أدب ساخر علي عطا - جحا العربي عابر الحدود واللغات كان فطري الذكاء لا أحمق.. المستعربة الإيطالية فرانشيسكا كوراو ترصد أصوله وتبحث في حكاياته الصقلية

جوفا Giufa هو اسم صاحب نوادر شعبية إيطالية، ترجح المستعربة الإيطالية فرانشيسكا كوراو Francesca Corrao أن أصلها يعود إلى شخصية جحا العربية. وفي كتابها "حكايات جحا الصقلي"؛ الصادر في طبعته الأصلية عام 2001، وصدرت ترجمته إلى العربية عن المركز القومي المصري للترجمة حديثاً (حسين محمود ولمياء الشريف)، تذهب كوراو إلى أن أول شهادة مسجلة مكتوبة لجوفا تعود إلى القرن السابع من مصدر عربي، والنوادر التي تتعلق به منتشرة في منطقة جغرافية تمتد من الهند حتى حوض البحر المتوسط. وجوفا العربي اسمه جحا، ولكن له أسماء أخرى أيضاً، مثل "زها" في المغرب، و"جواها" في النوبة، و"نصر الدين خوجة" في تركيا، و"دجوحا في العبرية"، و"جوجي" في إيران.
وهذه الأسماء، مثل "جوكاه" في تراباني أو جوكّا في توسكانا، تنتمي جميعها إلى المجال الصوتي الدلالي للأصل العربي، بحسب دراسة كوراو، التي جمعت في كتابها 19 حكاية صقلية، و32 حكاية عربية، و20 حكاية تركية، لتدل على أن لها أصلاً مشتركاً. واسم جحا باللغة العربية – تقول كوراو - يمكن تفسيره بأنه: "الذي يمشي على عجل، أو الذي لا يستند في أعماله إلى اعتبارات تمليها العقلانية". وفي القرن السابع الميلادي أصبحت شهرة مسلكه الغريب من القوة بحيث استحقت بيت شعر شهير لعمر بن أبي ربيعة يقول فيه: "دَلهْتِ عقلي وتلَّعبتِ بي / حتى كأني من جنوني جحا". ووفقاً لرواية الجاحظ فإن كنية جحا سواء كانت حقيقية أو مجازية، هي "نوح"، وبالنسبة لآخرين هي أبو الغصن الميداني من القرن الحادي عشر أو الثاني عشر. ويحكى أنه ينتمي إلى قبيلة بني فزارة.
ونعلم من الجوزي أنه منذ عصر جحا هناك خلاف بين مناصري الرجل الصالح ضحية شرور جيرانه، وأولئك الذين يتهمونه بالحمق. وقد استمر هذا الجدل حتى القرن التاسع عشر، عندما استقر أن هناك شخصين باسم جحا ماتا في العام نفسه، أحدهما في الكوفة، والآخر في البصرة. وأخيراً حدد مصدر دقيق آخر أن جحا ربما ولد في البصرة، إلا أنه مات وقد زاد عمره عن القرن، في الكوفة عام 777م. وقد ذاع صيت نوادر جحا العراقي هذا، حتى وصل إلى الأناضول، حيث ظهرت شخصية أخرى هي نصر الدين خوجة، وهي شخصية هزلية من التراث الشعبي التركي، أضيفت نوادره إلى نوادر سلفه العربي، لتشكلا كتلة نصية واحدة، انتشرت في مناطق النفوذ العثماني، كما تؤكد كراو.
