طوّفت روح إخناتون فوق أحد المعابد التي تردد عليها الملك الفرعوني قديمًا. تخيّرت جسد ذلك الحارس البائس القاعد على أحد الكراسي المتهالكة لتتلبسه. كان أول وجه يقابلها في المقبرة الأثرية. ولكن ما لم يكن في حسبان الروح الهائمة وهذا الحارس البائس تلك المصادفة التي حدثت. فالروح تلبست نفس الرجل الذي التقط له روبرت المصور صورة فوتوغرافية أثناء رحلته قبل الأخيرة لمصر، ثم نشرها في مجلته الشهيرة واسعة الانتشار في لندن، وعلق عليها كاتبًا: “انظروا إلى هذا الشبه القوي بين ذلك الرجل المصري وبين الملك إخناتون، كأنه كان جده الأول! أو كأنه هو!”.
تلبست روح إخناتون جسدًا لم ينظر له طويلا، أو لم يبالِ بالملابس الجديدة المهلهلة، ولا بالحذاء المطاطي بعد حذائه الذهبي، فقد كانت الروح في شوق جارف لرؤية وجه النيل الصافي والقصور المزينة الجميلة على ضفافه.
لكن الأسئلة بدأت في التزاحم على تلك الروح الطائفة.
يا إلهي ما هذا؟
هل ضللت؟ أم أنا من المعذبين في الآخرة وقد كُتب عليّ الشقاء وهذه نهايتي؟
أين متاعي وملابسي وطعامي والمرايا والتيجان الذهبية؟ أين سرير الملك وخواتم الحكم؟ هل سطا لصوص على مقبرتي؟ أين الجند؟
لا صوت يُجيب إلا الصدى المتردد في أركان المعبد.
أما ذلك الحارس البائس فقد كان غارقًا في تأملاته، في شقائه الذي لا ينتهي، أخذ يكتب في دفتر قرر جعله للكتابة عن نفسه:
“أنا (سَليم) الفلاح البسيط الذي حاولت السفر للعمل في السعودية، فقالوا لي عندك فيروس اسمه (سي) لذا لن تسافر، ثم أخذت دواء شديدًا فلم أعد أقوى على العمل في الأرض، فتوسط لي خال يعمل في وزارة الآثار كاتبًا، فجعلوني حارسًا في المقبرة. لم يعد السياح يأتون بنفس الأعداد التي كنت أراها وأنا أمر على المكان في طريقي للمدرسة الصناعية من قبل، لكنهم يحرصون على التقاط الصور لي ومعي، وهناك أحدهم قال إنه سيضع صورتي في مجلة بريطانية كبيرة”.
تهادى إلى روح إخناتون الهائمة صوت الشاب، فحدثت نفسها ذاهلة وكأنها في جسد إخناتون: “هذه أول مرة أشعر فيها بأن قدميّ لا تحملاني كأني لم أشرب العسل منذ شهور!. كيف يحدث هذا لمصري يسكن الوادي الذي تملؤه الرياحين! وما هذا الرأس المحمل بالشعر الجاف؟ أين زيوت العنبر والزعفران؟. لا بأس إخناتون ربما سكنت روحك جسد ناسك أو صعلوك، ولكن ذلك مؤقت، اصبر حتى ترى الوضع خارج المعبد”.
مشى الحارس البائس (سليم) وقد سكنته روح إخناتون تجاه النيل، وهو يستشعر شيئًا غريبًا قد حدث له أو حل فيه. كان ذكيًّا طويل الصمت والتأمل، ولولا فقر أبيه الشديد لكان معلمًا ماهرًا في بلدته كما كان يحلم.
رفع صوته “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هل تلبس بي جنيٌّ من طول جلوسي في المقبرة وحدي. اللعنة على السياح الذين يبخلون على مصر بدولاراتهم، أشعر كأن روحًا تسري في قدمي وتجبرني على المشي بعيدًا عن مكان عملي. يا لطيف (أشتاتًا أشتاتًا)”. وهي الكلمة التي نصحته بها جدته عندما زارها قبل بداية عمله الجديد.
“يبدو ألا توقف، وأني سأظل أسير هكذا طويلا، لكن لماذا ألمح رأسي شامخة هكذا. آه ما هذا الوجع الذي يخرج من فقرات ظهري المتصلب. لقد فشلت طول حياتي في السير مرفوع الرأس معتدل القامة، وقد كان يُجبرنا مدرس الألعاب في المدرسة على تلك المشية لدقائق. آه ما هذا اليوم الغريب”.
تعود سليم على خطواته الجديدة الثابتة، ورأسه المرفوعة، وظهره المعتدل، واستحسن تلك الهيئة الجديدة، وأحس بوجع السنين يخرج من رقبته.
أخيرًا ظهر النيل، فصرخت روح الملك، كأنها تلطم الخدين في إحساس لم يكن للملك أن يحس به في حياته الأولى.
“ما هذا الخراب الذي حل بالعاصمة؟! وما هذا الفساد الذي حدث للنيل العظيم؟! ومن أين جاء هؤلاء المفسدون إلى الوادي؟ وكيف تركهم الشعب العظيم حتى أفسدوه لهذه الدرجة؟! وكيف يسكت الشعب على هؤلاء المفسدين كل هذا السكوت؟!. أيها الجند اجتمعوا هنا”.
لم يعد للروح إلا رجع الصدى.
“حقا إنه يوم عظيم البلاء على نفسي، لقد تلبّسني جنيٌّ مخبول. إذ كيف ينطلق لساني بمناداة الجند، ما هذا؟ وأنا الهارب من الخدمة العسكرية بحجة فيروس (سي) منذ سنتين” (هكذا حدث سليم نفسه).
روح الملك يأكلها الهم من حجم ما تراه من خراب حل بوادي النيل. رجحت أن تكون في أحد ممرات الأهوال، وأن ذلك حتما سينقضي بعد قليل، أو أنها في غيهب من غياهب الأحلام الثقيلة التي تقع فيها بعض الأرواح الشاردة، وأنها حتمًا ستفيق بعد قليل، فمن المحال أن تكون هذه المياه السوداء هي مياه النيل الصافي، أو أن تكون هذه الضفاف المتسخه العفنة التي تسكنها الفئران هي ضفاف النيل التي تركها جسد الملك إخناتون في حياته الأولى، كان ضفاف النيل مزينة بأجمل الصخور وأبهاها، وكانت القصور الملونة وصفوف النخيل والزيتون وجنات الكروم وعيون الماء العذب وروافد النيل النقية حولها.. أين ذهب كل ذلك؟! أمن المعقول أن يكون هذا هو النيل؟!
يا إله الكون! يا معبود أهل مصر، أخرجني من جسد هذا العدو المجنون الذي يسكن مراقدنا المقدسة، وأسعدني بالعودة إلى وادي النيل العظيم في بلاد مصر العظيمة، بعيدًا عن هذا العفن والوسخ الذي أخذتني إليه قَدَمَا هذا البائس الرث.
أحس سليم براحةٍ كبيرة في جسده، وعمق في التفكير، وانشراح في الصدر. ردد في نفسه: “لا بأس، فليكن جنيًّا أو عفريتًا، لقد تحسنت حالة رقبتي، وانشرح صدري بعد اتساع رئتي للهواء لما رفعت ظهري، وأشعر بأن حملا ثقيلا قد سقط من على هذه الكتف الهزيلة التي تفتقد للحم والشحم.
يبدو أن روحًا ما عظيمةً تلك التي تلبستني”.