتغى مرهونا ًبمدى دحض البنى العلميّة القديمة والبرهنة على إفلاسها وفسادها.
(9) تحدّث بيار بورديو Pierre Bourdieu (1930 -2002) في كتابه الهيمنة الذكوريّة عن البناء الاجتماعي للأجساد الذي يحيل بالضرورة إلى التقسيم الاجتماعي للنشاطات داخل البيت وخارجه، وهو يأتي وفقاً للنظرة الاجتماعيّة المختلفة إلى الجنسين، وقد توسّل بورديو في دراسته الميدانيّة تلك بالمجتمع القبائلي في الجزائر، في مرحلة الستينات من القرن الماضي، بوصفه عيّنة واقعيّة وتاريخيّة للتقسيم الاجتماعي للأجساد، وإن كنّا نرى أنّ مظاهر لذلك التقسيم لا تزال سارية المفعول إلى يومنا هذا، قد لا تكون بنفس الحدّة السابقة ولكنّها لم تختف ولن تختفي بالمطلق في ظلّ الإيمان بمقولة التقسيم الاجتماعي للأجساد وفق النوع. وحسب بورديو فإنّ «النظام الاجتماعي يشتغل بحيازة آلة رمزيّة هائلة تصبو إلى المصادقة على الهيمنة الذكوريّة التي يتأسّس عليها». فالأجساد الذكوريّة وتلك الأنثويّة يتمّ تبرير نوع نشاطها في المجتمع بناء على الاختلاف الجنسي لا غير. وهذا الأسلوب في تقسيم العمل وتعيين جدواه وقيمته، وفق النظام الجنسي، يرفضه ويدينه ويخطئه وهو مرذول في نصّ بورديو، وينبري في مقدّمة كتاب الهيمنة الذكورية لشرحه وتحديد موقف منه منذ البداية. أنظر بهذا الصدد:
بيار بورديو، الهيمنة الذكوريّة، تر: سلمان قعفراني، مراجعة ماهر تريمش، (لبنان: مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط1، 2009)، ص 27.
(10) إنّ المنظومة الاجتماعيّة والثقافية هي التي تُحدّد أدوار الجنسين بمعزل عن رغبتهما وإرادتهما، وهي أيضاً التي تَطرح صورة الذات المثاليّة اجتماعيّا وفق معاييـر معيّنة. في الوقت الذي تؤكّد فيه التجربة الواقعيّة والتاريخيّة، بشكل عام أنّ الفحـولة ليست مقياساً للنجاح، وأنّ الذكورة والأنوثة هي صفات أفقيّة وليست هرميّة.
(11) Evelyn Fox Keller, « Histoire d’une trajectoire de recherche », traduit de Langlais par Natalie Jas, dans : Delphine Gardey et Liana Löwy, Les sciences et la fabrication du féminin et du masculin, (paris : Éditions les archives contemporaine, 2000), p 46.
(12) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ص ص 16 -17.
(13) فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعيّة، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، (المغرب: منشورات الفنك والمركز الثقافي العربي، ط4، 2005)، ص 149.
(14) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ص 11.
(15) فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعيّة، ص 150.
(16) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ص 254.
(17) فاطمة المرنيسي، العابرة المكسورة الجناح: شهرزاد ترحل إلى الغرب، (المغرب: منشورات الفنك والمركز الثقافي العربي، ط1، 2002)، ص 5.
(18) فاطمة المرنيسي، نساء على أجنحة الحلم، ص 259.
(19) تمّ إضافة اللفظة إلى الجملة بغرض التوضيح.
(20) فاطمة المرنيسي، العابرة المكسورة الجناح: شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص 23.
(21) المرجع نفسه، ص ص 80-81.