رؤية إيتالو كالفينو
حرصت كوراو على أن يتصدر كتابها تقديم كتبه الأديب الإيطالي ليوناردو شاشا (1921 – 1989) قبل وفاته بقليل، وقد تضمَّن أن إيتالو كالفينو (1923 – 1985) وهو يطرح قصص جوفا ضمن الحكايات الشعبية الإيطالية يقول: "الدورة الكبرى للأحمق، وحتى وإن لم تكن حكاية شعبية، فهي مهمة جداً للقصص الشعبي الإيطالي، فلماذا نستبعده عنه؟ لقد جاءت من العالم العربي، وكانت موفَّقة في اختيارها صقلية لكي تمثلها، وهي لا بد أنها أخذتها عن العرب مباشرة. فالأصل العربي موجود أيضاً في اسم الشخصية: جوفا (وأحياناً جوكا في المناطق التي تتكلم باللهجة الألبانية)، الأحمق الذي تنتهي معه حميع الحكايات نهاية طيبة".
وهنا يسأل شاشا المولود في صقلية مثل كوراو: "هل يمكن حقاً أن يسمى أحمق من تنتهي معه كل الحكايات نهاية طيبة؟"، ويجيب: "تتمثل حماقة جوفا في وعيه بالحماقات التي يأتي بها، وفي تجاهل أن أعماله التي يمليها دائماً شيطان المعاني الحرفية للكلام، هي حماقات من الناحية الاجتماعية، مقارنة بالشائع فهماً وسلوكاً. ولكن ما يفعله والضرر الذي تصبه أفعاله على الآخرين، والرضا والإشباع والميزات التي كان يجنيها هو نفسه من ذلك، لم تكن حمقاً لا في جوهرها، ولا من الناحية الموضوعية، على الأقل في ما يتعلق بكل ما تؤكده من حرية وحقيقة".
وعلى أي حال، يضيف شاشا، فإننا نريد أن نؤكد سمة تتميز بها هذه الشخصية: مادية العالم الذي تنتمي إليه؛ في هذه المادية فقط تتحقق حرفية معنى الكلمة. إنها "صفحة تثقيفية، لم يكتب مثلها من قبل دارسو التراث الشعبي الصقلي – لاحظ ذلك بنديتو روبينو عام 1917- "إنها الشعارات الشعبية التي تجمع تحتها كل النكات والطرف والنوادر والأقوال السائرة والمأثورة والأمثال التي يستخدمها الهجاء الشعبي من إقليم ضد إقليم ومن بلدة ضد أخرى، أو لتسجيل أحداث وكلمات يمكنها أن تعيد الأهلية لبعض الأشخاص والأشياء في بعض الأحيان، وتزيلها منهم في كثير من الأحيان".
طعم الغرابة
في الفن الروائي الشعبي الصقلي - تقول كراو- هناك وجود كبير لقصص تراجيكوميدية شخصيتها الرئيسية اسمها "جوفا"، وهي شخصية مثيرة للشفقة وعسيرة على التخيل. "إنه جوفا، أو "لا يحسن صنع شيء مثل جوفا". وحتى اليوم في صقلية يتم توجيه هذا الوصف عادة للشخص الذي يرتكب أخطاء أو حماقات لا معنى لها فيقع في المآزق والورطات. وبالفعل فإن جوفا شخصية حمقاء، متهورة أحياناً، مارقة أحياناً أخرى، فيها طعم الغرابة، وبها نزع من الموهبة السلبية التي تدفعه إلى التورط في مواقف شديدة التعاسة، وليس دائماً ما يخرج منها بالحيلة، كما ترى كوراو. وترى كوراو كذلك أن الشخصية في التراثين العربي والأناضولي هي نفسها، شخصية الأحمق الذي يسخر من جوانب الحياة اليومية كلها.
