محمد الغزي - قراءة حديثة في "مصارع العشاق" وأثره في كتب العشق العربية

يعد كتاب "مصارع العشاق" مصدراً من مصادر تاريخ العرب الروحي. فإذا كان المؤرخون التقليديون قد كتبوا التاريخ السياسي والاجتماعي فإن السراج (جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي) تصدى لكتابة تاريخ من صنف ثان، وهو تاريخ العرب العاطفي والوجداني. وهذه الكتابة، كما نعرف، كانت محفوفة بالمخاطر لأنها تعمدت تجاوز التقاليد القائمة على "ذم الهوى" ومضت تحتفي بهذه العاطفة التي كانت، في نظر السراج، قرينة الحياة وإن حملت في تضاعيفها نقيضها الموت. وبذلك فتح هذا الكاتب الحجرة المغلقة التي حظرت التقاليد فتحها تعففاً وتمنعاً أو بحثاً عن سلامة موهومة وهي حجرة العشق، أي حجرة الموت. وهذا الأمر حفز الكُتاب على التأليف في هذا الغرض "المستراب" في مشرق البلاد العربية ومغربها. ولهذا يمكن القول، بكثير من الاطمئنان، إن في كل الكتب العشقية التي ظهرت بعد السراج شيئاً من كتاب المصارع، شيئاً من قصصه وقصائده، أي إن كتاب "المصارع" تناسل في المشرق والمغرب وبات أكثر من كتاب.
وانعطاف الباحث التونسي أصيل الشابي على هذا الكتاب بالنظر والتحليل في دراسته "الخطاب القصصي في مصارع العشاق للسراج البغدادي" الصادرة عن الدار التونسية للكتاب، إنما هو انعطاف على مدونة قصصية تعد من أهم مدونات السرد في أدبنا العربي وأولاها بالدراسة. إذ كانت من المدونات الأولى التي أصلت تقاليد القص العربي، وأفصحت، بحس مرهف، عن المشاعر الإنسانية في تناقضاتها واختلافاتها وتعددها. والأهم من ذلك أنها أبدعت لغة جديدة، لغة ناصعة، شفافة، جمعت بين كينونة الشعر وصيرورة القص جمْعَ تآلف وانسجام. فالسراج أدرك أنه لا يستطيع أن يتكلم عن العشق إلا بلغة عاشقة.
أساليب مستحدثة
يشير الكثير من الدارسين إلى أن القص في الحضارة العربية لم يكن زخرفاً زائلاً أو نفلاً زائداً وإنما كان المخرج الذي لا يُنال بغيره. وربما كانت شهرزاد صورة رمزية للراوي العربي تختزل كل أدواره. فهذه المرأة، وجب عليها أن توظف موهبتها في حكايات تستأثر باهتمام المروي له، فإذا فشلت كان مصيرها الموت. ثم يضيف: "إن وظيفة هذه المرأة لا تكمن في فعل السرد وإنما في البحث عن أساليب في السرد مستحدثة حتى تجعل المروي له مشدوداً إليها، مأخوذاً بها. فمتى فقد السرد سحره فقدت المرأة حياتها".
على أساس من هذا يصبح فعل القص، بحسب عبارة ابن عربي، "حالة وجودية" بينما يصبح الصمت "حالة عدمية" أي إن فعل القص يصبح، من هذا المنظور، أسلوب حياة وطريقة وجود، به يتوسل الإنسان ليحتمي من الموت أو يرجئه أو يتناساه.
القص بوصفه بحثاً عن طرائق مستحدثة في السرد اتقاء للموت يتجلى أقوى ما يتجلى في "مصارع العشاق". فالقص، في هذا الكتاب، يختزل في اعتقادنا خصائص السرد العربي وينطوي على مجمل قوانينه. القص ههنا جمع بين قارات معرفية وأدبية، جمع تشابك وتداخل، بحيث أصبحت قراءته سفراً في شبكة من الدلالات المتحركة يسلمنا خلالها الحدث إلى حدث والرمز إلى رمز فتنتهي القراءة تيهاً لا يقف عند مركز محدد أو محور ثابت.
انعطف الباحث على هذه المدونة بالنظر والتأمل مركزاً اهتمامه على عنصرين اثنين:
1- عنصر الزمن باعتباره من أهم مكونات الخطاب القصصي وكيف تم تشكيله لأنه أول ما يصطدم به الرواة وهم يتصدون للرواية، كما أن صياغة الكلام تتم، قبل كل شيء، ضمنه وبه.
2- كيفية صياغة الرواة والشخصيات للقول أو الكلام وطبيعة رؤيتهم وما يكتنف ذلك من ملابسات التلفظ في درجاتها وصولاً إلى التبئير ودوره في تعيين المدركات.