(22) تقول الأسطورة: «في صباح أحد الأيام، وقبل أن يُطلق على مدينة أثينا اسمها المعروف، أفاق أهل المدينة على حادث عجيب، فمن باطن الأرض نبتت في ليلة واحدة شجرة زيتون ضخمة لم يروا شبيهاً لها من قبل، وعلى مقربة منها انبثق من جوف الأرض نبع ماء غزير لم يكن موجوداً من قبل أيضاً، وقد أدرك الناس أن وراء ذلك سراً إلهياً ورسالة تأتي من الغيب، فأرسل الملك إلى معبد ''دلفي'' يستطلع عرافته ويطلب منها تفسيراً، فجاءه الجواب أن شجرة الزيتون هي الإلهة أثينا، وأن نبعة الماء هي الإله بوسيدون، وأن الإلهين يخبران أهل المدينة أي من الاسمين يطلقون على مدينتهم، عند ذلك جمع الملك كل السكان واستفتاهم في الأمر، فصوتت النساء إلى جانب أثينا، وصوت الرجال إلى جانب بوسيدون، ولما كان عدد النساء أكبر من عدد الرجال كانت الغلبة لهنّ، وتم إطلاق اسم الإلهة أثينا على المدينة، وهنا غضب بوسيدون فأرسل مياهه المالحة العاتية فغطت أراضي أثينا، وتراجعت تاركة أملاحها التي حالت دون زراعة التربة وجني المحصول، ولتهدئة خواطر الإله الغاضب، فرض الرجال على النساء ثلاث عقوبات: أولاً: لن يتمتعن بحق التصويت العام بعد اليوم، ثانياً: لن ينسب الأولاد إلى أمهاتهم بعد اليوم بل إلى آبائهم، ثالثاً: لن تحمل النساء لقب الأثينيات، ويبقى ذلك وقفاً على الرجال». نقلاَ عن:
حياة الرايس، جسد المرأة: من سلطة الإنس إلى سلطة الجان، (القاهرة: سينا للنشر، ط1، 1995)، ص 9.
(23) تجسّد هذه الأسطورة القديمة تلك الثنائيّة الموجودة بين الرجل والمرأة، والترتيب الهرميّ لهما في المجتمع، وستتكرّس هذه النظرة، لاحقاً، في نصوص الأدباء والفلاسفة.
(24) أفلاطون، الجمهوريّة، تر، فؤاد زكريا، مراجعة، محمد سليم سالم، (الإسكندريّة: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2005)، ص 355.
(25) أفلاطون، القوانين، ترجمه من اليونانية إلى الإنجليزيّة، أ-تيلور، نقله إلى العربيّة، محمد حسن ظاظا، (القاهرة: مطابع الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 1986)، ص 522.
(26) Platon, Timée, présentation et traduction par Luc Brisson, (paris : Édition Flammarion, 5eme édition, 2001), pp 135 - 136.
(27) ريان فوت، النسويّة والمواطنة، تر: أيمن بكر وسمر الشيشكلي، مراجعة فريدة النقاش، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط 1، 2004).
(28) سوزان موللر أوكين، النساء في الفكر السياسي الغربي، تر: إمام عبد الفتاح إمام، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط 1، 2002)، ص 15.
(29) هي التراتبية، وتعني التسلسل الهرمي للموجودات، فهناك هيراركيّة في الموجودات الماديّة، وأخرى في الموجودات البشريّة، وملخّصها أنّ الأدنى تابع بالضرورة، لما هو أعلى.
(30) أرسطو، في السياسة، نقله من الأصل اليوناني إلى العربية وقدّم وعلّق عليه الأب أوغسطينس برباره البولسي، (بيروت: اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، ط 2، 1980)، ص 150.
(31) فاطمة المرنيسي، سُلطانات مَنسيات: نساء حاكمات في بلاد الإسلام، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، (المغرب: منشورات الفنك، والمركز الثقافي العربي، ط1، 2000)، ص 58.
(32) المرجع نفسه، ص ص 174-175.
(33) المرجع نفسه، ص 175.
(34) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(35) المرجع نفسه، ص 8.
(36) المرجع نفسه، ص 10.
(37) الكلمة مضافة للنصّ بغرض التوضيح.
(38) فاطمة المرنيسي، سُلطانات مَنسيات ، ص 11.
(39) زليخة أبو ريشة، أنثى اللغة: أوراق في الخطاب والجنس، (دمشق: دار نينوى، 2009)، ص 32.
(40) فاطمة المرنيسي، سُلطانات مَنسيات ، ص 37.
(41) زليخة أبو ريشة، أنثى اللغة: أوراق في الخطاب والجنس، ص 21.
(42) المرجع نفسه
* ملاحظة: بقية الاحالات الهامش تجدونها في التعليق
___________________
إرتأيت نشر هذا المقال الذي يحمل عنوان
((استراتيجية الكتابة في نقد العقل البطريريكي:
تجليّات ثقافة المقاومة في نصوص فاطمة المرنيسي))
وكنت قد شاركت به قبل أربع سنوات في مؤتمر ''ثقافة المقاومة'' الذي جُمعتْ أعماله في كتاب من إصدارات الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفيّة..
المرنيسي المرأة التي لم تهادن يوما لقول كلمة