ولأن الأقوال والأمثال تتكرر في بعض الحكايات المأخوذة من فولكلور الأناضول (ومناطق أخرى عربية)، فإن كوميديا الشخصية تظل عالمية الطابع عابرة للحدود الجغرافية لأصلها، وقابلة للاستخدام في كل مكان وكل عصر. ووفقاً لبعض الباحثين تنتمي هذه الحكايات إلى دائرة حكايات الحمقى المنتشرة في الأدب الشعبي العالمي. ولكن ما أصل جوفا الصقلي من حيث إن قصصه حققت نجاحاً في انتشارها قبل أقدم ترجمة، وهي الفرنسية الصادرة في باريس عام 1694؟ تقول كوراو: "يجب أن نفترض أن نقل النصوص قد كفله التراث الشفهي، ففي القرن السابع عشر صاغ شاعران من صقلية، هما فينراندو جانشي و س. مامو دا تشانشا، حكايات هذه الشخصية شعراً مستلهمين حكايات الجدات. ومما له مغزى أن بعض حكايات جحا العربي لها أصداء في "كيكييو" "الديكاميرون" لجيوفاني بوكاشيو (1353) وحكايات "برتولدينو" لجي. سي. كروتشه (1608) وفي "كاكازيني" للمؤلف أ. بانكييري (1634) وفي "فارديللو" للمؤلف أ. ب. بازيلي (1636).
بين الأناضول وصقلية
يبدو أن نوادر جحا - تقول كراو - قد دخلت إلى تركيا عن طريق الإيغوريين والذين بعد أن اعتنقوا الإسلام كان ولا يزال لديهم بعض الجوانب الأساسية لدينهم البوذي، كما يتضح من العناصر التي تخلفت في ممارستهم لبعض الطقوس الصوفية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن جلال الدين الرومي، مؤسس الطريقة المولوية، لجأ إلى قصص نصر الدين خوجة لشرح ما غمض من فكره، فالمريد ينتقل من حالة الحماقة إلى المراحل التالية متبعاً تعاليم الشيخ.
أما في صقلية فغالباً ما يظهر جوفا، بحسب كوراو، على أنه الأحمق الذي يطيب له كل شيء في النهاية. على أن هذه الشخصية الإيطالية تقدم نفسها باعتبارها نتاجاً فاسداً لزواج الأقارب: عبيط القرية. ويبدو أن تعويض الأبوين عن هذه الكارثة كان يتطلب ضربة حظ إعجازية.
وفي الحكايات الصقلية التي أوردتها كوراو في كتابها والتي يتولى بطولتها جوفا، أو شخصيات موازية، موجودة في النصوص العربية التي تعود إلى القرن الثاني عشر، أو الحكايات المنشورة حديثاً. أما المكانة التي تحتلها تلك الحكايات في الأدب الإيطالي، باعتبارها أمثلة على دوائر حكايات الحمقى، فهي مكانة عالية لدرجة جعلت إيتالو كالفينو يضمها إلى مجموعته "خرافات إيطالية"، على الرغم من أنه لم يعدها "خرافات" بالمعنى الحقيقي للمصطلح.
وتضيف كوراو أن أغلب المواد التي قامت عليها دراستها تلك تعود إلى فترة تاريخية اتسمت بانخراط شعوب الشرق الأوسط في النضال من أجل التحرر من نير الاستعمار. كما تمثلت بعض المساهمات التي قدمها المفكرون في حركة النهضة في إعادة تقديم روائع الأدب الكلاسيكي والشعبي ونشرها. وكان الهدف من وراء ذلك كله تسليط الضوء على بعض خصوصيات المجتمع الوطني بحثاً عن الماضي التليد. وقد يفسر هذا – بحسب كوراو – عودة اهتمام الدارسين الشرقيين بجحا أو نصر الدين. إن جحا، تضيف كوراو، يتحرك في عالم مخترع، مرتب، نزعت منه الأسطورية، ومع ذلك فيبدو أنه يعكس ما يمكن أن نطلق عليه ميثالوجيا الحالة الإنسانية، والوظيفة التي تحققها هذه القصص على الأرجح هي مساعدة الإنسان على تجاوز مستوى الخبرة المباشرة الممزقة والتناقضية، لكي يكشف بعداً خافياً على الواقع. والحقيقة أن قص نوادر جحا يمنحنا الفرصة لكي نتخيل بعداً تتلاشى فيه المتناقضات، استشرافاً لزمن لا صراعات فيه ولا توترات.
ــــــــــــــــ
اندبندنت عربية 27 يونيو 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...