بعبارة أخرى، اهتم الباحث بالخطاب لأنه أدرك أن مزية القصص التي أوردها الكاتب في هذه المدونة لا تكمن في مقول القول بل تكمن في طرائق القول، أي بعبارة أخرى إن مزية هذه القصص لا تكمن في الأحداث تتوالى والوقائع تتتابع وإنما تكمن في الطريقة التي توسل بها الراوي في سرد الأحداث ووصف الوقائع حتى ليبدو فن القص فن استحداث أساليب في الأداء جديدة. إنها غواية القول التي تجعل المتقبل في حال اندهاش متواصل.
سرديات الخطاب
ليس غريباً بعد هذا أن يختبر الباحث في عمله المنهج الإنشائي بالاعتماد على مثال الناقدين تزيفيتان تـودوروف وإسهامات جيرار جينات معاً في إطار ما يعرف بسرديات الخطاب، حيث يتم التركيز على الخطاب "بوصفه نظاماً يشكل المادة الحدثية تشكيلاً خاصاً على أساس قصدي ينم عن وعي مسبق". ولا شك في أن هذه المقاربة مهمة "لأننا بوصفنا قراء لا نتعرف إلى الأحداث إلا من خلال الخطاب أو طريقة نقلها".
من الأسئلة التي يطرحها القارئ وهو يتأمل هذا العمل، سؤال النوع الأدبي الذي تنتمي إليه مدونة السراج، فهل هي أقرب إلى جنس القص كما استتبت مقوماته في الثقافة العربية؟ أم إنها من قبيل الأخبار التي تلوح للمرجع بطرائق شتى؟ أم إنها نوع ثالث تحدر من النوعين السابقين واستعار خصائصهما؟
إن الباحث حسم الأمر، منذ المقدمة، واعتبر مصارع العشاق مدونة قصص تتوسل بالخيال في تشكيل أحداثها وتصوير شخصياتها، ومن ثم كانت علاقتها بالمرجع واهية أو تكاد. وعلى أساس من هذا بنى الباحث عمله.
والواقع أن المتأمل في كتاب "مصارع العشاق" يلحظ أن النصوص التي ينطوي عليها لا تستعيد في الواقع أخباراً بعينها بقدر ما تعيد ابتكارها، وهي لا تكرر أحداثها بقدر ما تصوغها صياغة جديدة. حتى لكأن القصص تتخذ من الرواة ذرائع لتستمر وتتواصل وتنبعث كل مرة في هيئة جديدة. يتأكد ذلك حين نعلم أن الخبر الواحد قد أثبتته المدونة في روايات عدة وصيغ كثيرة. وأن الكثير من الأخبار تحولت من البساطة إلى التركيب والإطناب بل إن بعضها اختلق اختلاقاً وإن أوهمنا الراوي بواقعيته. فالأسانيد، على سبيل المثال، لا تنهض في العمل القصصي العربي القديم بوظيفة التدقيق والتحقيق، كما هو الشأن في الأحاديث، وإنما تنهض بوظيفة فنية وهي وظيفة الإيهام، الإيهام بأن القصة تربطها بالمرجع وشائج تناسب وتقارب. كل ذلك أغرى الباحث باستدعاء سرديات الخطاب منهجاً: "ذلك أننا معنيون بالنظر في طرق تصريف الأحداث والوقائع على ألسنة الرواة في مستوى التعبير الفني الجمالي وما ينهض عليه من قيمة تحويلية، توليدية، اختلاقية".
ما يلفت الانتباه في هذا البحث هو العمل على تطويع المناهج الحديثة في قراءة النص القديم، مما فتح "مصارع العشاق" على آفاق دلالية ورمزية لا عهد له بها من قبل. فالباحث أصيل الشابي قد قرأ هذا العمل من زاوية جديدة، وبأدوات جديدة، الأمر الذي جعل النص يستعيد قوته وتوهجه ويكتسب حرارة اللحظة الراهنة. فتحديث التراث لا يمكن أن يتحقق إلا بتحديث النظر إليه، وهذا ما تمكن من إنجازه الباحث أصيل الشابي بمهارة ورهافة حس.
القراءة هنا أخذت شكل حفر في نص تتراكب طبقاته وتتعدد. ومن خصائص هذه القراءة أنها حاولت أن تحيط بفيض الدلالة التي يتميز النص العشقي العربي كاشفة في الوقت ذاته عن قوانينه الداخلية. ولا شك في أن النتائج التي توصل إليها الباحث ذات أهمية كبيرة لأنها كشفت عن جوانب في الخطاب القصصي العربي القديم ظلت إلى وقت قريب غامضة أو ملتبسة. لكن الأهم من ذلك أن هذه النتائج ستكون لا محالة منطلق مباحث ودراسات جديدة تواصل ما بدأه هذا البحث وتبني أفكارها على ما أنجزه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...